شيعي حسيني
|
رقم العضوية : 10716
|
الإنتساب : Oct 2007
|
المشاركات : 21,590
|
بمعدل : 3.46 يوميا
|
|
|
|
المنتدى :
المنتدى الثقافي
هشيم أحلام تحت الأنقاض......
بتاريخ : 17-05-2009 الساعة : 03:29 AM
لم تكن تلك واحدة إلا كغيرها من سالف الليالي ,
مسكونة بأشباح الخوف ,
رهبة انقضاض قنبلة ما , لا تغادرنا ,
في كل لحظة , نشعر وكأن ألف منها وقعت فوق رؤوسنا ,
وحين نستيقظ نكتشف أن هذا لم يحدث بعد ,
ذات مرة سمعت جارنا وهو شاب من الثوار
الذين خرجوا برغيف خبز و قنينة ماء يقول:
بأن الخوف يجب أن لا يكون ضمن خياراتنا ,
فقط علينا أن نؤمن بمقولة جندي خبر الحرب ,
وقد علمته درساً موجع
غير أن مفاده قد بات ترياق لهؤلاء البؤساء و تعساء الحياة :
الجندي يقول :
(لا تخشى الموت , لأن الرصاصة التي ستقتلك , لن تسمع صوتها ,
أن الموت يأتي سريعا حين تكون وجهته إليك ,
حتى أنك لن تشعر به أبداً ,
أنت فقط تخشاه حين تراه ينهش أحد ما في الجوار ,)
لكنه _ أي الموت_وكما حدثتني أمي مراراً رحيم جداً ,
ولطيف , ولن أشعر به حين يزورني ,
تقول أمي أنه يا ( شذى ) مثل طبيب الأسنان , تخشين زيارته ,
ولكنه بمجرد أن يضع إبرة المخدر في فمك...
فستشعرين بلسعة بسيطة جداً ,
ولن يكون هناك أي الم في انتزاع السن ,
.
.
أحياناً كنت أظن أن أمي كانت تحاول أن تهون علي الحياة المرعبة
التي يفترض بي وأنا الطفلة ذات السبع سنوات أن أقضيها بين أزيز
و دوي ورعد , و تفجيرات لا حصر لها ولا نهاية_
فأنا اعلم ان الموت مخيف ومرعب جداً ,
سمعت الأطفال يتحدثون عنه , كنت أدعي أني لا أهتم لحديثهم ,
لكني كنت أصخي السمع لهم من وراء الشرفة
بينما كانوا يهرولون هنا وهناك في ساحة القرية ,
وكان ( زياد) يخبرهم أنه قد صادف الموت ذات مرة
على الجبل حين كان يرعى الأغنام مع والده ,
فاعتزلت إحدى الخراف المجموعة و راح هو يقتفي أثرها في المراعي ,
لكنه بدل أن يجدها رأى نفسه وجه لوجه مع الموت كما زعم ,
وحين أثارت كلماته تلك حفيظة الأطفال
والصبية خاصة فسألوه كيف وجده :
قال:
أنه كان ضخم جداً , أضخم من كل رجال العالم البدينين ,
وكأنه قد أقتبس هذا المعيار من أقرانه الذين ينعتون كل صبي بدين
بالــ ضخم ,
ثم أردف و عيناه شاخصتان كأنما كان حديثه واقعياً
وليس حلماً على أغلب ظني ,
يصاحب ذلك تصبب حبات العرق من جبينه الأسمر :
لقد كان مخيفاً و مرعباً , أشبه ما يكون بالتنانين التي حدثتنا عنها جداتنا ,
كما وأن لديه هراوة كبيرة أكبر من السماء ,
و أن ناراً متوهجة تخرج من يديه كلما أخرجهما من جيبه ,
.
.
أتذكر أني بعد أن استمعت لحكاية زياد عن الموت للأطفال
الذين فروا في نوبة بكاء و استنجدوا بأمهاتهن اللواتي عدن بعصيهن و غضبهن
و لقنوا ( زياد ) درساً لن ينساه لئلا يعود لتلقين الأطفال مخاوف فوق ما لديهم ,
أذكر أني فقدت من ذلك الحين قدرتي على البقاء بمفردي حتى للحظة واحدة ,
وكنت ألتصق بكل من يجاورني,
بحيث يستحيل عليه انتزاعي مهما حاول جهده من اجل ذلك ,
هل صدقت مقولة ( زياد) بخصوص الموت ؟؟,
وهل كان (زياد ) متحدثاً مقنعاً لهذه الدرجة__!!!,
أبداً ,
لقد كنت في قرارة نفسي أخفي أمراً ما ,
سترته تقية بأكاذيب ( زياد) المسكين ,
الذي نعت بالكاذب من قبل أطفال الحي منذ ذلك اليوم ,
.
