نعزي بقية الله في ارضه وخليفته على خلقه الامام المهدي(عجل الله فرجه الشريف )
ومراجعنا العظام وشيعة امير المؤمنين في كل مكان بذكرى استشهاد سيدتنا ومولاتنا الحوراء زينب ( عليها السلام)
لمحات من حياة العقيلة ( عليها السلام)
نشأة فريدة
لابد وأن العائلة قد استبشرت وابتهجت بولادة السيدة زينب ( عليها السلام ) ، لأنها أول طفلة يحتفي بها بيت علي وفاطمة ( ع ) فقد سبق وان ازدان البيت الطاهر بوليدين صبيين هما الحسن ( ع ) الذي ولد منتصف شهر رمضان في السنة الثالثة للهجرة ، والحسين ( ع ) الذي ولد في الثالث من شعبان للسنة الرابعة من الهجرة ، وتأتي الآن زينب ( ع ) في السنة الخامسة كما يرجح ذلك المحققون (1) وبعد عام أو أكثر أنجبت السيدة الزهراء ( ع ) بنتاً أخرى هي أم كلثوم لتكون شقيقة لأختها زينب ( ع ) .
وخلافاً لما كان منتشراً عند بعض العرب في الجاهلية من التشاؤم والاستياء عند ولادة البنت واعتبارها مولوداً ناقص القيمة والشأن ، بل قد تسبب لهم العار والفضيحة ، كما أنها لا تنفعهم في المعارك والحروب ، ولذلك كان بعضهم يئدها عند ولادتها بقتلها أو بدفنها حية كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم بقوله : ( وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به اُيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون ) (2) .
خلافاً لذلك فقد أرسى الإسلام ثقافة سلوكية جديدة في المجتمع الإسلامي تدين تلك النظرة الأحتقارية للبنت وتجعلها مساوية في الشأن والقيمة للولد ، وأكثر من ذلك فان الرسول ( صلى الله عليه وآله ) كان يتحدث عن البنات بايجابية أكبر ، ويربي المسلمين على أن يكونوا أكثر احتفاءً وسرواً بقدوم البنت .
وننقل هنا بعض الأحاديث والنصوص الواردة عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وعن الأئمة الطاهرين ( عليهم السلام ) :
بشر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بابنة فنظر الى وجوه أصحابه فرأى الكراهة فيهم ، فقال : ما لكم ؟ ! ريحانة أشمها ورزقها على الله ( عز وجل ) .
وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أبا بنات (3) .
عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « خير أولادكم البنات » (4) .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : « نعم الولد البنات المخدرات من كانت عنده واحدة جعلها الله ستراً من النار ، ومن كانت عنده اثنتان أدخله الله بهما الجنة ، ومن يكن له ثلاث أومثلهن من الاخوات وضع عنه الجهاد والصدقة » (5) .
عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : « من عال ابنتين أو ثلاثاً كان معي في الجنة » (6) .
____________
(2) سورة النحل ، الآيات ( 58 ـ 59 ) .
(3) ( وسائل الشيعة ) الحر العاملي ج 15 ، ص 102 .
(4) ( بحار الأنوار ) المجلسي ج 101 ، ص 91 .
(5) المصدر السابق ص 91 .
(6) ( الطفل نشوءه وتربيته ) مؤسسة البعثة ص 272 .
وعنه ( صلى الله عليه وآله ) : « من كانت له ابنة واحدة كانت خيراً له من ألف جنة وألف غزوة وألف بدنة وألف ضيافة » (7) .
عن الإمام موسى بن جعفر عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « ومن يمن المرأة أن يكون بكرها جارية » يعني أول ولدها (8) .
عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها الى عياله كان كحامل صدقة الى قوم محاويج وليبدأ بالأناث قبل الذكور ، فانه من فرّح أنثى فكأنما أعتق رقبة من ولد اسماعيل » (9) .
وسبب آخر يؤكد على حتمية السرور والأبتهاج الذي غمر البيت النبوي عند ولادة زينب هو المعرفة المسبقة التي أوحاها الله ( تعالى ) لرسوله ( صلى الله عليه وآله ) بالمكانة العظيمة والدور الريادي الذي ستقوم به هذه الوليدة في الأمة الإسلامية لذلك تشير احدى الروايات الى أن تسمية السيدة زينب ( عليها السلام ) قد تمت من قبل الله ( تعالى ) يقول العلامة الشيخ جعفر النقدي ما نصه :
لما ولدت زينب ( ع ) جاءت بها أمها الزهراء ( عليها السلام ) الى أبيها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وقالت : سمّ هذه المولودة .
فقال : ما كنت لأسبق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
وكان في سفر له ، ولما جاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وسأله علي عن اسمها ، فقال : ما كنت لأسبق ربي ( تعالى ) .
____________
(7) المصدر السابق ص 272 .
(8) المصدر السابق ص 273 .
(9) ( بحار الأنوار ) المجلسي ج 101 ، ص 104 .
فهبط جبرئيل يقرأ على النبي السلام من الله الجليل ، وقال له : سم هذه المولودة زينب فقد اختار الله لها هذا الاسم . ثم أخبره بما يجري عليها من المصائب ، فبكى النبي ( صلى الله عليه وآله ) (10) .
ولم يذكر الشيخ النقدي مصدر هذه الرواية ، لكن العلامة الشيخ محمد جواد مغنية نقل الرواية في كتابه : ( الحسين وبطلة كربلاء ) عن جريدة ( الجهورية ) المصرية ( 31 ـ 10 ـ 1972 م ) للكاتب المصري يوسف محمود .
ويقول العلامة السيد محمد كاظم القزويني : سماها جدها الرسول زينباً ، والكلمة مركبة من زين الأب ) (11) .
(10) ( زينب الكبرى ) النقدي ص 16 .
(11) ( فاطمة الزهراء من المهد الى اللحد ) القزويني ص 229 .
وتتحدث الكاتبة الأديبة عائشة بنت الشاطئ عن الأجواء التي سادت البيت النبوي عند ولادة السيدة زينب ، فتقول :
وبدا كأن كل شيء يعد الوليد بحياة سعيدة ، وأقبل المهنئون من بني هاشم والصحابة ، يباركون هذه الزهرة المتفتحة في بيت الرسول ، تنشر في المهد عبير المنبت الطيب ، وتلوح في طلعتها المشرقة ووجهها الصبيح ، ملامح آباء وأجداد لها كرام .
لكنهم فوجئوا ـ لو صدقت الأخبار ـ بظلال حزينة تلف المهد الجميل ! ظلال ربما لا يكون لأكثرها مكان في كتاب تاريخ يكتب للتحقيق العلمي لكن لها مكانها في النفس البشرية ووقعها على الوجدان .
حدثوا أن نبوءة ذاعت عند مولد الطفلة ، تشير الى دورها الفاجع في مأساة « كربلاء » وتحدث بظهر الغيب عما ينتظرها في غدها من محن وآلام .
كانت المأساة معروفة فيما يقولون ، قبل موعدها بأكثر من نصف قرن من الزمان ففي ( سنن ابن حنبل ج 1 ص 85 ) أن جبرئيل أخبر محمداً بمصرع الحسين وآل بيته في كربلاء .
وينقل ابن الأثير في ( الكامل ) أن الرسول ( ص ) أعطى زوجه أم سلمة تراباً حمله له أمين الوحي من التربة التي سيراق فوقها دم الحسين وقال لها : إذا صار هذا التراب دماً فقد قتل الحسين .
وإن أم سلمة حفظت ذلك التراب في قارورة عندها فلما قتل الحسين صار التراب دماً ، فعلمت أن الحسين قتل واذاعت في الناس النبأ .
وسوف نسمع المؤرخين بعد ذلك في حوادث عامي : ( 60 ـ 61 ) يذكرون أن ( زهير بن القين البجلي ) وهو عثماني الهوى خرج من مكة بعد أن حج عام ( 60 ) فصادف خروجه مسير الحسين الى العراق فكان زهير يساير الحسين الا أنه لا ينزل معه ، فاستدعاه الحسين يوماً فشق عليه ذلك ، ثم أجابه فلما خرج من عنده أقبل على أصحابه ، فقال :
« من أحب منكم أن يتبعني والا فإنه آخر العهد » .
ثم راح يروي لهم قصة قديمة من عهد رسول الله ( ص ) : قال انه خرج مع جماعة من المسلمين في غزوة لهم فظفروا وأصابوا غنائم فرحوا بها ، وكان معهم « سلمان الفارسي » فأشار الى أن الحسين سيقتل : ثم قال سلمان لأصحابه : « اذا أدركتم سيد شباب أهل محمد فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معه ، منكم بما أصبتم اليوم من الغنائم » .
قال ابن الأثير : وتوجه زهير ـ بعد أن حدث أصحابه بحديث سلمان الفارسي ـ فودع أهله وطلق زوجته مخافة أن يلحقها أذى ، ولزم الحسين ( ع ) حتى قتل معه .
وكان الحسين ( ع ) فيما يروي المؤرخون يعلم منذ طفولته بما قدّر له ، كما كان دور أخته زينب حديث القوم منذ ولدت . فهم يذكرون أن سلمان الفارسي أقبل على علي بن أبي طالب ( ع ) يهنئه بوليدته ، فألفاه واجماً حزيناً ، يتحدث عما سوف تلقى ابنته في كربلاء .
وبكى علي الفارس الشجاع ذو اللواء المنصور ، والملقب بأسد الإسلام ! .
لا شك أن البيئة والأجواء العائلية التي ينشأ فيها الانسان تلعب دوراً أساسياً في بناء شخصيّته فهي التي تغرس في نفسه قيمها وافكارها ، وتربيه على سلوكياتها وعاداتها .
ولنلق الآن نظرة عابرة على الأجواء العائلية التي نشأت من خلالها السيدة زينب ( عليها السلام ) .
الوضع الحياتي المعيشي
قد تختلف تأثيرات حياة الترف والرفاه على نفس الطفل عن تأثيرات حياة التقشف والبساطة ، ففي الحالة الأولى ينشأ الطفل على الدّلع والدلال ، وينعدم لديه الشعور بقيمة الأشياء لتوفرها أمامه ، ولا تنمو في نفسه حساسية ولا شفاهية تجاه حالات الفقر والحرمان لأنه لم يتذوق مرارتها ، كما أن مشاكل الحياة قد تصدمه بقوة لعدم استعداده النفسي لمواجهة الصعوبات والمشاكل .
اما في الحالة الثانية فان شخصية الطفل قد تكون أكثر اتزاناً وأقوى جلداً ، وأقل استهانة بالأشياء والأمور ، وأقرب الى التفاعل النفسي مع الطبقات المحرومة والضعيفة في المجتمع .
كما أننا يجب أن نفرق بين البساطة والتقشف اللذين يفرضهما الفقر والحاجة وبينها في حالة الأختيار والطواعية ، ففي اُولى الحالتين قد تسبب حالة البساطة والتقشف عند الأنسان وجود التطلعات والتمنيّات لرغد العيش ورفاهية الحياة ، كما قد يتسرب الى نفس الطفل شيء من عدم الارتياح تجاه الموسرين المترفين كارضية للحقد والحسد والانتقام .
بينما توجد حالة البساطة المختارة كنمط للحياة عند العائلة توجد المشاعر والانعكاسات الايجابية دون تلك السلبيات حيث يرى الطفل ان عائلته تمتلك القدرة على الرفاه لكنها لا ترغبه لمنطلقات أخلاقية ، كما لو كانت العائلة تؤثر الفقراء والمحتاجين ، وتجود على الضعفاء والمعوزين .
والسيدة زينب نشأت في أفضل جو عائلي من هذا الجانب فأسرتها لم تكن فقيرة معوزة ، فلربما سمعت زينب في فترة طفولتها عن ثروات جدتها خديجة ، كما ترى الموقع القيادي لجدها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حيث ولدت ونشأت في فترة الانتصارات العسكرية والسياسية والتي كانت تعود على المسلمين بالغنائم الكثيرة ولجدها النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيها التصرف المطلق الى جانب استعداد المسلمين لبذل كل امكانياتهم ووضعها تحت تصرّف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
وتلاحظ السيدة زينب امتلاك عائلتها لبعض الأمكانيات ثم تنازلها عنها لصالح الآخرين ، ويخلد القرآن الحكيم نموذجاً لهذه الحالة عند عائلة زينب مشيداً بها في سورة الانسان ، حيث يقول ( تعالى ) : ( يوفون بالتدر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً * ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً ) (13) .
ففي كثير من التفاسير أن هذه الآيات نزلت في حق أهل البيت ( عليهم السلام ) ونثبت منها عبارة الرازي بنصها :
ذكر الواحدي من أصحابنا ـ أي السنة ـ وصاحب ( الكشاف ) من المعتزلة : ان الحسن والحسين مرضا فعادهما الرسول في أناس معه ، فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك .
فنذر علي وفاطمة وجارية لهما إن شفاهما الله تعالى أن يصوموا ثلاثة أيام ، فشفيا فاستقرض علي ثلاثة اصوع من شعير ، فطحنت فاطمة صاعاً ، واختبزت خمسة أقراص على عددهم ، ووضعوها بين ايديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل ، فقال : السلام عليكم يأهل بيت محمد مسكين أطعموني ، أطمعكم الله من الجنة
____________
(13) سورة الإنسان ، الآيات ( 7 ـ 9 ) .
فآثروه ولم يذوقوا الا الماء ، وأصبحوا صائمين ، فلما امسوا ووضعوا الطعام بين ايديهم وقف يتيم فآثروه ، وجاءهم اسير في الليلة الثالثة ، ففعلوا مثل ذلك ، فلما أصبحوا ابصرهم رسول الله يرتعشون كالفراخ ، فقال : ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم .
فنزل جبرئيل وقال : خذها يا محمد هناك الله في أهل بيتك ، فقرأ هذه السورة (14) .
وقد سجّل الشيخ الأميني في موسوعته ( الغدير ) قائمة تحتوي على المصادر التي روت هذه الحادثة من كتب التفسير والحديث لأهل السنة والجماعة بلغت ( 34 مصدراً ) (15) .
ونموذج آخر تسجّله الروايات يعطينا صورة عن بساطة الحياة والزهد المتعمد الذي اختارته عائلة زينب انطلاقاً من منهجية خاصة في فهم الحياة والتعامل معها .
عن زرارة عن أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذا أراد سفراً سلم على من أراد التسليم عليه من أهله ، ثم يكون آخر من يسلم عليه فاطمة ، فيكون وجهه الى سفره من بيتها ، وإذا رجع بدأ بها ـ أي يزورها قبل كل أحد ـ فسافر مرة وقد أصاب علي شيئاً من الغنيمة ورفعه الى فاطمة ، فأخذت سوارين من فضة ، وعلقت على بابها ستراً ـ أي ألبست الباب ثوباً للزينة ـ فلما قدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دخل المسجد ، فتوجه نحو بيت فاطمة كما كان يصنع ، فقامت الى أبيها صبابة وشوقاً اليه ، فنظر فاذا في يدها سواران من فضة وإذا على بابها ستر ، فقعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حيث ينظر اليها ، فبكت فاطمة وحزنت وقالت : ما صنع هذا بي قبلها .
____________
(14) ( التفسير الكاشف ) محمد جواد مغنية ج 7 ، ص 483 .
(15) ( الغدير ) عبد الحسين الأميني ج 3 ، ص 107 ـ 111 .
فدعت ابنيها ، فنزعت الستر عن بابها ، وخلعت السوارين من يديها ثم دفعت السوارين الى احدهما والستر الى الآخر ، ثم قالت لهما :
انطلقا الى أبي فأقرئاه السلام وقولا له : ما أحدثنا بعدك غير هذا فشأنك به .
فجاءاه فأبلغاه ذلك عن أمهما ، فقبلهما رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والتزمهما وأقعد كل واحد منهما على فخذه ، ثم أمر بذينك السوارين فكسراً فجعلهما قطعاً ، ثم دعا أهل الصفة وهم قوم من المهاجرين لم يكن لهم منازل ولا أموال فقسمه بينهم .
وفي رواية أحمد بن حنبل : فان هؤلاء أهل بيتي ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا .
وقد روى هذا الحديث الخطيب العمري في ( مشكاة المصابيح ) والطبري في ( ذخائر العقبى ) والثوري في ( نهاية الارب ) والقندوزي في ( ينابيع المودة ) والطبراني في ( المعجم الكبير ) ، والزبيدي في ( أتحاف السادة ) وغيرهم (16) .
لم تكن عائلة زينب تمتلك بيتاً تقطنه لكن أحد الصحابة المتمكنين من أهل المدينة وهو ( حارثة بن النعمان ) وضع أحد منازله تحت تصرف علي حينما أراد الزواج من بنت الرسول فاطمة ، وبعد فترة بنى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بيتاً ملاصقاً لمسجده له باب شارع الى المسجد ، كبقية الحجرات التي بناها لزوجاته ، وانتقلت عائلة زينب الى ذلك البيت الجديد الملاصق لبيت الله المجاور لبيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) (17) .
____________
(16) ( الزهراء من المهد الى اللحد ) القزويني ص 279 .
ويُروى أن سلمان الفارسي رأى فاطمة الزهراء مرة فبكى ، وقال : إن قيصر وكسرى في السندس والحرير وابنة محمد في ثياب بالية (18) .
