سورة القدر مكية وهي خمس آيات) بسم الله الرحمن الرحيم إنا أنزلناه في ليلة القدر - 1.
وما أدراك ما ليلة القدر - 2.
ليلة القدر خير من ألف شهر - 3.
تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر - 4.
سلام هي حتى مطلع الفجر - 5.
(بيان) تذكر السورة إنزال القرآن في ليلة القدر وتعظم الليلة بتفضيلها على ألف شهر وتنزل الملائكة والروح فيها، والسورة تحتمل المكية والمدنية ولا يخلو بعض (1) ما روي في سبب نزولها عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وغيرهم من تأييد لكونها مدنية.
قوله تعالى: " إنا أنزلناه في ليلة القدر " ضمير " أنزلناه " للقرآن وظاهره جملة الكتاب العزيز لا بعض آياته ويؤيده التعبير بالانزال الظاهر في اعتبار الدفعة دون التنزيل الظاهر في التدريج.
وفي معنى الآية قوله تعالى: " والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة " الدخان: 3 وظاهره الاقسام بجملة الكتاب المبين ثم الاخبار عن إنزال ما اقسم به جملة.
فمدلول الآيات أن للقرآن نزولا جمليا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غير نزوله التدريجي الذي تم في مدة ثلاث وعشرين سنة كما يشير إليه قوله: " وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا " أسرى: 106، وقوله: " وقال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا " الفرقان: 32.
فلا يعبأ بما قيل: إن معنى قوله: " أنزلناه " ابتدأنا بإنزاله والمراد إنزال بعض القرآن.
* (هامش) *
(1) وهو ما دل على أن السورة نزلت بعد رؤيا النبي صلى الله عليه وآله أن بني امية يصعدون منبره فاغتم فسلاه الله بها.
/ صفحة 331 /
وليس في كلامه تعالى ما يبين ان الليلة أية ليلة هي غير ما في قوله تعالى: " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن " البقرة: 185 فإن الآية بانضمامها إلى آية القدر تدل على أن الليلة من ليالي شهر رمضان.
وأما تعيينها أزيد من ذلك فمستفاد من الاخبار وسيجئ بعض ما يتعلق به في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
وقد سماها الله تعالى ليلة القدر، والظاهر أن المراد بالقدر التقدير فهي ليلة التقدير يقدر الله فيها حوادث السنة من الليلة إلى مثلها من قابل من حياة وموت ورزق وسعادة وشقاء وغير ذلك كما يدل عليه قوله في سورة الدخان في صفة الليلة: " فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين رحمة من ربك " الدخان: 6 فليس فرق الامر الحكيم إلا إحكام الحادثة الواقعة بخصوصياتها بالتقدير.
ويستفاد من ذلك أن الليلة متكررة بتكرر السنين ففي شهر رمضان من كل سنة قمرية ليلة تقدر فيها امور السنة من الليلة إلى مثلها من قابل إذ لا معنى لفرض ليلة واحدة بعينها أو ليال معدودة في طول الزمان تقدر فيها الحوادث الواقعة التي قبلها والتي بعدها وإن صح فرض واحدة من ليالي القدر المتكررة ينزل فيها القرآن جملة واحدة.
على أن قوله: " يفرق " - وهو فعل مضارع - ظاهر في الاستمرار، وقوله: " خير من الف شهر " و " تنزل الملائكة " الخ يؤيد ذلك.
فلا وجه لما قيل: إنها كانت ليلة واحدة بعينها نزل فيها القرآن من غير أن يتكرر، وكذا ما قيل: إنها كانت تتكرر بتكرر السنين في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم رفعها الله، وكذا ما قيل: إنها واحدة بعينها في جميع السنة وكذا ما قيل: إنها في جميع السنة غير أنها تتبدل بتكرر السنين فسنة في شهر رمضان وسنة في شعبان وسنة في غيرهما.
وقيل: القدر بمعنى المنزلة وإنما سميت ليلة القدر للاهتمام بمنزلتها أو منزلة المتعبدين فيها، وقيل: القدر بمعنى الضيق وسميت ليلة القدر لضيق الارض فيها بنزول الملائكة.
والوجهان كما ترى.
فمحصل الآيات - كما ترى - أنها ليلة بعينها من شهر رمضان من كل سنة فيها إحكام الامور بحسب التقدير، ولا ينافي ذلك وقوع التغير فيها بحسب التحقق في ظرف السنة فإن التغير في كيفية تحقق المقدر أمر والتغير في التقدير أمر آخر كما أن إمكان التغير في
/ صفحة 332 /
الحوادث الكونية بحسب المشية الالهية لا ينافي تعينها في اللوح المحفوظ قال تعالى: " وعنده ام الكتاب " الرعد: 39.