.
.
في كل مساء كنت أغادر فراشي
و أخرج متزحلقة من زقاق لأخر
حتى أصل أخيراً محطتي المعتادة
حيث أحاول عبثاً إشعال شمعة تضيء لي زوايا أنقاض بيت جدتي
الذي ضرب العام الماضي واستحال رماد إضافة إلى الكثير
من ذخيرة جدتي من الأماني وبقايا أحلام
كانت قد حدثتني بها ذات جمعة من جمعات غزة الجميلة ,
حيث كنا نتسابق من أجل الحظوة بحجرها
لتقص علينا من أخبار الثوار والأبطال
ما يشعل الدفء في ليالينا الباردة كشتاء بلا نهاية ,
.
.
كانت جدتي تحلم بيوم واحد , تستيقظ فيه على تغريد العصافير ,
وبعدها فأنها لن تتمنى أبداً رؤيتها مجدداً ,
وكأننا لشدة خوفنا من الغد ويقيننا أن العدو الغير إنساني ,_
لن يمنحه فرصة التنفس قبل أن ينهي أنفاسه _
قد بتنا لا نطمع بالكثير و نقنع بأماني معلقة على شفا الهاوية ,
تقول جدتي أن كل الطيور الجميلة التي كانت تستوطن أسقف منازلنا
و أسطح المباني العالية قد هاجرت المدينة منذ أن أحتلها العدو
ذو النجمة الخماسية ,أو ربما السداسية ,
لا أجد هذا أمراً هاماً رغم أن أخي قد حاول معي مرارا وتكراراً أن أتنبه لها ,
لكني لا أزال مصرة أن أمراً كهذا لا يعنيني ,
فهل فارق عدد واحد يضر في الحساب شيء ,
وهم الذين لا فرق عندهم بين أن يقتلوا كلباً أو يذبحوا طفلاً ,
لا يفرقون بين قتل واحد وقتل مليون ,
ردة فعلهم واحدة في جميع الحالات ,
يشربون نخب إزهاق أرواح الملايين على مائدة من دم , بأعصاب باردة ,
أشبه بصقيع يمررون معاملة نسف دولة كاملة من الخارطة ,
ثم يعودون للسكر و القمار , ويراهنون على أعمارنا , وأوطاننا ,
وكأننا دمى على لوحة شطرنج متى ما حان الدور المناسب ,
أطلق الحكم صفارة النهاية ( كش, ماااات) ,
نعم مات , ويالها من ميتة !!!!
.
.
.
مات الضمير العربي , مات الإنسان ,
مات العدل والحق حين كتب لزعمائكم أن يتولوا مناصب الحكم
وهم الأذناب والمرتزقة ,
يقررون عقد اجتماعاتهم و مؤتمراتهم ليواصلوا تزويد العالم بمصل مخدر ,
يتسرب إلى كل خلايا الخارطة ,
وعود كاذبة تشل حركة الثوار و تنعتهم بالخونة والخارجين على القانون ,
ليتحولوا من أبطال يتوجب تكريمهم و تقليدهم الأوسمة
إلى وحوش و إرهابيين لابد من قتلهم أو أيداعهم السجون ,
و يكمل الجناة لعبتهم بخبث و دهاء توارثوه جيلا عن جيل ,
و تواطأت عليه مع الشيطان أنفسهم ,
لحظات فقط تتلو اللقاء الذي عول عليه الفرج لأمة منكوبة
حتى ينفض الجمع على موعد بمباراة أخرى في القريب العاجل ,
رهانها دولة أخرى , وأبرياء آخرون ,
وكأنهم لم يستغرقوا من أجل انعقاد هذه الجلسة الفاشلة
والصفقة الخاسرة بجدارة شهورا و سنين ,
لكأنهم يحّضرون لمشهد درامي ,
يتوجب عليهم أن يحتاطوا ما استطاعوا ,
ليؤدوه أمام الجمهور السذج بكل احتراف وإتقان ,
وحين ينتهي يتوجب ان يعقب الجميع بالتصفيق والصفير
ولا شيء غير التصفيق والصفير آياً كانت النهاية ,
أمأساوية أم سعيدة , أمؤلمة أم هزلية ,
أي ديموقراطية تلك أيها المخرجين البارعين_؟؟!
.
.
.
