إنّ التفضيل يكون علي أساس الصفات الحميدة والأفعال الحسنة مثل: الإيمان، العمل الصالح، العلم، العدالة، الشجاعة، القضاء، الزهد، الفصاحة، السياسة والتدبير، الكرم والسخاء، السماحة والحلم وغيرها.
وقد تجمّعت تلك الصفات بأرفع معانيها عند الإمام عليّ (عليه السلام) وكان حظّه الأوفر منها.
قال المسعودي: والأشياء التي استحقّ بها أصحاب رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) الفضل هي: السبق الي الإيمان، والهجرة، والنصرة لرسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله)، والقربي منه، والقناعة، وبذل النفس له، والعلم بالكتاب والتنزيل ، والجهاد في سبيل اللّه، والورع، والزهد، والقضاء، والحكم، والفقه والعلم، وكلّ ذلك لعليّ (عليه السلام) منه النصيب الأوفر والحظّ الأكبر1.
وسوف نشرع ـ إن شاء اللّه ـ ببيان أهم اُسس المفاضلة من الآيات القرآنية، والأخبار النبوية، وأقوال الصحابة وأهل بيته (عليهم السلام) :
بيان أعلميته
إنّ العلم من أبرز الفضائل التي تعطي السيادة لصاحبها لما يتفرّع عن العلم من ثمرات جمّة علي أنّ الفضائل بأجمعها تتوقّف علي العلم، فلا قضاء بلا علم، ولا سياسة بلا علم، ولا زهد إلاّ به، فلابدّ لطالب كلّ فضيلة أن يطلب العلم به وبحقيقته. ومن الثابت أنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) كان أعلم الصحابة ويرجعون إليه فيما أُعضل عليهم، وينتهي علمهم إليه؛ ومن ذلك ما روي عن مسروق قال: شاممت أصحاب محمّد (صلّي اللّه عليه و آله) فوجدت علمهم انتهي . . . الي عليّ وعبداللّه2 ومن المعلوم رجوع عبداللّه بن عبّاس وغيره الي عليّ (عليه السلام).
لقد بلغ الكمال العلمي عند عليّ (عليه السلام) اليدرجة قال فيه الرسول (صلّي اللّه عليه و آله) : «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها»3 . أخرجه الطبراني عن ابن عبّاس، وأخرجه الحاكم في مناقب عليّ، ص126 و127 من الجزء الثالث من المستدرك بسندين صحيحين، أحدهم عن ابن عبّاس من طريقين صحيحين، والثاني عن جابر بن عبداللّه الأنصاري، وأقام الحاكم علي صحة طرقه أدلة قاطعة. وأفرد الإمام أحمد بن محمّد بن الصدّيق المغربي المتوفي (1380 ه ) لتصحيح هذا الحديث كتاباً حافلاً سمّاه: «فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم عليّ»4 وهذا دائر علي ألسنة الناس كالمثل السائر، وقد نظرنا في طعن النواصب فيه فوجدناه تحكماً محضاً لم يدلوا فيه بحجّة ما غير الوقاحة في التعصّب كما صرح به الحافظ صلاح الدين العلائي حيث نقل القول ببطلانه عن الذهبي وغيره فقال: ولم يأتوا في ذلك بعلّة قادحة سوي دعوي الوضع دفعاً بالصدر5.
لقد أخذ الإمام عليّ (عليه السلام) علمه من رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) ويؤكد ذلك قوله (عليه السلام) :«علّمني رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) ألف باب من العلم يفتح لي من كلّ باب ألف باب»6 .
وكان الإمام عليّ (عليه السلام) قد أُوتي سؤله، وزاده الرسول بسطة في العلم، فتارة يبادر الي الرسول الأكرم في طلب العلم، وتارة يبتدأه الرسول الأعظم في افراغ العلم عليه: «كنت إذا سألت النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) أعطاني، وإذا سكت ابتدأني...»7 وكان الإمام (عليه السلام) يتوقّد ذكاءً «إنّ اللّه وهب لي لساناً سؤولاً، وقلباً عقولاً...»8 ثم تراه يموج بالمعارف ففي حديث طويل تحدّث الإمام عليّ (عليهالسلام) عن ما تلقاه قائلاً: «ما نزلت علي رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) آية إلاّ أقرأنيها وأملاها عليّ فكتبتها بخطّي، وعلّمني تأويلها وتفسيرها، وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وخاصّها وعامّها ودعا اللّه لي أن يعطيني فهمها وحفظها فما نسيت آية من كتاب اللّه تعالي، وعلماً أملاه عليّ وكتبته منذ دعا اللّه لي بما دعا، وما ترك رسول اللّه علماً علّمه اللّه من حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي كان أو يكون إلاّ علّمنيه وحفظته، ولم أنس حرفاً واحداً منه...»9.
