... وحيد فتى يافع من فتيان غزة المكلومة ، أصيب في قصف صهيوني ، بشظايا قنبلة أمريكية الصنع عربية التوجيه ، فقد معها بعض يده و بقي البعض الآخر ينزف دماً ، قد حار الأطباء في وجود دواء له . . . . .
عزم ذات ليلة و هو نائم ، أن يذهب في حلمه إلى مدينة كربلاء للاستشفاء و التوسل بقبر الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، لعله يشفى من جرح يده و لم يكن باستطاعة وحيد أن يفعل أكثر ، فهو كباقي أطفال غزة كلهم محاصرون . . . منازلهم ، مدارسهم ، أقلامهم ، ألعابهم ، أقبيتهم ، خيامهم ، حتى أحلامهم محاصرة وهوائهم مُحاصر ... ، فقد كانت أغلبها كوابيس لا تظهر فيها إلا الجدران العازلة و لا يسمع فيها إلا صوت الرصاص و صفير سيارات الإسعاف . . !!
و عزم وحيد في هذه الليلة أن يذهب إلى كربلاء ، عزم أن يكسر الحصار رغم مخاطر الطريق و دروبه الوعرة و مسالكه الموحشة .
أما لماذا اختار وحيد كربلاء و ليس مكانا آخر ؟
هو لا يدري ، هو الآن لا يستطيع أن يدري !
المهم أن يفك الحصار .
ما إن اقترب وحيد من سور الحرم الحسيني ، حتى دخلته وحشة و شوق و حب ممتزج بالهيبة لم يعهدها طوال حياته ، فبدأ يتمتم بهذه الكلمات . . . .
عفوك يا سيدي يا أبا عبد الله ، إن كنت أقلقت راحتك في هذه الليلة الحالكة ، و أقبلت عليك دون إذن ، عذرا يا مولاي إن كنت قد سمحت لنفسي أن اقترب من سور جنتك الحمراء .
أخذ وحيد يشرئب بعنقه عسى عين الحسين ترمقه فيؤذن له بالدخول .
فوحيد قد سمع و قرأ كثيرا عن الحسين إنه من أهل بيت النبوة المصطفين ، يكرم اليتيم ، و يطعم المسكين ، و يقري الضيف ، و يجير الخائف المستجير … .
فيسمع الحسين همهمات من خارج الحرم ، نادى خادمه : انظر من بالباب لعله جائع أو طالب حاجة أو مجاهد يحتاج زادا …، أسرع إنني أشم من قبل الباب رائحة و كأني أعرفها … .
وحيد يدخل صحن الحرم ، ينظر إلى الحسين تتسمر رجلاه في الأرض ، فلا يستطيع حراكا ، يشخص ببصره نحو الحسين لقد أدهشه منظره الرائع و هيبته الكبيرة و هو يرتدي حلة خضراء لم يشاهدها قط في حياته ، أما وجهه فقد كان مثل فلقة البدر و هو منهمك تارة بالعبادة ، و تارة يسلم على الضيوف و طلاب الحوائج ، و تارة أخرى كان يستقبل شموعا بيضاء و خضراء و حمراء ، بعضها كبير و بعضها الاخر صغير ، صغير جدا . . .
كان الحسين يعتني بها و يضع كل واحدة من هذه الشموع في مكان خاص …
أضاءت تلك الشموع صحن الحرم في تناسق صامت بهيج .
في هذه الأثناء انتبه الحسين إلى وحيد ، ناداه بصوت هادئ : اقترب بني … اقترب يا فتى . . لا تخف .
يقترب وحيد …
تضيء الشموع بعضا من جسمه النحيل ، و هو يرتعد من البرد ، و رجلاه لا تقويان على حمله من شدة الجوع و بُعد السفر .
إندهش الحسين لمنظره : ما هذه الثياب الممزقة يا بني ؟ ما هذه الدماء النازفة ؟
أرني يدك ، تناول الحسين شيئا من دم وحيد تأمل فيه مليا ، شمهُ ، ثم رفع رأسه للسماء و بكى طويلا و نادى خادمه ألم أقل لك أني أعرف هذه الرائحة !؟
هذا الدم بعض من دمي …، أنه دم شهيد أو بعض شهيد ...
