دروس السيد محمد باقر السيستاني حول منهج التثبت في شأن الدين ( الحلقة 4)
بتاريخ : 09-08-2016 الساعة : 04:44 PM
دروس السيد محمد باقر السيستاني حول منهج التثبت في شأن الدين ( الحلقة 4)
(منھج التثبت في شأن الدین)
الحلقة الرابعة: عنایة الخالق بالإنسان
الجانب التكویني للرؤیة الدینیة: وھو الجانب المتضمن
لبیان الحقائق الكبرى في الكون، ویدور حول موضوعین: الخالق
والإنسان.. وقد مر تفصیل الموضوع الأول في الحلقة السابقة..
الموضوع الثاني الإنسان :
ویتضمّن أمرین: (أحدھما): عنایة الخالق الخاصة بالإنسان،
. و(الآخر): حقیقة الإنسان وأبعاده الوجودیة 1
الأمر الأول - عنایة الخالق الخاصة بالإنسان -:
إن الرؤیة الدینیة ترى أن ھناك اعتناءً خاص اً لخالق الكون
بالإنسان؛ لأنھ الذات العاقلة المختارة - بین سائر الكائنات المادیة -
التي تدرك ھذه الحیاة المادیة وسننھا؛ وبإمكانھ اكتشاف مكنوناتھا
وأسرارھا وقوانینھا، واستثمارھا والاستمتاع بھا. ومن ثمّ أمكن
مخاطبتھ وتعلیمھ من قبلھ تعالى. كما أن بإمكانھ الاطلاع على
وجود الخالق؛ من خلال ما یجده من آثار صنعھ وإبداعھ، كما إنھ
یتم تّع بالضمیر الذي یمكن معھ أن یقدّر الإنعام علیھ بالشكر والثناء
والأدب.
وتتمثّل ھذه العنایة الإلھیة - وفق الرؤیة الدینیة - في أمور:
(الأمر الأول): كون الإنسان خلیفة لله على ھذه الأرض،
وكأن ذلك بالنظر إلى ما مُ نح من: الاختیار في التصرف، وقابلیة
الاطلاع على سنن الكون وأنواع الكائنات فیھ..
فھو بذلك سید الكائنات وأرقاھا على وجھ البسیطة، وھو المقصود
بتفھیم قدرة لله سبحانھ وإبداعھ في خلق تلك الكائنات وسننھا. وقد
شعر بھذه الحقیقة جمع من علماء الطبیعة.
(الأمر الثاني): تمھید العالم لاحتضان الإنسان وتسخیره
لھ؛ وذلك بأن خُلِقَ بعد خلق الأرض والفضاء، وبعد خلق النباتات
والحیوانات والمعادن؛ وسائر ما في ھذه الحیاة ممّا أوجده لله تعالى
لتكون بیئة تحتضن الإنسان، كما یعتني الأبوین في إیجاد بعض
المقدمات تھیئة لولادة الطفل.. ولقد ورد التنبیھ على ذلك في كتاب
لله، فقال غز من قائل: [أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ للهََّ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
1 وسیأتي توضیح الأمر الثاني حقیقة الإنسان وأبعاده الوجودیة في الحلقة الخامسة إن شاء لله
تعالى.
2
وَمَا فِي الْأَرْضِ ] 1، وقال: [ھُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ
. جَمِیعًا] 2
كما سخر سبحانھ سائر الكائنات الموجودة حول الإنسان لھ؛ من
الشمس والقمر والنجوم والنباتات والحیوانات.. فكان ھو المنظور
بإیجادھا وخلقھا؛ لأن كثیراً من تلك النعم لا یستفید منھا ولا یعیھا
غیر الإنسان، كأنواع المعادن والمُرَكَبات التي یستثمرھا في صنع
الأدوات، والثمار التي ینتفع بھا ھو خاصة.
وحتى الكائنات التي ینتفع منھا غیر الإنسان من الحیوانات
والنباتات، فإن ھیمنة الإنسان - الذي ھو أرقى الكائنات خلقاً –
وسیطرتھ علیھا جمیع اً واستثماره إیاھا بالنحو الأمثل یوحي بأنھ
ھو المنظور منھا.
(الأمر الثالث): اقتران خلق الإنسان في ابتدائھ بمخاطبتھ
وتعلیمھ وإكرامھ، كما جاء ذلك في قصة خلق آدم (ع).