وعن أبي الطفيل قال: شهدت عليّاً يقول: «وسلوني، واللّه لا تسألوني عن شيء إلاّ أخبرتكم وسلوني عن كتاب اللّه فواللّه ما من آية إلاّ وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، في سهل أم في جبل»10 .
وعن سعيد بن المسيب أنه قال: «لم يكن أحد من صحابة رسول اللّه يقول سلوني إلاّ عليّاً»11 .
نعم لقد أُوتي الإمام (عليه السلام) مالم يؤت أحداً من الصحابة فقد جاء عن ابن عبّاس أنّه قال: «واللّه لقد أُعطي عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) تسعة أعشار العلم وأيم اللّه لقد شاركهم في العُشر الباقي»12 .
وصرّح (عليه السلام) بأنّ العلم الذي يحمله كبير لا يقوي علي حمله أحد من الصحابة: «إنّ هاهنا لعلماً جمّاً لو أصبت له حملة» وأشار الي صدره13 . فهذه الأقوال وغيرها تدل بكلّ وضوح علي أنّ علياً بلغ من العلم مرتبة لا يمكن لأحدٍ من الخلق أن يبلغها سوي رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) .
وإلي هذا أشار (عليه السلام) بقوله: «بل اندمجتُ علي مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوي14 البعيدة»15 .
وقد شهد رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) وفي أكثر من مرّة بأفضلية «عليّ» وتفوّقه العلمي علي كلّ الصحابة.
قال رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) لفاطمة الزهراء (عليها السلام) : «أما ترضين أن أُزوّجكِ أقدم أُمّتي سلماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً»16 . وقال (صلّي اللّه عليه و آله): «أعلم أُمتي من بعدي عليّ بن أبي طالب»17.
وقال عبداللّه بن حجل مخاطباً إيّاه: «أنت أعلمنا بربّنا وأقربنا بنبيّنا وخيرنا في ديننا»18 . وقد ذكر ابن عبدالبرّ أعلمية الإمام (عليه السلام)، وقال: عليّ أعلم الأصحاب19 .
روي ابن عبدالبرّ عن ابن مسعود أنّه قال: «إنّ أقضي أهل المدينة عليّ بن أبي طالب».
وعن سعيد بن وهب قال: قال عبداللّه : «أعلم أهلالمدينة بالفرائض عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)»20 .
وروي ابن الأثير في أُسد الغابة قال: وروي يحيي بن معين عن عبدة بن سليمان، عن عبدالملك بن سليمان، قال: قلت لعطاء: أكان في أصحاب محمّد (صلّي اللّه عليه و آله) أعلم من عليّ (عليه السلام)؟ قال: لا واللّه لا أعلم21 .
أسبقيته إلی الإسلام و الإيمان
هذه الصفحة من حياة الإمام عليّ (عليه السلام) قد سجّل فيها الأسبقية علي الصحابة قاطبة فقال بهذا الصدد: «صلّيت مع رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) قبل الناس سبع سنين وأنا أوّل من صلّي معه»22 .
وقال (عليه السلام) : «ما أعرف أحداً من هذه الاُمّة عَبَدَ اللّه بعد نبيّنا غيري...»23.
وقد وردت روايات عديدة في أنّ عليّ (عليه السلام) سبق غيره الي الإسلام، وقد جاءت تلك الروايات بألسنة متعددة «عليّ أوّل مَن أسلم» و«أوّل من أسلم عليّ» و«أوّلهم إسلاماً»: رواه كل من زيد بن أرقم24، وحبة العرني25 ، وجابر26، وابن عبّاس27، ومالك بن الحويرث28 وغيرهم.
