|
عضو برونزي
|
رقم العضوية : 82198
|
الإنتساب : Aug 2015
|
المشاركات : 884
|
بمعدل : 0.26 يوميا
|
|
|
|
المنتدى :
منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
البلاغة في خطابات السيدة زينب بنت أمير المؤمنين (ع)
بتاريخ : 05-11-2024 الساعة : 08:06 AM
يوافق 5 جمادى الأولى ذكرى ولادة عقيلة بني هاشم السيد زينب عليها السلام، فبهذه المناسبة العطرة نقدم لكم مقالا حول بلاغتها وهي بنت سيد المتكلمين أمير المؤمنين (ع).يوافق 5 جمادى الأولى ذكرى ولادة عقيلة بني هاشم السيد زينب عليها السلام، فبهذه المناسبة العطرة نقدم لكم مقالا حول بلاغتها وهي بنت سيد المتكلمين أمير المؤمنين (ع).
بلاغة الموقف وبلاغة الكلمة
كما أن اللّه تبارك وتعالى نوّه بتعليم البيان بعد خلق الإنسان (1)، وأن نبي الاكرم (ص) أشار إلى سحر البيان في مأثورهان من البيان لسحرا وان من الشعر لحكمة) نرى تأثير الكلام ودوره في العالم خاصة إذا امتزج بالفصاحة والبلاغة.
ومن أروع الكلام الذي تجلّت آثاره في الناس وسبب تغييرا أساسيا في المجتمع وغير الآراء حيال موضوع ذي أهمية في ذاك الأوان، هو كلام سيّدة بلغية من بيت النبوة تبلورت في كلامها رسالة جدها وبلاغة أبيها وفعلت بالطغاة مافعلت وجعلتهم عبرة لمن اعتبر إلى يوم الدين.
إن ماحدث بعد عاشوراء كان حركة عظيمة بحيث انقلبت الأمور على عكس ماكان يزعمها الحكام في الشام والكوفة، ووجّهت مصير مأساة كربلاء على خلاف تخطيط الجائرين.
(لقد كان من أروع ما خططه الإمام الحسين(ع) في ثورته الكبرى حمله عقيلة بني هاشم وسائر مخدرات الرسالة معه إلى العراق،فقد كان على علم بما يجري عليهن من النكبات والخطوب، وما يقمن به من دور مشرف في إكمال نهضته وايضاح تضحيته وإشاعة مبادئه وأهدافه، وقد قمن حرائر النبوة بايقاظ المجتمع من سباته، وأسقطن هيبة الحكم الأموي، وفتحن باب الثورة عليه، فقد ألقين من الخطب الحماسية ما زعزع كيان الدولة الأموية)(2)
يقول الدكتور أحمد محمود صبحي: (ثم رفض ـ يعني الحسين(ع) إلا أن يصحب معه أهله ليشهد الناس على ما يقترفه أعداؤه مما لا يبرره دين ولاوازع من انسانية، فلا تضيع قضيته مع دمه في الصحراء، فيفترى عليه أشدّ الافتراء حين يعدم الشاهد العادل، على ماجرى بينه وبين أعدائه، تقول الدكتورة بنت الشاطى:أفسدت زينب أخت الحسين على ابن زياد وبني أمية لذة النصر وسكبت قطرات من السم الزعاف في كؤوس الظافرين، وأن كل الأحداث السياسيةالتي ترتبت بعد ذلك من خروج المختار وثورة ابن زبير وسقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية، ثم تأصل مذهب الشيعة إنما كانت زينب هي باعثة ذلك ومثيرته.(3)
وماكل ذلك إلا بسبب معجزة كلام السيدة زينب التي جمعت في خطاباتها وإجاباتها بين بلاغة الكلام والموقف، وفصاحة الكلمة والكلام، الكلام الذي يدوّي في آذاننا طنين كلام الإمام علي (ع) كما نقل عن حذلم بن كثير (وكان من فصحاء العرب) بأنه أخذه العجب من فصاحة زينب وبلاغتها، وأخذته الدهشة من براعتها وشجاعتها الأدبية، حتى أنه لم يتمكن أن يشبهها إلا بأبيها سيد البلغاء والفصحاء فقال: كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين.(4)
وقد أشار إلى كلامها ومدى تأثيره المستشرق الألماني / ماريين حيث يقول:«أنا أتعجب من تدبير الحسين واستشرافه للمستقبل في مرافقة النساء والأطفال لهذا السفر الخطر، لأن ما فعلته زينب في الشام غيّر الأوضاع بشكل كامل بحيث أصبحت الشام التي كانت مشهورة بسبّ علّي وأبنائه، مادحة لأهل بيت علّي، وأقيمت في أنحائها مجالس و محافل لذكر مصائب آل علي وتبيين مناقبهم (5)
هذا في المستقبل القريب، وأمّا في المستقبل البعيد فلا شك بأن خطبة زينب المنقطعة النظير، خلدت عاشوراء، وأبلغت نداء الحسين إلى العالم، وأنجته من إعلام العدو المسمومة وجعلت النهضة تستمر باستمرار الحياة.
