بسم الله الرحمن الرحيم
اللَهٌمَ صَل ِعَلى مُحَمْدٍ وَآل ِ مُحَمْدٍ الْطَيّبْينَ الْطَاهِرّيْنَ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال الله تعالى في القرآن الكريم: { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ*فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ*إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}(الكوثر:1-3). صدق الله العلي العظيم.
حديث الزهراء عليها السلام في التوحيد.
الصديقة الزهراء عليها السلام هي الخير الكثير الذي أُعطي لرسول الله صلى الله عليه وآله، وهذا الخير ظهر على أصعدة متعددة، وفي ميادين كثيرة، من أهمها ميدان التوحيد، إنّ الأنبياء والرسل أمرهم الحق تعالى أن يوضحوا حقائق التوحيد للخلق، لما له من أهمية تنعكس على الإنسان، فتحقق له مزيداً من القرب، وللصديقة الزهراء عليها السلام أدعية وكلمات أوضحت فيها حقائق التوحيد الذي جاء به القرآن الكريم، إنّ التوحيد من المفاهيم التي تحتاج إلى إيضاح وشرح، وقابلية من لدن المتلقي، وقد شرحت الزهراء عليها السلام حقيقة التوحيد في خطبتها، وأوضحت معنى (لا إله إلا الله) مبينة حيثيات دقيقة لمعانيها سنسلط الضوء على بعضها.
التوحيد العملي.
قالت عليها السلام: ‹‹وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها›› أرادت عليها السلام أن تشرح ما يترتب على التوحيد في مقام العمل، فهناك آثار له، منها إخلاص العمل لله تعالى أي أن تكون الأعمال الصادرة لا يراد بها جزاءً ولا شكوراً من أحد، وإنما يراد بها الله تعالى، إذْ أنّ حقيقة التوحيد أن تعلم بأن الله تعالى حاضر وناظر ومتصرف مهيمن على الكون كله، عندئذ لن ترجو شيئاً من غير الله تعالى، فالمكافأة والعطاء والمواهب والنعم من عنده آتية وإليه ترجع، ويتوقف هذا على الفهم الحقيقي لكلمة (لا إله إلا الله)، وإدراك معناها بأن لا مؤثر في الوجود بحق إلا الله، وجميع الأسباب باطلة، والله هو السبب الحقيقي في التأثير.
التوحيد والإخلاص
قالت عليها السلام: ‹‹كلمة جعل الإخلاص تأويلها›› أي تعود في حقيقتها إلى إخلاص العبد بكل ما يصدر منه من أعمال لله تعالى، وهذه هي الحقيقة الصحيحة، والموحد لا يريد غير الله تعالى، ومعنى (لا إله إلا الله) أي لا مؤثر في الوجود بحق إلا الله تعالى، وما عداه يستمد وجوده منه تعالى.
المعرفة القلبية لحقائق التوحيد.
إنّ حقيقة وجود الباري تعالى لا يمكن أن تعرف بكيف، ولا تُأين بأين، ولا يتضمنها زمان ليقال متى، فهو تعالى أين الأين فلا أين له، وكيف الكيف فلا كيف له، ولا يقال أين وكيف ومتى لإدراك حقيقة ذاته المقدسة، فخلقه لا يصل إلى ذاته، والبرهان يحيل اكتناه حقيقة ذاته إذْ لا يستطيع أحد أن يحيط به علماً، وحقيقة وصول الخلق إليه تعالى بالمعرفة القلبية، قال تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}(النجم:11)، والصديقة الزهراء عليها السلام تشرح هذا المعنى بقولها: ‹‹وضمّن القلوب موصولها›› أي جعل الوصول إلى الله ليس عبر البراهين، فهي غير قادرة على إيصال الخلق لاكتناه الذات والإحاطة بها، وغاية ما يستطيعه الإنسان أن يتيقن بوجوده تعالى بقلبه، قال تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}(النجم:11)، وقولها عليها السلام: ‹‹وضمن القلوب موصولها›› تبيان لذلك.
تجلي أدلة حقائق التوحيد.
قالت عليها السلام: ‹‹وأنار في الفكر معقولها›› أي جعل الله تعالى البراهين الدالة على وجوده والموصلة إليه بينة الوضوح لمن تأملها وسبر أغوارها فهي توصل إليه دون اكتناه لذاته، وحقيقة التوحيد نيرة بادية متجلية، لا إبهام عليها ولا غطش فيها، ولا يشوبها ظلام، لأنه تعالى جعل الأدلة الدالة على وجوده في غاية الوضوح، قال تعالى: { أَفِي الله شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }(إبراهيم:9)، فعندما تقول عليها السلام: ‹‹وأنار في الفكر معقولها››: فهي تريد أن تبين أنّ من فكّر في الأدلة وقارنها وجدها بينة الوضوح واضحة الدلالة على وجوده تعالى.
عجز الحواس عن إدراك الله تعالى.
قالت عليها السلام: ‹‹الممتنع من الأبصار رؤيته›› يجوز أن يُقرأ (من الإبصار ومن الأبصار)، فالإبصار مصدر والأبصار اسم بمعناه، فهما بمعنى واحد.