الأنسجام والمحبة:
وقد عاشت السيدة زينب وترعرعت في جو يغمره العطف والحنان وتسوده المحبة والإنسجام ، فعمدا البيت وقطباه علي وفاطمة والدا زينب كانت علاقتهما قمة في الصفاء والحب لا تدانيها أية علاقة زوجية في تاريخ البشر .
يقول الإمام علي ( عليه السلام ) عن حياته مع الزهراء ( عليها السلام ) :
« فوالله ما أغضبتها ولا أكرهتها على أمر حتى قبضها الله ( عز وجل ) ولا أغضبتني ولا عصت لي أمراً ، لقد كنت أنظر اليها فتنكشف عني الهموم والأحزان » (20) .
وفي آخر ساعة من حياتها تخاطب الزهراء علياً ( عليهما السلام ) قائلة :
« يابن عم ! ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني » ؟ ! .
فيجبيها الإمام علي : « معاذ الله أنت أعلم بالله وأبر وأتقى وأكرم وأشد خوفاً من الله من أن اُوبّخك بمخالفتي » (21) .
الأجواء الرسالية :
نشأت العقيلة زينب ضمن عائلة قد نذرت نفسها للجهاد في سبيل الله ، وتربت في أجواء رسالية ما كان يدور فيها غير الأهتمامات القيمية المبدئية ، فجدها الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) قاد بنفسه حوالي ( 28 غزوة ومعركة ) (22) وأبوها الإمام علي ( عليه السلام ) رافق الرسول ( ص ) في جميع تلك المعارك عدا واحدة وهي غزوة تبوك حيث تخلف بأمر من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ____________
(20) ( فاطمة الزهراء من المهد الى اللحد ) القزويني ص 212 .
(21) المصدر السابق ص 609 .
(22) ( الرسول القائد ) محمود شيت خطاب ص 431 .
كما قاد الإمام بنفسه العديد من السرّايا والمعارك المحدودة .
إن ذلك يعني أن بيب وعائلتها كانوا يعيشون ظروف الجهاد في أغلب فترات حياتهم ، فحينما يغادرهم الجدّ أو الأب الى ساحة المعركة فستكون نفوسهم منشدّة ومرتبطة بما يدور على ساحات القتال .
ولا يقتصر الأمر على تفاعل الأسرة مع قضايا الحرب والجهاد بل انها كانت معنية بكل أوضاع المجتمع ، فعائلة زينب هي في موقع القيادة والقلب .
وهكذا عاشت السيدة زينب ( عليها السلام ) فترة طفولتها في بيت تتموّج فيه هموم مجتمعها ، وفي أجواء مفعمة بالمسؤولية والتضحية .
الفاجعة الكبرى
بعد خمس سنوات عاشتها زينب في كنف عائلتها الحنون ، وفي ظل أجواء المحبّة والعطف ، حيث كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يظلل بيت زينب برعايته ، ويغمر أفراد ذلك البيت بعنايته واجلاله . فلا يكاد يمر يوم لا يلتقي فيه محمد بأهل بيته ، واذا ما سافر كان بيتهم آخر محطة ينطلق منها لسفره ، واذا ما عاد كان بيتهم أول منزل يدخله .
روى الحاكم في ( المستدرك ) بسنده عن أبي ثعلبة الخشني : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) اذا رجع من غزوة أو سفر أتى المسجد فصلى فيه ركعتين ثم ثنى بفاطمة ثم يأتي أزواجه .
وبسنده عن ابن عمران : ان النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان إذا سافر كان آخر الناس عهداً به فاطمة ، واذا قدم من سفر كان أول الناس به عهداً فاطمة » (23) .
____________
(23) ( أعيان الشيعة السيد محسن الأمين ) ج 1 ، ص 307 .
ويقول الشيخ مغنية : وكان النبي لا يصبر عن بيته هذا ، ولا يشغله عنه شاغل ، بخاصة بعد ان نبتت فيه رياحينه ، فاذا دخله قبل هذا ، وشمّ ذاك وابتسم لتلك . . . ودخله ذات يوم فأخذ الحسن وحمله ، فأخذ علي الحسين وحمله ، فأخذت فاطمة زينب وحملتها (24) ، فإهتزت أركان البيت طرباً لجوّ الصفوة المختارة ، وابتهاج الرسول بآله وابتهاجهم به ، وتدلنا هذه الظاهرة وكثير غيرها ان محمداً كان أكثر الأنبياء غبطة وسعادة بأهل بيته » (25) .
وشاء الله ( سبحانه وتعالى ) أن يكون حظ السيدة زينب من تلك الحياة الهانئة السعيدة محدوداً بالسنوات الخمس الأولى من حياتها ، فما ان دخلت السنة الحادية عشر للهجرة ، وتصرّمت أيام شهرها الثاني شهر صفر ، الا وشمس السعادة في بيت زينب قد آذنت بالغروب ، فرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يلبّي نداء ربه ويفارق الحياة ويلتحق بالرفيق الأعلى في الثامن والعشرين من شهر صفر سنة ( 11 هـ ) .
واذا كان فقد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يشكل صدمة كبرى وفاجعة مهولة عظمى على المسلمين جميعاً فانه ولا شك أشد وقعاً وأعظم أثراً على أهل بيته الملتصقين به والمتنعمين برعايته وعطفه .
وزينب الصغيرة في السن المرهفة الأحساس الرقيقة المشاعر وجدت نفسها في مواجهة هذه الرزية الكبرى ، ورأت كيف انقلبت الأجواء في بيتها رأساً على عقب من بهجة وغبطة وسرور الى كآبة وحزن واضطراب .
لقد صحبت زينب أمها الزهراء وهي تنكّب على أبيها رسول الله عند مصارعته لسكرات الموت نادبة .
« واويلتاه لموت خاتم الأنبياء ، وامصيبتاه لممات خير الأتقياء ، ولإنقطاع سيد الأصفياء ، واحسرتاه لإنقطاع الوحي من السماء ، فقد حرمت اليوم كلامك » (26) .
____________
(24) ( بحار الأنوار ) المجلسي ج 10 ، ص 58 .
(25) ( مع بطلة كربلاء ) محمد جواد مغنية ص 22 .
ورأت زينب أخويها الحسنين حينما القيا بنفسيهما على جدهما الرسول يودعانه وهما يذرفان الدموع ، فجعل يقبلهما وهما يقبلانه واراد عليّ أن ينحيهما عنه ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) :
« دعهما يتمتعان مني وأتمتع منهما فستصيبهما بعدي اثرة » (27) .
وتوالت مشاهد الألم الحسرة أمام ناظري زينب فهذه أمها الزهراء تنكب على جثمان أبيها رسول الله ( ص ) بعد وفاته تبكي أمر البكاء قائلة : « واأبتاه ، الى جبرئيل أنعاه ! واأبتاه جنة الفردوس مأواه ! واأبتاه أجاب رباً دعاه ! ! » (28) .
وتقول أيضاً : « واأبتاه وارسول الله ، وانبي الرحمتاه ، الآن لا يأتي الوحي ، الآن ينقع عنا جبرئيل ، اللهم إلحق روحي بروحه ، واشفعني بالنظر الى وجهه ، ولا تحرمني أجره وشفاعته يوم القيامة » (29) .
وهذا أبوها علي بن أبي طالب ( ع ) وهو الجبل الأشم في صموده وبطولته لكنه تذوب نفسه أمام هذه المصيبة ، فيقول : « إن الصبر لجميل الا عنك ، وإن الجزع لقبيح إلاّ عليك ، وان المصاب بك لجليل ، وإنه قبلك وبعدك لجلل » (30) .
وقال أيضاً وهو يلي غسل رسول الله ( ص ) وتجهيزه : « بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! لقد انقطع بموتك مالم ينقطع بموت غيرك من النبوة والإنباء وأخبار السماء ، خصّصت حتى صرت مسلياً عمن سواك ، وعممت حتى صار الناس فيك سواء ، ولولا انك أمرت بالصبر ، ونهيت عن الجزع ، لأنفذنا عليك ماء الشئون ، ولكان الداء مماطلا ، والكمد محالفاً ، وقلا لك ، ولكنه ما لا يملك رده ، ولا يستطاع دفعه بأبي أنت وأمي ! اُذكرنا عند ربك ، واجعلني من بالك ! » (31) .
____________
(26) ( حياة الإمام الحسن ) باقر شريف القرشي ج 1 ، ص 133 .
(27) المصدر السابق ، ص 134 .
(28) المصدر السابق ، ص 136 .
(29) ( حياة الإمام الحسين ) باقر شريف القرشي ج 1 ، ص 221 .
(30) ( نهج البلاغة ) الإمام علي ، قصار الحكم ، رقم : 292 .
ويتحدث الامام جعفر الصادق ( ع ) عن مدى وقع المأساة على بيت زينب ، فيقول : « لما مات النبي ( صلى الله عليه وآله ) سقط سطران ؟ ؟ خمسة وسبعين يوماً لم تر كاشرة ولا ضاحكة تأتي قبور الشهداء في كل جمعة مرتين الاثنين والخميس ، فتقول : « ها هنا كان رسول الله ، وها هنا كان المشركون » .
وقال ابن شهر اشوب في ( المناقب ) روي أنها مازالت بعد أبيها معصبة الرأس ناحلة الجسم منهدة الركن باكية العين محترة القلب يُغشى عليها ساعة بعد ساعة ، وتقول لولديها : أين أبوكما الذي كان يكرمكما ويحمكما مرة بعد مرة ؟ أين أبوكما الذي كان أشد الناس شفقة عليكما فلا يدعكما تمشيان على الأرض ولا أراه يفتح هذا الباب أبداً ولا يحملكما على عاتقه كما لم يزل يفعل بكما .
وروي أنه لما قبض النبي ( صلى الله عليه وآله ) امتنع بلال من الأذان ، وقال : لا اُؤذن لأحد بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وإن فاطمة قالت ذات يوم :
( أشتهي أن أسمع صوت مؤذن أبي بأذان ) .
فبلغ ذلك بلالاً فأخذ في الاذان فلما قال : الله أكبر الله أكبر . ذكرت أباها وأيامه ، فلم تتمالك من البكاء ، فلما بلغ الى قوله : أشهد أن محمداً رسول الله
____________
(31) المصدر السابق ، الخطبة رقم : 235.
(32) ( حياة الإمام الحسين ) باقر شريف القرشي ج 1 ، ص 225.
شهقت فاطمة وسقطت لوجهها وغشي عليها ، فقال الناس لبلال : امسك فقد فارقت ابنة رسول الله الدنيا .
وظنوا أنها قد ماتت ، فلم يتم الاذان . فأفاقت فسألته اتمامه فلم يفعل ، وقال لها : يا سيدة النسوان إني أخشى عليك مما تنزلينه بنفسك اذا سمعت صوتي بالاذان .
فأعفته من ذلك .
وعن علي ( عليه السلام ) قال : غسلت النبي في قميصه فكانت فاطمة تقول : أرني القميص . فاذا شمته غشي عليها ، فلما رأيت ذلك غيبته (33) .
ورأت الزهراء ( ع ) يوماً أنس بن مالك ، فقالت : يا أنس كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على النبي التراب ؟ (34) .
ولك أن تتصور حالة السيدة زينب وهي طفلة ذات خمس سنوات من العمر لابد أنها كانت ملتصقة بأمها الزهراء ( ع ) وتعايش معها هذه الصدمة العاطفية الكبيرة .
____________
(33) ( أعيان الشيعة ) السيد محسن الأمين ج 1 ، ص 319 .
(34) ( تاريخ الاسلام ) الحافظ الذهبي « السيرة النبوية » ص 562 .
وافتقدت أمها الزهراء عليها السلام
بعد حوالي ( 75 يوماً ) عاشتها فاطمة الزهراء في وضع مأساوي يصعب تصويره ، وكانت زينب هي الأقرب لأمها ، والمشاركة لها في آلامها وأحزانها ، خاصة وأنها تلحظ تدهور صحة أمها الزهراء وازدياد توجعها . . .
وفي اليوم الأخير من حياتها تحاملت الزهراء على مرضها وقاومت أوجاعها لتقوم بخدمة وداعية حانية لئطفالها الذين سيصبحون يتامى بعدها . . فقد قامت الزهراء تتكئ على جدار المنزل ودعت اطفالها الأربعة الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم لتغسل أجسامهم ورؤوسهم بالماء والطين ، وهي تملأ عينيها نظراً الى أجسامهم النحيفة ، وتذرف من أعماق قلبها دموع الحزن على فراقهم ، وفوجئ علي ( عليه السلام ) حينما أقبل ورأى فاطمة وقد غادرت فراش مرضها ، وكاد أن يمتلكه الفرح والسرور لأن فاطمة استعادت صحتها وعافيتها ، لكنه رآها كزهرة يكتنفها الذبول ولاحظها تستعين بالجدار لتواصل خطواتها البطيئة ، فسألها عن سبب اجهاد نفسها بغسل الأولاد ، فأجابته بصوتها الخافت :
« لأن هذا اليوم آخر يوم من أيام حياتي ، قمت لأغسل رؤوس أطفالي وثيابهم لأنهم سيصبحون يتامى بلا أم » (1) .
وعادت الزهراء ( عليها السلام ) الى فراشها لتبث لبعلها وزوجها الغالي العزيز همومها ووصاياها . .
وكان مستقبل أولادها احدى القضايا التي ركزت عليها في وصيتها له حيث قالت :
« يا ابن عم : أوصيك أن تتزوج بعدي بابنة أختي اُمامة فإنها تكون لولدي مثلي ، فإن الرجال لابد لهم من النساء ، وإن أنت تزوجت امرأة أجعل لها يوماً وليلة واجعل لأولادي يوماً وليلة » (2) .
وعند اقتراب الأجل أرادت الزهراء أن تبعد ابنتيها زينب وأم كلثوم عن مشاهدة تلك اللحظات الأليمة حيث الموت ومفارقة الحياة فأرسلتهما الى بيوت بعض الهاشميات ـ كما تشير احدى الروايات ـ (3) بينما كان الحسنان مع أبيهما خارج المنزل . .
وما عادت زينب وأختها أم كلثوم الى المنزل الا وقد انطفأ منه ذلك النور ، وذبلت فيه تلك الزهرة الندية ، وخمدت تلك الشعلة المتقدة بالعاطفة والحنان ، لم تعد زينب تسمع صوت أمها الرقيق ولا تنعم بابتسامتها المشرقة ، انها قد التحقت روحها بالرفيق الأعلى لترتاح من عناء هذه الدنيا وظلم أهلها ، أما جسدها النحيف الضعيف فباتجاه القبلة على الفراش وقد أسبلت يديها ورجليها وأغمضت عينها . .
يا لها من لحظات أليمة مرت على العقيلة زينب واخوتها . . ولكنه أمر الله ،
____________
(1) ( فاطمة الزهراء من المهد الى اللحد ) القزويني ص 607 .
(2) المصدر السابق ، ص 610 .
(3) المصدر السابق ، ص 616 .
وهم على صغر سنهم ـ أي أطفال فاطمة ـ يعون هذه الحقيقية فيؤلمهم الفراق لكنهم يسلمون أمرهم الى الله ويرددون في ثقة ويقين ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) (4) .
وفي ظلام الليل قام علي ( عليه السلام ) بتغسيل فاطمة ثم أدرجها في أكفانها بمنظر من زينب واخوتها ، تقول الرواية : « فغسّلها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ولم يحضرها غيره والحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وفضة جاريتها وأسماء بنت عميس » (5) .
وحانت ساعة الوداع الأخيرة ، فلابد وأن يعطي علي ( ع ) الفرصة لأبنائه ليلقوا آخر نظرة على محيا أمهم الزهراء . .
يقول السيد القزويني :
رأى الامام أن يتامى فاطمة ينظرون الى امهم البارة الحانية ، وهي تلف في أثواب الكفن ، إنها لحظة فريدة في الحياة ، لا يستطيع القلم وصفها ، إنها لحظة يهيج فيها الشوق الممزوج بالحزن ، إنه الوداع الأخير الأخير ! ! .
هاجت عواطف الأب العطوف على أطفاله المنكسرة قلوبهم ، فلم يعقد الخيوط على الكفن ، بل نادى بصوت مختنق بالبكاء :
ـ يا حسن يا حسين يا زينب يا أم كلثوم هلموا وتزودوا من أمكم ، فهذا الفراق واللقاء في الجنة ! ! .
كان الأطفال ينتظرون هذه الفرصة وهذا السماح لهم كي يودعوا تلك الحوراء ، ويعبرون عن آلامهم وأصواتهم ودموعهم المكبوتة المحبوسة ، وأقبلوا مسرعين وجعلوا يتساقطون على ذلك الجثمان الطاهر كما يتساقط الفراش على السراج . .
كانوا يبكون بأصوات خافتة ، ويغسلون كفن أمهم الحانية بالدموع فتجففها الآهات والزفرات ، كان المنظر مشجياً مثيراً للحزن ، فالقلوب ملتهبة ، والأحاسيس مشتعلة ، والعواطف هائجة والأحزان ثائرة (6) .
(4) سورة البقرة ، الآية ( 156 ) .
(5) ( بحار الأنوار ) المجلسي ج 43 ، ص 171 .
وقد روى صاحب ( ناسخ التواريخ ) في كتابه : ان زينب أقبلت عند وفاة أمها وهي تجر رداءها وتنادي : يا أبتاه يا رسول الله الآن عرفنا الحرمان من النظر اليك .
