مجلس الضيافة (قصة قصيرة)
فرشت السجادة المصنوعة من السعف وسط المجلس ،
سجادة والدي التي ظل يصلي عليها حتى آخر لحظة، لا أنس لحظات رحيله، حينما حاولت إيقاظه لصلاة الفجر، رأيته يحلق في عالم آخر .. تمسكان يداه بالمصحف ويرسم وجهه ابتسامة المؤمنين.
لم أبك عليه وظللت مذهولا، ليستغرب الجميع من صمتي المطبق، تزعمت مأتم الموت، وتصارعت أشياء متباينة في داخلي، رفضت تفسير السكوت الطويل، ودارت سيول من الأسئلة في ذاتي: هل يبعثر الحزن نفسي؟
هل تعذبني أهوال الموت؟
توقفت عن التفكير لعدة دقائق، حتى لا استرجع الذكريات الأليمة التي تعج بها حياتي..أردت التفرغ للصلاة..صليت..ركعت..دعوت الله..لتغزو أحاسيس الراحة والطمأنية أرجاء جسدي.
انسلت سريعا تلك الأحاسيس وطغت الذكريات المرة على تفكيري، أفكر برحيل والدي، ترك أحمال ثقيلة، وخلف هموم كبيرة، ينتقل بصري بين المساند المتناثرة في كل المجلس، تذكرني الاواني الحلوى والفواكة
الموضوعة بقرب الباب بأصدقاء والدي الذين كانوا يأتون إليه من كل حدب وصوب، أين هم؟ اختفت أحاديثهم وانقطعت زياراتهم.
أشتغل والدي واليا في الماضي وملك مشيخة المنطقة ،
أتصف بلباقة اللسان وسعى طوال حياته لحل الخصومات بين الناس، أسقاني كأس العادات والتقاليد وأوصاني بحب الصغير والكبير في منطقتنا.
يجذبني صوت قادم من جهة الباب وتعتريني نشوة لا أعرف مصدرها، أسمع صوته الحاني وهو يدغدغ مشاعري الهشة: أبوي سلطان ، لأكتشف أنها جزء من خيالاتي المتشردة.
أعود لأعيش في أجواء المجلس الذي خلى من الزوار بعدما كان يضم شكاويهم وضحكاتهم، استغرب من بقاء هذا المجلس، أما زواره فقد اختطفهم الموت وغيبتهم الأحداث.
وخز شئ ما قلبي الجريح، ينبأني بوقوع الأخطار، ويشعل نيران الألم في داخلي، يقفز سؤال عن المستقبل:كيف سأتحمل الجلوس على مائدة الغداء في عيد الفطر حينما يتحلق الجميع حول الطعام؟ لن يكون أبي موجودا، سوف تخور قواي واستسلم للذكرى وربما سأنفجر بالبكاء وأرحل عنهم بعقلي إلى عالم الموت حيث يقطن أبي ورفاقه.
سقطت دموعي كأنها جواهر، توارت خلف ستائر المجلس، يمر قطار فكري على جملة من الآلام، لتجرني حالة الخصام الناشئة بيني وبين أخي "علي" إلى الماضي ويتردد صدى حوارتنا المفعمة بالإختلافات، أتذكر جيدا إصراره على بيع البيت وتصاعد خوفه من الفضيحة لأنه خسر أمواله وأصبح مفلسا بعدما غاصت نقوده في المحافظ الوهمية واحترقت في لعبة الأراضي.
ينبثق صوت من داخلي..يرفض بشدة طرح الفكرة، ببساطة لأنني سأفقد المجلس منبع الأمان ومصدر الذكريات وعرين والدي الذي يضم أحلى الأيام، وصندوق الماضي الذي استخرج منه أجمل الدقائق وأروع اللحظات، تنتشر كلمات والدي في أرجاء المجلس وتعطر حواكيه
الجدران بأشهى الروائح، تشد على يدي..تمنعني من الرضوح للواقع وترسل برقيات وفاء لأصحاب أبي، تقول لهم: إن سلطان على العهد..ينتظر قدومهم.
ينسحب قليلا تفكيري عن عالم المجلس وأغلق أذني عن صراخ أخي..تنسل رغبة الإلتصاق بالحياة ويمتلئ المكان بذكر الموت الذي لم اتذوق طعم الراحة منذ أن عرفت حقيقته.
خلط الأوراق، سفه قيمة الحياة، وفلق الدنيا إلى نصفين، اسكنني في سجن الإكتئاب وغرس القلق في ذهني ، تطاردني أنيابه في كل أتجاه ، تعصف بي خطبة الجمعة وجل فحواها عن رياح الموت، يفزعني خبر وفاة أعز أصدقائي...تقف ذاتي عاجزة أمام الموت، يعذبها سؤال صعب: ما هذا الأخطبوط الذي لا يستثنى أحد؟...يقترب مني..يتربص بي..يراقب تحركاتي ويشعل هواجسي لتتصاعد معه نبضات قلبي المضطرب ويستشري الصداع في خلايا رأسي المتعب.