‹‹الممتنع من الأبصار رؤيته›› بعد معرفة الأدلة الدالة على وجوده يدرك أنه تعالى ليس له جوارح كالأذن والفم والبصر والعيون والذائقة والشامة، والله تعالى لا يُحس ولا يُجس ولا يُرى ولا يُدرك بالحواس وجميع الأشياء لا يمكن أن تصل إليه، أو تراه، قال تعالى: { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}(الأنعام:103).
تنزيه الحق عن وصف الخلق
وتفصح الزهراء عليها السلام عن معنى أعمق بقولها ‹‹ومن الألسن صفته›› فالألسن والمقاول لا تصف الله تعالى، وقد شرح الأئمة من أهل البيت ع معنى عدم وصفه قائلين إنّ الصفة تنبئ عن الموصوف، والله تعالى لا صفات له تعبر عن ذاته، وصفاته تدلل على كماله المطلق، ولا تبين حقيقة ذاته، قال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ }(الصافات:180)، فالآية تبين أن الله منزه من أن يصفه خلقه.
المُخلَصون يصفون الله تعالى.
فالله تعالى منزه عن جميع أوصاف خلقه، والذي يمكنه أن يصفه هو من اجتباه واصطفاه فوصل إلى حقائق التوحيد، قال تعالى: {سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ*إِلَّا عِبَادَ الله الْمُخْلَصِينَ}(الصافات:159-160)، فهذا الصنف من الخلق، الذين ذكرتهم الآية ممن نزه الحق عن وصف الواصفين لذاته، فإنّ الله أباح لهم أن يصفوه لقداسة ذواتهم وخلوها من شوائب الكدورة والرجس، فهو تعالى طهرهم تطهيراً، وهم ينبئون عن حقائق التوحيد بالأوصاف التي يصفونه بها لتكون دالة على كمال وجوده، والصديقة الزهراء عليها السلام وصفها مرضي فهي عليها السلام من المخلَصين المصطفين.
عجز الأوهام عن معرفة حقيقة التوحيد.
قالت عليها السلام: ‹‹ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيته›› إنّ الوهم لا يستطيع أن يصل إلى تحديد الذات المقدسة، لأنها لا يمكن أن يحيط بها عقل ولا وهم ولا فكر، وقد أبان القرآن الكريم ذلك، قال تعالى: { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا }(طه:110)، أي لا يمكن أن تكتنه ذاته، ولو أحاط الوهم بذاته لكانت الذات محدودة، والمحدود ممكن في وجوده، وهو ناقص، يتنافى مع وجوب الحق تعالى، فوجوب وجوده كمال مطلق لا حد له، وقولها عليها السلام ‹‹ومن الأوهام كيفيته›› بيان على أنّ الوهم ليس بقادر أن يكتنه الذات المقدسة، لأنها غنىً مطلق لا حد له.
الفرق بين صنع الخالق والمخلوق.
قالت عليها السلام: ‹‹ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها››، إنّ الله تعالى أوجد الممكنات - السماوات والأرض والأفلاك والمجرات - لا من شيء كان قبلها أي لا وجود سابق تقدم على الممكنات وأوجد اللهتعالى المخلوقات من ذلك الوجود السابق، فلا شيء في الأزل إلاّ الله تعالى بخلاف إطلاق الإيجاد والخلق على غيره تعالى فإنّ إيجاده من وجود متقدم ولا يستطيع الخلق أن يوجد شيئاً لا من شيء، أما الحق تعالى فقد ابتدع الأشياء لا من شيء قبلها متقدماً عليها ليكون مادة لها، وهذا فارق بين الابتداع وبين التغيير في الصورة النوعية، فيمكن للإنسان أن يُسوي من الطين طيراً، فيغير في كيفية الصورة، ولكنه لا يستطيع أن يسوي شيئاً لا من شيء، فذلك مستحيل، لأن مبدع الأشياء لا من شيء هو الحق تعالى، فهو المالك للقدرة المطلقة، وخلقه محدود في قدرته، لا يستطيع أن يبدع شيئاً لا من شيء.
إنشاء الموجودات دون مثال.
قالت عليها السلام: ‹‹ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها›› إنّ الله تعالى لا يحتاج أن يرى شيئاً فيخلق مثله بخلاف خلق الإنسان فهو مخلوق على صورة، والله تعالى لم يحتذِ وجوداً، بل أوجد الخلق وأفاض عليه وأنعم، وهذا فارق جوهري بين أفعال الإنسان وفعله تعالى، فالإنسان لديه جزء من الصورة، وعلى أساسها يوجد ما يريد، أما الحق تعالى فقد ‹‹أنشأها- أي الأشياء - بلا احتذاء›› لأن قدرته غير محدودة.
انتفاء حاجة الله تعالى لمخلوقاته.