ولولاها لتركت الحركة بتراء كمايشير إليه الشاعر الفارسي:
كربلا در كربلا مىماند اگر زينب نبود سرّ حق درنينوا ميماند اگر زينب نبود
ما معناه: لو لا زينب لبقيت كربلاء في كربلا، ولمحيت الحقيقة في الطفّ لولاها.
فلنبحث عن هذه البلاغة العلوية التي جرت كالبحر الهادر على لسان فاطمي في فصلين.
الأول: بلاغة الموقف أو الكلام المطابق لمقتضي الحال.
الثاني: بلاغة الكلمة أو التصوير والجمال الفني في خطابات زينب (س).
الف) بلاغة الموقف:
ان ننظر إلى البلاغة كما يعرّفها أصحابها بأنها كلام يطابق مقتضى الحال، وفيه يراعى المتكلم حال المخاطب والظروف التي تحيط به، نرى الخطابة الزينبية في ذروتها حين تخطب أمام الفئات المختلفة من العوام إلى الحكام، أو تجيب باجابات مفحمة مقنعة ومسكتة.
نشاهدها في مشاهد عديدة: مرّة بعد واقعة عاشوراء، حيث تواجه الجثمان المقدّس وقد مزّفه البغاة ورماحهم، وان المنظر لمدهش ومؤلم جدا، تهلع منه القلوب وتذاب الأفئدة وتذرف الدموع، نراهاتقف أمامه صامدة صابرة ترمق السماء بطرفها قائلة: اللهم تقبل منّا هذا القربان.
يكاد العقل ينذهل لهذا الموقف، ويحجم عن تفسيره، أهو الإيمان الثابت المستأصل في النفس، المستغرق للحواس والمشاعر، أم هو الانصهار في بوتقة الإسلام.
أو الرضا بمكروه القضاء والصبر في أعلى صوره وأسمى غاياته أو اجتمعت هذه كلها عندها، فغدت ملاكا سماويا في أرض البطولات(6)
ثم تتجه إلى جدها تدعوه بصوت حزين وقلب كئيب، مبيّنة مكانة الحسين(ع) من الرسول ومذكرة تعلقه بالنبي (ص) بكلمات موزونة رنينة تدل على عفويّة بلاغتها في تلك الحالة المأساوية، الكلام الذي امتزج بالعاطفة والنداء.
يامحمداه (صلى عليك مليك السماء) هذا حسينك بالعراء، مرمّل بالدماء، مقطع الأعضاء وبناتك سبايا، إلى اللّه المشتكى وإلى محمد المصطفى(ص)
وتنسب إليها هذه الأبيات مخاطبة الرسول الكريم(7)
هذا الذي قد كنت تلثم نحره أمسى نحيرا من حدود صبائها
من بعد حجرك يارسول اللّه قد ألقى طريحا في ثرى رمضائها
لفّ الخبر أرجاء الكوفة وتراكض النسوة حول السبايا يستطلعن أوضاعهن، وتجمعن حول عقيلة بني هاشم، ورأت الوقت قد حان لأن تفجر الموقف وتكشف حقيقة الأمويين.
