تحديث التعليم الديني في الحوزة العلمية .. مقدمة تاريخية
بتاريخ : 21-04-2007 الساعة : 01:34 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تناقش هذه الدراسة قضية تحديث التعليم الديني الشيعي في الحوزة العلمية. فتبدأ بتقديم عرض تاريخي لنشأة الحوزة وتطور مناهج التعليم بها، ثم تعرض للأرضية اللازمة للتحديث والفضاء الخاص الذي يساعد عليه، كما تعالج مسارات التحديث التي ارتبطت دائما بالمنعطفات السياسية الكبرى، وتنتهي برصد مستويات التحديث وتركز الاهتمام على المستوى الذي يطال بنية المعارف الإسلامية.
عبد الجبار الرفاعي
الحوزة العلمية.. مقدمة تاريخية
يمتد تاريخ الحوزة العلمية في النجف الأشرف إلى ما يقارب ألف سنة، فقد دشن الدراسة فيها الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة 460هـ، بعد أن اضطر للهجرة إليها من بغداد عام 448هـ، إثر الاضطهاد الذي تعرض لـه على أيدي السلاجقة. ومنذ ذلك التاريخ أضحت النجف حاضرة علمية تحتضن طلاب العلوم الإسلامية المهاجرين إليها من شتى الأقطار، وكان بعض الوافدين يتوطنون فيها، فيما يعود آخرون إلى مواطنهم لممارسة التبليغ والدعوة والإرشاد، والعمل على تأسيس حلقات للتعليم الديني في المساجد التي يخطبون فيها. وتعرضت الدراسة في النجف لحالات نمو وازدهار في مراحل تاريخية معينة، كما تعرضت في مراحل أخرى لانحسار وضمور، تبعا للتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية في العراق، والمحيط الإقليمي للبلدان التي ترفد النجف بالتلامذة المهاجرين لطلب العلوم الدينية.
وبموازاة ذلك كانت تتوالد وتندثر حواضر علمية أخرى باستمرار، في حلب، والحلة، وجبل عامل في لبنان، وأصفهان، وكربلاء، وقم، وسامراء... وشبه القارة الهندية، وآسيا الوسطى.
ومنذ القرن التاسع عشر أمست حوزة النجف الحاضرة العلمية الأوسع والأهم، لا سيما بعد تبلور مؤسسة المرجعية وتدخلها المباشر في المنعطفات السياسية والاجتماعية في التاريخ القريب لإيران والعراق، مثل نهضة المشروطة وصياغة دستور سنة 1906م في إيران، وقبلها حركة الاحتجاج الشعبي على امتياز شركة التبغ البريطانية، ومقاومة الاستعمار البريطاني 1914ـ1917، وثورة 1920 في العراق.
وبعد هجرة الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي إلى قم تنامت بالتدريج الحوزة العلمية فيها، وبلغت ذروة ازدهارها قبل أكثر من خمسين عاما، بعد أن توطنها علماء كالسيد حسين البروجردي، والسيد محمد حسين الطباطبائي، المفسر وأستاذ الفلسفة والعرفان الذي شيّد حلقة قم الفلسفية سنة 1952.
ثم تعزز الموقع السياسي والديني، وفيما بعد العلمي لمدرسة قم، بعد انتفاضة 1963 التي قادها الإمام الخميني، وانتهت بانتصار الثورة الإسلامية سنة 1979 وإقامة الجمهورية الإسلامية.
وبعد ذلك التاريخ اتسع التعليم الديني في قم، وأخذ ينفتح على عوالم جديدة، ويحرث أرضا بكرا لم يدشنها من قبل، بعد أن انبثقت طائفة من الاستفهامات، وأثير العديد من الإشكاليات، وفجأة بدأ الدارسون في الحوزة العلمية يقرءون ويسمعون بما لم يفكروا فيه، وتفجر السؤال اللاهوتي الذي ظل غائبا عدة قرون.
ولا ريب في أن الهوية الدينية لثورة 1979 ومساهمة الحوزة العلمية في قيادتها، وتعبئتها للجماهير، وما نحتته من شعارات ووعود متنوعة في تحقيق الاستقلال، والحرية، والأمن، والضمان، والرفاهية، والتقدم... وغير ذلك. والقول بأن الفقه وعلم الكلام وسائر المعارف الإسلامية الموروثة كفيلة بالوفاء بالمفاهيم والبرامج اللازمة لإنجاز هذه الوعود، وتجسيد تلك الشعارات في الحياة الاجتماعية، وضع الحوزة العلمية للمرة الأولى في مواجهة مباشرة مع الناس، ومتطلباتهم الحياتية المختلفة، مضافا إلى تصاعد وتيرة التغيير الاجتماعي واشتدادها في العقدين الأخيرين، بفعل مجموعة عوامل تقنية (ثورة الاتصالات) وجيوسياسية (حروب صدام الثلاث) واقتصادية (تراجع عوائد البترول) و(فشل مشاريع التنمية) وديموغرافية (تضاعف عدد السكان) و(الهجرة الواسعة من أفغانستان والعراق بسبب الحروب).
كل ذلك أفضى إلى اختلالات متنوعة، طالت البنى التقليدية الدينية والثقافية للمجتمع، وزحزحت مقولات وآراء ظلت راسخة مئات السنين.
غير أن الحوزة العلمية في النجف لم تتمكن من مواكبة إيقاع التحولات المارة الذكر، فانكفأت وانغلقت على نفسها، ولم يكن أمامها إلا السير في هذا الدرب الموجع، ذلك أن استبداد وطغيان صدام حسين تجلى بأبشع صورة لـه في استئصال أبرز علماء الدين، كالفقيه والمفكر محمد باقر الصدر، واستبعاد نخبة من الدارسين المتميزين قبل ذلك إلى إيران، بذريعة أصولهم الإيرانية، وتفريغ النجف من التلامذة الوافدين من البلاد العربية، وفي طليعتهم جماعة من المتنورين اللبنانيين، الذين كان لهم دور فاعل ومؤثر في إيقاد جذوة التحديث في النجف، وإقفال المدارس وكليات الدراسات الإسلامية، وبالتالي تقويض وتدمير مشاريع إصلاح النظام التعليمي في الحوزة، بإلغاء كلية الفقه في النجف، وكلية أصول الدين في بغداد.
ولم يقتصر ذلك على النجف، وإنما واصل صدام وأجهزته الدموية تفتيت كل مفاعيل التحديث في العراق، فأحال النظام التعليمي إلى حطام، وهكذا حول معظم من تبقى في العراق من الإعلاميين والأدباء والفنانين إلى جوقة من المصفقين... واختصر العراق بمدينته تكريت، ومدينته بقريته وعشيرته في العوجة، وعشيرته في عائلته، وعائلته في شخصه.
ويمكن القول أن الحوزة العلمية في النجف تسعى اليوم بجدية، من أجل استئناف مسارها التاريخي، والوفاء بوظيفتها في تحديث التعليم الديني، والخروج من السياقات المغلقة للفكر الإسلامي، وإن كانت لما تزل غارقة في جراحاتها ونكباتها الموجعة من النظام الفاشستي الدموي السابق في بغداد.