وروى هذه الرواية صاحب ( البحار ) عن ( الروضة ) بهذا اللفظ : وخرجت أم كلثوم وعليها برقعة تجر ذيلها متجلببة برداء عليها تسحبها ، وهي تقول : يا أبتاه يا رسول الله الآن حقاً فقدناك فقداً لا لقاء بعده أبداً .
وأم كلثوم هذه هي زينب ( عليها السلام ) من غير شك كما صرح بإسمها في رواية صاحب ( ناسخ التواريخ ) ، ولكونها أكبر بنات فاطمة ( عليها السلام ) (7) .
____________
(6) ( فاطمة الزهراء من المهد الى اللحد ) القزويني ص 624 .
(7) ( زينب الكبرى ) جعفر النقدي ص 18 .
سيدة العائلة
وبعد رحيل أمها الزهراء الى عالم الخلود ، أصبحت السيدة زينب على صغر سنها سيدة المنزل وربة البيت ، ترعى شؤون أبيها واخوتها تماماً كما كانت أمها الزهراء تملأ فراغ اُمها خديجة بنت خويلد بالنسبة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى سميت أم أبيها .
وقد أشار العديد من الكتّاب والباحثين الى تحمل السيدة زينب لأعباء المنزل والعائلة بعد وفاة أمها الزهراء ( عليها السلام ) .
يقول الأستاذ محمود يوسف : وقدّر للسيدة زينب أن تفقد جدها ( صلى الله عليه وسلم ) وهي في الخامسة من العمر ، وفقدت أمها الزهراء بعد ذلك بشهور قلائل فحزنت وهي الصبية الصغيرة عليهما حزناً شديداً ، وواجهت حياة البيت ورعته وأدارت شؤونه بعقلية رتيبة واعية ، وحس صادق وقلب مؤمن (8) .
(8) مجلة ( الموسم ) نقلاً عن جريدة ( الجمهورية ) المصرية 31 | 10 | 1972 م .
ويقول السيد بحر العلوم : وتحملت عقيلة بني هاشم مسؤولية بيت علي
وعاشت في خضم المشاكل والأحداث ، ويكاد هذا البيت ينفجر من الأحداث ، فالأقدار تتواثب عليه ، والنوائب تصليه . . . وقلب زينب أخذ يتسع لكل هذه وأكثر منها ، ولا غرابة فهي أبنة علي . . (9) .
وتقول السيدة عائشة بنت الشاطيء : وإذا استطعنا أن نتناسى الى حين أحزان تلك الصبية التي روّع عامها الخامس بشهود مأساة الموت مرتين ، في أعز الناس لديها وأحبهم اليها ، اذا استطعنا أن نكف لحظة عن التحديق في تلك الظلال التي حامت على مهدها ، والأحزان التي أرهقت صباها ، ألفينا جانباً آخر من الصورة مشرقاً ، حيث تبدو « زينب » في بيت أبيها ذات مكانة أكبر من سنها : أنضجتها الأحداث ، وهيأتها لأن تشغل مكان الراحلة الكريمة ، فتكون للحسن والحسين وأم كلثوم ، أُماً لا تعوزها عاطفة الأمومة بكل ما فيها من حنو وايثار ، وإن أعوزتها التجربة والاختبار (10) .
____________
(9) ( في رحاب السيدة زينب ) محمد بحر العلوم ص 24 .
(10) ( السيدة زينب ) عائشة بنت الشاطيء ص 42 .
في بيت الزوجية
وتجاوزت زينب مرحلة الصبا ، واكتمل نضجها الجسدي والنفسي ، ومع شديد رغبتها في البقاء قرب أبيها ، وفي توفير الرعاية والعناية لأخويها الحسنين ، الا أنه كان لابد لها من الزواج ، لما يعنيه الزواج من تكامل في الشخصية ، واستجابة للسنة الآلهية التي جعلها الله ( تعالى ) في بني البشر بل في كافة المخلوقات كما يقول ( تعالى ) : ( ومن كل شيء خلقنا زوجين ) (1) ، ولأن تعاليم الاسلام تحث على الزواج وتحبذه ، وتذم العزوبة وتنفر منها .
فعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني » (2) .
(1) سورة الذاريات ، الآية ( 49 ) .
(2) ( الفقه : كتاب النكاح ) السيد محمد الشيرازي ج 62 ، ص 12 .
وجاء الخاطبون يتوافدون على بيت علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) كل منهم يتمنى أن يحظى بشرف الاقتران بالعقيلة زينب ، رغبة في الاتصال بالنسب النبوي الشريف ، ولما يعرفونه من كمال زينب وفضلها وأدبها ، لكن أباهاً علياً كان يرد كل خاطب لأنه ( عليه السلام ) قد اختار لابنته الزوج المناسب والكفوء .
يقول السيد الهاشمي : إن العقيلة زينب بنت علي خطبها الأشراف من قريش والرؤساء من القبائل . . ويروى انه خطبها الأشعث بن قيس وكان من ملوك كندة (6) .
والعناية الآلهية التي أحاطت بالسيدة زينب ( عليها السلام ) ووجهت مسارات حياتها كان لابد وأن تتدخل في شأن هذا الأمر الخطير من حياة السيدة زينب ، وهو اختيار القرين والزوج المناسب الكفوء لهذه المرأة العظيمة . . وهذا ما حصل بالفعل فقد شاء الله ( تعالى ) أن تقترن العقيلة زينب بواحد من أعظم وأنبل شباب الهاشميين وهو ابن عمها عبدالله بن جعفر بن أبي طالب .
واختيار الامام علي لعبدالله بن جعفر ليكون زوجاً لابنته زينب اختيار أكثر من موفق ، فعلي يعرف مكانة أخيه جعفر ، وعبدالله ربيب للامام علي حيث أصبح في رعايته بعد شهادة أبيه جعفر ، وأمه اسماء بنت عميس وثيقة الصلة والعلاقة بالسيدة الزهراء أم العقيلة زينب ، ثم هي قد أصبحت زوجاً للامام علي ، اضافة لكل ذلك المؤهلات الشخصية التي كان يجدها الامام في ابن أخيه عبدالله بن جعفر ، وقد أصدق الامام ابنته زينب 480 درهماً من خالص ماله كصداق أمها فاطمة الزهراء ( ع ) .
(5) ( ميزان الحكمة ) الري شهري ج 4 ، ص 274 .
(6) ( عقيلة بني هاشم ) السيد علي الهاشمي ص 31 .
ويشير السيد بحر العلوم الى أن الخيرات والبركات قد انهالت على عبدالله بن جعفر عند زواجه بالسيدة زينب ( عليها السلام ) فيقول : وزحفت البركة على ابن جعفر مع زينب فوفد عليه الرزق من المال والولد ، وامتلاك الضياع ، وفاضت أرضه بالثمار والغلات ، ووفد أهل المدينة وأبناء السبيل في حاجاتهم على بابه : باب زينب بنت الزهراء (24) .
(22) (زينب عقيلة بني هاشم ) عبد العزيز سيد الأهل ص 22 .
(23) زينب الكبرى ص 88 .
وكان عبدالله بن جعفر منقطعاً الى عمه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ثم الى الحسنين ( عليهما السلام ) وله في الجمل وصفين والنهروان ذكر مشهور .
واشار ابن عبد ربه الأندلسي الى أن عبدالله بن جعفر كان كاتباً لعمه الإمام علي فترة خلافته (25) .
ويقول السيد الخوئي ( قده ) عن شخصية عبدالله بن جعفر : جلالة عبدالله بن جعفر الطيار بن أبي طالب بمرتبة لا حاجة معها الى الأطراء . ومما يدل على جلالته أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان يتحفظ عليه من القتل كما كان يتحفظ على الحسن والحسين ( عليهما السلام ) ومحمد بن الحنفية (26) .
أما عدم خروجه مع الحسين ( عليه السلام ) الى كربلاء فقد قيل : انه كان مكفوف البصر ، ولما نعي اليه الحسين ، وبلغه قتل ولديه عون ومحمد كان جالساً في بيته ، ودخل عليه الناس يعزونه فقال غلامه أبو اللسلاس : هذا ما لقينا من الحسين .
فحذفه عبدالله بنعله ، وقال له : يابن اللخناء أللحسين تقول هذا والله لو شهدته لما فارقته حتى أقتل معه ، والله انهما لمّما يسخى بالنفس عنهما : ويهون عليّ المصاب بهما انهما أصيبا مع أخي وابن عمي مواسيين له صابرين معه .
ثم انه أقبل على الجلساء فقال : الحمد لله اعزز عليّ بمصرع الحسين إن لم أكن واسيت الحسين بيدي فقد واسيته بولدي (27) .
بقي أن نشير الى عبدالله بن جعفر قد تزوج في حياة السيدة زينب بنساء
____________
(24) ( مقاتل الطالبيين ) الأصفهاني ص 91 ـ 92 .
(25) ( العقد الفريد ) الاندلسي ج 4 ، ص 164 .
(26) ( معجم رجال الحديث ) السيد الخوئي ج 10 ، ص 138 .
(27) المصدر السابق ص 88 .
أخريات منهن : الخوصاء بنت حفصة بن ثقيف بن ربيعة من بني بكر بن وائل ، ومنها ولده محمد الشهيد في كربلاء ، وكذلك أخوه عبيدالله الذي ذكرت بعض المصادر أنه الشهيد الثالث من أولاد عبدالله بن جعفر في كربلاء (28) .
تلك هي بعض الملامح والمعالم من حياة عبدالله بن جعفر قرين السيدة زينب وشريك حياتها .
وقد توفي سنة (80 هـ ) أو أربع أو خمس وثمانين ، في خلافة عبد الملك بن مروان ، وصلى عليه السجاد أو الباقر ( عليهما السلام ) وأمير المدينة يومئذٍ أبان بن عثمان بن عفان ، والذي أبّنه بقوله : كنت والله خيراً لا شرّ فيك ، وكنت والله شريفاً واصلاً براً (29) .
____________
(28) ( في رحاب السيدة زينب ) بحر العلوم ص 36 .
(29) ( زينب الكبرى ) جعفر النقدي ص 90 .
أولاد السيدة زينب عليها السلام
من يتأمل نضال السيدة زينب وأدوارها الرسالية العظيمة يكاد يغفل عن أن لها ابناءً كانت تتحمل مسؤولية رعايتهم وتربيتهم ، لتكون العقيلة زينب ( عليها السلام ) قدوة كاملة متكاملة للمرأة المسلمة الطموحة ، والتي تقوم بكل الأعباء والمهام العائلية المنزلية والدينية الأجتماعية ، ولنتعرف الآن على ثمرات فؤادها وفلذات كبدها :
1 ـ عون بن عبدالله بن جعفر
كان مع أمه زينب في صحبة خاله الإمام الحسين ، وقد نال شرف الشهادة في كربلاء ، وفجعت به أمه زينب الى جنب فجائعها الأخرى .
وقد برز الى ساحة الجهاد ، فجعل يقاتل قتال الأبطال وهو يرتجز :
ان تنكروني فأنا ابن جعفر
*
شهيد صدق في الجنان أزهر
يطير فيها بجناح أخضر
*
كفى بهذا شرفاً في المحشر
وتمكن الشاب البطل من قتل ثلاثة فوارس ، وثمانية عشر راجلاً . ثم ضربه عبدالله بن قطنة الطائي النبهاني بسيفه فقتله .
وقد ورد ذكر عون في الزيارة الواردة في الناحية المقدسة أي عن الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر ( عليه السلام ) حيث قال :
« السلام على عون بن عبدالله بن جعفر الطيار في الجنان ، حليف الإيمان ، ومنازل الأقران ، الناصح للرحمن ، التالي للمثان ، لعن الله قاتله عبدالله بن قطنة النبهاني » (30) .
2 ـ محمد :
وقد ذكره العديد من الباحثين في حياة السيدة زينب ، كالسبط ابن الجوزي في ( تذكرة الخواص ) ( ص 110 ) (31) وذكره السيد الهاشمي في كتابه ( عقيلة بني هاشم ) ( ص 36 ) والدكتورة بنت الشاطي في ( السيدة زينب ) ( ص 50 ) والشيخ محمد جواد مغنية ( مع بطلة الطف ) ( ص 36 ) و م . صادق ( زينب وليدة النبوة والإمامة ) ( ص 62 ) وكتاب آخرون .
ولكن يبدو أن لعبدالله بن جعفر ولداً آخر اسمه محمد من زوجة اخرى هي الخوصاء من بني بكر بن وائل ، وقد استشهد مع الإمام الحسين ( عليه السلام ) في كربلاء ، مما سبب الأشتباه عند بعض الباحثين فاعتبروا ولدّي عبدالله بن جعفر الشهيدين بكربلاء اعتبروهما ولدي السيدة زينب ( عليها السلام ) لكن التحقيق يثبت أن عوناً فقط هو ابن السيدة زينب ، أما أخوه محمد فهو ابن ضرتها « الخوصاء » كما نص على ذلك الباحثون حول شهداء كربلاء (32) .
3 ـ عباس :
ذكر المؤرخون اسمه دون الأشارة الى شيء من حياته وسيرته .
____________
(31) المصدر السابق ص 128 .
(32) يراجع : ( ابصار العين في أنصار الحسين ) للشيخ محمد السماوي ص 40 ، و ( حياة الإمام الحسين ) للشيخ باقر شريف القرشي ج 3 ، ص 259 .
4 ـ علي :
المعروف بالزينبي ، وفي نسله الكثرة والعدد ، وفي ذريته الذيل الطويل والسلالة الباقية ، وهو كما في ( عمدة الطالب ) أحد ارجاء آل أبي طالب الثلاثة .
وفي ( تاج العروس ) مادة « زينب » : « والزينبون بطن من ولد علي الزينبي بن عبدالله الجواد بن جعفر الطيار ، نسبة الى أمه زينب بنت سيدنا علي ( رضي الله عنه ) وأمها فاطمة ( رض ) وولد علي هذا أحد أرجاء آل أبي طالب الثلاثة ) (33) .
ويقول عنه السيد الهاشمي : وأما علي بن عبدالله فهو المعروف بالزينبي ، نسبة الى أمه زينب بنت علي ( عليهما السلام ) ذكروا (34) أنه كان ثلاثة في عصر واحد بني عم ، يرجعون الى أصل قريب ، كلهم يسمى علياً ، وكلهم يصلح للخلافة ، وهم : علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( السجاد ) ، وعلي بن عبدالله بن العباس ، وعلي بن عبدالله بن جعفر الطيار ، ولكن إمام المسلمين وقتئذٍ كان السجاد زين العابدين ، يعظمه القريب والبعيد ، وتعنوا له كبار المسلمين ، وقد تزوج علي بن عبدالله بن جعفر ، لبابة بنت عبدالله بن عباس حبر الأمة ، وكان نسل عبدالله بن جعفر منه ، والسادة الزينبية كثيرون في العراق وفارس ومصر والحجاز والأفغان والهند ، وقد جعل الله البركة في نسل هذه السيدة الطاهرة وطيب سلالتها (35) .
وقال ابن عنبة : كان علي الزينبي يكنى أبا الحسن وكان سيداً كريماً (36) .
وقد ألف الحافظ جلال الدين السيوطي ( 849 ـ 911 هـ ) رسالة حول ذرية السيدة زينب سماها ( العجاجة الزرنبية في السلالة الزينبية ) (37) .
____________
(33) ( زينب الكبرى ) جعفر النقدي ص 127 .
(34) نقل ذلك الأزورقاني من كتاب ( المصابيح ) لأبي بكر الوراق .
(35) (عقيلة بني هاشم ) الهاشمي ص 40 .
(36) ( عقيلة الطهر والكرم ) موسى محمد علي ص 114 .
(37) مجلة ( الموسم ) ص 858 .
5 ـ أم كلثوم :
أم كلثوم : وهي البنت الوحيدة كما يبدوا للسيدة زينب ، ولابد وأنها قد ورثت شمائل أمها ، وتحلت بمكارم أخلاق أبيها ، ولذلك تسابق الخاطبون لطلب يدها وكان من جملتهم معاوية بن أبي سفيان خطبها أيام سلطته لولده يزيد ، وكلف واليه على المدينة مروان بن الحكم أن يخطبها من أبيها ليزيد بن معاوية ، فقال أبوها عبدالله بن جعفر .
إن أمرها ليس اليّ إنما هو الى سيدنا الحسين وهو خالها .
فأخبر الحسين بذلك ، فقال : أستخير الله ( تعالى ) اللهم وفق لهذه الجارية رضاك من آل محمد .
فلما اجتمع الناس في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أقبل مروان حتى جلس الى الحسين ( عليه السلام ) وقال :
إن أمير المؤمنين معاوية أمرني بذلك ، وأن أجعل مهرها حكم أبيها بالغاً ما بلغ ، مع صلح ما بين هذين الحيين ، مع قضاء دينه ، واعلم ان من يغبطكم بيزيد أكثر ممن يغبطه بكم ، والعجب كيف يستمهر يزيد وهو كفؤ من لا كفؤ له ، وبوجهه يستسقي الغمام ، فردّ خيراً يا أبا عبدالله .
فقال الحسين : الحمد لله الذي اختارنا لنفسه ، وارتضانا لدينه ، واصطفانا على خلقه .
ثم قال : يا مروان قد قلت فسمعنا .