فأومأت إلى النساء فسلتن وارتدت الأنفاس، ليسمعن ما تقوله السبية وتقاطر الرجال يسمعون زينب بن علي... وهدرت كأنها البركان.(8)
وها نحن، نشاهدها أمام الكوفيين الذين دعوا الحسين وعاهدوا على نصرته والذبّ عنه، لكنهم نقضوا العهد وتركوه وحيدا وقتلوه، ثم راحوا ينوحون ويبكون... جعلت زينب تؤنبهم وتطرق على عقولهم الجامدة، وضمائر هم النائمة بشدة وصلابة، ولاتبدي أمامهم الحزن والبكاء، بلترى أنهم مستحقين للعويل والبكاء بهذه العبارات:
يا أهل الكوفة، ياأهل الختل والخذل، أتبكون وتنتحبون؟ أي واللّه فابكوا كثيرا واضحكوا قليلاً، كلّ ذلك بانتهاككم حرمة ابن خاتم الأنبياء وسيد شباب أهل الجنة...
إلى أن تصوّر أحوالهم السيئة وتقرعهم بالكلمات اللائمة وتعرّفهم زيف إسلامهم وخذلان عاقبتهم قائلة:
(أفعجبتم ان قطرت السماء دما، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لاينصرون)
ولسنا الآن بصدد إحصاء آثار هذه الخطابة في قصر ابن زياد، أو فيخواص الناس وعامتهم، ومدى تأثيرها في المستقبل من حركة التوابين الى الحركات الثورية الأخرى حتى عصرنا الراهن.
ولا شك أن تلك الخطابة أثارت الألم والندامة وهزّت الضمائر وكشفت الغطاء عن العيون الغارقة في الدنيا والعمياء عن الحقيقة من تلك البرهة الى يومنا هذا.
ومن بلاغة الموقف فى مشهد آخر إذا ذهبوا بآل البيت أسارى الى الطاغية الذي كان يجلس متكبرا فخورا ينظر الى قافلة الأسرى بتحقير، استصغار وهي سلام اللّه عليها تدخل دامية القلب، مجروحة الفؤاد، باكية الطرف من تلك الذكريات المؤلمة والكوارث القاتلة، وقدأحاط بها أعداؤها من كل جهة، ودار عليها حسّادها من كل صوب(9)
فبدأت بالكلام غير مكترثة بهيبة مُلكه ولا معتنية بأبّهة سلطانه، تستهزأ بجبروت الملك وانتصاره الوهمي، وترمي جذور ما بنيت عليه أفكاره، وترى الكرامة والعزّة غيرما يراه، والذلة والهوان غير ما يتصوّر، وبهدمها هذا الأساس المادي المشرف على النار تهيّا الأرضية لبناء أساس على التقوى والقيم الإسلامية قائلة:
أظننت يا يزيد حين أخذت علينا بأقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أنّ بنا على اللّه هوانا وبك عليه كرامة، وأن ذلك لعظم خطرك عنده؟(10)
ثم تواصل وهاهنا زينب تحطّم وتهدّم قصره العنكبوتي وتكسّر كبرياءه وجبروته وتقض مضجعه بكلمات تبدي عن شجاعتها وجسارتها العلوية أمام الطاغوت، وتستعمل ألفاظا لاذعة مملوءة بالاستصغار والإذلال:
شمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان فرحا حين رأيت الدنيا لك مستوثقة والأمور متسقة(11)
وما أجمل كلامها حين تنسب الحكم والخلاقة الإلهية إلى أهلها وتراه غاصبا في مدة قصيرة دنيوية، وفي الحقيقة تصور نفسها حاكما ويزيد أسيرا أمامها (فهي تخاطب يزيد معلنة للأمة أن هذه الدولة والكيان الإسلامي انما أشادته سيوف بني هاشم وتضحيات آل الرسول بالدرجة الأولى) حين صفا لك ملكنا وسلطاننا (فأهل البيت هم القادة الحقيقيون لهذه الأمة وهم الأولى بالسلطة والحكم)(12)حيث تقول: حين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً لاتطش جهلاً، أنسيت قول اللّه تعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذينَ كَفَروُا انَمَا نُمْلِي لهُمْ خَيْرٌ لأنفُسِهِمْ إنَمَا نُمْلِي لهُمْ لِيَزْدَادُوا اثما وَلَهُمْ عَذابٌ مُهينْ)(13)