على ان لاستحكام الامور بحسب تحققها مراتب من حيث حضور أسبابها وشرائطها تامة وناقصة ومن المحتمل أن تقع في ليلة القدر بعض مراتب الاحكام ويتأخر تمام الاحكام إلى وقت آخر لكن الروايات كما ستأتي لا تلائم هذا الوجه.
قوله تعالى: " وما أدراك ما ليلة القدر " كناية عن جلالة قدر الليلة وعظم منزلتها ويؤكد ذلك إظهار الاسم مرة بعد مرة حيث قيل: " ما ليلة القدر ليلة القدر خير " ولم يقل: وما أدراك ما هي هي خير.
قوله تعالى: " ليلة القدر خير من الف شهر " بيان إجمالي لما اشير إليه بقوله: " وما أدراك ما ليلة القدر " من فخامة أمر الليلة.
والمراد بكونها خيرا من الف شهر خيريتها منها من حيث فضيلة العبادة على ما فسره المفسرون وهو المناسب لغرض القرآن وعنايته بتقريب الناس إلى الله فإحياؤها بالعبادة خير من عبادة الف شهر، ويمكن أن يستفاد ذلك من المباركة المذكورة في سورة الدخان في قوله: " إنا أنزلناه في ليلة مباركة " وهناك معنى آخر سيأتي في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
قوله تعالى: " تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر " تنزل أصله تتنزل، والظاهر من الروح هو الروح الذي من الامر قال تعالى: " قل الروح من أمر ربي " أسرى: 85 والاذن في الشئ الرخصة فيه وهو إعلام عدم المانع منه.
و " من " في قوله: " من كل أمر " قيل: بمعنى الباء وقيل: لابتداء الغاية وتفيد السببية أي بسبب كل أمر إلهي، وقيل: للتعليل بالغاية أي لاجل تدبير كل امر من الامور والحق ان المراد بالامر إن كان هو الامر الالهي المفسر بقوله " إنما امره إذا أراد شيئا أن يقول له كن " يس: 82 فمن للابتلاء وتفيد السببية والمعنى تتنزل الملائكة والروح في ليلة القدر بإذن ربهم مبتدء تنزلهم وصادرا من كل أمر إلهي.
وإن كان هو الامر من الامور الكونية والحوادث الواقعة فمن بمعنى اللام التعليلية والمعنى تتنزل الملائكة والروح في الليلة بإذن ربهم لاجل تدبير كل امر من الامور الكونية.
قوله تعالى: " سلام هي حتى مطلع الفجر " قال في المفردات: السلام والسلامة التعري
/ صفحة 333 /
من الآفات الظاهرة والباطنة انتهى فيكون قوله: " سلام هي " إشارة إلى العناية الالهية بشمول الرحمة لعباده المقبلين إليه وسد باب نقمة جديدة تختص بالليلة ويلزمه بالطبع وهن كيد الشياطين كما اشير إليه في بعض الروايات.
وقيل: المراد به ان الملائكة يسلمون على من مروا به من المؤمنين المتعبدين ومرجعه إلى ما تقدم.
والآيتان أعني قوله: " تنزل الملائكة " إلى آخر السورة في معنى التفسير لقوله: " ليلة القدر خير من الف شهر ".
(بحث روائي) في تفسير البرهان عن الشيخ الطوسى عن ابي ذر قال: قلت يا رسول الله القدر القدر شئ يكون على عهد الانبياء ينزل عليهم فيها الامر فإذا مضوا رفعت؟ قال: لا بل هي إلى يوم القيامة.
أقول: وفي معناه غير واحد من الروايات من طرق أهل السنة.
وفي المجمع وعن حماد بن عثمان عن حسان بن أبي علي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ليلة القدر قال: اطلبها في تسع عشرة وإحدى وعشرين وثلاث وعشرين.
أقول: وفي معناه غيرها، وفي بعض الاخبار الترديد بين ليلتين الاحدى والعشرين والثلاث والعشرين كرواية العياشي عن عبد الواحد عن الباقر (عليه السلام) ويستفاد من روايات أنها ليلة ثلاث وعشرين وإنما لم يعين تعظيما لامرها ان لا يستهان بها بارتكاب المعاصي.