وهناك روايات أُخري بلسان: «عليّ أقدم أمتي سلماً» و«أوّلهم أو أقدمهم سلماً» كما في الرواية عن الصادق عن آبائه29 . ورواية أبي سعيد30 31 .
وروي عن أبي ذرّ، حيث قال: دخلنا علي رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) فقلنا: من أحبّ أصحابك إليك، إن كانأمر كنّا معه، وإن كانت نائبة كنّا من دونه؟ قال: «عليّ أقدمكم سلماً وإسلاماً»31 .
لقد كان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أوّل من أجاب وأناب، فعن محمّد بن أبي بكر قال: «... فكان أوّل من أجاب وأناب ووافق وأسلم أخوه وابن عمّه عليّ بن أبي طالب فصدّقه بالغيب والمكتوم»32 .
ولمّا نزلت الآية الكريمة: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَيَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَيَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)33 .
كان سبب نزولها أنّ طلحة بن شيبة والعبّاس افتخرا، فقال طلحة: أنا أولي بالبيت؛ لأنّ المفتاح بيدي، وقال العبّاس:أنا أولي،أنا صاحب السقاية، والقائم عليها، فقال عليّ (عليه السلام) : «أنا أوّل الناس إيماناً وأكثرهم جهاداً»، فأنزل اللّه تعالي هذه الآية لبيان أفضلية الإمام عليّ بن أبيطالب (عليه السلام) عليهما34 .
ويتّضح ممّا تقدّم أنّ الإمام عليّ (عليه السلام) كان قد سبق المسلمين الي الإسلام والإيمان، ونكتفي بهذا القدر من الأدلّة الكاشفة عن ذلك.
الامام علی (ع) أشجع الصحابة و أکثرهم جهاداً
أما الجهاد عند عليّ (عليه السلام) فالخوض في إثباته يجري مجري إيضاح الواضحات، وتقرير البديهيات ، فإنه لا خلاف بين جميع المسلمين وغيرهم أنّ عليّاً كان أشجع الصحابة بعد رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) وأكثرهم جهاداً، وإن كانت الشجاعة وحب الجهاد عند بعض الصحابة ظاهرة بارزة فيحياتهم، إلاّ أنها عند عليّ (عليه السلام) تبدوقيمتها أكثر جلاءً في المهمات الصعبة وعند تراجع الآخرين وعدم قدرتهم علي تجاوزها، فيتقدّم عليّ (عليه السلام) بتفوقّه الإلهي لفكّ الطوق عن المسلمين، وهذا ما تشهد به المعارك التي خاضها ضد المشركين وغيرهم.
لقد كانت معاني التضحية والفداء شاخصة في الفتي عليّ (عليه السلام)، وأشاد القرآن بتلك الشخصية السخيّة في جودها بالنفس لمرّات وكرّات، ففي فضل ليلة مبيت عليّ (عليه السلام) مكان رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) ليلة الهجرة، قال العليّ الحكيم: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ)35 وقد ذكر جمع من أَجلّة المفسّرين والمحدّثين أنها نزلت في عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)36.
إنّ هذه التضحية عظيمة، لا تقاس بسائر التضحيات التي قدّمها المسلمون خلال مراحل التاريخ!! لأنّ قدر كلّ شيء بقدر الإخلاص فيه ولا يقاس إخلاص أحد بإخلاص عليّ (عليه السلام) .
ما قدّمه الإمام عليّ (عليه السلام) وهو في مقتبل عمره فقد آثر سلامة النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) علي سلامته ولا يخفي ما لذلك من المنزلة الرفيعة، وكم أظهر فيها عليّ (عليه السلام) من الشجاعة والإخلاص للنبيّ الأكرم، وحرص علي الإسلام وقد تقبّل ذلك بسكينة نفس، وطيب خاطر، ويعرض نفسه للقتل والمثلة وهو يري ويسمع أصوات القوم وهم محيطين بذلك المكان، ويحملون سيوفهم ليهوون بها عليه باعتباره محمّداً هذا كلّه دون أن يتململ أو يحزن أو تخور قواه37 .
ثمّ إنّ الإمام عليّ (عليه السلام) نهض الي الحرب قبل تمام العشرين وكانت راية رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) قد أُعطيت له وهي لا تعطي إلاّ الي الشجعان: «لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين»38 .