من يستطيع مشاطرتي الهموم؟ لا أحد، ولا مجال للأستسلام والخنوع لأن نفسي تعيش تخبطا بين إنفاق نصف راتبي لتدريس أختي "نورة" في احدى الجامعات والنصف الآخر أصرفه لتوفير حاجات ومستلزمات البيت، تتوزع أشلائي المتفرقة بين تحمل مشيخة القرية وأنا لازلت شابا في الرابعة والعشرين ...مفتقرا للخبرة والتوجيه، وبين لملمت جروح أخ أغرق نفسه في قيعان الديون ويسعى بكل ما يملك لتجنب فضيحة الافلاس والهروب من مطالبات الدائنين، والأصعب من ذلك تحثني نفسي الضعيفة على قطع تذكرة الهروب من قلب ابنة عمي طالبا ومستعطفا منها تأجيل الزواج لإشعار آخر.
عادوني ألم الرأس، أحس بغليان الدم في دماغي وتهشم العواطف في فؤادي، أخرج سريعا من المجلس، أتوجه إلى العيادة، ترافقني والدتي، تكتم غصة في حلقها وتبلع ريقها المرّ كالعلقم، أستمد منها الأمل والمواساة..امتص من ثديها الحنان، وتضئ عيناها ظلمة جوارحي، أكتشف إرتفاع ضغط الدم، يوصيني الطبيب بالراحة وقلة التفكير..ويربت على كتفي قائلا: يجب أن تتناول حبوب الضغط.
لم أهتم بكلام الحكيم..طلبت من أمي تركني وحيدا في المجلس حتى أبحر مع ذكريات صاحبي ورفيق عمري الذي رحل وجعلني قطع لحم ممزقه بين الحياة والموت، تأملت في وجه أمي فرأيت إبتسامة تختزن كل براءة العالم، تأمرني نظراتها بمحاربة القلق وطرد الكآبة لأنني الوحيد الذي تعتمد عليه بعد رحيل أبي.
يتوسد خدي الأيمن زولية المجلس، يغطي غترت والدي
وجهي الشاحب، تتشبث يدي اليسرى بنظارة والدي..أغمضت عيناي وسافرت في رحلة جديدة مع النوم، حلمت بوالدي..يعاتبني..يلومني على تقصيري..يأمرني بالثبات والصبر على الظروف..استيقظت من النوم فجأة، خفق قلبي، سيطر علي شعور بالآثم، بجانبي كوب ماء بلاستيكي..مددت يدي إليه،سقط إناء الماء من يدي المرتجفة ليبلل الفراش، يتصبب العرق من كل جهة في جسدي، حينها يمر طيف والدي سريعا، أتخيل وجوده معي..يطبطب على كتفي ويحضني على الاستعاذة من الشيطان الرجيم.
لم أقو على الجلوس بعد هذا الحلم، يدفعني شئ ما للخروج من البيت بأكمله، خرجت من البيت حافيا، لن تحدق العيون إلي في هذه الساعة المتأخرة فهي تختبأ في جحورها، وتأوي النفوس بشرورها إلى السبات.
اتجهت إلى الشارع، سلكت الطريق الترابي، يمتلئ الطريق بالحجارة والأشواك ويطبق الصمت على المكان، يشق الطريق وسط الاشجارالليمون ..
الطريق متعرج.. كل ما في الطريق يداعب مخيلتي ويعذب قلبي، يخترق نباح وعواء وطنين الحيوانات هدوء المكان..يخفي السواد خضرة الأشجار ويعود ذهني إلى مشهد الجنازة، تحطم كلمات التهليل خوفي من الظلمة وتنبعث أصوات التكبير..يألمني مسار الجنازة.
وصلت إلى المقبرة، تورمت رجلي من كثرة المشي، تخرج الدماء بغزراة من رجلي اليمنى، أرتميت بين أحضان القبر، أخرجت الهم من أحشائي ..شكوت لوالدي ظلم الحياة وقسوة الظروف..يحز سكوت القبر في نفسي ..يتضامن معي سكون المكان وهدوء أهل القبور.
أدركت أن نداءاتي وصرخاتي بلا فائدة، هممت بالخروج، تعلقت بباب المقبرة الأسود، صرخت بقهر وقوة: أباه أبوي، لم يستفيق أحد، مزقت تلك الصرخة الضياع الذي أعيشه، نفضت الخوار العالق على جسدي، غسلت الجبن الكامن في أعماقي، كفكفت دموعي ..أيقنت حينها أن الحياة لا ترحم الضعفاء، طردت الضعف واستلهمت القوة..تحرجني رؤية العيون وتغزو خيوط الفجر جبيل ،
نكصت راجعا للبيت وغاصت روحي في أشجار الليمون والطريق الوعر.
لكم اسمى دعواتي