إثبات أن عثمان بن عفان غضب الله عليه ومأواه جهنم وبئس المصير
بتاريخ : 13-09-2009 الساعة : 05:07 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
بصـريح القـرآن وصحيح الإسـناد
عثمان بن عفان غضب الله عليه ومأواه جهنم وبئس المصير
قال الله العظيم في كتابه الكريم:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الأنفال: 15 ـ 16.
لقد صرَّحت الآية الكريمة بأنَّ الذي يعطي ظهره للكفار (ينهزم ويفرّ) في ساحة المعركة فإنه يناله غضبُ الله ومأواه جهنم وبئس المصير. وهذه الآية إمَّا نزلت قبل بدر أو بُعيدها، فهي تشمل الفارِّين في معركة أُحد بلا ريب.
رواه البخاري في صحيحه في موضعين: (4/203) و (5/34) ، وأحمد بن حنبل في مسنده: (2/101) ، والترمذي في سننه (5/293) وقال: هذا حديث حسن صحيح .
وقد روى الحافظ البزَّار اعتراف عثمان نفسه بالفرار، ونص الرواية ـ كما في (مجمع الزوائد) للحافظ الهيثمي (9/84 ـ 85) ـ : (عن سعيد بن المسيب، قال: رفع عثمان صوته على عبد الرحمن بن عوف، فقال له: لأي شئ ترفع صوتك علي وقد شهدتُ بدراً ولم تشهد، وبايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تُبايع، وفررتَ يومَ أُحد ولم أَفِرَّ؟ فقال له عثمان: أمَّا قولك أنَّك شهدت بدراً ولم أشهد، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلَّفني على ابنته وضرب لي بسهم وأعطاني أجري، وأمَّا قولك بايعتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أُبايع، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني إلى أُناس من المشركين وقد علمت ذلك، فلمَّا احتبستُ ضربَ بيمينه على شماله فقال: (هذه لعثمان بن عفان) ، فشمال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من يميني، وأمَّا قولك: فررتَ يوم أحد ولم أَفرَّ، فإن الله تبارك وتعالى قال (إنَّ الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنَّما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم) فلم تُعيِّرني بذنب قد عفا الله عنه) انتهى.
وقال الحافظ الهيثمي: (رواه البزار وإسناده حسن).
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: (البزار بإسناد جيد).
ولم يكن هذا هو الموقف الوحيد بين عثمان وعبد الرحمن بن عوف، بل يظهر أن موقف عبد الرحمن الناقم على عثمان بسبب أمور منها فراره من الزحف، يظهر أنه كان موقفاً قد عُرف عن عبد الرحمن بن عوف، ولذا نقرأ في مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي (7/226) هذه الرواية التي يوردها عن مسند أحمد وغيره، فقال الهيثمي:
(وعن شقيق قال: لقي عبد الرحمن بن عوف الوليدَ بن عقبة، فقال له الوليد: مالي أراك قد جفوت أمير المؤمنين عثمان؟ قال: أبلغه عنى أنِّي لم أفر يوم عينين ـ قال عاصم يوم أحد ـ ولم أتخلف عن بدر، ولم أترك سُنَّة عُمر، قال: فانطلق فخبِّر بذلك عثمان. قال: فقال: أمَّا قوله إنِّي لم أفر يوم عينين، فكيف يعيرني بذنب قد عفا الله عنه فقال: (إنَّ الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنَّما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم)...) إلى أن يقول: (فائته فحدثه بذلك) انتهى .
قال الهيثمي: (رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني باختصار والبزار بطوله بنحوه، وفيه عاصم بن أبي النجود، وهو حسن الحديث، وبقية رجاله ثقات) انتهى. وكررها الهيثمي في (9/83) .
فهذه رواية أخرى معتبرة تفيد إقرار عثمان بفراره في أحد، كما تفيد أنَّ الخصومات التي برزت معه كانت مبتنية على أمور منها هذا الفرار.
