العدالة الكونية
تكافؤ الوُجوْد
وأحسَّ عليٌّ أن هذا الكون العظيم متعاونٌ متكافلٌ فكان من ذلك أن الريحَ إذا اشتدّت حرّكت الأغصانَ تحريكاً شديداً، وإذا أجفلت قَلَعَت الأشجارَ وهاجت لها العناصر، وأنها إذا لانتْ وجرَتْ فُوَيْقَ الأرضِ جرْياً خفيفاً سكرتْ بها صفحات الماء وسكنتْ تحتَها الأشياء!
وأدرك كذلك أن قوة الوجود الشاملة ترعى هشيِمَ النبْت بقانون ترعى به الورقَ الأخضر والزرع الذي استوى على سُوقِه واهتزّ للريح!
وأسقط ابنُ أبي طالبٍ نظرية التجّار بقولٍ تَنَاوَله من روح الوجود وكأنه يشارك به الكونَ في التعبير عمّا في ضميره!
نظرةٌ واحدة يلقيها المرء على الكون الخارجي وأحواله: على النجوم الثابتة في سَعة الوجود والكواكبِ السابحة في آفاق الأبد، وعلى الشمس المشرقة والسحاب العارض والريحِ ذاتِ الزفيف، وعلى الجبال تشمخُ والبحارَ تقصفُها القواصفُ أو يسجو على صفحاتها الليل، تكفيه لأن يثق بأنّ للكون قانوناً وأنّ لأحواله ناموساً واقعاً كلٌّ منهما تحت الحواسّ وقائماً بكل مقياس.
ونظرةٌ واحدةٌ يُلقيها المرء على ما يحيط به من الطبيعة القريبة وأحوالها: على الصيف إذ يشتدّ حَرّه وتسكن ريحُه، والخريف إذ يكتئبُ غابُه وتتناوحُ أهواؤه وتعبسُ فيه أقطارُ السماء، والشتاء إذ ترعد أجواؤه وتضطربُ بالبروقِ وتندفع أمطارُه عُباباً يزحمُ عُباباً وتختلط غيومهُ حتى لتُخفي عليك معالمَ الأرض والسماء، والربيعِ يبسطُ لك الدنيا آفاقاً ندّية وأنهاراً غنيّة وخصباً ورُواءً وجناناً ذات ألوان، كافيةٌ لأن تجعلهُ يثقُ بأنّ لهذه الطبيعة قانوناً وأنّ لأحوالها ناموساً واقعاً كلٌّ منهما تحت الحواسّ وقائماً بكل مقياس.
ونظرةٌ فاحصةٌ واحدة يُلقيها المرء على هذي وذاك، كافيةٌ لتدلَّه على أنّ هذه النواميس والقوانين صادقة ثابتة عادلة، يقومُ منطقُها الصارمُ بهذه الصفات. وفيها وحدَها ما يُبرّر وجودَ هذا الكون العظيم!
ألقى ابنُ أبي طالب تلك النظرةَ على الكون فوَعَى وَعْياً مباشراً ما في نواميسه من صدقٍ وثباتٍ وعدل، فهزّه ما رأى وما وعى، وجرى في دمه ومشى في كيانه واصطخب فيه إحساساً وفكراً، فتحرّكتْ شفتاه تقولان: (ألا وإنه بالحق قامت السماوات والأرض). ولو حاولتَ أن تجمع الصدق والثبات والعدل في كلمة واحدة، لمَا وجدَت لفظةً تحويها جميعاً غير لفظة (الحق). ذلك لما يتّحد في مدلولها من جوهر الكلمات الثلاث!
وأدرك ابنُ أبي طالب في أعماقه أنّ المقايسة تصحّ أصلاً وفرعاً بين السماء والأرض اللتين قامَتا بالحقّ واستَوَتا بوجوهه المتلازمة الثلاثة: الصدق والثبوت والعدل، وبين الدولة التي لابدّ لها أن تكون صورة مصغّرة عن هذا الكون القائم على أركان سليمة ثابتة، فإذا به يحيا في عقله وضميره هذه المقايسةَ على صورة عفوية لا مجال فيها لواغلٍ من الشعور أو لغريبٍ من التفكير، ثم لا يلبث أن يقول:
(وأعظمُ ما افترض من تلك الحقوق حقُّ الوالي على الرعية، وحقّ الرعية على الوالي فريضةٌ فرَضَها الله لكلّ على كلّ، فجعلها نظاماً لألفَتهم، فليست تصلح الرعيّةُ إلاّ بصلاح الوُلاة، ولا يصلح الولاةُ إلاّ باستقامة الرعيّة. فإذا أدّت الرعيّةُ إلى الوالي حقّه.