ويصف السيد جعفر النقدى ذلك المشهد العظيم هكذا(14)
فهذا الموقف الرهيب الذي وقفت به السيدة الطاهرة مثل الحقَّ تمثيلاً وأضاء إلى الحقيقة لطلابها سبيلاً، وأفحمت يزيد وأصحابه بذلك الأسلوب العالي من البلاغة، وأبهتت العارفين منهم بما أخذت به مجامع قلوبهم من الفصاحة، فخرست الألسن وكمّت الأفواه وصمت الآذان وكهربت تلك النفس النورانية القاهرة منها عليها السلام تلك النفوس الخبيثة الرذيلة من يزيد وأتباعه بكهرباء الحق والفضيلة حتى بلغ به الحال أنه صبر على تكفيره وتكفير أتباعه، ولم يتمكن من أن ينبس ببنت شفة بقطع كلامها أو بمعنها من الاستمرار في خطابتها، وهذا هو التصرف الذي يتصرف به أرباب الولاية متى شاؤوا أو أرادوا، بمعونة الباري تعالى لهم وإعطانهم القدرة على ذلك وماأبدع ماقاله الشاعر المفلق الجليل السيد مهدي بن السيد داود الحلي في وصف فصاحتها وبلاغتها من قصيدة:
ما خطبت إلا رأوالسانها أمضى من الصمصام في خطابه
وجلببت في أسرها آسرها عارا رأى الصغار في جلبابه
والنصحاء شاهدوا كلامها مقال خير الرّسل في صوابه
وفي حين يتبختر يزيد بانتصاره على أهل البيت، ويظّن أنه كسب المعركة لصالحه ووسائل إعلامه تكرر هذا الوهم على مسامع الناس، لكن العقيلة زينب تنسف أوهامه وتسفه أحلامه، وتقرّر أمام مجلسه الحاشد أنه قد تلطخ بأوحال الهزيمة وسقط في حضيض الهوان، وان تظاهر بالنصر وتراءى له الظفر.
إنّها تتحدى يزيد في أن يتمكّن من تحقيق هدفه بطمس خطّ أهل البيت، مهما جنده من قواه واستخدم من قدراته "فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك،فواللّه لا تمحو ذكرنا ولاتميت وحينا" فخط أهل البيت يمثل الحقّ والعدل، وتجسّد الوحي الالهي وسوف تبقى البشرية متطلعة للحقّ والعدل وسوف يظهر اللّه دينه على الدين كله(15)
يقول المرحوم الفكيكي:
(تأمل معي في هذه الخطبة النارية كيف جمعت بين فنون البلاغة وأساليب الفصاحة، وبراعة البيان وبين معاني الحماسة وقوة الاحتجاج وحجة المعارضة والدفاع في سبيل الحرية والحق والعقيدة، بصراحة هي أنفذ من السيوف إلى أعماق القلوب وأحدّ من وقع الأسنة في الحشا والمهج في مواطن القتال ومجالات النزال وكان الوثوب على أنياب الأفاعي، وركوب أطراف الرماح أهون على يزيد من سماع هذا الاحتجاج الصارخ الذي صرفت به ربيبة المجد والشرف في وجوه طواغيت بني أمية وفراعنتهم في منازل عزّهم ومجالس دولتهم الهرقلية الاستقراطية الكريهة، ثم ان هذه الخطبة التاريخية القاصعة لاتزال تنطق ببطولات الحوراء الخالدة و جرأتها النادرة، وقد احتوت النفس القوية الحساسة الشاعرة بالمثالية الأخلاقية الرفيعة السامية وسيبقى هذا الأدب الحي صارخا فيوجوه الطغاة على مدى الدهر وتعاقب الأجيال وفي كل ذكرى لواقعة الطف الدامية المفجعة)(16)