وفيه أيضا في رواية عبد الله بن بكير عن زرارة عن أحدهما (عليهما السلام) قال: ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة الجهني، وحديثه أنه قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن منزلي نائ عن المدينة فمرني بليلة أدخل فيها فأمره بليلة ثلاث وعشرين.
اقول: وحيث الجهني واسمه عبد الله بن أنيس الانصاري مروي من طرق أهل السنة أيضا اورده في الدر المنثور عن مالك والبيهقي.
وفي الكافي بإسناده عن زرارة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): التقدير في تسع عشرة، والابرام في ليلة إحدى وعشرين، والامضاء في ليلة ثلاث وعشرين.
أقول: وفي معناها روايات اخر.
/ صفحة 334 /
فقد اتفقت أخبار اهل البيت (عليهم السلام) انها باقية متكررة كل سنة، وانها ليلة من ليالي شهر رمضان وانها إحدى الليالي الثلاث.
وأما من طرق اهل السنة فقد اختلفت الروايات اختلافا عجيبا يكاد لا يضبط والمعروف عندهم انها ليلة سبع وعشرون فيها نزلت القرآن، ومن اراد الحصول عليها فليراجع الدر المنثور وسائر الجوامع.
وفي الدر المنثور اخرج الخطيب عن ابن المسيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اريت بني امية يصعدون منبري فشق ذلك علي فأنزل الله إنا انزلناه في ليلة القدر.
أقول: وروى أيضا مثله عن الخطيب في تاريخه عن ابن عباس، وأيضا ما في معناه عن الترمذي وابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن الحسن بن علي وهناك روايات كثيرة في هذا المعنى من طرق الشيعة عن أئمه أهل البيت (عليهم السلام) وفيها أن الله تعالى سلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بإعطاء ليلة القدر وجعلها خيرا من الف شهر وهي مدة ملك بني امية.
وفي الكافي بإسناده عن ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال له بعض أصحابنا ولا أعلمه إلا سعيد السمان: كيف تكون ليلة القدر خيرا من الف شهر؟ قال: العمل فيها خير من العمل في الف شهر ليس فيها ليلة القدر.
وفيه بإسناده عن الفضيل وزرارة ومحمد بن مسلم عن حمران أنه سأل أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: " إنا أنزلناه في ليلة مباركة " قال: نعم ليلة القدر وهي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الاواخر فلم ينزل القرآن إلا في ليلة القدر قال الله عزوجل: " فيها يفرق كل أمر حكيم ".
قال: يقدر في ليلة القدر كل شئ يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل: خير وشر طاعة ومعصية ومولود وأجل أو رزق فما قدر في تلك الليلة وقضي فهو المحتوم ولله عزوجل فيه المشية.
قال: قلت: " ليلة القدر خير من الف شهر " أي شئ عنى بذلك؟ فقال: والعمل الصالح فيها من الصلاة والزكاة وأنواع الخير خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، ولولا ما يضاعف الله تبارك وتعالى للمؤمنين ما بلغوا ولكن الله يضاعف لهم الحسنات.
أقول: وقوله: ولله فيه المشية يريد به إطلاق قدرته تعالى فله أن يشاء ما يشاء
/ صفحة 335 /
وإن حتم فإن إيجابه الامر لا يفيد القدرة المطلقة فله أن ينقض القضاء المحتوم وإن كان لا يشاء ذلك أبدا.
وفي المجمع روى ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: إذا كان ليلة القدر تنزل الملائكة الذين هم سكان سدرة المنتهى ومنهم جبرائيل فينزل جبرائيل ومعه ألوية ينصب لواء منها على قبري ولواء على بيت المقدس ولواء في المسجد الحرام ولواء على طور سيناء ولا يدع فيها مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلم عليه إلا مدمن خمر وآكل لحم الخنزير (1) والمتضمخ بالزعفران.
وفي تفسير البرهان عن سعد بن عبد الله بإسناده عن أبي بصير قال: كنت مع أبي عبد الله (عليه السلام) فذكر شيئا من أمر الامام إذا ولد فقال: استوجب زيادة الروح في ليلة القدر فقلت: جعلت فداك أليس الروح هو جبرئيل؟ فقال: جبرئيل من الملائكة والروح أعظم من الملائكة أليس إن الله عزوجل يقول: " تنزل الملائكة والروح ".
اقول: والروايات في ليلة القدر وفضلها كثيرة جدا، وقد ذكرت في بعضها لها علامات ليست بدائمة ولا أكثرية كطلوع الشمس صبيحتها ولا شعاع لها واعتدال الهواء فيها أغمضنا عنها.