وأدّى الوالي إليها حقّها، عَزّ الحقّ بينهم، واعتدلتْ معالمُ العدل وجرَتْ على أذلالها السّنَنُ (1) فصلُحَ بذلك الزمانُ وطُمِعَ في بقاء الدولة. وإذا غلبت الرعيّةُ واليها، أو أجحف الوالي برعيّته، اختلفتْ هنالك الكلمة وظهرتْ معالمُ الجور وتُركتْ مَحاجّ السّنن فعُمِلَ بالهوى وعُطّلتِ الأحكام وكثرتْ علل النفوس، فلا يُستْوَحَشُ لعظيمِ حقٌّ عُطّلَ (2) ولا لعظيمِ باطلٍ فُعِل! فهنالك تذلّ الأبرار وتعزّ الأشرار وتعظم تَبِعاتُ الله عند العباد!).
وأوصيك خيراً بهذا الإحكام للروابط العامة الكبرى بين عناصر الدولة على لسان علي، ثم بين الأعمال الخيّرة المنتجة وبين ثبوت هذه العناصر على أُسُسٍ من الحق، أو قلْ من الصدق والثبوت والعدل: وجوه الحق الثلاثة التي تقوم بها السماوات والأرض.
وأحسّ عليّ أن هذا الكون العظيم متعاونٌ متكافلٌ فكان من ذلك أنّ الريح إذا اشتدت حرّكتْ الأغصان تحريكاً شديداً، وإذا أجفلتٌ قلعتِ الأشجارَ وهاجت لها العناصر، وأنّها إذا لانت وجرتْ فُوَيْقَ الأرضِ جرياً خفيفاً سكرتْ بها صفحاتُ الماء وسكنتْ تحتها الأشياء.
وأحسّ أن الشمس إذا ألقت على الأرض نورها بدتْ معالمُ الأرض للعيون والأذهان، وإذا خلّتْها خلّتْ عليها من الظلمة ستاراً. وأنّ النبتة تنمو وتزهو وتورق وقد تثمر، وهي شيءٌ يختلف في شكله وغايته عن أشعّة النهار وجسم الهواء وقطرة الماء وتراب الأرض، ولكنها لا تنمو ولا تورق إلاّ بهذه الأشعة وهذا الجسم وهذه القطرة وهذا التراب.
وأحسّ أن الماء الذي (تلاطَمَ تيّارهُ وتّراكم زَخّارُه) كما يقول، إنّما (حُمل على متْن الريح العاصفة والزعزع القاصفة). وأنّ الريح التي (أعصفَ الله مجراها وأبعد مَنشأها) مأمورةٌ - على بُعد هذا المنشأ - (بتصفيق الماء الزخّار وإثارة موج البحار، تعصفُ به عصْفَها بالفضاء وتردّ أوّلَه إلى آخره، وساجيَه إلى مائره (3) حتى يعبّ عُبابُه). ومن زينة الأرض وبهجة القلوب هذه النجوم وهذي الكواكب، وضياءُ الثواقب (4) والسراج المستطير (5) والقمر المنير!
أحسّ ابن أبي طالب من وراء ذلك جميعاً أنّ هذا الكون القائم بالحقّ، إنّما ترتبط عناصرُه بعضُها ببعض ارتباطَ تعاوُن وتسانُد، وأنّ لقواه حقوقاً افتُرِضَتْ لبعضها على بعض، وأنّها متكافئةٌ في كلّ وجوهها متلازمة بحُكم وجودها واستمرارها.