أما قولك : مهرها حكم أبيها بالغاً ما بلغ ، فلعمري لو أردنا ذلك ما عدونا سنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في بناته ونسائه وأهل بيته ، وهو اثنتا عشرة أوقية يكون اربعمائة وثمانين درهماً .
وأما قولك : مع قضاء دين أبيها ، فمتى كنّ نساؤنا يقضين عنّا ديوننا ؟ .
وأما صلح ما بين هذين الحيّين ، فإنا قوم عاديناكم في الله ، ولم نكن نصالحكم للدنيا ، فلعمري لقد اعيا النسب فكيف السبب ؟ .
وأما قولك : والعجب كيف يستمهر يزيد ؟ فقد استمهر من هو خير من يزيد ، ومن أبي زيد ، ومن جدّ يزيد ! .
وأما قولك : إن يزيد كفؤ من لا كفؤ له ، فمن كان كفوه قبل اليوم فهو كفوه اليوم ما زادته امارته في الكفاءة شيئاً .
وأما قولك : وجهه يستسقى به الغمام : فإنما كان ذلك وجه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
وأما قولك : من يغبطنا به أكثر ممن يغبطه بنا ، فإنما يغبطنا به أهل الجهل ويغبطه بنا أهل العقل .
ثم قال ( عليه السلام ) : فاشهدوا جميعاً إني قد زوجت أم كلثوم بنت عبدالله بن جعفر من ابن عمها القاسم بن محمد بن جعفر على اربعمائة وثمانين درهماً وقد نحلتها ضيعتين بالمدينة ـ أو قال أرضي العقيق ـ وإن غلتها بالسنة ثمانية آلاف دينار ففيهما لهما غنى إن شاء الله تعالى . فتغير وجه مروان ، وقال :
أردنا صهركم لنجد وداً
*
قد أخلقه به حدث الزمان
فلما جئتكم فجبهتموني
*
وبحتم بالضمير من الشنان
فأجابه ذكوان مولى بني هاشم :
أماط الله عنهم كل رجس
*
وطهرهم بذلك في المثاني
فمالهم سواهم من نظير
*
ولا كفو هناك ولا مداني
أتجعل كل جبار عنيد
*
الى الأخيار من أهل الجنان (38)
____________
(38) ( زينب الكبرى ) جعفر النقدي ص 129 .
مع أبيها علي عليه السلام
طبيعي أن تنشد البنت لأبيها وتتعلق به ، وخاصة اذا ما فقدت البنت أمها فسيصبح أبوها حينئذٍ هو المنبع الوحيد للعاطفة والحنان والرعاية تجاهها .
وفي علاقة السيدة زينب بأبيها علي بن أبي طالب هناك عامل اضافي يتمثل في الصفات والسمات النفسية والأخلاقية التي يتمتع بها الإمام علي والتي تفرض حبّه وعشقه واكباره على كل من التقى به أو عاشره أو سمع عنه .
بل إن أي واحدة من سوابقه ومناقبه لحرية باخضاع النفوس والقلوب لمكانته وجلالته كما يقول أبو الطفيل :
قال بعض أصحاب النبي : لقد كان لعلي من السوابق مالو أن سابقه منها بين الخلائق لو سعتهم خيراً (1) .
ومن عرف علياً أو تعرف عليه فلم يهيمن حب علي على قلبه فذلك دلالة على انحراف في طبعه وخلل في ذاته .
____________
(1) ( أسد الغابة في معرفة الصحابة ) ابن الاثير ج 3 ، ص 598 .
وهل يكره الخير عاقل ؟ ! أو هل يبغض النور سويّ ؟ لذلك قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) للإمام علي : « لا يحبّك الا مؤمن ولا يبغضك الا منافق » (2) .
وقال أبو سعيد الخدري : كنا نعرف المنافقين ـ نحن معاشر الأنصار ـ ببغضهم علي بن أبي طالب (3) .
وحتى ألدّ خصومه وأعدائه معاوية بن أبي سفيان لم يستطع كتمان اعجابه بشخصيته ( عليه السلام ) حيث قال لما بلغه قتله :
ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب .
فقال له اخوه عتبة : لا يسمع هذا منك أهل الشام ؟ .
فقال له : دعني عنك (4) .
وحينما وصف ضرار بن ضمرة شخصية الإمام علي بمحضر معاوية بعد وفاة الإمام بكى معاوية ووكفت دموعه على لحيته ما يملكها ، وجعل ينشفها بكمّه ، وقد اختنق القوم بالبكاء ، وقال معاوية :
رحم الله أبا الحسن والله كذلك ، فكيف حزنك عليه يا ضرار ؟ قال : حزن من ذبح ولدها بحجرها فهي لا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها (5) .
واذا كانت شخصية علي تأسر حتى قلوب أعدائه فضلاً عن أصحابه وأتباعه فما هو مدى تأثير شخصيته على ابنته القريبة منه والمتعلقة به ؟ .
____________
(2) المصدر السابق ص 602 .
(3) المصدر السابق ص 607 .
(4) ( أئمتنا ) علي دخيّل ج 1 ، ص 91 .
(5) المصدر السابق ص 92 .
نحاول في السطور التالية أن نقتطف من ذاكرة التاريخ ما سجلته من صور ولقطات عن تلك العلاقة الإيمانية الانسانية الحميمة بين السيدة زينب وابيها الإمام ( عليهما السلام ) ، لنرى كيف عاشت السيدة زينب في ظل أبيها :
الحفاظ على مهابة زينب وصونها :
حدّث يحيى المازني قال : كنت في جوار أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في المدينة مدة مديدة وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته ، فلا والله ما رأيت لها شخصاً ولا سمعت لها صوتاً ، وكانت اذا أرادت الخروج لزيارة جدها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تخرج ليلاً ، والحسن عن يمينها ، والحسين عن شمالها ، وأمير المؤمنين أمامها ، فاذا قربت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فأخمد ضوء القناديل .
فسأله الحسن مرة عن ذلك ؟ .
فقال : أخشى أن ينظر أحد الى شخص أختك زينب (6) .
سيدة بيت أبيها تزوج الإمام علي ( عليه السلام ) بعد فقد الزهراء ( عليها السلام ) أكثر من زوجه ، لكن أياً من زوجاته لم تكن لتأخذ مكان السيدة زينب وموقعها في بيت أبيها فهي سيّدة البيت بما تمثله من امتداد لأمها الزهراء وبما تمتلكه من صفات ومؤهلات ، وبما تتمتع به من محبة واحترام متبادل مع أبيها وأخويها الحسنين .
____________
(6) ( زينب الكبرى ) جعفر النقدي ص 22 .
وحتى بعد زواجها بابن عمها عبدالله بن جعفر فإنها لم تنقطع عن بيت أبيها ، ولم تشغلها التزاماتها الزوجية والعائلية عن أداء دورها المميز في بيت علي .
يقول السيد بحر العلوم : ورغم أن زينب عاشت في بيت الزوجية ، لكن الزواج لم يشغلها عن تحمل مسؤليات بيت أبيها علي ، فهي بنت الزهراء ، وحفيدة خديجة ، وتحمّل المسؤلية من خصال ربّات هذا البيت . وزينب عقيلة بني هاشم ، وسيدة البيت العلوي ، وزعميت القوم ، رغم أنها تزوجت ، وانتقلت الى بيت ابن جعفر الا أنها لم تتخل عن المسؤولية ، لتدير بيت أبيها ، وتهتم بشؤون أخويها ، وتصبح المسؤولة عنهم أولاً وآخراً (7) .
وتقول بنت الشاطيء : ولم يفرق الزواج بين زينب وأبيها واخوتها ، فقد بلغ من تعلق الإمام علي بابنته وابن أخيه أن أبقاها معه ، حتى إذا ولي أمر المسلمين وانتقل الى الكوفة ، انتقلا معه ، فعاشا في مقر الخلافة ، موضع رعاية أمير المؤمنين واعزازه ، ووقف عبدالله بجانب عمه في نضاله الحربي ، فكان أميراً بين أمراء جيشه في صفين .
وعرف الناس مكانة عبدالله من بيت النبوة ، فكانوا يلتمسون لديه الوسيلة الى أمير المؤمنين ، والى ولديه الحسن والحسين ، فلا يردّ له طلب ولا يخيب رجاء .
جاء في ( الأصابة ) ( ج 4 ص 48 ) نقلاً عن محمد بن سيرين : أن دهقاناً من أهل السواد كلّم ابن جعفر في أن يكلم علياً في حاجة ، فكلّمه ، فقضاها ، فبعث اليه الدهقان أربعين ألفاً فردّها قائلاً : إنا لا نبيع معروفاً (8) .
____________
(7) ( في رحاب السيدة زينب ) بحر العلوم ص 37 .
(8) ( السيدة زينب ) عائشة عبد الرحمن بنت الشاطيء ص 50 .
في موكب أبيها الى الكوفة :
بعد أن اختارته جماهير الأمة حاكماً وخليفة ، وبايعه الناس برغبتهم واختيارهم ، وبشكل لا شبيه له في تاريخ المسلمين ، وذلك في شهر ذي الحجة سنة ( 35 هـ ) في أعقاب مقتل الخليفة عثمان بن عفان .
قرر الإمام علي الأنتقال الى الكوفة لمواجهة التطورات السياسية حيث نكث بعض مبايعيه بيعته كطلحة والزبير واستقطبوا معهم السيدة عائشة زوج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) واتخذوا البصرة بؤرة لتمردهم عليه ، كما كان معاوية يعبّيء أهل الشام ضدّ خلافة الإمام .
وكان الإمام مدركاً لما ينتظره من أوضاع خطيرة في عاصمة خلافته الجديدة « الكوفة » ولكنه قرّر أن يصطحب معه ابنته زينب ، فهو يريدها الى جانبه في الظروف الحساسة والحرجة ، وهي تصعب عليها مفارفة أبيها والابتعاد عنه .
وهكذا ودعت السيدة زينب مسقط رأسها ومرتع طفولتها ومثوى جدّها وأمها المدينة المنورة ورافقت اباها في رحلته الى الكوفة بمعية زوجها عبدالله بن جعفر .
ويصف الشيخ النقدي ظروف سفر السيدة زينب في موكب أبيها بقوله : سافرت زينب هذه السفرة وهي في غاية العز ، ونهاية الجلالة والأحتشام يسير بها موكب فخم رهيب من مواكب المعالي والمجد ، محفوف بأبّهة الخلافة ، محاط بهيبة النبوة ، مشتمل على السكينة والوقار ، فيه أبوها الكرار أمير المؤمنين ، واخوتها الحسنان سيدا شباب أهل الجنة ، وحامل الراية العظمى محمد بن الحنفية ، وقمر بني هاشم العباس بن علي ، وزوجها الجواد عبدالله بن جعفر ، وأبناء عمومتها عبدالله بن عباس ، وعبيد الله وأخوتهما ، وبقيّة أبناء جعفر الطيار ، وعقيل بن أبي طالب ، وغيرهم من فتيان بني هاشم ، وأتباعهم من رؤساء القبائل ، وسادات العرب مدجّجين بالسلاح ، غاصّين في الحديد ، والرايات ترفرف على رؤوسهم ، وتخفق على هاماتهم ، وهي في غبطة وفرح وسرور (9) .
مدرستها العلمية :
لم تكن دار علي في الكوفة مجرد مركز للسلطة والحكم ، ولا كان وجوده الشريف منحصراً في شخصيته ودوره كحاكم وقائد ، بل كانت داره مركز اشعاع للمعرفة والفكر ، وكان دوره في التوجيه الروحي الفكري لا يقل عن دوره في الزعامة السياسية الإجتماعية .
ولكي تنتشر المعرفة في جميع أوساط المجتمع ، وحتى لا يحرم أحد من حقه في الثقافة والوعي ، عهد الإمام علي الى ابنته العقيلة زينب أن تتصدى لتعليم النساء وأن تبث المعرفة والوعي في صفوفهن .
فكانت العقيلة زينب تفسر لهنّ القرآن الكريم ، وتروي لهنّ أحاديث جدها المصطفى ( صلى الله عليه وآله ) وأخبار أمها الزهراء ( عليها السلام ) وتوجيهات أبيها المرتضى ( عليه السلام ) .
فقد ورد أنه كان لها مجلس في بيتها أيام اقامة أبيها ( عليه السلام ) في الكوفة ، وكانت تفسر القرآن للنساء ، وقد دخل عليها أبوها ذات يوم وهي تفسر بداية سورة الكهف وسورة مريم ( كهيعص ) (10) (11) .
____________
(9) ( زينب الكبرى ) جعفر النقدي ص 92 .
(10) سورة مريم ، الآية ( 1 ) .
(11) ( زينب الكبرى ) جعفر النقدي ص 36 .
من بيتها انطلق إلى الشهادة:
لقد واكبت السيدة زينب حوالي ثلثي عمر أبيها وحياته فحينما ولدت في السنة الخامسة للهجرة كان عمر أبيها ( 28 سنة ) ، وعاصرته وهو يتقلب بين المعارك والحروب في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم عايشت معه مصيبة فقد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والأحداث التي تلتها ، من مصادرة حقه في الخلافة ، ومن ثم انعزاله وانكفاؤه لفترة في منزله وخاصة عند فقد شريكة حياته الزهراء ( عليها السلام ) ، ورافقت أباها حينما تولى الخلافة والحكم وصحبته الى الكوفة وبالتالي عايشت الظروف الصعبة القاسية التي مرت بأبيها فترة السنوات الخمس ، من تمرد الناكثين والمارقين والقاسطين ، حيث اضطر الإمام علي لخوض ثلاث معارك مؤلمة :
1 ـ معركة الجمل :
حيث تحالفت السيدة عائشة بنت أبي بكر زوج رسول الله مع طلحة بن عبد الله التيمي ، والزبير بن العوام ابن عمة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، تحالفت معهما للتمرد على سلطة الإمام علي وكانا قد بايعاه ، فسارت معهما الى البصرة تحرّض الناس ضد الإمام وتدعوهم لقتاله تحت شعار المطالبة بدم الخليفة عثمان ، واحتشد معها ثلاثون ألف مقاتل ، وقد سعى الإمام وحاول التفاوض والحوار معهم لاعادتهم الى جادة الحق والشرعية لكنهم أصرّوا على القتال والمواجهة ، فزحف اليهم الإمام علي في عشرين ألف مقاتل ، ودارت بين الطرفين معركة حامية الوطيس تكشفت عن سقوط حوالي ( 18 ألف قتيل ) ، ( 13 ألف من أصحاب الجمل ) ، و ( 5 آلاف من أصحاب علي ) ، وقتل طلحة والزبير في المعركة ، وعقر الجمل الذي كانت تمتطيه عائشة وسميت المعرك بإسمه .
وكان ذلك في يوم الخميس العاشر من جمادي الثانية سنة ( 36 هـ ) .
2 ـ معركة صفين :
من عهد الخليفة عمر بن الخطاب كان معاوية والياً على الشام ، وقد ازداد نفوذه وصلاحياته أيام ابن عمه الخليفة عثمان بن عفان ، وقد علم أن الإمام علياً لن يقره على منصبه ، ولن يفسح له المجال ليلعب كما يحلو له وكما كان في العهد السابق ، اضافة الى ما يعتمل في نفسه من حقد وعداء للإمام علي ، لذلك رفض بيعة الإمام وأعلن التمرد وشجعه على ذلك ما أقدمت عليه عائشة وطلحة والزبير ، فعبأ أهل الشام وما حولها وقاد منهم جيشاً لجباً يبلغ عدد مقاتليه ( 85 ألف جندي ) .
وزحف معاوية بجيشه الى منطقة يقال لها صفين قرب الرقة حيث استقبله الإمام بجيش قوامه تسعون ألفاً ، ولم تجد محاولات الإمام في الموعظة والارشاد والتفاوض والحوار شيئاً ، لذلك نشبت المعركة في أول يوم من ذي الحجة سنة ( 36 هـ ) أي بعد حوالي خمسة أشهر من معركة الجمل ، وانتهت في ( 13 شهر صفر ـ سنة 37 هـ ) عبر قضية التحكيم المشهورة ، وبعد أن تساقط من المسلمين ( 70 ألف قتيلاً ) ، و ( 45 ألف من جيش معاوية ) ، و ( 25 ألفاً من معسكر الإمام علي ) من بينهم خيار أصحاب الإمام وأحبته كعمار بن ياسر وهاشم المرقال .
3 ـ معركة النهروان :
لقد قبل الإمام علي بالتحكيم بعد رفع المصاحف من قبل أهل الشام مضطراً لرغبة أكثرية أتباعه في ذلك ، لكن طائفة من جيشه غيّروا رأيهم بعد ذلك ورأوا أن القبول بالتحكيم كان خطأ كما هو رأي الإمام علي في البداية ، وطالبوا الإمام بالتراجع ونقض نتيجة التحكيم والأعتراف بأنه كان مخطئاً في موقفه ، وشكلوا لهم تجمعاً مضاداً منشقاً على الإمام ، وبدأوا يثيرون الفتنة ويمارسون الإرهاب ، فبعث لهم الإمام الرسل والوسطاء المفاوضين حتى يرتدعوا عن غيهم ورد على اشكالاتهم وشبههم مراراً في خطبه وأحاديثه ، فلما أصروا على البغي وممارسة الأرهاب زحف عليهم الإمام بجيشه في منطقة النهروان بين بغداد وحلوان ، وكانوا أربعة آلاف رجل ، تراجع منهم ألف ومائتان بعد خطب الإمام ومحاولاته لهدايتهم ، أما الباقي فقد بادروا الى الحرب ورموا معسكر الإمام بالنبال ، فحمل عليهم الإمام بجيشه وأبادهم ولم يفلت منهم الا أقل من عشرة أشخاص .