وقد ذكر الحاكم في الرواية عن مقسم، عن ابن عبّاس: أنّ رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) دفع الراية الي عليّ (عليه السلام) يوم بدر وهو ابن عشرين سنة. قال الحاكم: هذا حديث صحيح علي شرطالشيخين39 . وقد ذكر ابن سعد وغيره: أنّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) كان صاحب لواء رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) يوم بدر والمشاهد كلّها عدا تبوك40 .
وتشهد له سوح الوغي في جهاده، وشدّة بأسه، ففي معركة بدر ذكر الواقدي في مغازيه بأنّ: «من قتله أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) وشرك في قتله اثنان وعشرون رجلاً»41 .
وذكر الشيخ المفيد: أتي علي شطره المقتولين منهم، وكانوا سبعين قتيلاً42. أما في معركة أُحد في سنة ثلاثة للهجرة فقد قتل رؤوس الشرك نظير طلحة بن أبي طلحة، وأبو الحكم بن الأخنس وغيرهم، وبعد أن حمل المشركون علي المسلمين واستعقبوهم ثبت الإمام عليّ (عليه السلام) أمامكتائب المشركين وواسي الرسول بنفسه»43 وأُصيب الإمام عليّ بجراح عديدة44، كما أُصيب الرسول الأكرم بجراح بليغة في مواضع حسّاسة من بدنه الشريف، وقد أخذ الإمام عليّ وفاطمة (عليهما السلام) بتضميد جروح واستمسك45 الدم46 . وذكر الإمام عليّ (عليه السلام) مواساته للنبيّ (صلّي اللّه عليه و آله)، فقال: «ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكُصُ فيها الأبطال، وتتأخر فيها الأقدام»47. وفي معركة الأحزاب سنة خمسة للهجرة انبري الإمام عليّ (عليه السلام) لمبارزة عمرو بن عبد ود العامري بعد أن أخذ يرعد ويزمجر وبلغت القلوب الحناجر48، وقد أخرج الحاكم في مستدركه حديثاً مسنداً عن سفيان الثوري أنّه (صلّي اللّهعليه و آله) قال:«لمبارزة عليّ بن أبي طالب لعمرو بن عبد ودّ يوم الخندق أفضل من أعمال أُمّتي الي يوم القيامة» كما ذكر الخطيب البغدادي وغيره ذلك49 .
وفي يوم خيبر قال رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله): «لأدفعن الراية الي رجل يحبّ اللّه ورسوله ويفتح اللّه عليه، قال عمر: فما أحببت الإمارة قط قبل يومئذٍ، فدفعها الي عليّ (عليه السلام) قال: ولا تلتفت، فسار قريباً، قال: يا رسول اللّه علامَ نقاتل؟ قال (صلّي اللّه عليه و آله) : علي أن يشهدوا أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه، فإذا فعلوا ذلك عصموا دمائهم وأموالهم إلاّ بحقّها وحسابهم علي اللّه تعالي»50 .
ويحدّثنا الإمام عليّ بن أبيطالب عن صحبته لرسول اللّه(صلّي اللّه عليه و آله) عندما عزما علي كسر الأصنام التي كانت فوق الكعبة، وقد صعد (عليه السلام) علي منكبي رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) :
قال عليّ (عليه السلام) : «إنطلقت مع رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) حتي أتينا الكعبة، فصعد رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) علي نكبي ثم قال (صلّي اللّه عليه و آله) : إنهض فنهضت ـ فنهض به عليّ ـ فلما رأي رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) ضعفي قال لي: إجلس فجلست، فنزل النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) وجلس لي، وقال لي: إصعد علي منكبي، فصعدت علي منكبيه فنهض بي. فقال عليّ (عليه السلام) : إنّه يخيّل إليّ أنّي لو شئت لنلت أُفق السماء، فصعدت علي الكعبة وعليها تمثال من صفر أو نحاس، فجعلت أعالجه لأُزيله يميناً وشمالاً وقداماً، ومن بين يديه، ومن خلفه حتي استمكنت منه، فقال نبيّ اللّه: اقذفه، فقذفت به فكسرته كما يكسر القوارير، ثم نزلت فانطلقت أنا ورسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) نستبق حتي توارينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحد»51 .
هذه الصورة تكشف عن حجم العمل الجهادي السري الذي طوي عنّا عِلْمَه لولا أنّ الإمام (عليه السلام) أشار إليه.