وفي رواية أبي يعلى التي أوردها صاحب إتحاف الخيرة المهرة برقم 6624 ما نصه: (فأتيته فحدثته بذلك) ، أي أن الوليد أبلغ ابن عوف بإجابات عثمان. وأياً ما كان ترتيب الأحداث، أي سواء كان الأول هو الحوار الذي جرى بين ابن عوف وعثمان وجهاً لوجه، أو كانت المراسلة الشفهية التي جرت بينهما عبر الوليد بن عقبة (وهو الفاسق بنص القرآن الكريم) هي الأولى، فإنَّه على كلا التقديرين تدل الروايتان على أن عبد الرحمن بن عوف لم يقنع بإجابة عثمان عن فراره من الزحف. ولذا سنذكر موقف عبد الرحمن بن عوف هذا كمؤيد لإجاباتنا التي سنسوقها للرد على تمسك عثمان وشيعته بآية آل عمران 155 التي ورد فيها (ولقد عفا الله عنهم).
فثبت بما ذكرنا أن عثمان فرَّ من الزحف، فهو بمقتضى آية الأنفال ممن باء بغضب الله ومأواه جهنم وبئس المصير.
وقبل أن نُفنِّدَ ما دافع به عثمان وشيعته عن كرامة خليفتهم الراشد، من الجدير أن نذكر أنَّ عثمان ليس هو سلفهم الصالح الوحيد الذي ارتكب هذه الكبيرة، فقد روى الطبري في تفسيره (4/193) أنَّ عمر بن الخطاب أيضاً كان من الفارين يوم أُحد، كما أنَّ ما رووه من صحيح الرواية الدال على أنَّ عمر عاد منهزماً من خيبر وأصحابه يجبنونه، هو ظاهر في أنه فرَّ من خيبر؛ لأنه لا مجال إلى نسبة المنهزم إلى الجُبن إلاَّ حيث يكون انهزامُه لا عن ضعف بل عن جُبن، وهو ما يعني الفرار، ويؤيِّده أنهم رووا أنَّ النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قال لعلي ـ عليه السلام ـ حين بعثه بعد عمر: (ليس بفرّار)، وهذا تعريض ظاهر بمن سبقه أنَّه فرَّ، بل أنه كثيرُ الفرار.. وقد روى الحاكم بعدة أسانيد صحَّحها أن أبا بكر كان قد ذهب في خيبر ورجع منهزماً أيضاً، فيظهر من هذا صحَّةُ ما رُوي من أنَّ أبا بكر كان الأول، وعمر كان الثاني، والإمام عليٌّ الثالث، فالتعريض يشمل أبا بكر.. أضف إلى ذلك أنَّ مجريات حرب الإمام في خيبر تدل على أن في خيبر بعض الأبطال الذين ما كان يقدر عليهم غير عليٍّ عليه السلام، فيكشف هذا مضافاً إلى تكتُّمهم على مجريات المواجهة للأوّلَين في خيبر، أنَّهم إنما انهزموا وفرُّوا خوفاً من بطش أبطال خيبر.. وسيأتيك لاحقاً أنَّ ابن عمر وأصحابه أيضاً فرُّوا من الزحف في معركة لاحقة. وقد ذكروا في تفاسيرهم ومصادرهم أنَّ الذين بقوا يوم حنين كانوا مئة نفر من أصل 12000 مسلم فرَّ معظمهم..! فيظهر أنَّ ارتكاب هذه الكبيرة بالذات كان سلوكاً دأب عليه أولئك الناس. وقد درج على منهاجهم خَلَفُهم أيضاً، فقد صالحوا الصهاينة، وفتحوا لهم سفارات في دول إسلامية، وباعوا أرض فلسطين بالثمن الأوكس، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
تفنيد محاولات الدفاع عن عثمان:
ولنبدأ بتفنيد المحاولات التي بذلها عثمان وشيعته للذب عن كرامة عثمان التي هدرتها آية سورة الأنفال16.
