(تفضيل الصبر على الشكر)
علم أن الظاهر من بعض الأخبار: ان الصبر أفضل واكثر ثواباً من الشكر. كما روى: " انه يؤتى يوم القيامة بأشكر أهل الأرض، فيجزيه الله جزاء الشاكرين. ويؤتى بأصبر أهل الأرض، فيقال له: اترضى ان نجزيك كما جزينا هذا الشاكر؟ فيقول: نعم يارب! فيقول الله ـ تعالى ـ : كلا! أنعمت عليه فشكر وابتليتك فصبرت، لا ضعفن عليك الأجر عليه! فيعطى أضعاف جزاء الشاكرين ". وكقوله (ع): " الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر ". وهذا يدل على أفضلية الصبر من الشكر، لان المشبه به أعلى رتبة من المشبه. وكقول الباقر (ع): " مروة الصبر في حال الحاجة والفاقة والتعفف والغنى، اكثر من مروة الاعطاء ". ويؤيد ذلك قوله ـ تعالى ـ: (إنما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب). وينبغي أن يرتكب في أمثال هذه الأخبار تقييدان:
أحدهما ـ التقييد ببعض المراتب، بأن يقول: المراد أن بعض مراتب الصبر افضل من بعض مراتب الشكر. وهذا مما لا ريب فيه، فان من سلب اعز اولاده وابتلى بالفقر والمرض، ومع ذلك صبر ولم يجزع، فهو افضل البتة ممن اعطى مالا كثيراً فقال: شكرا لله، والحمد لله، من دون ابداء عمل آخر من الطاعات. وليس المراد أن كل ما يسمى صبرا افضل من كل درجة من درجات الشكر. إذ البديهة حاكمة بأن الشكر على نعمة بالاشتغال بالطاعة والعبادات، وترك المعاصي سنين كثيرة متتالية، من دون فتور، افضل واعلى رتبة من منع النفس عن الجزع لأجل عشرة دراهم سرقت منه.
وثانيهما ـ التقييد بخروجها على ما هو الظاهر عند جمهور الناس من الانفكاك بين الصبر والشكر. فان الجمهور لا يفهمون من حبس النفس عن الجزع عند الابتلاء ببلية إلا الصبر، ولا يلتفتون إلى ان هذا الحبس نوع عبادة حصلت تعظيما لله، وهو عين الشكر. وكذا لا يفهمون من اظهار التحيمد والاشتغال بالصلاة عند وصول نعمة إلا الشكر، ولا يلتفتون إلى أن هذا العمل عين منع النفس عن الكفران، وهو الشكر بعينه.
ومنها:
الفسق
وهو الخروج عن طاعة المبدأ الحقيقي وعبادته. وضده الطاعة، وهي تمجيد المبدأ والتخضع له باداء ضروب العبادات المقررة في الشريعة. وعمدة العبادات الموظفة في الشريعة هي: الطهارة، والصلاة، والذكر، الدعاء، وتلاوة القرآن، والصوم، والحج، وزيارة النبي (ص) والائمة (ع)، والجهاد في سبيل الله، واداء المعروف، الشامل للزكاة، والخمس، والصدقة المندوبة، وغيرها. والاخير ـ اعني اداء المعروف باقسامه ـ قد تقدم. والجهاد في هذا الزمان ساقط. فنشير إلى بعض الاسرار والدقائق والآداب الباطنة المتعلقة بالبواقي، في مقاصد وخاتمة. وأما آدابها واحكامها وشرائطها الظاهرة، فهي مذكورة في الفقهيات.
المقصد الأول
الطهارة ـ حقيقة الطهارة ـ ما ينبغي للمؤمن في الطهارة ـ إزالة الاوساخ ـ آداب الحمام ـ السر في إزالة الاوساخ.