وقد ذاع صيت عليّ (عليه السلام) في الحرب ودوالها، حتي أنّ المشركين كانوا عندما يرونه يخشون سورته وسطوته بهم فيعهد بعضهم الي بعض؛ روي ابن المغازلي قال: حدّثنا عبيداللّه بن عائشة عن أبيه قال: «كان المشركون إذا أبصروا عليّاً في الحرب عهد بعضهم الي بعض»52 .
لقد كان الإمام عليّ (عليه السلام) بطلاً وِتراً بين سائر الصحابة لم يسبقه سابق بينهم، أو لاحق بعدهم، وقد خسرت الأُمّة ذلك المغوار الإلهي الأوحد عند مقتله، ونقل أحمد بن حنبل في مسنده، قال: خطب الحسن (عليه السلام) فقال: «لقد فارقكم رجل بالأمس لم يسبقه الأوّلون بعلم، ولا يدركه الآخرون، كان رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) يبعثه بالراية، جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله لا ينصرف حتي يفتحله»53 .
أرفع الصحابة أخلاقاً و سلوکاً
أضحي الإمام عليّ (عليه السلام) المثال الذي يثير العزيمة والهمم في نفوس الناس بتجسيده لقيم الرسالة ومفاهيمها، وكان موضع ثناء الحقّ سبحانه، ورسوله الكريم، ومن عاصره، وفيما يلي نقف علي مفردات من سلوكه وأخلاقه التي تميّزه عن غيره:
1 ـ قال تعالي: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَي حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً)54.
روي الجمهور: أنّ الحسن والحسين مرضا، فعادهما رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) وعامّة العرب، فنذر عليّ صوم ثلاثة أيّام، وكذا أُمّهما فاطمة (عليها السلام) وخادمتهم فضة، وبرئا وليس عند آل محمّد (صلّي اللّه عليه و آله) قليل ولا كثير، فاستقرض أمير المؤنين (عليه السلام) ثلاثة أصوع من شعير، وطحنت فاطمة منها صاعاً، فخبزته أقراصاً لكلّ واحد قرص، وصلّي عليّ المغرب ثم أتي المنزل، فُوِضع بين يديه للإفطار، فأتاهم مسكين وسألهم فأعطاه كلّ منهم قوته، ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئاً.
ثم صاموا اليوم الثاني، فخبزت فاطمة صاعاً آخر، فلمّا قدّمته بين أيديهم للإفطار أتاهم يتيم، وسألهم القوت، فتصدّق كلّ منهم بقوّته.
فلمّا كان اليوم الثالث من صومهم وقدّم الطعام للإفطار، أتاهم أسير وسألهم القوت، فأعطاه كلّ منهم قوته، ولم يذوقوا في الأيّام الثلاثة سوي الماء. فرآهم النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) في اليوم الرابع وهم يرتعشون من الجوع، وفاطمة (عليها السلام) قد التصق بطنها بظهرها من شدّة الجوع وغارت عينُها فقال (صلّي اللّه عليه و آله) : «واغوثاه ياللّه! أهل محمّد يموتون جوعاً؟» فهبط جبرئيل، فقال خذ ما هنّأك اللّه تعالي به في أهل بيتك فقال: وما آخذ يا جبرئيل؟ فأقراه (هل أتي)»55 .
2 ـ قوله تعالي: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً)56 .
رسم عليّ (عليه السلام) صورة الإنفاق وطبيعته الواعية والنزيهة والتي تلبّي الغرض الإلهي في طريقة العمل، فكانت ممارساته (عليه السلام) وعطاءاته للصدقات تراعي مقام المستحقّ من جهة، وتؤدي الي دعوة الناس للعمل بالإنفاق من جهة أُخري، لذا كانت موضع مدح القرآن له من هذه الناحية، فقوله تعالي: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً) روي الجمهور أنّها نزلت في عليّ (عليه السلام) كانت معه أربعة دراهم أنفق في الليل درهماً، وبالنهار درهماً، وفي السرّ درهماً، وفي العلانية درهماً»57 .
