يبدو ان الإنتكاسة الامنية التي مني بها العراق مؤخرا ، وشبح التقسيم الذي يتهدده ، ونزوح مئات الالاف من الشعب العراقي خلال ايام ، ومقتل 2400 شخص خلال شهر واحد ، وكذلك حث سماحة السيد علي السيستاني ، النواب على التوافق على الرئاسات الثلاث ، قبل انعقاد الجلسة الاولى لمجلس النواب ، يبدو ان كل ذلك لم يكن كافياً لاقناع ممثلي الشعب بجسامة التحديات التي تواجه البلاد ، او ان تحرك فيهم الشعور بالمسؤولية الاخلاقية والشرعية ازاء ناخبيهم والمرجعية الدينية.
فلم تلتئم الجلسة الاولى لمجلس النواب العراقي ، يوم الثلاثاء الاول من شهر تموز / يوليو ، لاختيار الرئاسات الثلاث للبلاد ، حتى انفضت على وقع صخب ونزاع وزعل وجدل عقيم ، لا يغني ولا يسمن من جوع المواطن العراقي.
ما حدث يوم الثلاثاء كان انتكاسة اخلاقية بمعنى الكلمة ، فقد بدا واضحا ان الكتل السياسية اختلقت تلك المشاجرات ، التي رايناها على الهواء مباشرة ، للتغطية على عيوبها وفشلها في تحمل المسؤولية ، والتهرب من مساءلة الشعب لها ، فكانت المهاترات والصراخ والانسحابات ، فتلمس الجميع منفذا للتهرب من المسؤولية ، فكانوا في وضع لا يحسدون عليه ابدا.
كان من المتوقع ان تقدم الكتل السياسية على ضوء الظروف الطارئة التي تمر بها البلاد ، على الاتفاق فيما بينها على تسمية مرشحيها لمنصب رئاسة البرلمان ورئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ، فهذه التسميات هي من حق هذه الكتل ولا ينازعها عليه اي من الكتل الاخرى ، فكان من السهل جدا الاتفاق على هذا الامر خلال المدة التي حددتها المرجعية العليا في النجف الاشرف ، ولكن احداث الجلسة الاولى لمجلس النواب اكدت ان العراق مني بانتكاسة اخلاقية وسياسية بعد الانتكاستين الامنية والعسكرية.
ان المسؤولية الاخلاقية والشرعية والسياسية ، كانت تحتم على الساسة العراقيين ونواب الشعب ان يترفعوا عن الجدل السياسي العقيم والمهاترات والشعارات وتخوين بعضهم بعضا ، وان يضعوا توجيهات المرجعية الرشيدة في النجف الاشرف ومصلحة العراق وشعبه نصب اعينهم ، وان يكونوا على مستوى المخاطر ، وهي مخاطر جعلت العالم كله يترقب ما ستحمله الايام لهذا البلد العريق ، الذي باتت العصابات التكفيرية تهدد بتقطيع اوصاله.
ان حكم التاريخ والاجيال القادمة على النخب السياسية الحالية ، سيكون قاسيا وقاسيا جدا ، اذا ما نجحت العصابات التكفيرية في تقطيع اوصال العراق وجعله كيانات متنابذة ومتصارعة ، اليس من حق الاجيال القادمة ان تتساءل: لم تشذرمنا وكنا نملك جيشا لا تنقصه عدة ولا عتاد ؟، لم تشرذمنا وكنا بلدا غنيا بالخيرات والتاريخ والحضارة ؟، لم تشرذمنا وكانت بيننا مرجعية رشيدة تحذرنا وتحذر ساستنا من المخاطر وتضع امامنا وامامهم انجع الوسائل لمواجهتها ؟، حقا من سيكون المسؤول عن تشرذم الشعب العراقي ، اذا ما حصل يوما لاسمح الله ؟ ، اليست النخب السياسية العراقية ، بسبب انانيتها وتعنتها وفئويتها ومناطقيتها؟.
ولكي لا نتهم بالمهادنة والتسطيح والقفز على الحقائق ، نؤكد ان ما يحصل في العراق الان من فوضى يعود جانب كبير منه الى حقبة البعث السوداء التي عاشها العراق على مدى اربعة عقود ، وكذلك لوجود بقايا من النظام الصدامي التي لاتريد الاعتراف بالعراق الجديد وتعمل جاهدة وبكل الوسائل على اعادة عقارب الساعة الى الوراء ، والى وجود كيانات تضاءلت في داخلها الانا الوطنية امام تضخم الانا الطائفية والقومية ، والى وجود مكونات عرقية وطائفية تعيش هاجس الماضي المخيف ، حيث يتحكم هذا الهاجس بكل سلوكياتها وتصرفاتها ، وكانها حكمت على نفسها بالسجن الطوعي
داخل اطار هذا الماضي ، ولكن ورغم ذلك فان هذه الاسباب والعقبات لا ترفع المسؤولية عن عقلاء العراق الجديد ، في ان يكونوا السباقين في خلق اجواء من الثقة والطمانينة مع مكونات عرقية وطائفية عاشت عقودا طويلة تحت وطأة انظمة استبدادية حكمت العراق بالحديد والنار ، ومارست ابشع السياسات الشوفينية والعنصرية والطائفية ، فهذه المسؤولية لا يتحملها الا الاقوياء الذين يمتلكون قواعد شعبية عريضة ومصداقية افرزتها صناديق الاقتراع واداء سياسي حكيم وتاريخ نضالي طويل.
اخشى ما اخشاه على العراق ان يعيد التاريخ نفسه وتجد النخب السياسية العراقية نفسها في حال اشبه ما يكون بحال أبي عبد الله الصغير ، آخر ملوك المسلمين في غرناطة قبل ان تسقط نهائيآ في يد الملك فرديناند و زوجته إيزابيلا سنة 1492 م ، حيث رأته امه والدموع تجري من عينيه ، فقالت له مقولاتها الشهيرة :
ابكِ مثلَ النساءِ ملكاَ مضاعاً لم تحافظ عليهِ مثلَ الرجالِ
اخيرا ارجو الا اكون قد جرحت مشاعر البعض فيما قلت ، الا انها كلمات كتبتها وانا اسمع فحيح الافاعي وهي تحوم حول بلد شهد اول تجمع بشري على وجه البسيطة ، وكان يشع دهرا بنوره على العالم اجمع ، ويحتضن من بين ما يحتضن حواضر ورموز اصبحت صنوا للتاريخ .. الكوفة ، بغداد ، النجف ، كربلاء ، البصرة ، الانبار ، دهوك ، الاهوار ، دجلة والفرات ، مسلة حمورابي ، وملحمة كلكامش ، والخط المسماري.
*ماجد حاتمي- شفقنا