لا يخفى على أحد أن جبال الديون الأمريكية لا تتوقف عن التضخم، وتهدد بالخروج عن نطاق السيطرة، ومما لا شك فيه، أنها باتت تمثل إشكالية بالنسبة إلى الولايات المتحدة. لكن هل يمكن أن يؤدي هذا الاتجاه الذي تأخذه الديون في النهاية إلى انهيار الدولار الأمريكي؟، يعتقد الكثيرون أن انهيار الدولار قد ارتقى إلى مرتبة اليقين الرياضي، لاسيما أن الفترة الراهنة حبلى بالقرائن الكثيرة، التي تشير إلى سهولة طرح هذه الفئة من الآراء والاستنتاجات.
وتقدم ورقة أكاديمية مغمورة، تم إعدادها من قبل رئيسي «مجلس الاحتياطي الفيدرالي» السابق، ألان غرينسبان وبابلو غويدوتي، إنذاراً صارخاً حول ما يمكن حدوثه في المستقبل القريب على المسرح العالمي، وعلى وجه التحديد في الجانب المتعلق بالديون السيادية. وتظهر القاعدة التي توصل إليها غرينسبان وغويدوتي ببساطة أن الاحتياطات الدولية ينبغي أن تكون على قدم المساواة مع الديون قصيرة الأجل، أو بعبارة أخرى يجب أن تكون نسبة الاحتياطات الدولية مساوية للديون قصيرة الأجل عند مستوى 1.0 على أقل تقدير، حتى تتمكن الاقتصادات من مقاومة الانسحاب قصير الأجل لرأس المال الأجنبي. وإذا قلت النسبة عن واحد، فإن هذه يعني أن العملة الوطنية قد أصبحت معرضة لخطر الانهيار. ووفق قاعدة الإدارة المالية الفعالة لغرينسبان وزميله، يمكن أن نستنتج أن الولايات المتحدة الأمريكية تعاني الإفلاس بشكل فعلي، كما أن عملتها تواجه خطر الانهيار.
وضعت قاعدة غرينسبان – غويدوتي في أعقاب الفشل الذي منيت به نماذج البنوك المركزية في إدراك النهج الذي قاد إلى الأزمات المالية، وعلى وجه التحديد الأزمة الآسيوية في العام 1997. إن ما أدركه غرينسبان وغويدوتي، فضلاً عن غيرهما من الخبراء، يظهر أن الأزمات المالية التي تضرب دولة ما غالباً ما يسبقها عدم قدرة تلك الدولة على خدمة ديونها. ويبدو بشكل مباشر أيضاً أنه إذا تجاوز بلد ما قدرته على خدمة الديون، سواء كان ذلك بالنسبة إلى الأفراد أو البنوك المركزية الوطنية، سيتوقف المستثمرون عن شراء ديونها، وربما يقومون باستعادة رؤوس أموالهم. إن الصفة الفريدة من نوعها التي تتميز بها قاعدة غرينسبان – غويدوتي، هي أنه من خلال قيامهما بدراسة الأزمات المالية السابقة، فقد تمكنا من تحديد النقطة التي تنهار عندها العملة، أو التي يحتمل أن تحدث فيها مشكلة العجز عن سداد الديون السيادية.
وفي حالة الولايات المتحدة، يجب ترحيل مبلغ تريليوني دولار في السندات الحكومية إلى أدوات دين تكون مستحقة في مدد مختلفة. كما يتعين على الحكومة أيضاً إصدار ديون إضافية يصل حجمها إلى 1.5 تريليون دولار خلال الأشهر الـ12المقبلة، لتمويل العجز في موازنة الولايات المتحدة. لذا، يبلغ حجم الديون الأمريكية قصيرة الأجل ما يقرب من 3.5 تريليون دولار.
وفي ما يتعلق بالأصول العامة المدرجة، تفيد وزارة الخزانة الأمريكية امتلاك أصول من العملات الصعبة يصل حجمها إلى 309 مليارات دولار على أساس ما يزيد على 8 آلاف طن متري من الذهب تزعم امتلاكها. بيد أن الكثيرين يعتقدون أن حكومة الولايات المتحدة لم تعد تمتلك هذا الحجم من الذهب، لاسيما أن الوجود الفعلي للذهب لم يخضع للمراجعة والتدقيق منذ عقود.