وتُعرف هذه الواقعة بواقعة الخوارج ، وقد حصلت بعد شهور قلائل من انتهاء واقعة صفين وفي نفس سنة ( 37 هـ ).
لقد كانت هذه المعارك مؤلمة جداً لنفس الإمام وموجعة لقلبه ، انه كان يحمل للأمة منهج إنقاذ وخلاص ، ويخطط لتطبيق العدل والمساواة والحرية ، وأن يكمل مسيرة الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) في بناء خير أمة أخرجت للناس ، لكن الأنتهازيين والمصلحين والحاقدين والجهلاء عرقلوا برنامجه الطموح ووضعوا العقبات الكأداء في طريقه اللاحب ، وأضاعوا على الأمة والبشرية جمعاء فرصة ذهبية تاريخية .
وأصبح علي يقلّب كفيه حسرة على واقع الأمة المؤسف ، ويجتّر آهاته وآلامه لفقده خيرة أصحابه في تلك المعارك المفروضة عليه ، ولما أصاب معسكره وجمهوره من تعب وتردد وتقاعس ، ولممارسات معاوية الأستفزازية التخريبية بغاراته على البلدان الخاضعة لحكم الإمام .
ولم تكن السيدة زينب بعيدة عن الآم أبيها ومعاناته ، فهي تسمعه أو يبلغها عنه ما كان يخطب به جمهوره على منبر الكوفة ، وهو يصرخ فيهم موبّخاً معاتباً يستثير همهم ويستنهض حميتهم قائلاً :
« يا أشباه الرجال ولا رجال ! .
حلوم الأطفال ، عقول ربّات الحجال ! .
لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة والله جرّت ندماً ، وأعقبت سدما ! .
قاتلكم الله ! .
لقد ملأتم قلبي قيحاً وشحنتم صدري غيظاً ، وجرّعتموني نُغَبَ التهمام أنفاساً ، وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان . . » (29) .
ويأتيه خبر احدى غارات معاوية وعبثه وفساده في منطقة الأنبار ، فيمتلئ قلبه حزناً وألماً لما أصاب الناس الآمنين من بطش جيش معاوية ، ويتمنى الموت ولا يراه كثيراً أمام تحمل هذه الآلام والمأسي ، وتسمع زينب اباها وهو يبث همومه ومعاناته قائلاً :
« ولقد بلغني أن الرجل منهم ـ من جيش معاوية ـ كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة ، فينتزع حجلها وقلبها ، وقلائدها ورعثها ، ما تمتنع منه الا بالاسترجاع والاسترحام .
فلو ان امرءاً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً بل كان به عندي جديرا ! .
فياعجباً ! عجباً والله يميت القلب ويجلب الهم » (30) .
ويبلغها عن أبيها موقفه على مصارع خلّص أصحابه في صفين كعمار بن ياسر
____________
(29) ( نهج البلاغة ) الإمام علي ، الخطبة رقم : 27 .
(30) المصدر السابق .
وهاشم المرقال ، وهو يتضجر من الحياة ويتمنى الموت ، وينشد باكياً :
ألا أيها الموت الذي لست تاركي
*
ارحني فقد أفنيت كل خليل
أراك بـصيراً بالـذين أحـــــــــبهم
*
كأنك تنحو نحوهـم بدليل
لقد اشتدت محنة الإمام وأحاطت به الآلام ، فصار يستعجل الرحيل عن هذه الدنيا وأهلها ، ويتشوق الى لقاء الله لكن عبر أفضل سبيل وأسرع طريق وهو الشهادة ، فهو يكره مغادرة الحياة بموت بارد ساذج ، ويرغب العروج الى الله متوشّحاً برداء الشهادة مضمخاً بدمها الطاهر . . أو ليس هو القائل :
« أن أكرم الموت القتل ! » .
والذي نفس ابن أبي طالب بيده ، لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من ميتة على الفراش في غير طاعة الله » (31) .
وهو الذي كان يدعو ربه قائلاً : « اللهم . . فارزقنا الشهادة » (32) .
بالطبع كان عشق علي وشوقه للشهادة عميقاً في نفسه منذ أيام شبابه ، ولم يكن شيئاً مستجداً طارئاً على نفسه بعد أن كبرت سنه واشتدت معاناته ، وهذا ما يؤكده الإمام حين ينقل احدى ذكرياته مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فيقول :
« فقلت : يا رسول الله ، أو ليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من أستشهد من المسلمين ، وحيزت عني الشهادة ، فشق ذلك عليّ ، فقلت لي : أبشر فإن الشهادة من ورائك ؟ .
فقال لي : إن ذلك لكذلك ، فكيف صبرك إذن ؟ .
فقلت : يا رسول الله ، ليس هذا من مواطن الصبر ولكن من مواطن البشرى والشكر
____________
(31) المصدر السابق ، الخطبة رقم : 123 .
(32) المصدر السابق ، الخطبة رقم : 171 .
وحانت ساعة اللقاء . . واقترب موعد الرحيل . ودنت لحظة الفوز بالشهادة التي طالما انتظرها الإمام . . كان ذلك في فجر ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك ( سنة 40 هـ ) .
وشاء القدر أن يكون علي تلك الليلة ضيف ابنته زينب ، وأن ينطلق للشهادة من بيتها . . وتسجل لنا روايات التاريخ بعض اللقطات عن تلك الليلة الخطيرة والساعات الحساسة في بيت العقيلة زينب .
فقد كان الإمام يفطر في شهر رمضان ليلة عند الحسن ، وليلة عند الحسين ، وليلة عند عبدالله بن جعفر زوج زينب ابنته لأجلها (34) .
وكانت ليلة التاسع عشر من رمضان حيث يتناول الإمام افطاره عند ابنته زينب كما تشير الى ذلك بعض روايات ( بحار الأنوار ) ، وإن كانت بعض الروايات تقول إنه كان عند ابنته أم كلثوم ، وحسب تحقيقات العلامة الشيخ جعفر النقدي فإنه غالباً ما يطلق على زينب الكبرى أم كلثوم في لسان الروايات (35) .
ولاحظت السيدة زينب أن أباها تلك الليلة كان في وضع استثنائي ، وحال لم تعهده منه ، تقول :
لم يزل أبي تلك الليلة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً ، ثم يخرج ساعة بعد ساعة يقلب طرفه في السماء وينظر الكواكب وهو يقول : « والله ما كَذبت ولا كُذبت وانها الليلة التي وعدت بها . . هي والله الليلة التي وعدني بها حبيبي رسول الله » .
____________
(33) المصدر السابق ، الخطبة رقم : 156 .
(34) ( بحار الأنوار ) المجلسي ج 41 ، ص 300 .
(35) ( زينب الكبرى ) جعفر النقدي ص 17 ـ 18 ـ 25 ـ 38 .
ثم يعود الى مصلاه ويقول : « اللهم بارك لي في الموت ، اللهم بارك لي في لقائك » ويكثر من قول « انا لله وانا اليه راجعون ، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم . . ويستغفر الله كثيراً » .
تقول السيدة زينب : فلما رايته في تلك الليلة قلقاً متململاً كثير الذكر والأستغفار أرقت معه ليلتي . . وقلت : يا أبتاه مالي اراك هذه الليلة لا تذوق طعم الرقاد ؟ يا أبا مالك تنعى نفسك ؟ .
قال : بنيّة قد قرب الأجل وانقطع الأمل .
قالت : فبكيت : فقال لي : يا بنيّة لا تبكي فإني لم أقل لك ذلك الا بما عهد اليّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
ثم انه نعس وطوى ساعة ثم استيقظ من نومه ، وقال : يا بنيّة اذا قرب الاذان فاعلميني . . ثم رجع الى ما كان عليه أول الليل من الصلاة والدعاء والتضرع الى الله ( سبحانه وتعالى ) .
قالت : فجعلت أرقب الأذان فلما لاح الوقت أتيته ومعي اناء فيه ماء ، ثم أيقظته ، فأسبغ الوضوء ، وقام ولبس ثيابه ، وفتح بابه ثم نزل الى الدار وكان في الدار أوزٌ قد اُهدين الى أخي الحسين ( عليه السلام ) ، فلما نزل خرجن وراءه ورفرفن ، وصحن في وجهه ، ولم يحدث ذلك من قبل ، فقال ( عليه السلام ) :
« لا اله الا الله صوارخ تتبعها نوايح وفي غداة غد يظهر القضاء .
فقلت : يا أبتاه هكذا تتطير ؟
قال : يا بنية ما منا أهل البيت من يتطير ولا يتطير به ، ولكن قول جرى على لساني ، ثم قال :
يا بنية بحقي عليك الا ما أطلقتيه ، وقد حبست ما ليس له لسان ، ولا يقدر على الكلام ، اذا جاع أو عطش ، فأطعميه واسقيه ، والا خلي سبيله يأكل من حشائش الأرض .
فلما وصل الى الباب فعالجه ليفتحه ، فتعلق الباب بمئزره فانحل ميزره حتى سقط ، فأخذه وشدّه وهو يقول :
أشدد حيازيمك للموت
*
فإن الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت
*
اذا حــل بناديكا
كما أضحكك الدهر
*
كذاك الدهر يبكيكا
ثم قال : اللهم بارك لنا في الموت ، اللهم بارك لي في لقائك .
قالت: وكنت أمشي خلفه فلما سمعته يقول ذلك ، قلت: واغوثاه يا أبتاه أراك تنعى نفسك منذ الليلة ! ! .
قال : يا بنية ما هو بنعاء ولكنها دلالات وعلامات للموت يتبع بعضها بعضاً . . ثم فتح الباب وخرج (36) .
وما هي الا فترة بسيطة من الوقت واذا بالسيدة زينب تسمع نعي أبيها علي حيث ضربه عبد الرحمن بن ملجم من أتباع الخوارج بالسيف على هامته حين رفع رأسه من السجدة الأولى من الركعة الأولى لصلاة الصبح ، ووقع الإمام علي في محرابه صريعاً قائلاً : « فزت ورب الكعبة » .
ونقل الإمام الى داره حيث فارقت روحه الحياة بعد يومين من اصابته أي في الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك .
وقُبيل وفاته عرق جبينه فجعل يمسح العرق بيده ، فقالت السيدة زينب : يا ابه أراك تمسح جبينك ؟ .
قال : يا بنية سمعت جدك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : « إن المؤمن إذا نزل به الموت ، ودنت وفاته ، عرق جبينه ، كاللؤلؤ الرطب ، وسكن أنينه » .
____________
(36) ( علي من المهد إلى اللحد ) القزويني ص 559 .
فقامت زينب والقت بنفسها على صدر ابيها وقالت : يا أبه حدثتني أم أيمن بحديث كربلاء وقد أحببت أن أسمعه منك .
فقال : يا بنية ، الحديث كما حدثتك أم أيمن ، وكأني بك وبنساء أهلك لسبايا بهذا البلد ، خاشعين ، تخافون أن يتخطفكم الناس فصبراً صبراً.
وهكذا ودعت السيدة زينب أباها علياً ، ورزئت بفقده ، ولك أن تتصور مدى الحزن والألم الذي أحاط بها بعد أن فارقت أباها الذي كان ملئ حياتها ووجودها ، وكانت متعلقة به أشد التعلق كما كان يحبها أشد الحب .
ولكن كما قال أبوها علي عند فقده أمها الزهراء :
وكل الذي دون الفراق قليل
لكل اجتماع من خليلين فرقة
دليل على أن لا يدوم خليل
امتداد لشخصية أبيها
عاصرت السيدة زينب اباها لخمس وثلاثين عاماً ، كانت خلالها القريبة الى قلبه والعزيزة عليه ، وكان هو الأقرب الى نفسها ، والأشد تأثيراً عليها . . لذلك تقمصت السيدة زينب شخصية أبيها علي في شجاعته واقدامه ، وفي فصاحته وبيانه ، وفي عبادته وانقطاعه الى الله وفي سائر الفضائل والخصال الكريمة التي ورثتها زينب من أبيها علي بعد أن تربت في أحضانه وتتلمذت على يديه طوال خمس وثلاثين سنة .
ففي مجال البلاغة والفصاحة يقول العلامة الشيخ جعفر النقدي بعد أن يتحدث عن بلاغة علي وبيانه . فأعلم أن هذه الفصاحة العلوية ، والبلاغة المرتضوية ، قد ورثتها هذه المخدرة الكريمة ، بشهادة العرب أهل البلاغة والفصاحة أنفسهم ، فقد تواترت الروايات عن العلماء وارباب الحديث بأسانيدهم عن حذلم بن كثير ، قال :
قدمت الكوفة في المحرم سنة احدى وستين عند منصرف علي بن الحسين من كربلاء ومعهم الأجناد ، يحيطون بهم ، وقد خرج الناس للنظر اليهم ، فلما أقبل بهم على الجمال بغير وطاء ، وجعلن نساء الكوفة يبكين وينشدن فسمعت علي بن الحسين يقول بصوت ضئيل وقد أنهكته العلة ، وفي عنقه الجامعة ويده مغلولة الى عنقه : أن هؤلاء النسوة يبكين فمن قتلنا ؟ .
قال : ورأيت زينب بنت علي ولم أرَ خفرة أنطق منها كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين .
وهذا حذلم بن كثير من فصحاء العرب أخذه العجب من فصاحة زينب وبلاغتها ، وأخذته الدهشة من براعتها وشجاعتها الأدبية ، حتى أنه لم يتمكن أن يشبهها الا بأبيها سيد البلغاء والفصحاء ، فقال : كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين (37) .
وفي جانب العبادة والمناجاة والتضرع كانت تحفظ العديد من أدعية ومناجاة أبيها علي وتواظب على قرائتها ، فقد روي عنها أنها كانت تدعو بعد صلاة العشاء بدعاء أبيها علي وهو : « اللهم إني أسألك ياعالم الأمور الخفية ، ويا من الأرض بعزته مدحية ، ويا من الشمس والقمر بنور جلاله مشرقة مضيئة . . » ، الى آخر الدعاء (38) .
كما كانت تناجي ربها بمناجاة أبيها علي ، وهي قصيدة روحية تفيض خشوعاً وتضرعاً لله ( سبحانه ) مطلعها :
لك الحمد ياذا الجود والمجد والعلى * تباركت تُعطي من تشاء وتمنع (39)
وكانت تلهج أيضاً بأبيات حكمية وعظية لأبيها علي جاء فيها :
وكم لله من لطف خفي * يدق خفاه عن فهم الذكي
____________
(37) ( زينب الكبرى ) جعفر النقدي ص 48 .
(38) ( عقلية بني هاشم ) الهاشمي ص 16 .
(39) المصدر السابق ص 16 .
وكم يسر أتى من بعد عسر
*
وفرج كربة القلب الشجي
وكم أمر تساء به صباحاً
*
فتأتيك الـمسّرة بالعشي
اذا ضاقت بك الأحوال يوماً
*
فثق بالواحد الفرد العلي (40)
هكذا تتابع السيدة زينب خطى أبيها علي ، وتتقمص شخصيته وتلهج بأدعيته وكلماته .
____________
(40) المصدر السابق ص 19 .
في محنة أخيها الحسن عليه السلام
وبادر الناس الى مبايعة الإمام الحسن بعد شهادة أبيه علي ( عليه السلام ) لما تواتر في أوساطهم من أحاديث وروايات عن جده رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في فضله ومكانته كقوله ( صلى الله عليه وآله ) :
« من سره أن ينظر الى سيد شباب أهل الجنة فلينظر الى الحسن » (1) .
وما رواه البراء قال : رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والحسن على عاتقه يقول : « اللهم إني أحبه فأحبه » (2) .
وفي رواية عن أبي هريرة عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) انه قال للحسن : « اللهم إني أحبه فأحبه ، وأحبب من يحبه » (3) .
وعنه ( صلى الله عليه وآله ) : « الحسن والحسين ريحانتاي من الدينا » (4) .
____________
(1) ( حياة الإمام الحسن ) القرشي ج 1 ، ص 96 .
(2) ( صحيح البخاري ) ج 5 ، ص 33 .
(3) ( صحيح مسلم ) ج 2 ، ص 367 .
(4) ( حياة الإمام الحسن ) القرشي ج 1 ، ص 96 .
وقد بادر بعض الصحابة للإدلاء بشهاداتهم وما سمعوه عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في حق الإمام الحسن عندما خطب الإمام الحسن مؤبّناً أباه علياً ومستقبلاً البيعة من الناس كما روى زهير بن الأقمر قال :
بينما الحسن بن علي يخطب بعدما قتل علي إذ قام اليه رجل من الأزد آدم طوال ، فقال : لقد رأيت رسول الله ( صلى الله علي وآله ) واضعه في حبوته يقول « من أحبني فليحبه فليبلغ الشاهد الغائب » ولولا عزمه من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما حدثتكم (5) .
ومما دفع الناس الى مبايعة الإمام الحسن ما عرفوه من صفاته وكفاءاته التي لا يدانيه فيها أحد ، فهو أفضل الأمة بعد أبيه علي .
فهذا أنس بن مالك يقول : لم يكن أشبه برسول الله من الحسن (6) .