3 ـ عن عبداللّه بن الحسن بن الحسن، قال: أعتق عليّ (عليه السلام) في حياة رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) ألف مملوك مما مجلت58 يداه وعرق جبينه، ولقد ولي الخلافة وأتته الأموال، فما كان حلواه إلاّ التمر، ولا ثيابه إلاّ الكرابيس»59.
4 ـ كما أنّ النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) أمره اللّه تعالي بالتواضع للمؤمنين: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)60. كان أمير المؤمنين (عليه السلام) كأخيه رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) مقتدياً بسيرته ، إذ كان متواضعاً للمؤمنين في كلّ حالاته في قدرته وضعفه الظاهريين، وفي عزلته وحكومته، وفي حربه وسلمه...
قال ابن أبي الحديد المعتزلي: عن صالح بيّاع الأكسية، إنّ جدّته لقيت عليّاً (عليه السلام) بالكوفة ومعه تمرٌ يحمله، فسلّمت عليه، وقالت له: أعطني ـ يا أمير المؤمنين ـ هذا التمرأحمله عنك الي بيتك؟ فقال (عليه السلام) : «أبو العيال أحقّ بحمله».
قالت: ثم قال لي: «ألا تأكلين منه؟» . فقلت: لا اُريد.
قالت: فانطلق به الي منزله، ثم رجع مرتدياً بتلك الشملة، وفيها قشور التمر، فصلي بالناس فيها الجمعة61.
5 ـ عن زاذان: أنه كان (عليه السلام) يمشي في الأسواق وحده وذاك يرشد الضال، ويعين الضعيف ويمرّ بالبياع والبقال، فيفتح عليه القرآن ويقرأ: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْض62)»63.
6 ـ إنّ معاوية سأل ضراراً بن حمزة بعد موت عليّ عنه، فقال: صف لي عليّاً، فقال: أوتعفيني؟ قال: لا أعفيك، قال: أما إذا لابدّ فأقول ما أعلمه منه: واللّه كان بعيد المدي، شديد القوي، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان واللّه غزير الدمعة، طويلالفكرة، يقلّب كفيه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ماجشب. كان واللّه كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويبتدئنا إذا أتيناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن واللّه مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلّمه هيبة، ولا نبتدئه عظمة، إن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظّم أهل الدين، ويحبّ المساكين، ولا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله. فأشهد باللّه لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخي الليل سدوله، وغارت نجومه وقد مثل في محرابه قابضاً علي لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين وكأني أسمعه وهو يقول: يا دنيا أبِيَ تعرّضت؟ أم إليّ تشوقت؟ هيهات، هيهات غرّي غيري قد باينتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير وعيشك حقير، وخطرك كثير، آه من قلّة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق....64 .
7 ـ دعا [عليّ (عليه السلام) ] غلاماً له مراراً، فلم يجبه، فخرج، فوجده علي باب البيت، فقال:
ما حملك علي ترك إجابتي؟ قال: كسلت عن إجابتك،وأمنت عقوبتك. فقال (عليه السلام) :
«الحمداللّه الذي جعلني ممّن تأمنه خلقه، إمض فأنت حرّ لوجه اللّه»65 .
وهناك آيات وروايات كثيرة تنمّ عن سموّ أخلاق الإمام عليّ (عليه السلام) ، وسلوكه الذي بلغ فيه الي الغاية القصوي ، وقد عزفنا عن إيرادها رعاية للإختصار في المقام.
الايات النازلة في حقّ الامام علي(ع) و لم ينزل مثلها في حق غيره
نختار في هذا المبحث بعض الآيات النازلة في حقّ عليّ (عليه السلام) والتي تبيّن أفضليته علي الصحابة ، لا كلّ الآيات التي تبيّن فضله والتي نزلت في حقّه مطلقاً ، لأنّ هذه تحتاج الي بحث مستقل.
فمن الآيات التي يمتاز بها عليّ (عليه السلام) ولا تنسحب علي غيره وبها تثبت أفضليته علي الصحابة، وتوضّح من ثمّ مدي علاقة عليّ (عليه السلام) بالقرآن:
آية الولاية
ـ قال تعالي: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)66 .
دلّت أقوال جملة من الصحابة، والتابعين، والعلماء من أهل الحديث والتفسير علي أنّ الآية نزلت في عليّ بن أبيطالب لمّا تصدّق بخاتمه وهو راكع، وقد استفاضت الروايات بذلك.
