استشفّ الإمام الجواد (عليه السلام) من وراء الغيب أنّ الأجل المحتوم سيوافيه وأنّ عمره كعمر الزهور، وقد أعلن ذلك لشيعته في كثير من المواطن وهذه بعضها:
1 ـ روى محمد بن الفرج قال: كتب إليّ أبو جعفر (عليه السلام): احملوا إليّ الخمس، لست آخذ منكم سوى عامي هذا، ولم يلبث (عليه السلام) إلاّ قليلاً حتى قبض واختاره الله إلى جواره([1]).
2 ـ روى أبو طالب القمّي، قال: كتبت إلى أبي جعفر بن الرضا (عليه السلام) أن يأذن لي أن أندب أبا الحسن ـ يعني أباه ـ قال: فكتب أن اندبني واندب أبي([2]).
3 ـ وأخبر (عليه السلام) عن وفاته في أيام المأمون، فقد قال: (الفرج بعد المأمون بثلاثين شهراً) ولم يلبث بعد المأمون بثلاثين شهراً حتى قبض واختاره الله إلى جواره([3]).
4 ـ روى إسماعيل بن مهران أنّ المعتصم العباسي لمّا أشخص الإمام أبا جعفر (عليه السلام) إلى بغداد قال: قلت له: جعلت فداك أنت خارج فإلى مَن هذا الأمر من بعدك؟ فبكى حتى اخضلّت لحيته، ثمّ التفت إليّ فقال: عند هذه يخاف عليّ، الأمر من بعدي إلى ابني عليّ([4]).
لقد كان الإمام عالماً بأحقاد المعتصم عليه، وأنّه لا يتورّع من اغتياله والإجهاز عليه، فلذا أحاط أصحابه وشيعته علماً بمفارقته للحياة في عهد هذا الطاغية الجبّار.
تعيينه لولده الهادي (عليه السلام):
ونصّ الإمام الجواد (عليه السلام) على إمامة ولده عليّ الهادي، ونصبه علماً ومرجعاً للأمّة من بعده.
فقد روى الصقر قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام) يقول: إنّ الإمام بعدي ابني عليّ، أمره أمري، وقوله قولي، وطاعته طاعتي...([5]).
وروى الخيراني عن أبيه أنّ الإمام أبا جعفر (عليه السلام) بعث إليه رسولاً فقال له: إنّ مولاك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إنّي ماضي، والأمر صائر إلى ابني عليّ، وله عليكم بعدي ما كان لي عليكم بعد أبي([6]) وكثير من أمثال هذه الروايات نصّت على أنّ الإمام أبا جعفر (عليه السلام) أقام ولده الإمام الهادي إماماً من بعده وأوجب على شيعته طاعته.
اغتيال الإمام (عليه السلام):
ولم يمت الإمام محمد الجواد حتف أنفه، وإنّما اغتاله المعتصم العباسي([7]) فقد قدّم الطاغية على اقتراف هذه الجريمة النكراء.
وقد اختلف المؤرّخون في الشخص الذي أوعز إليه المعتصم للقيام بسمّ الإمام (عليه السلام) وفيما يلي بعض الأقوال:
1 ـ ذكر بعض الرواة أنّ المعتصم أوعز إلى بعض كتّاب وزرائه بأن يدعو الإمام إلى منزله، ويدسّ إليه السمّ، فدعاه إلاّ أنّ الإمام (عليه السلام) اعتذر من الحضور في مجلسه، وأصرّ عليه الكتّاب بالحضور لأجل التبرّك بزيارة الإمام له، وأضاف أنّ أحد الوزراء أحبّ لقاءه ولم يجد (عليه السلام) بدّاً من إجابته، فصار إليه، ولمّا تناول الطعام أحسّ بالسمّ فدعا بدابته للخروج من المنزل فسأله صاحب المنزل أن يقيم عنده فقال (عليه السلام): خروجي من دارك خير لك([8]).
2 ـ صرّحت بعض الروايات أنّ المعتصم أغرى بنت أخيه زوجة الإمام أمّ الفضل بالأموال، فدسّت إليه السمّ([9]).
وعلى أي حال فقد قطع المعتصم بسمّه للإمام أواصر القربى ولم يرع حرمة النبي في أبنائه.
دوافع اغتياله:
أمّا دافع اغتيال المعتصم للإمام فهي ـ فيما نحسب ـ تتلخّص بما يلي:
أولاً: وشاية أبي داود فقد دفعت المعتصم إلى اغتيال الإمام.
ثانياً: حسد المعتصم للإمام (عليه السلام) على ما ظفر به من الإكبار والتعظيم عند عامّة المسلمين فقد تحدّثوا مجمعين عن مواهبه وعبقرياته وهو في سنّه المبكّر، كما تحدّثوا عن معالي أخلاقه من الحلم وكظمه للغيظ، وبرّه بالفقراء وإحسانه إلى المحرومين إلى غير ذلك من صفاته التي عجّت بذكرها الأندية والمحافل، ممّا دفع المعتصم على فرض الإقامة الجبرية عليه في بغداد ثمّ القيام باغتياله.
هذه بعض الأسباب التي دفعت المعتصم إلى اقتراف هذه الجريمة النكراء.
حياة الإمام الجواد (عليه السلام)، الشيخ باقر شريف القرشي (قدس سره)
([1]) المحجّة البيضاء: ج 4 ص 308.
([2]) الكشيّ: ج 2 ص 838.
([3]) إثبات الهداة: ج 6 ص 190.
([4]) الإرشاد: ص 369.
([5]) إكمال الدين: ج 2 ص 50.
([6]) الإرشاد: ص 369.
([7]) بحر الأنساب: ص 28. سبك الذهب في سبك النسب. مرآة الجنان: ج2 ص 81، نزهة الجليس: ج 2 ص 111.
([8]) تفسير العيّاشي: ج 1 ص 320. بحار الأنوار: ج 12 ص 99. البرهان: ج 1 ص 471.
([9]) نزهة الجليس: ج 2 ص 111. المناقب: ج 4 ص 391.