وتذاكر قوم من الصحابة يوماً حول من أشبه النبي من أهله ، فقال عبدالله بن الزبير ، أنا أحدثكم بأشبه أهله به وأحبهم اليه الحسن بن علي (7) .
وهذا عبدالله بن عمر وهو جالس في مسجد الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بالمدينة في حلقة فمرّ الحسن بن علي ، فقال : « هذا أحب أهل الأرض الى أهل السماء » (8) .
ويقول عمرو بن اسحاق : ما تكلم أحد أحب اليّ أن لا يسكت من الحسن بن علي وما سمعت منه كلمة فحش قط (9) .
____________
(5) ( الاصابة في تمييز الصحابة ) ابن حجر ج 1 ، ص 329 .
(6) المصدر السابق ص 329 .
(7) المصدر السابق ص 329 .
(8) ( در السحابة في مناقب القرابة والصحابة ) الشوكاني ص 289 .
(9) ( أئمتنا ) علي دخيل ج 1 ، ص 167 .
وعن واصل بن عطاء : كان الحسن بن علي عليه سيماء الأنبياء وبهاء الملوك (10) .
وقال محمد بن اسحاق : ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ما بلغ الحسن كان يبسط له على باب داره ، فاذا خرج وجلس ، انقطع الطريق ، فما يمر أحد من خلق الله اجلالاً له ، فاذا علم قام ودخل بيته فمر الناس ، ولقد رأيته في طريق مكة ماشياً فما من خلق الله رآه الا نزل ومشى ، وحتى رأيت سعد بن أبي وقاص يمشي (11) .
ولأن الإمام الحسن بعد ذلك وصي أبيه أمير المؤمنين ، فلهذه العوامل جميعاً بادر الناس الى مبايعته ، فقد انبرى عبيدالله بن العباس مخاطباً الجمع الحاشد الذي اجتمع بعد مقتل الإمام علي قائلاً :
معاشر الناس هذا ابن نبيكم ـ يعني الحسن ـ ووصي إمامكم فيايعوه فهتف الناس مستجيبين قائلين : « ما أحبه الينا وأوجب حقه علينا ، وأحقه بالخلافة » (12) .
وهكذا بويع الإمام الحسن بالخلافة في الثاني والعشرين من شهر رمضان سنة (40 هـ ) ، بايعه الناس في الكوفة والبصرة والمدائن وجميع أهل العراق ، وبايعته فارس والحجازيون واليمانيون وجميع البلاد الإسلامية ، لكن معاوية بن أبي سفيان أصر على التمرد كما كان موقفه من خلافة الإمام علي ، بل وبدأ يعد العدة ويحشد الجيوش للزحف على عاصمة الخلافة الشرعية الكوفة ، ولم تنجح الجهود التي بذلها الإمام الحسن من رسائل ومبعوثين الى معاوية من ثنيه عن موقفه المتمرد الخارج على الشرعية .
____________
(10) المصدر السابق ص 168 .
(11) المصدر السابق ص 168 .
(12) ( حياة الإمام الحسن ) القرشي ج 2 ، ص 34 .
فصمم الإمام الحسن على مواجهة بغي معاوية ، واستنهض جمهوره وعبأهم للقتال ، بعد ما بلغته أنباء تحرك جيش معاوية باتجاه العراق وقوامه ( 60 الفاً ) ، وقيل أكثر من ذلك (13) .
لكن الظروف لم تكن في صالح الإمام الحسن ، فقد كان جيشه وجمهوره متعباً منهكاً من الحروب الثلاثة التي خاضها مع الإمام علي ، كما كان الجيش والجمهور موزّع الولاء والاتجاه للتيارات المختلفة ومنها الخوارج وأصحاب المطامع ، وبلغ تعداد جيش الإمام الحسن ( 40 الفاً ) على أرجح الروايات التاريخية (14) .
واجتهد معاوية بن أبي سفيان كثيراً لتفتيت وتخريب الجبهة الداخلية لمعسكر الإمام الحسن فبث في أوساطه العملاء الذين ينشرون الأشاعات المثبطة والتشكيكات ، كما كثف مساعيه لأغراء واستقطاب العديد من الزعماء والرؤساء والشخصيات في معسكر الإمام ، بتقديم المبالغ المالية الضخمة لهم وتطميعهم بالمناصب والمواقع .
وبالفعل فقد تخلى عن الإمام الكثير من قيادات جيشه حتى ابن عمه عبيدالله بن العباس والذي كان يقود مقدمة جيش الإمام لمواجهة معاوية ، حيث أغراه معاوية بمبلغ مليون درهم فتسلل منحازاً الى معاوية ومعه ثمانية الآف جندي من أصل اثني عشر ألفاً كان يقودهم ! ! .
كل ذلك أدى الى اضطراب جيش الإمام ، مما جرأ البعض منهم على النيل من هيبة الإمام شخصياً ومحاولة اغتياله وقد هجم جماعة من معسكر الإمام على مضاربه وسرداقه وانتهبوا أمتعته ، وتضيف بعض المصادر أنهم نزعوا بساطاً كان يجلس عليه وسلبوا رداءه ، كما خاطبه أحد الخوارج وهو الجراح بن سنان قائلاً :
أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل ! .
____________
(13) المصدر السابق ص 71 .
(14) المصدر السابق ص 80 .
وجرت ثلاث محاولات لأغتيال الإمام في معسكره (15) .
هذه الظروف المؤلمة الحرجة دفعت الإمام الحسن لأعادة النظر في قرار المواجهة والقتال مع معاوية ، لعدم تكافؤ المعسكرين عدداً وعدة وتماسكاً ، مما يجعل مستقبل المواجهة والحرب لصالح معاوية حتماً ، وذلك يعني الأخطار والمضاعفات الكبيرة على وضع الأمة الإسلامية ككل وخط أهل البيت ( عليهم السلام ) بشكل خاص .
لذلك قرر الإمام الحسن الأستجابة الى دعوة الصلح التي كان معاوية يلح في طرحها ، وتنازل الإمام عن الخلافة والحكم بشروط قبلها معاوية ومن أهمها العمل بكتاب الله وسنة نبيه ، وعدم الظلم والأعتداء على حقوق الناس وخاصة أهل البيت وأتباعهم ، وأن تكون الخلافة بعد معاوية للإمام الحسن أو حسب اختيار المسلمين .
وتم الصلح حوالي شهر ربيع الأول سنة ( 41 هـ ) أي بعد ستة أشهر من خلافة الإمام الحسن ( عليه السلام ) .
بالطبع كان مؤلماً للإمام الحسن ولأهل بيته وأتباعه أن يروا معاوية متسلطاً على المسلمين متحكماً في أمورهم ، وأن يلاحظوا الأنحرافات الكبيرة الخطيرة التي يقوم بها دون رادع أو مانع ، لكن ماذا يصنع الإمام الحسن وقد خانته الظروف ولم تخلص له الأمة ؟ .
وانفعل العديد من المخلصين من أتباع الإمام لما حدث ، ووجهوا للإمام الحسن عتابهم الحاد الجارح على قرار الصلح ، لكن الإمام بقلبه الواسع وحلمه الكبير كان يعذرهم على انفعالهم ، ويوضح لهم حقيقة الموقف وأبعاده .
وبعد الصلح بقي الإمام في الكوفة أياماً وهو مكلوم القلب قد طافت به الهموم والالام ، يتلقى من شيعته مرارة الكلام ، وقسوة النقد ، ويتلقى من معاوية وحزبه الاستهانة بمركزه الرفيع ، وهو مع ذلك صابر محتسب ، قد كظم غيظه ، وأوكل الى الله أمره ، وقد عزم على مغادرة العراق ، والشخوص الى مدينة جده (16) .
____________
(15) المصدر السابق ص 106 .
وطلب منه بعض أهل الكوفة البقاء عندهم ، لكنه لم يستجب لهم وكان يوم سفره مشهوداً في الكوفة حيث خرج الناس بمختلف طبقاتهم الى توديعه ، وهم ما بين باك وآسف .
ولم تكن العقيلة زينب بعيدة عن تلك الأحداث القاسية ، بل كانت الى جانب أخيها الحسن تشاطره معاناته ، وتعيش معه آلام الأمة المنكوبة . . وقد غادرت الكوفة مع أخيها الى مدينة جدها ومسقط رأسها بعد أن قضت في الكوفة حوالي خمس سنوات مليئة بالحوادث والآلام ، ومن أشدها وأفجعها فقد أبيها علي .
وفي المدينة واصلت السيدة زينب تحمل مسؤليتها في الهداية والأرشاد وبث المعارف الوعي ، كما كانت تشارك أخاها الإمام الحسن مواجة اساءات الحكم الأموي وانحرافاته ، حيث لم يلتزم معاوية بأي شرط من شروط الصلح ، وصار يحكم المسلمين حسب رغباته وشهواته بعيداً عن تعاليم كتاب الله وسنة رسوله ، كما كان يوجه سهام بغيه وحقده صوب أهل البيت ( عليهم السلام ) وشيعتهم ، فسن شتم الإمام علي على المنابر ، وقتل خيار أتباعه ، وضيق على شيعته ، وصار يخطط لتنصيب ولده يزيد خليفة وحاكماً على الأمة من بعده .
بالطبع كان وجود الإمام الحسن يقلق معاوية ، ويعرقل بعض مخططاته الفاسدة ، لذلك فكر في تصفية الإمام الحسن والقضاء على حياته ، فأغرى زوجته جعدة بنت الأشعث بمائة ألف درهم ، ووعدها بأن يزوجها ولده يزيداً إن هي دست السم للإمام الحسن وقضت على حياته .
واستجابت جعدة لتلك الأغراءات وألقت السم الفتاك الذي بعثه اليها معاوية في طعام الإمام الحسن ، فتقطعت بذلك كبده وامعاؤه واستعد لمفارقة الحياة .
____________
(16) المصدر السابق ص 285 .
ورأته أخته زينب وهو في فراش الموت ، فانفطر قلبها لمأساة أخيها وتجددت عليها المصائب والأحزان .
ومما زاد في آلام السيدة زينب وأحزانها ما تعرضت له جنازة أخيها من إساءة وهوان ، حيث كان الإمام الحسن قد أوصى بأن يدفن عند قبر جده رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أولاً أقل أن يمر به على قبر جده ليجدد به عهداً ، لكن الحزب الأموي اعترض جنازة الإمام وأثاروا السيدة عائشة لتتبنى مواجهة الهاشميين ومنعهم من الأقتراب بجنازة الإمام الحسن عند قبر جده بحجة أنه يقع في بيتها وأنها لا تسمح لهم بذلك ! ! .
وهكذا رافقت الظلامة والمأساة الإمام الحسن حتى بعد وفاته ، ومنعوا اقتراب جنازته من قبر جده رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو سبطه الحبيب وولده العزيز ! .
كل ذلك ضاعف من أحزان السيدة زينب والهاشميين لذلك ورد في التاريخ أن نساء بني هاشم وفي طليعتهن السيدة زينب استمرين في النياحة على الإمام الحسن ( عليه السلام ) شهراً كاملاً ، وأظهرن الحداد ، ولبسن السواد سنة كاملة (17) .
____________
(17) المصدر السباق ص 502 .
بطلة كربلاء
يبدو أن كل ما سبق في حياة السيدة زينب كان بمثابة اعداد وتهيئة للدور الأكبر الذي ينتظرها في هذه الحياة .
فالسنوات الخمس الأولى من عمرها والتي عايشت فيها جدها المصطفى ( صلى الله عليه وآله ) وهو يقود معارك الجهاد لتثبيت أركان الإسلام ويتحمل هو وعائلته ظروف العناء والخطر .
والأشهر الثلاثة التي رافقت خلالها أمها الزهراء بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ورأت أمها تدافع عن مقام الخلافة الشرعي ، وتطالب بحقها المصادر ، وتعترض على ما حصل بعد الرسول من تطورات ، وتصارع الحسرات والآلام التي أصابتها .
والفترة الحساسة الخطيرة التي عاصرت فيها حكم أبيها علي وخلافته وما حدث فيها من مشاكل وحروب .
ثم مواكبتها لمحنة أخيها الحسن وما تجرع فيها من غصص وآلام كل تلك المعايشة للأحداث والمعاصرة للتطورات . . كان لإعداد السيدة زينب لتؤدي امتحانها الصعب ودورها الخطير في ثورة أخيها الحسين بكربلاء .
وما كان للسيدة زينب أن تنجح في أداء ذلك الأمتحان ، وممارسة ذلك الدور لو لم تكن تمتلك ذلك الرصيد الضخم من تجارب المقاومة والمعاناة ، ولو لم يتوفر لها ذلك الارث الكبير من البصيرة والوعي .
وواقعة كربلاء تعتبر من أهم الأحداث التي عصفت بالأمة الإسلامية بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
ففي واقعة كربلاء تجلى تيار الردة الى الجاهلية والأنقلاب على الأعقاب ووصل الى قمته وذروته من خلال المعسكر الأموي . . كما تجسد وتبلور خط الرسالة والقيم الالهية في الموقف الحسيني العظيم .
وواقعة كربلاء شرعت للأمة مقاومة الظلم والطغيان ، وشقت طريق الثورة والنضال أمام الطامحين للعدالة والحرية .
وكان للسيدة زينب دور أساسي رئيسي في هذه الثورة العظيمة .
فهي الشخصية الثانية على مسرح الثورة بعد شخصية أخيها الإمام الحسين ( عليه السلام ) .
ومن يقرأ أحداث كربلاء ويقلب صفحات كتابها ، يرى السيدة زينب الى جانب الحسين في اغلب الفصول والمواقف ، بل انها قادت مسيرة الثورة بعد استشهاد الإمام الحسين وأكملت حلقاتها .
ولولا كربلاء لما بلغت شخصية السيدة زينب هذه القمة من السمو والتألق والخلود . . ولولا السيدة زينب لما حققت كربلاء أهدافها ومعطياتها وآثارها في واقع الأمة والتاريخ .
لقد أظهرت كربلاء جوهر شخصية السيدة زينب ، وكشفت عن عظيم كفاءاتها وملكاتها القيادية ، كما أوضحت السيدة زينب للعالم حقيقة ثورة كربلاء ، وأبعاد حوادثها .
وحقاً انها بطلة كربلاء وشريكة الحسين .
الدور المنتظر
قضية كربلاء بأحداثها المروعة لم تكن مفاجئة للسيدة زينب ، ودورها في تلك الواقعة لم يكن عفوياً ولا من وحي الصدفة . فقد كانت مهيأة نفسياً وذهنياً لتلك الواقعة ، وكانت تعلم منذ طفولتها الباكرة بأن تلك الحادثة ستقع وأنها ستلعب فيها دوراً رئيسياً بارزاً .
صحيح أن أحداث كربلاء قبل وقوعها كانت في رحم الغيب ولا يعلم الغيب الا الله ، ولكن من الصحيح أيضاً أن الله ( تعالى ) قد كشف لنبيه الأعظم أستار الغيب ، وأظهره عليه ، يقول تعالى : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول ) (27) .
وثابت عند المسلمين أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد أخبر أصحابه بالعديد من المغيبات ، وأنبأهم بأنها ستقع ، وأدركوا وقوعها بالفعل ، وذلك مما لا نقاش في ثبوته بين المسلمين .
ومن المغيبات التي تحدث عنها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) واقعة كربلاء كما أشارت الى ذلك العديد من المصادر الموثوقة عند المسلمين من كتب الحديث .
____________
(27) سورة الجن ، الآيات ( 26 ـ 27 ) .
وأهل البيت المعنيون بتلك الواقعة كانوا في طليعة من أحاطهم الرسول بها علماً كما تؤكد ذلك مختلف المصادر الحديثية والتاريخية .
فطبيعي إذاً أن تكون السيدة زينب في أجواء تلك النبوءة ، وعلى معرفة بالخطوط العامة للحادثة ، بل وببعض تفاصيلها وجزئياتها .
وقد صرحت العقيلة زينب بمعرفتها المسبقة بواقعة كربلاء في الحديث الذي نقله الشيخ الأقدم أبو القاسم جعفر بن محمد بن جعفر بن موسى بن قولوية القمي ( المتوفى سنة : 367 هـ أو 368 هـ ) في كتابه ( كامل الزيارة ) وهو كتاب اعتمد كبار العلماء على رواياته وأسانيده .
والحديث مروي بسند متصل الى الإمام زين العابدين علي بن الحسين ( عليه السلام ) قال :
« إنه لما أصابنا بالطف ما أصابنا ، وقتل أبي ( عليه السلام ) ، وقتل من كان معه من ولده واخوته وساير أهله ، وحملت حرمه ونساؤه على الأقتاب يراد بنا الكوفة ، فجعلت أنظر اليهم صرعى ، ولم يواروا ، فيعظم ذلك في صدري ، ويشتد لما ارى منهم قلقي ، فكادت نفسي تخرج ، وتبينت ذلك مني عمتي زينب بنت علي الكبرى ، فقالت : ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي واخوتي ؟ .
فقلت : وكيف لا أجزع ولا أهلع ، وقد ارى سيدي وأخوتي وعمومتي ، وولد عمي وأهلي مصرعين بدمائهم مرملين بالعراء ، مسلبين لا يكفنون ولا يوارون ، ولا يعرج عليهم أحد ، ولا يقربهم بشر ، وكأنهم أهل بيت من الديلم والخزر ؟ .