قال الثعلبي: «قال ابن عبّاس، وقال السدي، وعتبة بن حكيم، وثابت بن عبداللّه: إنّما يعني بقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ) الآية، عليّ بن أبيطالب (رضي اللّه عنه) مَرَّ به سائلٌ وهو راكع في المسجد وأعطاه خاتمه»67 .
وقال ابن الجوزي: «وبه قال مقاتل، وقال مجاهد: نزلت في عليّ بن أبي طالب تصدّق وهو راكع»68 .
وقال أبو جعفر الإسكافي69 (ت 240 ه ): «وفيه نزلت: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)70 تصديقاً لقول رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله): «من كنت مولاه فعليّ مولاه»؛ إذ قرن اللّه ولايتهب بولاية رسوله»71 .
وقال الجصاص: وقوله تعالي: (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) يدلُّ علي أن صدقة التطوع تسمي زكاة؛ لأنّ عليّاً تصدّق بخاتمه تطوعاً...»72.
وقال الآلوسي: «والآية عند معظم المُحدّثين نزلت في عليٍّ كرَّم اللّه وجهه...»73.
اعتمد القرآن الكريم في خصوص هذه الآية علي تبيان أفضلية الإمام عليّ علي غيره من الصحابة عن طريق إبراز الجانب السلوكي المصحوب بالتصريح بأنّ عليّاً هو الولي للمؤمنين، ولا يصح تفسير «وليّكم» بـ «ناصركم»؛ لكون النُّصرة مفترضة علي المؤمنين عامّةً، ومتحقّقة في كثير منهم، كما جاء في الذكر الحكيم: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُبَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعض)74، في حين أنّ آية الولاية بصدد ولاية تختصُّ باللّه ورسوله وعليٍّ، ونحن نفهم هذا الاختصاص من موقع «إنّما» المفيدة للحصر.
آية البلاغ
ـ قال تعالي: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)75 .
صرّح أئمة التفسير والحديث أنّها نزلت في بيان فضل عليّ (عليه السلام) يوم الغدير حيث أخذ رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) بيد عليّ (عليه السلام) وقال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه» وهو حديث صحيح متواتر؛ رواه الجمّ الغفير عن الغفير، وأخرجه أحمد76، والنسائي77 والطبراني78، وابن حبّان79، وغيرهم. وقد صحّحه الحاكم80، والذهبي81، والهيثمي82 وآخرين.
وبهذا التنصيب الإلهي لعليّ (عليه السلام) ـ حسب هذا النصّ القرآني والحديث المزبور ـ يثبت أنّه (عليه السلام) هو الأفضل بعد الرسول (صلّي اللّه عليه و آله) من غيره.
آية التطهير
ـ قال تعالي: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)83 .
دلّت الأخبار الصحيحة المتظافرة عن النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) علي أنّ المراد من أهل البيت في هذه الآية النبيّ وعليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) .
فقد أخرج مسلم عن عائشة، قالت: خرج النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) غداةً، وعليه مِرْطٌ مُرجَّلٌ من شعر أسود، فجاء الحسن بن عليّ فأدخله، ثمّ جاء الحسين فدخل معه، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها، ثمّ جاء عليّ فأدخله، ثم قال: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)»84 .
هذا الحديث رواه أحمد في مسنده عن شدّاد أبيعمّار85، وأخرج الترمذي حديث التطهير عن أُمّ سلمة ثمّ قال: هذا حديث حسن صحيح86وأيضاً أخرجه الترمذي عن عمر بن أبي سلمة87. وذكره الألباني عنه وقال: صحيح88. وأخرج ابن عساكر في «الأربعين» حديث التطهير عن اُمّ سلمة، ثم قال: هذا حديث صحيح89 ، وأخرجه الحاكم عن أنس بن مالك ثم قال: «هذا حديث صحيح علي شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقرّه الذهبي في (التلخيص)»90، كما قال باختصاص الحديث بأهل البيت علماء آخرين منهم: القرطبي91، والطحاوي92 وغيرهم93 .
إنّ روايات نزول الآية في أهل البيت ـ أهل بيت الوحي المطهّرين، النبيّ وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ـ دون غيرهم كثيرة جداً تربو علي سبعين حديثاً من طرق الفريقين، وإذا لم يكن مثل هذه الروايات معتمداً عليها فبأي حديث بعده يؤمنون؟!