هذا يشير إلى الجانب البلاغي في الخطاب، وما نراها أقلّ منها في بلاغة الجواب حين تواجه النكايات والكلمات السيئة والمؤذية من العدوّ الحاكم، فكأنها هي المنتصرة حين تجيب ابن زياد في كلامه اللامز: كيف رأيت صنع اللّه بأخيك؟
فأجابته حفيدة الرسول ومفخرة الإسلام بكلمات الظفر والنصر التي كانت تنبعث عن روحها السامية ويقينها المنبعثة عن
الوحي والرسالة:
واللّه ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء قوم كتب اللّه عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع اللّه بينك وبينهم فتهاج وتخاصم، فانظر لمن الفلج ثكلتك أمّك يا ابن مرجانة
يالها من كلمة، وما هي كلمة بل العظمة والألوهية سيقت في ثياب الكلمة والكلام، وكيف يمكن أن نتصور مصابة بالمصائب الشاقة العظيمة تجيب بهذه الطمأنة والاستقرار وتشعر بالفوز والغلبة.
أو في موقف آخر حيثترى إهانة رجل شامي إلى ابنة أخيها، تقف صامدة وتجيب فقيهة عالمة وتصحيح بالرّجل: ما ذلك لك ولا لأميرك.
وإذا تواجه إجابة يزيد بأن ذلك لي، توجّه له سهاما من منطقها الفيّاض قائلة:
واللّه ما جعل ذلك لك إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا.
ثم في جواب إساءته المبشعة لأبيها وجدها تقول:
بدين اللّه ودين أبي وجدّي اهتديت أنت وأبوك إن كنت مسلما(17)
وهكذا تبيّن كثيرا من مقاصدها عبر عبارة موجزة:
1- الإشادة والتنبيه بمكانة جدّها وأبيها
2- تحقير يزيد والتنبيه على المكان الذي جلس فيه بفضل جدها وهدايته
3- الشك في إسلامه وتثبيت ما قد قالته آنفا بخروجه عن الإسلام.
ب) براعة الكلمة:
أما الصنائع البلاغية التي استعملتها زينب (ع) فلا يمكن إحصائها في هذه العجالة ولا يسعنا إلا أن نشير إلى بعض منها حتى نروّي قليلاً من غليلنا.
1- براعة الاستهلال وحسن الختام،:
نستهل ببراعة الاستهلال وحسن الختام الصنعتين اللتين تدلان على كفاءة الخطيب وقوّته في انسجام الكلام وتنسيقه، فنراها أوّلاً تبدأ وتختم بالحمد والشكر وهذا يدلّ على نفسها السلمية وضبطها جماح النفس بعدما لاقتها من المصائب والتوترات كما يدل على ثباتها واعتقادها بالمسير الذي انتخبته وسلكته بقوة وسداد ثم تتمسك بالآية التي تبيّن عاقبة المجرمين وتعنّتهم أمام الآيات الإلهية والبدء هذا يهدّم الأفكار الخبيثة والأوهام التي تورّط فيها يزيد بوجوده كله(18)
وبهذه الضربة العنيفة تجعل الجماعة مبهوتين وتنتقل إلى إلقاء كلمتها وإنارة أفكار المدهوشين في ذلك المجلس كما تحسن الختام في تذكارها خلود الوحي وأهل البيت وعدم دوام الحكم للغاصبين حيث تقول:
(فواللّه لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولا يرحض عنك عارها وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد وجمعك إلا بدد يوم ينادي المنادي ألا لعنة اللّه على الظالمين.(19)
2- الاقتباس:
من أجدر بالاستناد إلى الآيات القرآنية واقتباسها من سلالة الوحي وابنة التأويل، فها هي تختار وتؤوّل وتبيّن إما صراحة واستنادا وإما إشارة واقتباسا.