قالت عليها السلام: ‹‹كونها بقدرته وذرأها بمشيته›› أي جعل الأشياء موجودة بمشيته وبقدرته اللامحدودة، وهنا مطلب تفصح عنه عليها السلام وهو أنّ الإنسان يخلق ما يحتاج إليه، ويكتمل به، وجميع أعمال الإنسان طريق إلى كماله، نعم؛ بعضها يتصور الإنسان أنها توصله إلى الكمال غير أنها توصله إلى النقص، لعدم علمه بعلل وأسرار الأشياء، وكلما تقدم الإنسان علماً وأحاط ببعض الحيثيات أصبحت أعماله دالة على حكمته وكماله، والله تعالى لا يخلق خلقه ليكتمل به، لأنه غير ناقص حتى يخلق الخلق ليكتمل به، فوجوده تعالى غنًى مطلق لا حد له، وخلق الخلق لا ليرفع عوزاً ويسد حاجة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل خلق الخلق ليربح الخلق منه تعالى ‹‹من غير حاجة منه إلى تكوينها›› فهو غني عن خلقه، والخلق مفتقر إلى وجوده، بل أنّ حقيقة الخلق هو ارتباطه بوجود الحق تعالى، فلا وجود غير نفس الارتباط بوجوده تعالى، ولولا أن الله أفاض الوجود على الأشياء لتلاشت.
فائدة الإيجاد تعود للمخلوق.
قالت عليها السلام: ‹‹ولا فائدة له في تصويرها›› أي أنّ الله تعالى خلق الأشياء بالصور المختلفة لا لفائدة تعود عليه وترجع إليه تعالى فهو الكمال المطلق والغنى المطلق والفائدة ترجع إلى خلقه، ورد في الحديث القدسي: ‹‹إنما خلقت الخلق ليربحوا عليَّ، ولم أخلقهم لأربح عليهم››.
الغايات من إيجاد المخلوقات.
تعرضت السيدة الزهراء عليها السلام للغاية من إيجاد الخلق، وأوضحتها بشكل دقيق:
أولاً: الحكمة اللامتناهية.
إنّ الأشياء تدلل على كمال الله تعالى وغناه المطلق، وحكمته اللامتناهية، ووجوده اللامحدود.
وقول الزهراء عليها السلام ‹‹إلا تثبيتاً لحكمته›› يبين أنّ الإنسان إذا فكر وصل إلى إدراك حكمته تعالى، ووصل إلى أنه الحكيم المطلق والغني المطلق.
ثانياً: إظهار القدرة الإلهية.
قالت عليها السلام: ‹‹وتنبيهاً على طاعته وإظهاراً لقدرته›› إنّ الله تعالى يبين لخلقه أنه القادر الخالق، وأنّ القدرة التي منحت للخلق منه تعالى، فـ(لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) وقدرة الخلق مستمدة منه تعالى، فإذا سلب القدرة عن الخلق لم يستطع أن يفعل شيئاً والأنبياء والرسل والملائكة والأئمة عليهم السلام ، لا قدرة لهم إلاّ به تعالى، ولولا أنّ الله تعالى يمدهم بقدرته لنفد ما عندهم.
ثالثاً: إيصال الخلق للكمال.
قالت عليها السلام: ‹‹وتعبداً لبريته وإعزازاً لدعوته›› إنّ الله تعالى خلق الخلق لإيصاله إلى الكمال والسعادة لا لحاجة منه، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }(الذاريات:56)، وبعبودية الخلق تتعزز دعوة الحق لإيصالهم إلى السعادة والنعيم.
التحفيز في الثواب والعقاب.
قالت عليها السلام: ‹‹ثم جعل الثواب على طاعته ووضع العقاب على معصيته›› إنّ قانون الثواب والعقاب ميزان بالإضافة إلى التحفيز إلى الطاعة والوقاية من السخط
قالت عليها السلام: ‹‹ذيادة لعباده من نقمته، وحياشة منه إلى جنته›› أي أنه تعالى يدفع عباده عن النقم والمعاصي وما يوجب لهم السوء، ويأخذ بهم إلى ما يوجب لهم السؤدد والارتقاء والرحمة المطلقة.
التوحيد في كلام الزهراء عليها السلام
إنّ الزهراء عليها السلام شرحت معنى كلمة التوحيد، وأبانت أنها تتضمن كل المعاني المتقدمة، ولولا أنها عليها السلام أوضحت ذلك لما كان لأحد أن يصل إليها، فليس لأحد أن يصل إلى معاني التوحيد الحق إلاّ بدلالة من أهل البيت عليهم السلام ، ورد عنهم ‹‹بنا عرف الله›› فهم الأدلاء على الله، والحقائق المتقدمة من العلم المكنون المخزون الذي أفاضه الحق على المخلَصين من عباده المصطفين.
-------------
وصلى الله وسلم وزاد وبارك على سيدنا ونبينا محمد وآله أجمعين الطيبين الطاهرين.
اللهم صل على محمد وآل محمد. بارك الله فيك اخت نرجس موضوع رائع
سأكتبُ كل العباراتِ في ورقٍ مخطوط ْ
لأجعل منها أروع أكليل من الحروفِ والكلماتِ
والزهور والأنغامْ
وألحانِ الشكرِ والاحترامْ
لأقدمها لك تعبيراً عن شكري وإمتناني لردك الكريم ,,
تحياتي الودية ...
لكـ خالص احترامي