فقالت : لا يجزعنك ما ترى : فوالله ان ذلك لعهد من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الى جدك وابيك وعمك . . ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض ، وهم معرفون في أهل السماوات ، إنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها ، وهذه الجسوم المضرجة ، وينصبون لهذا الطف
علماً لقبر أبيك سيد الشهداء ، لا يدرس أثره ، ولا يصفو رسمه ، على كرور الليالي والأيام ، وليجتهدن أئمة الكفر ، أشياع الضلالة ، في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره الا ظهوراً ، وأمره الا علواً .
فقلت : وما هذا العهد وما هذا الخبر ؟ .
فقالت : حدثتني أم أيمن ـ مولاة رسول الله ـ أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) زار منزل فاطمة في يوم من الأيام . وتستمر السيدة زينب في حديثها الطويل لابن أخيها زين العابدين نقلاً عن أم أيمن وهي تعدد ما يجري على أهل البيت من حوادث بعد رسول الله ( ص ) حسب ما أخبر به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومن بين تلك الحوادث واقعة كربلاء .
ثم تعقب السيدة زينب على ما نقلته عن أم أيمن بقولها :
« فلما ضرب ابن ملجم ( لعنه الله ) أبي ( عليه السلام ) ورأيت أثر الموت منه .
قلت : يا أبة حدثتني أم أيمن بكذا وكذا ، وقد أحببت أن أسمعه منك .
فقال : يا بنية الحديث كما حدثتك أم أيمن وكأني بك وببنات أهلك سبايا بهذا البلد ـ أي الكوفة ـ اذلاء خاشعين » (28) .
____________
(28) ( بحار الأنوار ) المجلسي ج 28 ، ص 55 ـ 60 .
المبادرة والاختيار
قد يجد الأنسان نفسه في معمعة معركة لم يكن مختاراً للدخول فيها ، وقد يصبح متورطاً في مشكلة فرضت عليه دون قصد منه . ويحصل هذا غالباً بالنسبة للمرأة فبحكم تبعيتها للرجل أباً كان أو زوجاً أو ولداً ، قد تجد نفسها محشورة في معركته دون سابق وعي أو اختيار من قبلها .
فهل كان حضور السيدة زينب ودورها في ثورة كربلاء شيئاً من هذا القبيل ؟ .
بقرائة واعية لدور السيدة زينب ولمواقفها وكلماتها خلال أحداث الواقعة يتجلى للباحث أن السيدة زينب قد اختارت دورها في هذه الثورة العظيمة بوعي سابق وادراك عميق ، وانها كانت المبادرة للمشاركة كما احتفظت بزمام المبادرة في مختلف المواقع والوقائع الثورية .
ويحدثنا التاريخ أن السيدة زينب هي التي قررت وأرادت الخروج مع أخيها الحسين في ثورته ، مع أنها من الناحية الدينية والاجتماعية في عهدة زوجها عبدالله بن جعفر والذي كان مكفوف البصر ، كما كانت ربة منزلها والقائمة بشؤون ابنائها ، وكل ذلك كان يمنع التحاقها بركب أخيها الحسين . . لكنها قررت تجاوز كل تلك العوائق واستأذنت زوجها في الخروج مع أخيها ، فاذن لها بذلك بل وأمر ولديه عون ومحمد بالإلتحاق بقافلة الثورة .
ولأن سفر الإمام الحسين كان محفوفاً بالمخاطر فقد اقترح عليه شيوخ بني هاشم أن لا يصطحب معه أحداً من النساء والعيال ، ولكن السيدة زينب كانت بالمرصاد لمثل هذه المقترحات التي تحول بينها وبين المشاركة في المسيرة المقدسة .
فهذا عبدالله بن عباس وبعد أن عجز عن اقناع الإمام الحسين بالعودة عن قرار الخروج الى الثورة يناقشه في حمل النساء والعيال معه قائلاً :
إن كنت سائراً فلا تسر بنسائك وصبيتك ، فإني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون اليه (29) .
ومحمد بن الحنفية اخو الإمام الحسين طرح على الإمام نفس التساؤل بعدما أخبره الإمام الحسين بعزمه على الخروج قائلاً : « أتاني رسول الله وقال لي : يا حسين أخرج فإن الله شاء أن يراك قتيلاً .
فتساءل محمد بن الحنفية : فما معنى حمل هؤلاء النسوة والأطفال وأنت خارج على مثل هذا الحال ؟ .
وكان جواب الإمام على تساؤل هؤلاء المشفقين على مستقبل نسائه وعائلته أشد اثارة وغرابة حيث قال ( عليه السلام ) : « قد شاء الله أن يراهن سبايا » (30) .
ويروي الشيخ النقدي أن السيدة زينب اعترضت على نصحية ابن عباس للإمام بأن لا يحمل معه النساء : فسمع ابن عباس بكاءاً من ورائه وقائلة تقول : يابن عباس تشير على شيخنا وسيدنا أن يخلفنا هاهنا ويمضي وحده ؟ لا والله بل نحيا معه ونموت معه ، وهل أبقى الزمان لنا غيره ؟ فالتفت ابن عباس واذا المتكلمة هي زينب (31) .
____________
(29) ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ، ص 27 .
(30) المصدر السابق ص 32 .
(31) ( زينب الكبرى ) النقدي ص 94 .
وكما أن أصل اشتراكها في الثورة كان بقرارها الواعي ، فإن أغلب مواقفها في ميادين الثورة كانت تنبثق من مبادراتها الوثابة الشجاعة ، فيه التي تهرع نحو أخيها الحسين حينما تدلهم المصائب والخطوب لتشاركه المواجهة .
وهي في يوم عاشوراء تتحدى الآلام والظروف العصيبة لتمارس دورها البطولي العظيم ، مع أن بعض ما أصابها يكفيها عذراً للانشغال بأحزانها والإبتعاد عن ساحة المعركة .
ثم وما الذي دفعها للخطابة أمام جمهور الكوفة ؟ .
ومن كان يتوقع من مثلها خطابها الناري في مجلس يزيد بن معاوية ؟ لقد كانت ظروف السبي والأسر ، وطبيعة الخفارة والخدر لدى السيدة زينب ، وأجواء الشماتة والعداء المحيطة بها في الكوفة والشام . . لقد كان كل ذلك أو بعض ذلك يكفي دافعاً نحو الانكفاء على الذات ومعالجة الهموم والحزن . . لكن العقيلة زينب تسامت على كل ذلك ، وامتلكت زمام المبادرة مسيطرة على كل ما حولها من ظروف وأوضاع .
ولأنها كانت مختارة ومبادرة عن سابق وعي وتصميم ، فانها كانت تنظر الى ما واجهته من آلام ومآس قاسية تتصدع لهولها الجبال الرواسي ، تنظر اليها بايجابية واطمئنان ، وتعتبرها ابتلاءاً وامتحاناً إليها لابد لها من النجاج فيه .
بل انها وفي أشد المواقف وافظعها تضرع الى الله شاكرة حامدة آلاء نعمه ، معلنة تقبلها لقضاء الله ، واستعدادها لتحمل الأكثر من ذلك في سبيله .
فحينما حدثت الفاجعة الكبرى بمقتل أخيها الحسين بعد قتل كل رجالات بيتها وأنصارهم خرجت السيدة زينب تعدو نحو ساحة المعركة تبحث عن جسد أخيها الحسين غير عابئة بصفوف الجيش الأموي المدجج بالسلاح ، فلما وقفت على جثمان أخيها العزيز الذي مزقته السيوف ، جعلت تطيل النظر اليه ثم رفعت بصرها نحو السماء وهي تدعو بحرارة ولهفة : « اللهم تقبل منا هذا القربان » (32) .
____________
(32) ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ، ص 304 .
إن ذروة الماساة وقمة المصبية هو مورد للتقرب الى الله ( تعالى ) عند السيدة زينب . . وذلك هو قمة الوعي وأعلى مستويات الأرادة الأختيار .
وحينما يسألها عبدالله بن زياد أمير الكوفة وواجهة السلطة الأموية في مجلسه سؤال الشامت المغرور بالنصر الزائف قائلاً : كيف رأيت فعل الله بأخيك ؟ .
فانها تجيبه فوراً ومن أعماق قلبها بجرأة وصمود قائلة : « ما رأيت إلا جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يا ابن مرجانة » (33) .
وتختم خطابها في مجلس يزيد بن معاوية بتأكيد رؤيتها الأيجابية لما حصل لها ولأهل بيتها من مصائب وآلام حيث تقول : « والحمد لله رب العالمين ، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ، ويوجب لهم المزيد ، ويحسن علينا الخلافة إنه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعم الوكيل » (34) .
فزينب لم تكن مستدرجة ، ولم تجد نفسها متورطة في معركة فرضت عليها بل اقتحمت ساحة الثورة بملء ارادتها وكامل اختيارها ، وهنا تتجلى عظمة السيدة زينب .
____________
(33) المصدر السابق ص 344 .
(34) المصدر السابق ص 380 .
سلاح المظلومية
في المعركة بين الحق والباطل يستخدم كل من طرفي الصراع جيمع ما يتاح له من أسلحة وما بحوزته من امكانيات ليقضي على خصمه أو ليوقع به أكبر قدر ممكن من الخسائر .
واذا كانت الأسلحة المادية المستخدمة في القتال على أرض المعركة متشابهة كالسيوف والرماح ، فإن الأسلحة المعنوية ووسائل الأستقطاب للمؤيّدين وأساليب التّأثير والتّعامل مع الناس ، تكون متفاوتة مختلفة بين الطرفين ، نتيجة لاختلافهما في الأهداف الدافعة والقيم الحاكمة .
حيث تسعى كل جبهة لتعبئة أفرادها ورفع معنوياتهم ، كما تجتهد في استقطاب الجمهور والتأثير في الرأي العام لصالح موقفها .
ولتحقيق ذلك تستخدم جبهة الباطل أساليب الأغراء والمكر والخداع ، لأثارة الأهواء والرغبات في نفوس أتباعها ، فتمنيهم بالأموال والمناصب والأمتيازات ، وتغريهم بانتصاراتها الزائفة وقوتها الزائلة بينما تشهر جبهة الحق سلاح الصدق والخلاص ، وتستثير في نفوس أتباعها قيم الحق والعدل وروح التضحية والفداء .
ومن أمضى أسلحة جبهة الحق التي تجلت في ثورة الإمام الحسين ( عليه السلام ) هو سلاح المظلومية ، بإبراز عدوانية الطرف الآخر وبشاعة جرائمه ، واظهار عمق المأساة وشدة الآلام والمصائب التي تحملها معسكر الإمام الحسين .
والمظلومية تستصرخ ضمائر الناس وتوقظ وجدانهم ، وتدفعهم الى الوقوف الى جانب أهل الحق المظلومين ، كما تستثير نقمتهم وغضبهم ضد المعتدين الظالمين .
والمظلومية تعبىء الأتباع المناصرين وتدفعهم للألتفاف أكثر حول معسكرهم وقضيتهم ، كما تؤثر في نفوس الجمهور ليتعاطف ويؤيد المظلومين ضد الظالمين ، بل وتمتد آثارها حتى الى معسكر العدو لتحرك فيه ضمائر بعض جنوده المخدوعين ، فيتمردون على معسكرهم الظالم ويلتحقون بصفوف الثوار المخلصين وأكثر من ذلك فإن تأثير المظلومية يتخطى الأزمنة والأعصار ليحشد أجيال البشرية على مر التاريخ الى جانب معسكر الحق .
وقد تحقق كل ذلك وبأروع صورة في واقعة كربلاء فبينما كانت السلطة الأموية تستعرض قوتها العسكرية أمام الناس لترهبهم حتى يقفوا الى جانبها وتمارس عليهم أشد ضغوط القمع .
وبينما كان الوالي الأموي على الكوفة عبيدالله بن زياد يغدق الأموال والرشوات على الزعماء والوجهاء ، ويزيد في عطاء الجنود ، ويعد القيادات كعمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن وشبث بن ربعي بالمناصب والولايات .
في مقابل كل ذلك كان الإمام الحسين وأصحابه يبشرون بالقيم السامية ويخاطبون الضمائر الحرة ، ويبصرون الناس بواقعهم ومسؤلياتهم ، ويلفتون الأنظار الى جرائم السلطة الظالمة ، وعدوانيتها وجورها الذي تجاوز كل الحدود .
وكان سلاح المظلومية مؤثراً جداً ، فكلما شاهد اصحاب الحسين ما يصيب امامهم وعيالاته من الآلام والمصائب ، استماتوا أكثر في الدفاع والتضحية والفداء ، وازدادوا قناعة ويقيناً بعدالة قضيتهم .
ويحدثنا التاريخ كيف أن أفراداً بل قيادات من الجيش الأموي قد تأثرت لمظلومية الإمام الحسين وغيرت موقفها وتحولت الى جانب المعسكر الحسيني . . كالحر بن يزيد الرياحي وكان من قادة الجيش الأموي ومن اشجع أبطالهم ، وهو الذي قاد أول فرقة عسكرية حاصرت الإمام في الطريق ـ كما سبق ـ .
هذا الرجل حركت مظلومية الإمام وجدانه ومشاعره وأيقظت ضميره ، فألوى بعنان فرسه صوب الإمام وهو مطرق برأسه الى الأرض حياءاً وندماً ، فلما دنا من الإمام رفع صوته قائلاً :
« اللهم اليك أنيب فقد ارعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيك يا أبا عبدالله إني تائب فهل لي من توبة ؟ » .
ونزل عن فرسه ، فوقف قبال الإمام ودموعه تتبلور على وجهه ، وجعل يخاطب الإمام ويتوسل اليه بقوله :
« جعلني الله فداك يابن رسول الله أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع ، وجعجعت بك في هذا المكان . والله الذي لا اله الا هو ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبداً ، ولا يبلغون منك هذه المنزلة ابداً » .
لقد هزه وأثاره ما بلغه القوم من الإمام ، يعني ما أصاب الإمام منهم من المآسي والآلام .
ولم يكن الحر وحده قد تأثر بمظلومية الإمام بل ان حوالي ثلاثين فارساً آخر من الجيش الأموي قد اتخذوا ذات الموقف والتحقوا بمعسكر الإمام (35) .
أما انعكاس مظلومية الإمام الحسين وأصحابه وعيالاته على جماهير الأمة آنذاك فهذا ما تحدثناعنه الانتفاضات والثورات التي انطلقت في مختلف أرجاء الأمة كرد فعل على مقتل الإمام الحسين بتلك الصورة الفظيعة ، كثورة التوابين والتي كان شعارها : « يا لثارات الحسين » وثورة المختار الثقفي ، وثورة أهل المدينة .
ولا تزال مظلومية الإمام الحسين حية مؤثرة في القلوب والنفوس على مر العصور والأجيال الى يومنا هذا والى أن يرث الله الأرض ومن عليها . .
____________
(35) المصدر السابق ص 196 ـ 198 .
وأبرع وأكثر من شهر سلاح المظلومية واستخدمه في واقعة كربلاء هي السيدة زينب . . حيث كانت تسلط الأضواء وتلفت الأنظار الى مواقع الظلامة ، وقامت بدور تأجيج العواطف والهاب المشاعر أثناء الواقعة ، وبعد الواقعة في الكوفة والشام وحينما عادت الى المدينة ، بل كرست باقي أيام حياتها للقيام بهذا الدور العظيم . .
إن المواقف العاطفية الوجدانية التي قامت بها السيدة زينب حيث كانت تبكي وتتألم وتنعي وتندب وتستغيث وتستصرخ لم تكن مجرد ردود أفعال عاطفية على ما واجهته من مآسي وآلام ، بل كانت تلك المواقف فوق ذلك سلاحاً مشرعاً تصوبه نحو الظلم والعدوان ، وتدافع به عن معسكر الحق الرسالة . .
ولنقف الآن بعض العينات والنماذج من تلك المواقف الزينبية :
ترى الإمام ينعى نفسه :
الحسين في نظر السيدة زينب ليس مجرد أخ عزيز ، ومكانته في نفسها لا تتحدد في كونه الإمام القائد والمفترض الطاعة فقط ، بل فوق ذلك كله انه يجسد ويمثل شخصية جدها رسول الله ، وأبيها الإمام علي ، وأمها فاطمة الزهراء ، وأخيها الإمام الحسن ، انه البقية والامتداد للبيت النبوي العظيم . .
لذلك حينما رأته ينعى بنفسه وينتظر الشهادة أدركت مدى الخسارة التي تحل بها وبالوجود عند فقده . .
فقد رأت الحسين ليلة العاشر من المحرم ، وهو يعالج سيفه ويصلحه في خيمته ويقول :
يا دهر أفٍ لك من خليل
*
كم لك بالاشراق والأصيل
من صاحب وطالب قتيل
*
والـدهر لا يقنع بـالبديل
وانما الأمر الـى الجليل
*
وكل حـي سالك سـبيل
أمام الفاجعة الكبرى :
لا يمكن أن تمر على انسان لحظة أقسى وأصعب من تلك اللحظات الأليمة التي مرت على السيدة زينب حينما وقع أخوها الحسين شهيداً ، ووقفت على مصرعه . .
إنها تعرف قيمة الحسين ومكانته عند الله ( سبحانه ) وعند جده رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وفي البيت العلوي . . وهي تدرك عظمة الحسين من خلال صفاته الفريدة ومميزاته الخاصة . . وهي تعي موقعية الحسين كامتداد للنبوة ومجسد للامامة وحجة لله على الخلق . .