(الأمر الرابع): إسعاف لله تعالى للإنسان وإغاثتھ لھ؛ فإذا
سألھ أعطاه وإذا دعاه أجابھ و إذا استعان بھ أعانھ..
فإن لله تعالى بعد أن كان واضع سنن الحیاة ومبدعھا -
یملك التصرف في الأشیاء ولھ خزائن الإجابة في السماوات
والأرض وجنودھما، وھذه الاستجابة والإعانة على نحوین:
(أحدھما): أن تكون على وجھ معلن؛ بخرق سنن الحیاة من خلال
المعجزات الواضحة والخوارق الب یّنة، نظیر ما صدر منھ تعالى
في مقام بیان حقانیة رسلھ أو في ما اتفق من إكرام بعض أولیاءه.
و(الآخر): أن تكون من خلال التحكم في الأشیاء من بواطنھا، عبر
توجیھ دف ة الأمور الذھنیة والنفسیة إلى مسار معیّن بنحو غیر
مشھود للإنسان - ؛ حتى یحقق مطلوبھ، وقد یكون من ذلك ما ورد
في الآیة الشریفة 3 من الوحي إلى أمّ موسى عندما كانت متحیرة في
ما تصنعھ بولیدھا الذي یمكن أن یقتلھ فرعون، فألھمھا لله تعالى
وأوقع في قلبھا ما یوجب انقاذه.
ومن ثمّ فإن الالتجاء إلى كائن أعلى قادر على إسعاف
الإنسان في مواطن الضعف وعوارض الحاجة، مما غرس في
فطرتھ، كما یؤكده تاریخ حیاتھ.
وإذا كان الخالق من غرس ھذا التوجھ الفطري في نفس الإنسان
فإنھ جعل بإزائھ استجابة لھ، كما جعل في الرضیع روح الالتجاء
إلى الأم وجعل في الأم روح الاستجابة لھ والعطف علیھ.
. 1 لقمان/ 20
. 2 القرة/ 29
. 3 القصص/ 7
3
ویُنبّھ على ھذا المظھر جملة من الآیات الشریفة، قال تعالى: [أَمَّنْ
یُجِیبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَیَكْشِفُ السُّوءَ ] 1، وقال: [اسْتَغْفِرُوا رَ بَّكُمْ
إِنَّھُ كَانَ غَفَّارًا یُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَیْكُمْ مِدْرَارًا وَیُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِینَ
وَیَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَیَجْعَلْ لَكُمْ أَنْھَارًا] 2، وقال: [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي
عَنِّي فَإِنِّي قَرِیبٌ أُجِیبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْیَسْتَجِیبُوا لِي
وَلْیُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّھُمْ یَرْشُدُونَ ] 3، وقال: [فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا
للهََّ مُخْلِصِینَ لَھُ الدِّینَ فَلَمَّا نَجَّاھُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا ھُمْ یُشْرِكُونَ ] 4، وقال:
[وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِیَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِ لَى
. الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا] 5
[الإسعاف الإلھي محدود بحدود نظام الابتلاء]:
إلا أن ھذه الإستجابة الإلھیة لا تكون - كماً وكیفاً - بنحو تختل
بسببھا سنن الكون ومقادیر الحیاة؛ فتتغیّر عمّ ا بنیت علیھ من موت
الإنسان، وزوال الأشیاء، ووقوع العلل والأمراض.. فھو یسیتجیب
لعباده عموماً من حیث لا یحتسبون بما لا ینقض نظم الحیاة، إلا في
حالات تقتضي تدخلاً معلناً بالخوارق والمعجزات.
وھذه سنة راسخة عامة، حتى بالنسبة للأنبیاء والصالحین؛ إذ لم
تكن الاستجابة لھم استجابة مطلقة، ولا كانت الإعانة إعانة غیر
محدودة.
(الأمر الخامس): إن علاقة الخالق بالإنسان علاقة محبة
ووداد؛ فھو یحب معرفتھم لھ وتواصلھم معھ وتقدیرھم لنعمھ، وقد
ورد في آیات كثیرة أن من صفاتھ سبحانھ تجاه الناس عامة ولیس
خصوص المؤمنین -: الرحمة والرأفة والود واللطف والحلم
والمحبة.
وقد خُ لق الإنسان بنحو یكون صالح اً لمعرفة لله ومخاطبتھ
وتعلیمھ؛ فزُ وِّد بالعقل الذي ھو أداة الإدراك والتفكیر والتعلّم
والتعلیم والمخاطبة والبیان وغرس فیھ حب الاطلاع والاستطلاع
لما خفي عنھ من شؤون الكون والكائنات.
