الإعلام العربي و اشكالية الضمير شهدت السنوات العشر المنصرمة ظاهرة إعلامية تكاد تكون فريدة في العالم العربي و في مجال الإعلام حصرا إلا و هي انتشار القنوات الفضائية و المواقع الإعلامية بشكل واسع و غير منضبط في الكثير من الأحيان. و لسنا بصدد إحصاء لجميع القنوات و مواقع الإنترنت و على التويتر أو الفيس بوك فهي أكثر من أن تحصى كما أن الظاهرة واضحة و معلومة للجميع و أظن أن القارئ لا يحتاج إلى أدلة إضافية أو براهين فالموضوع واضح و جلي.. و مواقع أعلام العرب تتنوع من سياسية الى اجتماعية إلى رياضية إلى مواقع و قنوات تتعامل مع السحر و الشعوذة و القائمة تطول إذ لم يترك أولاد عدنان بابا إلا و طرقوه و أسسوا بالتالي مواقع متخصصة له حتى أني عثرت على مواقع تعلم كيفية الطبخ العربي و ما هي صفات الأكلات العربية من المنسف و حتى الكبة الموصولية مرورا بالكسكسي المغاربي.
و من نافلة القول الإشارة إلى أن ثورة الاتصالات و الانترنت سهلت كثيرا و ساهمت في الانشطار الهائل لوسائل الإعلام العربية إذ اصبح إنشاء موقع إعلامي على الانترنت لا يستغرق إلا بضع ساعات من العمل و لعل الموقع لا يكلف أكثر من بضع مئات من الدولارات لا غير. و هنا أصبح الإعلام الجديد مصدر تهديد حقيقي للسلطة الحاكمة في الوطن العربي التي كانت (و حتى فترة قصيرة) تحتكر وسائل الإعلام و تتحكم بالخطاب الذي يجب أن يستمع اليه الشعب شاء أم أبى.. بل و كان الحاكم يظن أن الشعب لا يملك إلا التصديق بما يقوله جهاز التلفزيون أو الراديو الرسمي و الذي غالبا ما كانا يخضعان لإشراف و توجيه وزارة الإعلام .. و فجأة جاءت ثورة الاتصال و الإنترنت لتسلب الحاكم هذا الاحتكار الاعلامي الذي امتد لعقود من الزمان و اصبح الخبر ينتقل (عبر التويتر مثلا) فور وقوعه و عن طريق المواطن البسيط و الذي شاهد أو حضر الحدث و بذلك سلب وزارة أعلام الحاكم العربي احتكارها للخبر و صناعته و من ثم نقله إلى العالم.. كان لا بد لأنظمة العرب أن تتحرك و بسرعة لحل هذه المعضلة العويصة و التي لخصها احد وزراء الإعلام العرب قائلا انه يتمنى أن يسيطر على التويتر أو الفيس بوك و لكنه يدرك أن هذه أمنية بعيدة المنال و لا مجال للوصول إليها ..
إذن ما الحل ؟
قررت الأنظمة العربية تجييش (و أن كان ليس في السياق العسكري) قواها الإعلامية و الدخول إلى عالم الإعلام البديل للتأثير عليه قدر الإمكان بعد أن أدركت كما اكتشف وزير الإعلام المشار اليه أعلاه أن لا مجال للسيطرة عليه.. فقامت الأنظمة و التي في معظمها شمولية و قمعية و تمتاز بسجل مميز في مجال انتهاكات حقوق الإنسان بإنشاء مواقع إلكترونية إعلامية تتحدث عن الديمقراطية و حقوق الإنسان و تتغنى مثلا بالثورات العربية و الربيع العربي و كيف انتفض الشعب على الحاكم الظالم لينتزع حقوقه بالقوة و كيف لا فما أخذ بالقوة لا يسترجع إلا بالقوة و كل هذا جميل و يثلج الصدر و لكن ما بال هذه القنوات و المواقع تصمت صمت القبور على حقوق الشعب الغلبان و المغلوب على أمره في الكثير من الدول العربية التي تمول و تصرف الأموال على هذه المواقع الإعلامية..
و كعادتي سوف اسمي الأشياء بمسمياتها و بصراحة و وضوح.. أن تتكلم قناة قطرية كالجزيرة عن حقوق الشعوب العربية في الحرية و الانعتاق فهذا جميل و لكن ما بالها تصمت عن ما يجري في دولة قطر و أين الديمقراطية التي تطالب بتحقيقها في دولة قطر و أين التداول السلمي للسلطة و أين الانتخابات و أين و أين فالقائمة تطول .. و أن يقيم موقع سعودي مثل إيلاف الدنيا مطالبا أن يتنحى دكتاتور صغير مثل بشار الأسد و يترك الحكم للشعب السوري و يطالب و بقوة أن يتدخل الناتو عسكريا لمصلحة المعارضين لنظام بشار الأسد و لكن هذا الموقع الإعلامي و الذي يتخذ من الغرب مقرا له لا يشير لا من قريب و لا بعيد إلى حق الشعب السعودي في الحرية و الانعتاق بل و إلى ابسط الحقوق المدنية كحق المرأة في قيادة السيارة مثلا..