فهي تصيح في وجد يزيد لما رأت نخوته وغطرسته: (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما)(20)
وتهدّده بمحضر يوم القيامة أمام حاكم عادل يحاسبه بما فعل وقدّم مشيرة إلى الآية الكريمة(حين لا تجد إلا ما قدّمت يداك، وما اللّه بظلام للعبيد)(21)
وتعتزبربها وتذكره في مواقف أخرى عديدة وتقولحسبنا اللّه ونعم الوكيل)(22)
3- التشبيه والاستعارة:
لا شكّ في أن الاستعارة والكناية أبلغ من التصريح وأن التمثيل يدني الأمور البعيدة ويلقي الضوء على المفاهيم ويستشفها.
هذا الفن كما نعلم من الأساليب القرآنية الجملية واستناد الوحي به خير دليل على أهميته في التبليغ حيث يقول تبارك وتعالىويضرب اللّه الأمثال للناس لعلهم يتذكرون)
وتوظّف (23)السيدة زينب هذا الفن في مواقف عديدة، مرةَ حين تخاطب أهل الكوفة وتشبههم بالمر أة التي نقضت غزلها من بعد قوة، وتستفيد من تشبيه التمثيل حيث تشبه دعوة الكوفيين ومكاتبتهم الحسين بالحياكة ثم تركهم اياه و شهر السيف في وجهه بنقض ما حاكوه وفتقه (وهذا مثل يضرب لمن لا يقوم على أساس الحكمة في أعماله) قائلة:
إنما مثلكم مثل التي (نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، تتخذون ايمانكم دخلاً بينكم)، ألا بئس ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط اللّه عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.
أو تشبههم بالعشب المنبت في المزابل وتستخدم هذا المثل لتصوير واقع حياتهم في جهتين: أولاً أنهم تغذوا من الحرام ودخلوا الشبهات فبطونهم تخمة من أكلها فلا يتمكنون من نصرة الحق لهذه الخلفيّة ثانيا: أن هذه النباتات لوهنها ورخوتها لا يمكنها الصمود أمام الرياح ولا تتسن لها المقاومة أمام الحوادث كما كان حال أهل الكوفة حيث كانوا يتراجعون عما يعتقدونه بأدنى تطميع أو ارعاب، ثم تشبّههم بالفضة فوق اللحد إشارة إلى ظواهر هم المزيّفة وبواطنهم الخامدة وغير المتحركة.
وفي موقف آخر أمام يزيد تشبه فعله بفتق الجرح فنرف الدم وبالتالي الإجهاز على صاحبه بسبب نزف الدم، وتقصد بذلك الضغينة التي أضمرها يزيد وآله على مرّ السنين فاراد أن يشفي غليله بذلك، وتخيب زينب آماله بأنَّ نكأ هذه القرحة يقضي عليه، لأن حقده للإسلام والمسلمين دفين ولا يمكن شفاؤه بهذا كما أن الجراحة المندملة لا يستأصل شأفته بالفتق وستكون عاقبته الهلاك عاجلاً أو آجلاً.
4- الايقاع الموسيقي وتصوير المشاهد:
من أجود ما يجذب القلوب إلى خطاباتها البليغة هو حسن الأداء والجمال الفني مثلاً نستمع إلى كلامها هذا:
«فلتردن وشيكا مردهم ولتودّن أنك شللت وعميت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت.»
فنراها وقد جمعت في هذه العبارة كثيرا من أدوات التأكيد من النون واللام والحروف المشبهة والتكرار، ووظّف ايقاعا ثقيلاً للتهويل وإلقاء صورة صاخبة على يزيد من خلال الموسيقى الممتزجة من التشديد والمدّ والنون الثقلية، وهذه العبارة دون النظر إلى معناها تمثل صاعقة على راس مخاطبها بسبب تركيباتها المقرعة والشديدة. أو تستفيد من أسلوب الحصر وطنطنته وقاطعيته لتثبت ما تريده من أعمال النفوس.