فأدرك في أعماقه أنّ المقايسة تصحّ أصلاً وفرعاً بين هذه العناصر المتعاونة المتكافئة، وبين البشر الذين لابدّ لهم أن يكونوا متعاونين متكافئين بحكم وجودهم واستمرارهم، فهم من أشياء هذا الكون يجري عليهم ما يجري على عناصره جميعاً من عبقريّة التكافل الذي يراه عليّ فرضاً عليهم لا يحيون إلاّ به ولا يبقون. فإذا به يلفّ عالمَ الطبيعة الجامدة وعالمَ الإنسان بومضةِ عقلٍ واحدة، وانتفاضة إحساس واحدة، ليستشفّ عدالة الكون القائم على وَحْدَةِ من الصدق والثبات والعدل، مطلقاً هذا الدستور الذي يشارك به الكونَ في التعبير عن ضميره، قائلاً:
(ثم جعل من حقوقه حقوقاً افترضَها لبعض الناس على بعض، فجعلَها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضُها بعضاً، ولا يُسْتَوْجَبُ بعضُها إلاّ ببعض!).
ومن هذا المعين أيضاً قولٌ له عظيمٌ يقرّر به أنّ دوام نعمة من النعم مرهونٌ بما فُرض على صاحبها من واجب طبيعيّ نحو إخوانه البشر، وأن عدم القيام بهذا الواجب كافٍ وحده لأن يزيلها ويُفنيها:
(مَن كثرتْ النِّعَمُ عليه كثرت الحوائج إليه. فمن قام فيها بما يجب عَرّضَها للدوام والبقاء، ومن لم يقم فيها بما يجب عَرّضَها للزوال والفناء).
ففي هذين القولين من التعبير عن عدالة الكون، والناسُ من موجوداته، ما لا يحتاج إلى كثيرٍ من الإيضاح. فحقوق العباد - على لسان عليّ - يكافئ بعضها بعضاً. فهي أشبه ما تكون بحقّ الماء علي الريح، والنبتة على الماء، والماء على الشمس، والشمس على قانون الوجود. وهذه السنة التي تفرض على الإنسان ألاّ يستحقّ شيئاً من الحقوق إلاّ بأدائه حقوقاً عليه، ليست إلاّ سُنّة الكون العادلة القائمة بهذا العدل.
ولينظر القارئ في هذا الأمر نظراً سديداً ثم ليقلْ رأيه في ما رأى. فإنّه إن فعل أدرك لا شكَ أنّ هذه القاعدة التي بلغ ابن أبي طالب بها إلى جذور العدالة الكونية، ثابتةٌ تغيّر نفسها ولا شذوذ ينقضها.
فعناصر هذا الكون لا تأخذ إلا قدر ما تعطي، ولا يكسب بعضُها إلاّ ما يخسره بعضها الآخر. فإذا أخذت الأرض من الشمس نوراً ودفئاً، أعطت الوجودَ من عمرها قدر ما أخذت. وكذلك إذا أخذتْ من الليل ظلاًّ يغمرها. وإذا تناولت الزهرةُ من عناصر الكون الكثيرة ما يحييها وينميها ويعطيها عبيراً شهيّاً، فلسوف يأخذ النورُ والهواءُ من لونها وعطرها بمقدار ما أعطَيَاها، حتى إذا تكامَلَ انعقَادها وبلغت قمةَ حياتها، تَعاظمَ مقدارُ ما تدفعه من عمرها، فإذا بالحياة والموت يتنازعانها حتى تُسلم إليه أوراقَها وجذْعَها. أما الأرض فتبتلع منها كل ما كانت قد منحتْها إياه.
والبحر لا يستعيد إلى جوفه إلاّ ما أعطى السماءَ من غيومٍ والبرَّ من أمطار.
وكذلك الإنسان في حياته الخاصة. فهو لا يحظى بلذة إلاّ بفراق أخرى يدفعها، قاصداً أو غير قاصد، عوضاً عمّا أخذ. وهو لا يولد إلاّ وقد تقرّر أنه سيموت. يقول عليّ: (ومالك الموت هو مالك الحياة!).
وعن هذا التوازن الحكيم في قانون الكون برحابه وأفلاكه، وأرضه وسمائه، وجماداته وأحيائه، يعبّر ابنُ أبي طالب بهذه الكلمة التي تجمع سداد الفكر إلى عنف الملاحظة إلى عبقرية البساطة: (ولا تُنال نعمةٌ إلاّ بفراق أخرى!).