وفضلاً عن ذلك، أثيرت الشكوك حول الطبيعة السرية للتعاملات الحكومية ومجلس الاحتياطي الاتحادي في ما يتصل بالطرق المحاسبية المتعلقة بالذهب وعمليات المقايضة والقروض، والتي أسهمت في تغذية هذه المخاوف بأن الذهب لم يعد موجوداً في حوزة الحكومة.
ولكن حتى لو كان الذهب موجوداً بالفعل لديها، ومع احتساب الاحتياطي الأمريكي الاستراتيجي للنفط الذي يصل حجمه إلى ما يقرب من 715 مليون برميل من النفط تبلغ قيمتها نحو 55 مليار دولار، إلى جانب صندوق استقرار الصرف، البالغ حجمه 135 مليار دولار بالعملات الأجنبية، وحقوق السحب الخاصة من صندوق النقد الدولي، فإن ما تملكه الولايات المتحدة من إجمالي الاحتياطات يصل إلى 499 مليار دولار.
وهكذا، فإن الولايات المتحدة تمتلك 499 مليار دولار من الاحتياطات، مقابل 3500 مليار دولار من الديون قصيرة الأجل، أي أن النسبة تصل إلى 0.14، ما يعني أنها أقل بكثير من نسبة 1.0 اللازمة لتجنب حدوث أزمة في العملة.
إن الوضع الراهن الذي تعاني منه الولايات المتحدة لم يحدث بين عشية وضحاها، بل إن وضعها المالي كان محفوفاً بالمخاطر، ويزداد تعقيداً منذ فترة من الوقت، حيث كانت النسبة تقل عن 1.0 لسنوات كثيرة من دون أي يحدث انهيار في العملة أو عجز عن سداد الديون السيادية. وتمكنت الولايات المتحدة من تجنب انهيار العملة بسبب موقعها الذي تحسد عليه، كون الدولار يمثل عملة الاحتياط العالمية. ويجب على العالم شراء الدولارات لاستخدامها في النشاطات التجارية. وعلى هذا النحو، سمح لمشكلات الديون الأمريكية أن تتفاقم أكثر من المستوى المعقول بكثير مما لو لم تكن تتمتع بصفة عملة الاحتياط العالمية.
أما الآن، وبعد أن تضاعف العجز السنوي للموازنة ثلاث مرات من 400 – 500 دولار في العام خلال إدارة الرئيس، جورج بوش، ليصل إلى 1.5 تريليون دولار في عهد الإدارة الحالية، فإن مثل هذا الضغط قد وصل إلى مستوى هائل إلى درجة أصبح من المتعذر على النظام النقدي في الولايات المتحدة استيعابه والتعايش معه.
ولو أخذنا وفورات السكان في الولايات المتحدة، البالغة ما يقرب من 600 مليار دولار في السنة، لوجدنا أنها لن تكون كافية لاستيعاب احتياجات الاقتراض على مستوى الحكومة الأمريكية. كما أصبح المستثمرون الأجانب يبدون قدراً أعلى من التردد قبل الإقدام على شراء الديون التي تقدمها الولايات المتحدة، الأمر الذي يجبر «مجلس الاحتياطي الفيدرالي» على نقدنة أكثر من تريليوني دولار.
وتؤدي عمليات النقدنة وتخفيض سعر الدولار إلى التقليل من مدى استعداد الأجانب لشراء الديون الأمريكية، ما يحتم هذا بدوره على «مجلس الاحتياطي الفيدرالي» للشروع بعمليات نقدنة على نطاق أوسع. ويبدو أن مثل هذا الاتجاه قد بدأ بالفعل، ومن المتوقع أن يفرض ذاته مراراً وتكراراً، في حين لا تلوح أي نهاية لهذا النهج في الأفق.
وإضافة إلى ذلك، فإن معاناة الاقتصاد الأمريكي من المزيد من الضعف تتطلب المزيد من الحوافز المالية والتسهيلات الكمية لحاجة الولايات المتحدة إلى مبلغ يتراوح من 2.5 إلى 5 تريليونات دولار في المستقبل القريب.
ويعني ذلك المزيد من النقدنة وتخفيض سعر الدولار، وهما خطوتان كفيلتان بحدوث المزيد من الضعف، وربما الانهيار الكامل للدولار، وهي مشكلة يعتقد الكثيرون من الناس أنها تمثل نهاية لا مفر منها، وأنها واقعة لا محالة عاجلاً. وفي الواقع، سيؤدي انهيار الدولار إلى حدوث أزمة كبيرة يكون لها آثار عالمية خطيرة، ليس فقط في الولايات المتحدة، بل إنها ستطال العالم بأسره.