كانت تلك ليلة الجمعة التي لم أكن أبداً,
لأفوتها وأضواء الشمعة الوحيدة التي جلبتها معي لأحياء ذكرى جدتي
تصارع الظلمة من أجل الحياة ,
تذكرني بطفلة تشبهني كانت ذات مرة ترتاد هذا المكان ,
تأتي بأرغفة الخبز المحمر إلى جدتها التي كانت تحيك لها وشاحاً زهري اللون ,
كانت ستهديه لها في عيد مولدها السابع ,
الطفلة تخفي في جيبها قرنفلة و ورقة مكتوب عليها:
( أحبك جدتي ) بخطوط مائلة و أحرف معوجة , لم تتقن فن الاستقامة بعد ,
و بعض خربشات طفولية ووجه تعلوه ابتسامة شبه مائلة ,
من يراها يقسم أن الوجه سيبكي بعد لحظة من هذه الابتسامة ,
ربما أدرك أن أمراً ما سوف يحدث
قبل أن يكون للجدة أن تلامس الورقة بيديها الذابلتين
كأوراق شجرة شخصت عروقها في عصر خريفي ,
الطفلة ترتقي العتبة وتدير مقبض الباب ,
تتسع كوة المدخل وبينما تشق ابتسامة بريئة تقاسيمها الملائكية ,
ويلوح من البعيد طيف الجدة فاتحة ذراعيها لتتلقف حفيدتها الوحيدة ( شذى) ,
ينهار السقف على إثر انفجار في المسافة بين بيت الجدة ومنزل الجيران
أدى إلى سقوط أربعة منازل ,
.
.
.
لم يكن مرعباً بالنسبة لي أن أرى السقف ينهار أمام عيني
و بهذا القرب الذي جعل نهاية حياتي رهينة خطوة ,
لقد أعتدت مثل هذه المشاهد ,
أحياناً اشعر أني فقدت إحساسي بالخوف منها ,
لا لم يكن هذا سبب الصدمة التي عقدت لساني
وألجمته عن النطق ببنت شفه لــ بقية عمري ,
بل السبب في ذهولي هو جدتي و لقاء الموت بها ,
نعم , لقد رأيت الموت تلك اللحظة ,
رأيت جسد جدتي ممزق إلى أشلاء ,
وروحها تتوسل رحمة أحد ليخلصها من العذاب الواقع بها دون ذنب أتت به ,
ولا جريمة اقترفتها,
و رأيت الموت ,
لم يكن أبداً كما قال زياد :
وحشاً مرعباً و مخيفاً ,
ولكنه أيضاً لم يكن كما جاهدت أمي لتقنعني بأنه كالطبيب ,
تخافه ولكنه لا يؤذيك ,
لقد كان مختلفاً عن كل ما سمعت,
لا ينتمي إلى أي فكرة تثرثر بها نساء بلدتنا ,
رأيته متحيراً ,
مدهوشاً ,
لم أبصر ملامحه بل لم أشأ أن أفعل ذلك ,
ولم استطع أن أتذكر ساعتها أن علي حفظ معالمه
لأنقل خبره فيما بعد لبقية الأطفال كما فعل زياد ,
تعجبت رؤيته منحنياً على جدتي ,
يخير أعضائها الممزقة من أي مكان يسعه أن يقبض روحها دون أن يؤذيها ,
وجدته مستنكراً فعلة هؤلاء
الذين اجبروه على أن يأتي الأطفال
بعد أن يسحقوا تحت حوافر الذبابات المجنونة ,
أجبروه أن يقبض الشيوخ بعد أن تصبح صدورهم مخرومة
من رشق رصاصات عشوائية لا هدف لها سوى العبث ,
الموت ليس طبيب , وليس وحش ___!!
الموت هو المخلص ,
هو المنقذ لنا من أنفسنا التي لم ترحم هذا الجسد الضعيف الذي سكنته ,
وكأن تمردها و جبروتها يأبى إلا أن يسكن العالم دفعة واحدة ,
.
.
.
.
في كل عام :
كنت أزور الأنقاض التي تركتها أحلام جدتي
حين سقط عليها سقف الدار ذات هجوم همجي أرعن ,
أزور الموت الذي كان يخبرني أنني سأكون بخير
أياً كانت الوسيلة التي سأقتل بها ,
يحدثني أن الشهداء يعانقون السعادة الأبدية
عندما يزحفون نحو الموت مقطعي الأيدي والأرجل ,
الآن أدركت لماذا كلما مات منا شهيد ولد مع موته ألف شهيد وألف ,
ولماذا عندما يموت منهم أحد , يموت بموته ألف رجل وألف ,
أن (موتنا) رحيم بنا لأننا نحبه ولا نراه مخيفاً و قاسياً ,
لكن (موتهم) يكرههم ,
لأنهم يخشون منه ولا يتمنونه
كما نتمنى نحن ملاقاته في كل حين من اجل تراب الوطن ____!
قرأتها فأعجبتني فقررت مشاركتكم
اتمنى أن تنال إعجابكم
تحياااتي نور...
|