ولينظر الناظرون في هذا القول فإنّهم إن فعلوا وثقوا بأنّه الواقع الذي يرتسم كلماتٍ هي أشبه بالقاعدة الرياضية التي لا يمكن الخروج عليها.
أمّا في الحياة العامة، فليس بين شؤون الإنسان شأنٌ واحدٌ يشذّ عن هذه القاعدة التي انتزعها عليّ بن أبي طالب من مادّة الكون العظيم. فحقّك على مجتمعك هو أن يقيّم هذا المجتمعُ ما تعطيه، كميّةً ونوعاً، ثم أن تأخذ منه بمقدار ما أعطيتَ. أمّا إذا حصلتَ من المكافأة على أقلّ مما أعطيتَ، فإنّ نصيبك عند ذاك ذاهبٌ إلى سواك، وإن سواك يتمتّع بخيرٍ أنتَ صاحبه ولا شك، وإنك في النتيجة مغصوبٌ مظلوم. وأما إذا أخذت من المكافأة فوق ما أعطيتَ، فإنّ نصيب غيرك منها ذاهبٌ إليك، وإن سواك من الخلق يجوع بما أكلتَ، وإنك بذلك غاصبٌ ظالم، ووجود المظلوم والظالم في المجتمع مَفْسدةٌ له ومنقصةٌ في موازين العدالة الاجتماعية التي لا تستقيم إلاّ إذا دخلتْ في نطاق مُريحٍ من العدالة الكونية. والباطل لا يمكن أن يكون قاعدةً بل الحقّ هو القاعدة. و(الحق لا يُبطله شيء) في قانون الكون! وهو كذلك في مذهب ابن أبي طالب.
والنظر في الساطع العظيم من مظاهر العدالة الكونية، لم يكن ليُلهي عليّاً عن النظر في ما خفي منها ودَقّ. وشأنه في ذلك شأن عباقرة الشعراء الذين تولّف دقائقُ الأشياء لديهم، في المادّة والمعنى، ما تولّفه عظائمُها فهم لا يفرقون فيها بين كبيرٍ وصغير، فهي بالمنشأ واحدةٌ وهي كذلك بالدلالة.
وليس للذي يبهر الأنظار حسابٌ في عقولهم وقلوبهم يعلو على حساب ما ينزوي في المخابئ وبين الظلال. ورُبّ نظرةٍ تُجري من الأحاسيس في كيان هؤلاء ما لا تُجريه ينابيعُ الكلام! ورُبّ إشارةٍ يُدركون فيها من التصريح ما لا يرونه بألف إعلان! وربّ زهرةٍ في كَنَف صخرةٍ ينعمون لديها من الشعور بعظمة الوجود بما لا ينعمون به لدى الدوحة العاتية. بل ربّ صغيرٍ في نظرهم أجلّ من كبير، وقليل أكثر من كثير! وأرى من الموافق أن أذكر في هذا المجال نُتْفةً من حديث طويلٍ سُقتُه بصدَد الكلام على موقف صاحب الإحساس العظيم والفكر المحيط من الكون الذي يستوي خفيُّه وظاهره في الدلالة على ما فيه من جليلٍ، قلت:
(وكأنّي بهذه الطبيعة تمثّل للشاعر جمالَ الحريّة التي يشتهي، إذ تُرسل الريحَ حين تشاء وكيف تشاء لا يهمّها أسَخِطَ الناسُ عليها أم رَضوا قانعين! وتُفجّر الينابيعَ من الصخرِ، حين ترومُ، ومن رَخِيِّ التراب، وتُجريها هادئةً في السهلِ أو تقذف بها من عالي الجبال. وتُبرزُ من صدرها أشجاراً وصخوراً وقمماً وودياناً على طريقتها التي تريد، لا يعنيها أن تنبُتَ الزنابقُ إلى جانب الشوك أو تعلَقَ إبرُ السمّ ورداً أخضرَ العود طيّبَ الريح. ولا تتقيّد بمعرفة تقوم بتحقير الهشيم اليابس وتعظيم الأخضر الفَينان، وبالسخرية من صغار الهوامّ تُطِلّ من ثقوب الصخور، تمجيدا لشراسة القويّ من الوحش يفترسُ الضعيف