كما أنھ غرس فیھ الضمیر الذي ھو أساس الأخلاق لكونھ
فضلاً عن تنظیمھ العلاقة بین الناس أنفسھم ممھّداً لشعورھم
بالشكر تجاھھ ورعایة الأدب معھ.
. 1 النمل/ 62
10- 2 نوح/ 12
. 3 البقرة/ 186
. 4 العنكبوت/ 65
. 5 الإسراء/ 67
4
ثم أنھ من وراء ذلك سخّر لھم إمكانات الكون ووعد
بإسعافھم إذا التجأوا إلیھ، وأرسل لھم رسلاً یشرحون لھم حقائق
الحیاة وآفاقھا.
فھو سبحانھ یحب أن یعلم الإنسان بھ وبأنعامھ، وبأن یعیش
تجاھھ روح الشكر والامتنان ویكون معھ وفق لیاقات التواصل
فقال تعالى: [وَإِنْ ž والأدب. ومن ثَمَّ جاء اعتبار الإیمان شكراً
تَشْكُرُوا یَرْضَھُ لَكُمْ ] 1 وقال:[ إِنَّا ھَدَیْنَاهُ السَّبِیلَ إِمَّ ا شَاكِرًا وَإِمَّا
كَفُورًا] 2، وقال:[ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِیَعْبُدُونِ ] 3 وفي كثیر
من الآیات بعد ذكر الكائنات التي سخرھا للإنسان قال: [ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ ] وقد عتب سبحانھ على الإنسان في عدم شكره تعالى كما
ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَ ٱلاْرْضَ ž ھو حقھ فقال بعد ذكر نعمھ:[ ٱ َّ
وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِھِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ
ٱلْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِى ٱلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلأَنْھَٰرَ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلشَّمْسَ
وَ ٱلْقَمَرَ دَائِبَینِ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّیْلَ وَ ٱل نَّھَارَ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ للهَِّ لَا
. تُحْصُوھَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ] 4
(الأمر السادس) 5: إن خالق العالم سبحانھ رب لكلّ كائناتھ،
وربوبیتھ لكل شيء وفق ما یناسبھ.. وحیث إن الإنسان زوّد بالعقل
والضمیر لم تكن تربیتھ على حد تربیة النبات والحیوانات، بل ھي
المثل الأعلى - بتربیة الأبوین ž تربیة خاصة، یمكن تمثیلھا – و
للأولاد، لا كتربیة الحیوانات لأبنائھا. 6
[العنایة الإلیة تأمین للإنسان]:
تعالى بخلقھ - فضلا عن ž ومن شؤون ھذه العلقة الخاصة
إسعافھ إیاه وعنایتھ بھ - شعور الإنسان بالطمأنینة والسكینة النفسیة
التي ھي إحدى الحاجات الأساسیة للإنسان..
فھو كالتأمین الذي تقدمھ الدول والشركات؛ لإسعاف المرء في
مواطن حاجتھ، یشعر في ظلھا الإنسان بالطمأنینة، ویعطي في
مقابل ذلك مبلغا من المال، 7 أو كلأبوین اللذین یشكل وجودھما
. 1 الزمر/ 7
. 2 الإنسان/ 3
. 3 الذاریات/ 56
.32- 4 إبراھیم/ 34
5 وھو یتفرع على النقطة السابقة.
6 ولذا حكي عن بعض الكتب السماویة التعبیر عن لله تعالى ب(أبینا الذي في السموات)، ومنشأ ھذا
التعبیر الرعایة الإلھیة بالنسبة إلى الخلق.
7 كما أن العشیرة والعاقلة في المجتمعات القبلیة نحو تأمین للفرد، ففي حال تعدى أحد علیھ فھم
ظ ھْ ره وأعوانھ، وفي حال حاجتھ إلى المال ھم یعینونھ ویسعفوه، كما في موارد قتل الخطأ أو ما إلى
ذلك، فوجود العشیرة تأمین لأفرادھا.
ومن ھنا نلاحظ أن الذین یخلعون عن عشائرھم یتوجھون إلى عشیرة أخرى ویتعاقدون معھا بالعقد
المعروف في الفقھ في كتاب المیراث بضمان الجریرة.