«فواللّه ما فريت إلا جلدك وما حززت إلا لحمك».
وفي موضع آخر: «هل رأيك إلا فند أيامك إلا عدد وجمعك إلا بدد؟»
أما القصة أو فن التصور فهو من الفنون الممتازة التي حفظت بمكانته منذ خلق الإنسان إلى عصرنا الحاضر واتسعت مجالاته بأشكال متلونة الألوان في العصور المتأخرة من المسرح إلى السينما وغير ذلك.
ولا يخفى على أحد ما لذلك من التأثير على المخاطب كما يستعمل بكثرة في القرآن الكريم.
وها هي سيدة البلاغة تستعين به حينترى مسرحية يزيد إذ يلعب بمخصرته ويمّكل نخوته بتصرفاته وسلوكه أهل البيت وبرأس الحسين، تخاطبه وتصور مشهد عاقبته في القيامة(وهي عاقبة لن يلمسها المخاطب إذا هي مسألة غيبية في مشهد تمثيلي) فتتراءى صورة يزيد في يوم القيامة فيحسّه المتلقي ويشاهد موقفه الحرج أمام اللّه ورسوله وملائكة في قولها:
«ولتردنّ على رسول اللّه بما تحمّلت من سفك دماء ذريته وانتهكت من حرمته في عترته، حيث يجمع اللّه شملهم ويلمّ شعثهم و يأخذ بحقوقهم... وحسبك باللّه حاكما وبمحمد خصيما وبجرائيل ظهيرا».
وهكذا ترسم الصورة الحية لتكشف النقاب عن وجه هذا الطاغية.
5- أساليب بلاغية أخرى:
كثير من الصنائع اللفظية والمعنوية مستعملة في كلام السيدة زينب كالجناس والسجع والمقابلة ومراعاة النظير كما تستفيد من أدوات التأكيد وافرا لإبلاغ ما ينكره القوم أو بعضهم أو يشككون فيه.
ولكن نرى الاستفادة من بعض الأساليب أكثر من غير ونلمس تركيزها عليها ومن هذه الاستفهام والأمر.
إنها توظف الاستفهام، إنكاريا مرةَ وتوبيخيا مرة أخرى وتهكميا في أحيان كثيرة، ولا يكون ذلك إلا لتأثيره على المخاطب بحيث يجعله في موقف الانفعال والرجوع إلى الضمير ويحث في نفسه بلا اختيار البحث عن الإجابة ويشغله في نفسه.
في الواقع الخطيب يقنع المخاطب لا بكلماته الصريحة بل بإجابات المخاطب الداخلية وباقتناعها النفسية ولو لم يتفوه بها.
وهذه نماذج مما ذكرنا:
مخاطبة أهل الكوفة: أتدرون أي كبد لرسول اللّه فريتم وأي دم له سفكتم؟!
ومخاطبة يزيد: أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك نساءك وإماءك وسوقك بنات رسول اللّه قد هتكت ستورهنّ؟!
أو في مجال أخر: أتقول ليت أشياخي ببدر شهدوا غير متأثم ولا مستعظم؟ كما تستعين السيدة بأسلوب الأمر (الصيغة التي تكمن في ذاتها الطلب من الأعلى إلى الأسفل ومعلوم بأن منزلة الآمر أرقى من المأمور).
وبهذا تلقن المتلقى مكانتها وتتكلم بالعزة حتى في الإسارة.
و كثيرا ما يخرج الأمر في تلك المواقف من معناه الأصلي إلى التنديم والتوبيخ والتهكم كما تخاطب أهل الكوفة: أي واللّه فابكوا فإنكم واللّه أحرياء بالبكاء.
أو تواجه يزيد موعدة له: كدكيدك واسع سعيك، وناصب جهدك، فواللّه لايرحض عنك عار ما أتيت إلينا أبدا.