اعلم ان الطهارة والنظافة أهم الأمور للعباد. إذ الطهارة الظاهرة وسيلة إلى حصول الطهارة الباطنة، وما لم تحصل الأولى لم تحصل الثانية. ولذا ورد في مدحها ما ورد، قال الله ـ سبحانه ـ:
" فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين "[2]. وقال: " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم "[3].
وقال رسول الله (ص): " بنى الدين على النظافة ". وقال (ص): " الطهور نصف الإيمان ". وقال (ص): " مفتاح الصلاة الطهور ". وقال (ص): " بئس للعبد القاذورة ". وقال (ص): " من اتخذ ثوباً فلينظفه ". وقال أمير المؤمنين (ع): " النظيف من الثياب يذهب الهم والحزن، وهو طهور للصلاة ".
ثم للطهارة أربع مراتب:
الأول ـ تطهير الظاهر من الاحداث والاخباث والفضلات.
الثانية ـ تطهير الجوارح من الجرائم والآثام والتبعات.
الثالثة ـ تطهير القلب من مساوي الأخلاق ورذائلها.
الرابعة ـ تطهير السر عما سوى الله ـ تعالى ـ، وهي تطهير الأنبياء والصديقين. والطهارة في كل مرتبة نصف العمل الذي فيها، إذ الغاية القصوى في عمل السر أن ينكشف له جلال الله وعظمته، وتحصل له المعرفة التامة، والحب والإنس. ولا يمكن حصول ذلك ما لم يرتحل عنه ما سوى الله، ولذلك قال الله ـ تعالى ـ:
" قل الله ثم ذرهم "[4]. فان الله وغيره لا يجتمعان في قلب واحد: " ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه "[5].
فتطهير السر عما سوى الله نصف عمله، والنصف الآخر شروق نور الحق فيه. والغاية القصوى في عمل القلب عمارته بالاخلاق المحمودة، والعقائد الحقة المشروعة. ولا يتصف بها ما لم ينظف عن نقائضها، من الأخلاق المذمومة، والعقائد الفاسدة. فتطهيرها عنها أحد الشطرين، والشطر الآخر تحليته بالفضائل والعقائد الحقة.
وأما عمل الجوارح، فالمقصود منه عمارتها بالطاعات. ولا يمكن ذلك ما لم يطهر عن المعاصي والمناهي. فهذا التطهير نصف عملها، ونصفه الآخر عمارتها بالطاعات. وقس على ذلك الحال في المرتبة الأولى. وإلى ذلك الإشارة بقول النبي (ص): " الطهور نصف الإيمان ". فان المراد: أن تطهير الظاهر، والجوارح، والقلب، والسر،، من النجاسات والمعاصي ورذائل الأخلاق وما سوى الله نصف الإيمان، ونصفه الآخر عمارتها بالنظافة والطاعات ومعالي الأخلاق، والاستغراق في شهود جمال الحق وجلاله. ولا تظنن أن مراده (ص) أن مجرد تطهير الظاهر عن النجاسات بافاضة الماء نصف الإيمان، مع تلوث الجوارح بأخباث المعاصي، وتنجس القلب باقذار مساوي الأخلاق، وتشوش السر وتكدره بما سوى الله. فالمراد التطهير في المراتب الاربع، التي هي من مقامات الدين، وهي مرتبة يتوقف بعضها على بعض، ولا يمكن أن ينال العبد ما هو الفوق، ما لم يتجاوز ما دونه، فلا يصل إلى طهارة السر مما سوى الله وعمارته بمعرفة الله، وانكشاف جلاله وعظمته، ما لم يفرغ عن طهارة القلب عن الأخلاق المذمومة، وتحليته بالملكات المحمودة، ولا يصل إلى ذلك ما لم يفرغ عن طهارة الجوارح من المعاصي وعمارتها بالطاعات. ولا يصل إلى ذلك ما لم يفرغ عن إزالة الخبث والحدث عن الظاهر، وعمارته بالنظافة والنزاهة.