5
طمأنینة نفسیة للأولاد؛ ولذا قد لا یبلّغ الطفل بوفاة أبیھ إذا كان قد
علم بوجوده وعقِل ذلك، حتى یبقى على ھذا الشعور بالطمأنینة
رغم أن الأب میت واقعاً -، فیقال لھ: أنھ مسافر؛ حتى لا یعیش
فراغ اً وعوز اً نفسی اً.
(الأمر السابع): ورغم أن الأصل في تعامل لله سبحانھ مع
الإنسان المحبة والمودة، إلا أنھ تعالى حیث مَ نحھ الاختیار فیما
یختاره ویسیر إلیھ؛ فقد اقتضت حكمتھ أن یجعل حیاة الإنسان
مضماراً یتسابق فیھ الناس لیتولى كل امرئ ما تولاه، فتتفاوت
درجاتھم حسب مساعیھم ومراتبھم فلا یتساوى الكامل والناقص
ولا النبیل والفاجر..
١. فإذا اعتنى الإنسان بما أراده لله تعالى؛ فعرفھ وشكره وقدره
وأذعن برسالتھ إلیھ، ازدادت عنایة لله تعالى بھ، وزادت نعمھ
علیھ، وتولاه ولایة خاصة، قال عزّ من قائل: [ولئن شكرتم
. لأزیدنكم] 1
تعالى؛ فأوكلھ إلى ž ٢. وإذا ترك ذلك جحود اً وكفران اً اعتبر عاقاً
نفسھ، وسلبھ بركات نعمھ.
٣. وإن جھل ذلك كان جھلھ ولو عن عذرٍ نقصاً لا یصل معھ
إلى درجة العالم بھ الشاكر لھ، ولا ینزل بھ إلى الدرجة الجاحد لھ
المتنكر لنعمھ؛ فالجاھل لا یكون كالجاحد ولا كالعالم.
(الأمر الثامن): أن لله تعالى بعث إلى الإنسان رسالة من
خلال أفراد اصطفاھم من خلقھ؛ ینبھم فیھا على كل ما تقدم من
الحقائق التكوینیة؛ لیكونوا على بینة اتجاه نظام الوجود والحیاة
واتجاه نفسھ.. كما أنھ یسعفھ في الجانب التشریعي بدعوتھ إلى
مقتضیات الفطرة - من رعایة الحقوق وتحرّي الفضائل - والفاتھ
إلى أنھ یعیش في مضمار للسبق تتبلوّر أعمالھ كلھا حسب محتواھا
من خیر أو شر في نشأة أخرى، قال تعالى:[ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ
. وَالْحَیَاةَ لِیَبْلُوَكُمْ أَیُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ] 2
(الأمر التاسع): تعھد إلھي بولایة خاصة للمؤمنین من
تعالى - بأن تولاه واعتمد علیھ وأحسن الظن ž خلقھ؛ فمن آمن با
بھ وفوّض أموره إلیھ -؛ یتولاه لله تعالى - بمقدار قبولھ بولایة لله
وتقدیره لما بلغھ عنھ -، على أنھ سبحانھ لن یُكرھھ على مقدار
تقبلھ؛ بعد أن كانت الحیاة مبنیة على كون الإنسان مختاراً فیھا، قال
.. تعالى: [أَنُلْزِمُكُمُوھَا وَأَنْتُمْ لَھَا كَارِھُونَ ] 3
. 1 إبراھیم/ 7
. 2 الملك/ 2
. 3 ھود/ 28
6
المثل ž ومثل الإنسان بالنسبة إلى لله تعالى في ذلك - و
الأعلى - مثل الابن بالنسبة إلى الأب الحكیم العاقل؛ فبمقدار ما
یستجیب الابن ویرضخ لولایة أبیھ یوجھھ الأب - من حیث یحتسب
أو لا یحتسب - إلى مقتضیات الحكمة والسعادة، وبمقدار ما یكره
ویشاكس ولا یرغب في تدخل الأب في أموره یتركھ الأب إلى
حالھ.
وقد اُشیر لذلك في غیر آیة من كتاب لله، قال تعالى: [نحن
أولیائكم في الحیاة الدنیا وفي الآخرة]، وقال:[ للهَُّ وَلِيُّ الَّذِینَ آَمَنُوا
، یُخْرِجُھُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ] 1 وقال:[ وَللهَُّ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِینَ ] 2
وقال: [وَللهَُّ وَلِيُّ الْمُتَّقِینَ ] 3، وھو إشارة إلى تأكد الولایة بتأكد
ولم یكفر بھ ولم ž الإیمان وبلوغھ إلى درجة التقوى، فمن آمن با
یجحد رسلھ فھو ولیھ بمقدار ما یلتجأ إلیھ ویتعرف علیھ ویقدّر ما
بلغھ عنھ.