كما توقفه من الطغيان والعصيان آمرةً، وتستعمل من أقسام الأمر، الأسلوب والكلمات التي يحمل الثقل والحدة والقاطعية كاستعمالها اسم الفعل والتكرار:
فمهلا مهلاً يا ابن الطلقاء
كما نرى استعمال السجع في خطابها (س) هذا الأسلوب والفن البلاغي الجميل يضيف جمال خطابها وجلاله إذ أنه عفوي وخرج من لسان امرأة عقلية بليغة من غير تكلف وتصنع حيث تقول:
فالعجب كل العجب لقتل الأتقياء وأسباط الأنبياء وسليل الأوصياء بأيدي الطلقاء... فلئن اتخذتنا مغنما لتجدننا وشيكا مغرما(24)
وإذا تخاطب ابن زياد بهذه الإجابة:
لقد قتلت كهلي، وأبدت أهلي وقطعت فرعي واجتثت أصلي فان يشفك هذا فقد اشتفيت...
تهافت غيظ ابن مرجانة وراح يقول:
هذه سجاعة،لعمري لقد كان أبوها سجاعا شاعرا.
فترد عليه زينب (س)
إنّ لي عن السجاعة لشغلاً.
وكما ذكرنا ما كان ما وصل إلينا منها غير حرارة عفوية ورسالة نبوية خرجت على لسان علوي وتكلم بها زينب (س) بنت فاطمة(س).
والطباق أيضا من الصنائع البديعية المستعملة في كلام السيدة (س) كما نراها حين تعترض بهتك حرمة حرم رسول اللّه وسوق بناته (ص) سبايا بهذه العبارات: أمِنَ العدل يا ابن الطلقاء تحذيرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول اللّه سبايا قد هتكت ستور هنّ وأبديت وجوههن....
ويتصفح وجوههن القريب والبعيد والغائب والشهيد والشريف والوضيع والدني والرفيع.
كما أن الجناس يجعل كلامها مطنطنا سليسا، رائعا يدخل في السمع لفظا ومعنىً وينفذ في القلب شكلاً واحتواءً.
والسلام عليها سيدة البلاغة والمثل الأعلى للعزة والإباء- وقول الحق أمام سلطان جائر.(25)
________________________________________
1. سورة الرحمن / الآية 3
2. باقر شريف القرشي/ السيدة زينب، بطلة التاريخ ورائدة الجهاد في الإسلام/ 208
3. بطلة كربلاء/ 617 و 180/ نقلاً عن باقر شريف القرشي / 209
4. النقدي/ جعفر/ زينب الكبرى/ 86
5. نقلاً عن محمد جواد مغنية/ الحسين وبطلة كربلاء/ ص 203
6. علي محمد علي دخيل/ اعلام النساء/ زينب بنت الإمام علي(ع)/ 29
7. رياحين الشريعة/111
8. محمدبحر العلوم/ في رحاب السيدة زينب/ 641
9. زينب الكبرى/ 75
10. الطبرسي، ابن منصور أحمدبن علي/ الاحتجاج/ ج 2-1 / ص 308
11.الاحتجاج/ ج 1-2/ 308
12.حسن الصفار/ المرأة العظيمة/ 042
13.سورة آل عمران/ الآية 178
14. زينب الكبرى/ 67 و 75
15. حسن الصفار/ المرأة العظيمة/ 042 و 142
16. باقر شريف القرشي/ حياة الإمام الحسين (ع) 3 / 3816
17. الاحتجاج/ ج 2-1/ 31
18. أشرنا إلى كلام السيدة في بلاغة الموقف
19. الاحتجاج/ ج 2-1 / 309
20. سورة ابراهيم/ الآية 178
21. سورة آل عمران/ الآية 182
22. سورة آل عمران/ الآية 89
23. سورة مريم/ الآية 89
24. سورة آل عمران/ 1734
25. الاحتجاج/ ج 2-1 / ص 309
|
|
|
|
|