وتعلم السيدة زينب أن قتل الحسين يمثل انتهاك أعظم حرمة ، وارتكاب أكبر جريمة ، وإن ذلك يعني الوصول الى قمة الارتداد عن الدين والتنكر للرسالة . .
ثم ان قتل الحسين يعني اغتيال أعز شيء على قلبها وأقرب شيء الى نفسها في هذه الحياة . . والحسين هو الولي لها المحامي لخدرها ، وبقتله تصبح تحت رحمة الأعداء الظلمة الجفاة . . فمن سيحمي خدرها ، ويصون عزها ويدافع عمّن معها من نساء وأطفال ؟.
والحسين لم يقتل بالشّكل المتداول في معارك القاتل ، بل أمعن القوم في تمزيق جسمه بمختلف أدوات الحرب . . جسمه بمختلف أدوات الحرب . .
فقد أصاب سهم فمه الطاهر فتفجر دمه الشريف . . وأصاب سهم جبهته الشريفة المشرقة بنور الإمامة . . ورماه رجس بسهم محدد له ثلاث شعب فاستقر في قلبه الشريف وأخرج الإمام السهم من قفاه فانبعث دمه كالميزاب فأخذ الإمام من دمه الطاهر ولطخ به وجهه ولحيته ، وهو يقول : « هكذا أكون حتى ألقى الله وجدي رسول الله وأنا مخضب بدمي » .
وهجمت على ريحانة رسول الله تلك العصابة المجرمة من كل جانب وهم يوسعونه ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح ، فضربه أحدهم بالسيف على كفه اليسرى ، وضربة آخر على عاتقه ، وكان من أحقد أعدائه عليه الخبيث سنان بن أنس ، فقد أخذ يضربه تارة بالسيف وأخرى طعنة بالرمح ! ! .
يقول بعض المؤرخين : انه لم يضرب أحد في الإسلام كما ضرب الحسين فقد وجد فيه مائة وعشرون جراحة ما بين ضربة سيف وطعنة رمح ، ورمية سهم (38) .
أما كيف ومتى علمت السيدة زينب بمقتل أخيها الحسين ؟ فإن المصادر التاريخية تشير الى أن فرس الحسين بعد أن وقع الحسين من على ظهره الى الأرض ، ومزقته سيوف القوم ورماحهم صبغ ناصيته بدم الإمام الشهيد وركض مسرعاً نحو خيمة الحسين ، كأنه يريد اعلام النساء بمقتل الإمام . . وبالفعل كان رجوع فرس الإمام من دون الإمام نذير سوء لمن في الخيام بأنهم قد فقدوا عزهم وزعيمهم . .
وهنا خرجت العقيلة زينب مهرولة نحو مصرع أخيها الحسين . . فمن يا ترى يستطيع وصف تلك اللحظات القاسية والموقف الصعب ؟ .
لقد وجدت العقيلة نفسها أمام لحظة تاريخية حساسة خطيرة ، وأمام موقف عظيم ، لابد وأن تسجل شهادتها عليه للتاريخ . .
فصاحت هاتفة من أعماق قلبها :
« وامحمداه ! وأبتاه ! واعلياه ! واجعفراه ! واحمزتاه ! .
هذا حسين بالعراء صريع بكربلاء ! .
ليت السماء أطبقت على الأرض ! وليت الجبال تدكدكت على السهل ! ! » .
وانتهت نحو الحسين وقد دنا منه عمر بن سعد قائد الجيش الأموي في جماعة من أصحابه ، والحسين يجود بنفسه ! .
فصاحت السيدة زينب : اي عمر أيقتل أبو عبدالله وأنت تنظر اليه ؟ .
فصرف وجهه عنها ، ودموعه تسيل على لحيته ! ! .
____________
(38) المصدر السابقص 284 ـ 289 .
والتفتت السيدة زينب الى حشود الجيش الأموي صارخة بهم : ويحكم أما فيكم مسلم ؟ . . فلم يجبها أحد (39) .
إن هول المصيبة وعظم الفاجعة وقسوة الحدث ، لم يشغل كل ذلك العقيلة زينب عن أداء دورها الرسالي الخطير في اعلان الظلامة ، وتأجيج العواطف ، والهاب المشاعر حتى في نفوس الأعداء الظالمين . .
نظرة وداع :
بعد ظهر اليوم الحادي عشر من المحرم عزم الجيش الأموي على مغادرة أرض كربلاء ، وقد حملوا معهم نساء الحسين وأهل بيته وصبيتهم ، ومروا بقافلة الأرامل المثكولات والأيتام المفجوعين على أرض المعركة وحيث تشرق على ساحتها جثث الشهداء وأجسام القتلى من أهل البيت . .
وكان منظراً مذهلاً للنساء والأطفال : فالأجساد بلا رؤوس . . والأشلاء موزعة . . والدماء تصبغ البسيطة . .
ويبدو أن قيادة الجيش الأموي أرادت أن تدخل الرعب والفزع الى نفوس العائلة الحسينية ، وأن تحدث الهزمية والانهيار التام في نفوس أفرادها ، حتى يدخلوا الكوفة وهم في منتهى الاذلال والهوان . .
وتأملت العقيلة زينب ذلك الموقف الرهيب : حيث ترى أرض الشهادة ترتسم على ربوعها أفظع مأساة ، وتنظر الى النساء والأطفال وقد علتهن الكآبة والدهشة . . ومن جانب آخر ترى الجيش الأموي يبالغ في اظهار نشوة انتصاره الزائف ، ويستعرض قوته وقدرته الغاشمة . .
فمزقت العقيلة زينب أجواء الرهبة والألم ، واندفعت تشهر سلاح المظلومية لتصوبه تجاه المتغطرسين المغرورين ، ولتثبت لهم أنهم ضعفاء مهزومون وإن توهموا النصر . . فأطلقت صوتها الشجاع المدوي قائلة : ـ « يا محمداه هذا حسين بالعراء ، مرمل بالدماء ، مقطع الأعضاء ، وبناتك سبايا ، وذريتك مقتلة »
____________
(39) ( مقتل الحسين ) السيد عبد الرزاق المقرم ص 284 .
يقول الرواة : فأبكت كل عدو وصديق حتى جرت دموع الخيل على حوافرها
في مجلس يزيد
لقد فضح الأمويون أنفسهم ، حينما دفعهم حقدهم على أهل البيت حماقتهم الى تسيير نساء الحسين وعيالاته سبايا بتلك الحالة الفظيعة . . فموكب السبايا كان تظاهرة اعلامية تؤجج المشاعر وتلهب العواطف ضد السلطة الظالمة ، والعقيلة زينب لم تترك فرصة ولا مناسبة أثناء رحلتها الشاقة المؤلمة الى الكوفة ومنها الى الشام مروراً بسائر البلدان والمناطق . . الا واستثمرتها في اعلان مظلوميتهم ، وتبيين عمق المأساة التي حلت بهم .
وحتى في مجلس يزيد بن معاوية والذي قد خطط ليكون دخول السبايا الى مجلسه مهرجاناً يحتفل فيه بانتصاره على الحسين ، فأحضر كبار قادة جيشه وزعماء الشام ، وأحاط نفسه بأجواء من الهيبة المصطنعة .
لكن العقيلة زينب أفسدت عليه كل ما صنع وأفشلت مهرجانه الضخم حين نظرت الى رأس أخيها الحسين بين يدي يزيد ، فانتصبت قائمة وأجهشت بالبكاء ، وأهوت الى جيبها فشقته ، ونادت بصوت حزين يقرح القلوب : « يا حسيناه ، يا حبيب رسول الله ، يا ابن مكة ومنى ، يا ابن فاطمة الزهراء سيدة النساء ، يا ابن بنت المصطفى » .
قال الراوي : فأبكت والله كل من كان في المجلس ويزيد ساكت (41) .
وجميل ما قالته الأديبة بنت الشاطئ حول هذا الدور الزينبي حيث كتبت تقول : لم تمض زينب الا بعد أن أفسدت على ابن زياد ، ويزيد ، وبني أمية ، لذة النصر ، وسكبت قطرات من السم الزعاف في كؤوس الظافرين ! .
فكانت فرحة لم تطل وكان نصراً مؤقتاً ، لم يلبث أن أفضى الى هزيمة قضت آخر الأمر على دولة بني أمية .
____________
(40) المصدر السابق ص 307 .
(41) ( زينب الكبرى ) النقدي ص 114 .
فلم تكد زينب تخرج من عند يزيد حتى أحس أن سروره بمقتل الحسين قد شابه كدر خفي ، ظل يزداد حتى استحال الى ندم ، كدر صفو الأعوام الثلاثة الأخيرة من حياته (42) .
أشعلت ثورة المدينة :
وانتهت بها رحلة الألم والعناء الى المدينة المنورة مسقط رأسها وربوع صباها ودار أهلها . . بعد فراق وغياب جاوز السبعة أشهر حيث خرجت من المدينة مع أخيها الحسين أواخر شهر رجب وعادات بعد انتهاء شهر صفر .
وفرق كبير بين موكب خروجها المهيب من المدينة يحيط بها اخوتها وأبناؤها وأبناء اخوتها ورجالات عشيرتها . . وبين قافلة الأسر التي عادت ضمنها تلوذ بها الأرملات المثكولات والصبايا اليتيمات المفجوعات .
لقد هرعت عند دخولها المدينة الى مسجد جدها رسول الله حيث مثواه الأقدس وأخذت بعضادتي باب المسجد منادية .
« يا جداه إني ناعية اليك أخي الحسين » (43) .
وأصبح برنامجها اليومي والدائم في المدينة المنورة تذكير جماهير الأمة بمظلومية الحسين وأهل بيته ، وتخليد المأساة العظيمة في كربلاء ، لتؤجج بذلك العواطف وتلهب المشاعر ، وتحرض الناس على الحكم الفاسد الظالم .
ويذكر السيد الشريف يحيى بن الحسن من أحفاد الإمام زين العابدين علي بن الحسين ، وهو المعروف بالعبيدلي النسابة ( 214 هـ ـ 277 هـ ) ( 829 م ـ 890 م ) في رسالته المشهورة ( اخبار الزينبيات ) يذكر فيها أن السيدة زينب وهي بالمدينة كانت تؤلب الناس على القيام بأخذ ثار الحسين ، فكتب والي المدينة عمرو بن سعيد الأشدق الى يزيد يعلمه بالخبر . . فكتب اليه يزيد : أن فرق بينها وبين الناس . . فأمرها الوالي بالخروج من المدينة (44) .
____________
(42) ( السيدة زينب ) عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ ص 158 .
(43) ( مقتل الحسين ) المقرم ص 376 .
لقد اشعلت السيدة زينب الثورة وفجرتها في المدينة ضد الحكم الأموي ، فكان لها دور المحرك للثورة التي عمت المدينة المنورة سنة ( 63 هـ ) حيث تمرد أهل المدينة على الحكم الأموي وطردوا واليه وجميع بني أمية وبايعوا عبدالله بن حنظلة غسيل الملائكة فبعث يزيد الى المدينة جيشاً ضخماً يبلغ ( 12 ألفاً ) بقيادة مسلم بن عقبة ، فقضى على التمرد وسيطر على المدينة ، وأباح مسلم المدينة ثلاثاً لجيشه يقتلون الناس ويأخذون المتاع والأموال . . ودعا مسلم الناس الى البيعة ليزيد على أنهم خول ـ أي عبيد ـ له يحكم في دمائهم وأموالهم وأهلهم من شاء ، فمن امتنع من ذلك قتله .
عرفت الواقعة بإسم « واقعة الحرة » والتي حصلت لليلتين بقيتا من ذي الحجة ، وعرف مسلم بن عقبة بعد الواقعة بإسم مسرف (45) .
____________
(44) ( أخبار الزينبيات ) العبيدلي ، مطبوع ضمن مجلة ( الموسم ) العدد : 4 .
(45) ( الكامل في التاريخ ) ابن الأثير ج 4 ، ص 120 .
واستشهد ولدها عون :
شاء الله ( سبحانه وتعالى ) أن تجتمع على قلب السيدة زينب يوم كربلاء ألوان المصائب والفجائع ، وأن تكون المثل والقدوة في تقديم الضحايا والقرابين على مذبح العدل والحرية في سبيل الله .
فقد رزئت بقتل ستة من اخوتها في طليعتهم عماد عزها الحسين بن علي ، وقمر بني هاشم العباس بن علي ، وتشير بعض المصادر إلى أن من استشهد من اخوة زينب يوم كربلاء عشرة ، أما الستة الذين تتفق اغلب المصادر على شهادتهم في كربلاء فهم ما يلي :
1 ـ الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب .
2 ـ العباس بن علي بن أبي طالب .
3 ـ جعفر بن علي بن أبي طالب .
4 ـ عبدالله بن علي بن أبي طالب .
5 ـ عثمان بن علي بن أبي طالب .
6 ـ محمد الأصغر بن علي بن أبي طالب .
وهناك أسماء اخرى تضيفها بعض المصادر كإخوة للسيدة زينب نالوا شرف الشهادة أيضاً في كربلاء ، هي كما يلي :
7 ـ أبو بكر بن علي بن أبي طالب .
8 ـ عبدالله بن علي بن أبي طالب ـ غير المذكور سابقاً ـ .
9 ـ عمر بن علي بن أبي طالب .
10 ـ إبراهيم بن علي أبي طالب (46) .
كما فجعت بمقتل مجموعة من أبناء اخوتها تجمع المصادر على خمسة منهم ثلاثة من أولاد أخيها الحسن ، وهم :
1 ـ أبو بكر بن الحسن بن علي .
2 ـ عبدالله بن الحسن بن علي .
3 ـ القاسم بن الحسن بن علي .
واثنان من أولاد أخيها الحسين هم :
4 ـ علي بن الحسين الأكبر .
5 ـ عبدالله بن الحسين (47) .
اضافة الى سائر رجالات أسرتها من الهاشميين والذين يتراوح عددهم جميعاً بين السبعة عشر والسبعة والعشرين بطلاً حسب اختلاف المصادر والروايات التاريخية (48) .
ومع ما لمصرع هؤلاء الأعزة من تأثير فظيع على النفس الا أن لفقد الولد لوعة خاصة لم يسلم منها قلب السيدة زينب فقد فجعت بمقتل ولدها وفلذة كبدها عون بن عبدالله بن جعفر حيث قدمته شهيداً بين يدي خاله الإمام الحسين .
____________
(46) ( أنصار الحسين ) محمد مهدي شمس الدين ص 131 ـ 137 .
(47) المصدر السابق .
(48) المصدر السابق .
وبرز عون الى ساحة المعركة يقاتل الأعداء ، وهو يرتجز :
إن تنكروني فأنا ابن جعفر***شهيد صدق في الجنان أزهر
كفـى بهذا شرفاً من مـعشر ***يطير فيها بجناح أخضر
فحمل عليه عبدالله بن قطنة الطائي فقتله ، وقد رثاه سليمان بن قتة بقوله :
واندبي ان بكيت عوناً أخاه
*
ليس فيما ينوبهم بخذول
فلعمري لقد أصبت ذوي القمر
*
بي فبكي على المصاب الطويل (49)
ونقل أبو الفرج الأصفاني أن قاتل عون هو عبدالله بن قطنة التيهاني (50) .
وفي بعض المصادر : جاءت الفقرة الأخيرة من رجز عون :
...........................* كفى بهذا شرفاً في المحشر
وانه قتل من الأعداء ثلاثة فوارس وثمانية عشر راجلاً ، وعن الاسفرائيني أنه قتل ستة وعشرين فارساً (51) .
ولم تقل كتب السير والمقاتل عن العقيلة زينب أنها أعولت على مقتل ولدها أو أشارت اليه في ندبتها ومأتمها .
قال السيد عبد العزيز سيد الأهل : لم يسمع لها بكاء حين قتل ولدها عون بمثل ما بكت به أخاها وأولاد أخيها (52) .
____________
(49) ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ، ص 258 .
(50) ( مقاتل الطالبين ) الأصفاني ص 91 .
(51) ( وسيلة الدارين ) الزنجاني ص 241 .
(52) ( زينب عقيلة بني هاشم ) سيد الأهل ص 8 .
ويبدو أن لعبدالله بن جعفر ولداً آخر اسمه عون الأصغر وأمه جمانة بنت المسيب بن نجبة الفزاري ، من هنا حصل خلط في كلام الرواة والمؤرخين بين عون الذي أمه زينب وهو الشهيد في كربلاء ، وبين أخيه عون الذي أمه جمانة ولم يتأكد استشهاده في كربلاء (53) كما استشهد لعبدالله بن جعفر ولد آخر في كربلاء هو محمد بن عبدالله بن جعفر لكن أمه الخوصاء بنت حفصة بن ثقيف من بكر بن وائل ، وليست السيدة زينب كما توهم بعض الكتاب ، وأيضاً ذكرت بعض المصادر شهيداً آخر من ولد عبدالله بن جعفر في كربلاء وهو عبيدالله بن عبدالله بن جعفر إلا أن ذلك غير مؤكد وأمه ليست زينب أيضاً بل الخوصاء السابق ذكرها (54) .
____________
(53) ( نفس المهموم ) الشيخ عباس القمي ص 317 .
(54) ( أنصار الحسين ) شمس الدين ص 133 ـ 135 .