(الأمر العاشر): أن الناتج من السنن الإلھیة في خلق الكون
سبحانھ: ž والإنسان وجود نظامین
(أحدھما): نظام تكویني عام جارٍ على جمیع الكائنات بما
فیھا الإنسان؛ حیث صنعھا على نظام معین وسنّ لھا سنن اً تجري
علیھا، وھي متناسقة مطردة، حسب ما تملیھ صفة حكمتھ سبحانھ
في التكوین. ویعبّر عن الإرادة الإلھیة الموجبة لھذا النظام
ب(الإرادة التكوینیة).
(وثانیھما): نظام تشریعي لتنظیم فعل الكائنات العاقلة
المختارة لتوجیھھا إلى المسار الصحیح النافع لھا ولنوعھا. ویعبّر
عن الإرادة الإلھیة الموجبة لھذا النظام ب(الإرادة التشریعیة).
ومن الطبیعي أن لا تتدخل الإرادة الإلھیة التكوینیة في قھر
الذات العاقلة المختارة على المسار التشریعي، وإلا لم یكن لتلك
الذات اختیار في القرار، ولما كان النظام تشریعی اً؛ بل كان جزءً
من النظام التكویني.. وكان من نتائج ذلك أن تكون السنن التكوینیة
مسخرة بإذنھ تعالى للإنسان فیما یمارس اختیاره فیھ، ومن ثَمَّ یمكن
أن یستعین الإنسان في ظلمھ لأبناء نوعھ بالأدوات والآلات الفاعلة
بحسب السنن الكونیة متى أراد الإنسان أن یستغلھا في الظلم
والتعدي.. فتؤثر أثرھا إلا فیما التجأ المظلوم إلى لله لإسعافھ - وفق
قوانین التدخل الإلھي الخاص، على ما سبق بیانھ -، ولا یتصف
إذنھ سبحانھ في عمل تلك القوانین بالظلم للعباد.
. 1 البقرة/ 257
. 2 آل عمران/ 68
. 3 الجاثیة/ 19
7
وبذلك یت ضح:
١. إن من الخطأ أن ینسب الإنسان ما یستتبع إختیاره إلى لله تعالى
فیجعلھ قدراً محتوماً بما یقتضي نفي المسؤولیة عنھ؛ فإن ذلك
افتراء في أمور التكوین على لله سبحانھ، لا یقل خطیئة وخطراً
عن الإفتراء علیھ في التشریع.
٢. ومن الخطأ أیضاً أن ینسب الإنسان إلیھ سبحانھ ما یترتب في
المجتمع من المضاعفات السلبیة والظواھر الخاطئة ویجعلھ قدراً
محتوماً، بما یجر إلى تخدیر المجتمع عن إصلاح حالھ ویؤدي إلى
تفاقمھ.. قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَھْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَیْھِمْ
بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاھُمْ بِمَا كَانُوا
یَكْسِبُونَ
٣. إن من الخطأ أیض اً أن یستدل الإنسان على صواب فعلھ بإذنھ
تعالى فیھ، قال تعالى:[ وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاھُمْ مَا لَھُمْ
. بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ ھُمْ إِلَّا یَخْرُصُونَ ] 1
٤. إن إذن لله سبحانھ للإنسان في أن یعمل باختیاره ما یكون سیئاً
وخطیئة لا ینافي كرھھ سبحانھ لھذا العمل كراھة تشریعیة؛ لما فیھ
من المفسدة للإنسان؛ بعد أن اقتضت الحكمة الإلھیة سن تلك السنن
الكونیة وحفظھا في بیئة الإنسان.
المثل الأعلى -: ما یعمد إلیھ الأب من ž ویماثل ذلك في حیاتنا - و
تنظیم أمور البیت على منوال معین من حیث ما یوفره من آلات
والأدوات والإمكانات، ولكنھ قد ینھى الابن عن استعمال آلة في
وقت أو مجال ما لمصلحة، ولا یحول دون ھذا الاستعمال وإن كان
قادراً علیھ؛ لأنھ یرید أن یمتنع الابن بإرادتھ ویتحمل مسؤولیة
عملھ بنفسھ، ولا یرى مصلحة في التدخل بالحیلولة بینھ وبین ما
یرید عملاً.