يبكي وحيد و تتناثر دموعه على خديه كأنها فضض جمان … ثم ينطلق لسانه قائلا :
عذرا يا ابن رسول الله ، لقد أتيت إليك أشكو مصابي و لأخبرك ما جرى علينا من المحن و أتوسل بك إلى الله ، عساني استيقظ يوما من حلمي الطويل لأرى الحصار و قد فك عني ، و أرى الشمس و قد عادت لتشرق من جديد على أطراف بيتنا المهترئ و سقفه الذي أنهكه القصف ، و صدّع جدرانه صوت القذائف و القنابل ، و كسر زجاج نوافذه صوت الطائرات النفاثة ...، وخذلان قوم كنا نحسبهم أيقاظاً ...
لكن يا مولاي أتسمح لي أن أخبرك عن طفنا ؟
عن كتب أهل الكوفة عندنا و وعدهم لنا بالنصر ؟ سأخبرك يا سيدي حتى لا تخرج مرة أخرى فتلقى الخيانة و الخديعة و المكر ممن كانوا قلوبهم معك وسيوفهم عليك أذناب بني الطلقاء ومواليهم ....
أتعلم يا مولاي ؟ أن شريحا ذاك الذي خان الأمانة ذات مرة ، و باع دينه بدنياه و أفتى بسفك دمك و قتلك بسيف جدك و الله يا مولاي إنه لم يمت ، لقد رأيته يصافح بيريز و يهدي له النصح و الابتسامة و أعطى له صكا مجانيا بنحرنا على مذبح المنبر !
فخذ حذرك و انظر من حولك . . .
أما سمعت يا مولاي عن عودة جيش ابن زياد لحصارنا من جديد ، إني تركتهم الليلة و هم يحاصرون الشيوخ و الصبيان و النساء و يمنعون عنهم الماء و الدواء وحتى الهواء ، هذا ماؤنا ، نفطنا ، و غازنا قد ولغت فيه خنازير البيت الأسود و الأحمر و منع منه أبناؤك و حرائرك و أحفادك فإلى أين المسير يا مولاي ؟!! إلى أين ؟
يا مولاي أتحسب أن عمر بن سعد قد تخلى عن ملك الري ؟ لا والله فهذا ابن عمنا قد أولغ في حصارنا نستجديه المعونة فلا يجيب نطلب منه بحق النبي و الأجداد و التاريخ و الجغرافيا أن يسمعنا فلا يأبه بنا ، نتأوه أمامه و نذكره بالآخرة ، بيوم الحساب ، عساه يرق لحالنا فلا يرد علينا ، نناديه فقط أن يكون حرا في دنياه فلا يتكلم إلا بسبنا و سبك و سب أبيك ...
فارجع يا مولاي نفسي لك الوقا و روحي لك الفدى
لقد صرخنا يا مولاي : هل من مغيث يغيثنا ؟
هل من ناصر ينصرنا ؟
هل من مسلم يتقي الله فينا ؟
لكن أمتك يا مولاي لا تسمع و لا تجيب ، فهذي حالي يا مولاي ، و هذي شكواي قد بثثتها بين يديك فانظر ماذا ترى .
جئتك يا مولاي و على الرغم من جراحاتي لأجدد لك الولاء و أقول لك : إنني على العهد ، عهد المقاومة و الصمود و إن كنت لم يجبك ببدني حين استغاثتك فقد أجبتك بقلبي و روحي و مقاومتي ، إن لم يكن بك عتب علي فلا أبالي ابدا أوقعت على الموت أم وقع الموت علي ...
و لست أبالي حين اُقتَل مسلما
على أي جنب كان في الله مصرعي
و ذاك في ذات الإله و إن يشأ
يبارك علـى أوصال شلو ممـزع
الحسين ( عليه السلام ) : و هو يبكي من الوجد آه يا ولدي آه لقد جددت جراحات قلبي و زدني كربا إلى كربي ... وذكرتني بحرمي وأطفالي وشيعتي وأصحابي
وا قلة ناصراه . . . وا قلة ناصراه .
عد يا ولدي إلى بيتك عد و قاوم ببقية يدك فلسوف تشرق عليك يوما شمس الحرية و النصر و لسوف ينتصر دمك على سيف البغي و إن طالت الأيام ، فما أيام صهيون إلا عدد و ما جمعهم إلا بدد .
آه لقوم خانوك
بعدا لقوم حاصروك
سحقا لقوم ظلموك . . .
يا بني هوّن علينا ما أصابنا و أصابكم أنه بعين الله عد يا بني و قاوم . . عد و قاوم .
----------------------------
منقول بتصرف بسيط
"قِصةٌ قَصِيرة تَحكي حَالَ أعرابٍ ذليلةٍ خائنةٍ حقيرة"
بقلم المهندس الاستاذ احمد الشريف من الجزائر