آن من يتابع الإعلام السعودي مثلا يتصور أن الحرب يجب أن تشن فورا على جارة و مسلمة مثل ايران لانها تتدخل في الشأن الخليجي و تدس انفها في البحرين و في المنطقة الشرقية في السعودية و التي يقطنها الشيعة المضطهدين من قبل الحكم الوهابي القائم و هذا الإعلام لا يرى أي خطر قادم من إسرائيل أو الغرب بل يحاول جاهدا أن يصرف الأنظار كل الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق أهلنا في فلسطين. ناهيك عن دور هذا الإعلام القذر في التغطية على جريمة العدو الصهيوني أثناء عدوان تموز على أهلنا في لبنان و كيف اصطف الإعلام العربي الممول من البترودولار الخليجي مع العدو ضد شعبنا المقاوم في لبنان..
كما لفت انتباهي أن الإعلام الممول من قبل عرب الخليج يستهدف و منذ فترة ليست بالقصيرة العملية السياسية في العراق رغم أنها (و رغم كل عيوبها) أتت وفق انتخابات ديمقراطية كما أن التغيير في الوضع السياسي في العراق حصل بفضل دعم بعض دول الخليج التي فتحت قواعدها العسكرية و أجوائها و مياهها إمام القوات الأمريكية التي احتلت العراق و استباحت حرماته و أسست لنظام يعتمد على المحاصصة و الطائفية و لا ادري كيف يبرر الإعلام العربي دعمه للربيع العربي و ثورات الشعوب للمطالبة بحقوقها و ينكر على العراقيين حقهم في تأسيس نظام حر و ديمقراطي رغم قساوة التجربة السياسية و مرارة الاحتلال. الظاهرة الجديدة على الإعلام المدفوع له من قبل البترودولار تتمثل في الخطاب الطائفي البغيض الذي تعتمده الآن العديد من القنوات و المواقع الإعلامية و التي تحاول جاهدة أن تبرز عدوا جديدا يحل محل إسرائيل و الصهاينة و التي طالما صدعنا حكامنا العرب بمعزوفة أن إسرائيل هي العدو الأول للعرب و إذا بهم يطلعون علينا بفرضية أن الشيعة هم العدو أو العلويين هم العدو أو الدروز أو الأقباط أو المسيحين أو أي جهة شريطة أن لا تكون إسرائيل فهم أصدقائنا و أحبتنا و لقد أخطائنا منذ عام ١٩٤٨ و لغاية اليوم باتخاذهم أعداء لنا بل كنا مغلفين و سذج بان عادينا الصهاينة طيلة العقود الماضية و كنا نعاني من قصر في النظر بل و العمي لأننا لم نرى العدو الحقيقي. و مصيبتنا في هذا الإعلام الطائفي انه شرع القتل و علنا تحت فتاوى و عناوين مدفوعة الثمن من قبل بعض وعاظ السلاطين و علماء البترودولار الذين باعوا أخرتهم بدنياهم و ارتضوا السير في مطية الحاكم و أن كان ظالما و فاسدا.
و من هنا شاهدنا السيارات المفخخة تفتك بالابرياء من العراقيين و السوريين و أهلنا في اليمن إضافة إلى المئات من المسلمين في غير بلد إسلامي مثل باكستان التي شهدت جرائم يندى لها جبين الإنسانية و مثلت قمة في الوحشية و الفجور. كما شاهدنا الذبح و هو يمارس علنا و أمام عدسات الإعلام لينقل صورة مشوهة عن الإسلام و العرب و أصبحنا مثلا للوحشية و التخلف و الإرهاب في كل العالم. الإعلام سلاح ذو حدين و هو يمكن أن يفتك بك و يضر كثيرا بقضيتك و أن كانت عادلة و يمكن بالتالي أن يفيد عدوك و أن كان ظالما و هنا و يبدو أن الأنظمة الحاكمة في العديد من بلدان العرب اتخذت قرارا بان تقاتل على جبهة الإعلام بعد أن اصبح الخطر محدقا بها و يشكل تهديدا مباشرا لوجودها فالمعركة معركة بقاء و قد تعودنا من الحاكم العربي ان لا يتورع عن التضحية بأي شيء في سبيل كرسي الحكم و تبقى بذلك مهمة فرز الخبر الصحيح من غيره مهمة القارىء العربي الذي ادهش الكثير من المحللين بذكائه و فطنته و قدرته على تمييز الغث من السمين في تعامله مع اجهزة الاعلام الرسمية و تحضرني هنا حادثة طريفة حدثت لاحد المزارعين البسطاء مع مراسل أذاعة أجنبية و على ما أظن انها كانت البي بي سي:
سأل المراسل: لماذا يا حاج تستمع الى أذاعتنا طيلة سنوات طويلة كما أخبرتني قبل قليل ؟
أجاب المزارع بكل عفوية: لانها تقول عكس ما تقول أذاعتنا المحلية!!
كلمات الفلاح و رغم بسطاتها الا انها صفعة مدوية على وجه الكثير من مسؤولي و أعلاميين الانظمة العربية لعلهم يستفيقوا و أن كنت أشك شخصيا و كما قال الشاعر لقد أسمعت لو ناديت حيا و لكن لا حياة لمن تنادي.