وفي هذه الآية لا يمكن التمسّك بوحدة السياق، لأنّ ذلك متوقّف علي عدم وجود نصّ شرعي مبيّن له، وحيث إنّ النّص موجود فالتمسّك به ممنوع؛ إذ لا معني مع بيان النبيّ وتصريحه مراراً، وتأكيده علي أنّ المراد من أهل البيت هم الخمسة، لا معني للتمسّك بوحدة السياق.
وبهذا يحوز الإمام علي ملكة العصمة والتي تكفي برهاناً علي أنّه الأفضل بين الصحابة وسائر الناس.
آية المباهلة
ـ قال تعالي: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَي الْكَاذِبِينَ)94 .
أخرج أحمد، ومسلم، والترمذي، والحاكم، وابن الأثير، وابن حجر.. وغيرهم عن سعد بن أبي وقاص، قال:«...وأنزلت هذه الآية (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ) فدعا رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: «اللّهمّ هؤلاء أهلي»95 .
وأخرج ابن مردويه عن جابر، قال: «وفيهم نزلت (تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ) قال جابر: (وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ) رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) وعليّ بن أبي طالب، و (أَبْنَاءَنَا): الحسن والحسين، و(وَنِسَاءَنَا): فاطمة»96.
قال الحاكم: وقد تواترت الأخبار في التفاسير عن عبداللّه بن عبّاس وغيره أنّ الرسول يوم المباهله أخذ بيد عليّ وحسن وحسين وجعلوا فاطمة وراءهم، ثمّ قال: «هؤلاء أبناؤنا وأنفسنا ونساؤنا، فهلمُّوا أنفسكم وأبناءكم ونساءكم، ثمنبتهل فنجعل لعنة اللّه علي الكاذبين»97 .
ونفي الجصّاص الخلاف في ذلك98 .
إنّ الآية تدلّ بوضوح علي عظيم فضل الإمام عليّ (عليه السلام) ، وذلك بوصفه نفس النبيّ، ونظراً الي تعذّر أن يكون هو نفسه بالمعني الحقيقي فيتعيّن أن يكون المراد أنّه مثله في الصفات والمقامات الثابتة للنبيّ كلّها، عدا ما ثبت اختصاصه به (صلّي اللّه عليه و آله)، كالنبوّة وأفضليته علي الخلق بما يشمل عليّاً، لتبقي منازل النبيّ الأُخري ثابتة لعليٍّ، كالعصمة، والأفضلية علي الصحابة أجمع، والولاية بعد النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) وغير ذلك99 .
آية المودة
ـ قال تعالي: (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي)100 .
أخرج أحمد والطبراني وغيرهما، عن ابن عبّاس، قال: «لما نزلت: (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي) قالوا:يا رسول اللّه! مَن قرابتك هؤلاء الّذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال: «عليٌّ وفاطمة وابناهمارضي اللّه عنهم»101 .
كما أورد الرواية ابن البطريق في «الخصائص»102 ، وابن طلحة الشافعي103 وصحّحها104. والطبري في «الذخائر» وجعلها دليلاً علي أنّ المراد من الآية هم عليّ وفاطمة وولداهما105 . والهيتمي في «صواعقه» وعقّب عليها في معرض مناقشته للسند قائلاً: «وفي سنده شيعي غالٍ لكنّه صدوق»106، فهو يعترف باعتبار الرواية من جهته لأنّه صدوق.
ومن جملة الروايات ما رود صحيحاً عن الحسن بن عليّ (عليهما السلام) من خطبة له قال فيها: «... وأنا من أهل البيت الذين افترض اللّه عزّ وجلّ مودّتهم وولايتهم، فقال فيما أنزل اللّهعلي محمّد (صلّي اللّه عليه و آله) : (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي)107»108 .
وأورده الهيتمي قائلاً: «وأخرج البزار والطبراني عن الحسن (رضي اللّه عنه) من طرق بعضها حَسنٌ»109 .
فالآية دلّت علي أنّ القربي هم الأربعة الذين ضمّهم النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) تحت الكساء، ودعت الآية الي وجوب محبّتهم ومودّتهم، وعليه تصبح المودّة لعليّ علي غيره من الصحابة.