(الحادي عشر) 2: إن وجوه المعاناة التي تصیب الإنسان
في ھذه الحیاة قھراً علیھ من غیر اختیار لھ في وجودھا أو دفعھا،
كظلم الآخرین لھ ومرضھ وفقره فیما لا مدفع عنھ.. ذات أبعاد
ثلاثة منظورة وفق النصوص الدینیة:
(إحداھا): أنھا مقتضى السنن الكونیة العامة التي بني علیھا
الكون والحیاة، وقد اقتضى نظم الحیاة الحفاظ علیھا وعلى اطرادھا
وھذا ما یعبر عنھ في النصوص الشرعیة بأنھا المقادیر التي لا
معدل عنھا.
(ثانیتھا): أنھا جزء من الورقة الامتحانیة لصاحبھا فإن
احتسب الأجر فیھا ولم یخرج بھا عن حدود الفضیلة حصل من
. 1 الزخرف/ 20
2 وھو یتصل بما تقدم.
8
الامتیاز ما لا یحصل علیھ فاقدھا، وقد جاء في عدة آیات من
القرآن الكریم اعتبار الضراء والبأساء امتحان اً للناس.
(ثالثتھا): أن كل معاناة أصابت الإنسان من دون اختیاره -
حسب دلالة النصوص الشرعیة - محسوب لھ عند لله سبحانھ في
سجل أعمالھ، فیثاب فیھ أو یخفف عنھ بعض ما یستوجبھ من
العناء، فإن في كل نقص وحرمان في ھذه الحیاة تعویضأ وتداركاً
على نحو یختاره سبحانھ، كما إن على كل نعمة ضریبة، وقد قال
تعالى:[ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ یَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِیمِ ] 1، وفي كلام لأمیر المؤمنین
. (ع): (فِي حَلَالِھَا حِسَابٌ وفِي حَرَامِھَا عِقَابٌ ) 2
على أنھ ینبغي الالتفات إلى أن لله سبحانھ وإن كان لا یفعل
قبیحاً ولا یظلم أحداً، ولكن لیاقات الحسن والقبح في شأنھ
باعتباره مكوّناً للحیاة تختلف عنھا في شأن الإنسان باعتباره
مخلوقاً فطر على نظام خاص ؛ فإذا استطاع الإنسان أن یرفع
المظلمة عن بعض بني نوعھ ولم یفعل فإنھ آثم قلبھ، ولكن لا یصح
ھذا المعنى في شأن لله سبحانھ الذي سن الكون على سنن محددة
ونظم محدد؛ فلا یجب علیھ أن یدفع المظالم عن العباد، فإنھا خلاف
تلك السنن العامة وغایاتھا.
كما ینبغي الالتفات أیض اً إلى أنھ لا ینبغي للإنسان أن ینھج
المنھج الاقتراحي على لله سبحانھ؛ فإن ھذا مما لا یھدي إلى
الحقیقة، بل حیث وجد الدلائل المحكمة على حقانیة عملھ وحكمتھ
وعدلھ وإحسانھ فإنھ ینبغي أن یتخذ ذلك أصلاً ویحمل سائر
الموارد المتشابھة علیھا ویرد علمھا إلى خالقھا، كما ھو منھج
العقلاء في سائر الموارد؛ فمن وجد - مثلاً - علائم كافیة لخبرة
الطبیب أو حكمة الأب كان من العقل أن لا یكثر من التمني
والاقتراح علیھ فیما یجد فیھ غموضاً.
وقد نبھ على ذلك في الآیات الشریف عند رفض اقتراحات
الناس على الأنبیاء، قال تعالى: (وَإِذْ قُلْ تُمْ یَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ
جَھْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّعِقَة وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ) 3، وقال: (وَإِذَا ž نَرَى ٱ َّ
ž ٱ َّ ž جَاءَتْھُمْ ءَایَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ ٱ َّ
أَعْلَمُ حَیْثُ یَجْعَلُ رِسَالَتَھ ) 4، وقال: (وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ
لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ یَنْبُوعًا.. قُلْ سُبْحَٰ انَ رَبّى ھَل كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً) 5
. 1 التكاثر/ 8
. 2 نھج البلاغة/ ص 106
3 البقرة/ 55
4 الأنعام/ 124
90- 5 الإسراء/ 93