تفنيد المحاولة الأولى:
قيل إن مفاد آية الأنفال خاص بمعركة بدر، ولا يشمل أُحداً وغيرها من المعارك التي فر فيها المسلمون.
فنجيب:
أولاً: هذا قول بغير علم؛ إذ لا دليل عليه.
وثانياً: مفاد الآية مبني على فرض (إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً)، وهذا فرض عام ولا يصلح تخصيصه بمعركة دون أخرى.
وثالثاً: إنَّه لا وجه للتخصيص بعد كون الحكمة المعلومة من تحريم الفرار من الزحف هي تجنيب المسلمين أن يقعوا في الهزيمة والتقتيل والإبادة، وهي حكمة عامة لا تختص بمعركة دون أخرى.
ورابعاً: قال ابن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير) بتفسير الآيتين 15 و 16 من الأنفال: (وقد انكشف المسلمون يوم أُحُد فعنفهم الله تعالى بقوله: (إن الذين تولوا منكم يومَ التقي الجمْعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم) [ آل عمران : 155 ] وما عفا عنهم إلاّ بعد أن استحقوا الإثم، ولما انكشفوا عند لقاء هوازن يوم حنين عنفهم الله بقوله: (ثم ولّيتم مدبرين) إلى قوله (ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفورٌ رحيمٌ) في سورة براءة (25 ـ 27) وذِكر التوبة يقتضي سبق الإثم) انتهى.
أقول: ما ذكره يدل على عموم مفاد آية الأنفال في سائر المعارك بما في ذلك غزوة أحد.
وخامساً: إنَّ المعروف أنَّ الآية هي ضمن سورة الأنفال التي نزلت بعد غزوة بدر، فالحكمة من تنزيلها هي إبلاغ الحُكم بالنسبة إلى ما يلي من المعارك، وهذا ما يؤكِّده ابن عاشور في تفسيره حيث يقول ما نصه: (وهذه الآية عند جمهور أهل العلم نزلت بعد انقضاء وقعة بدر، وهو القول الذي لا ينبغي التردد في صحته كما تقدم آنفاً، فإن هذه السورة نزلت بسبب الاختلاف في أنفال الجيش من أهل بدر عند قسمة مغانم بدر، وما هذه الآية إلاّ جزء من هذه السورة فحكم هذه الآية شَرْع شرعه الله على المسلمين بسبب تلك الغزوة لتوقع حدوث غزوات يكون جيش المسلمين فيها قليلاً كما كان يومَ بدر، فنهاهم الله عن التقهقر إذا لاقوا العدو) انتهى.
وقد أكد ابن عاشور بقاء حكم الآية وكونها غير منسوخة بقوله: (وحكم هذه الآية باق غير منسوخ عند جمهور أهل العلم، وروي هذا عن ابن عباس، وبه قال مالك، والشافعي، وجمهور أهل العلم...) انتهى.
واختار ابن جرير في تفسيره عمومها، وروى في ذلك أثراً عن ابن عباس عَادّاً إياه ممن قال بذاك.
وسادساً: روى الترمذي (3/130) وغيره ـ واللفظ للترمذي ـ قال: (...عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ، فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةً، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاخْتَبَيْنَا بِهَا، وَقُلْنَا هَلَكْنَا ثُمَّ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ الْفَرَّارُونَ قَالَ بَلْ أَنْتُمْ الْعَكَّارُونَ وَأَنَا فِئَتُكُمْ) انتهى. وفي مسند أحمد (2/70) : (فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةً وَكُنْتُ فِيمَنْ حَاصَ فَقُلْنَا كَيْفَ نَصْنَعُ وَقَدْ فَرَرْنَا مِنْ الزَّحْفِ وَبُؤْنَا بِالْغَضَبِ ثُمَّ قُلْنَا لَوْ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ فَبِتْنَا ثُمَّ قُلْنَا لَوْ عَرَضْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ تَوْبَةٌ وَإِلَّا ذَهَبْنَا) انتهى.
وهذا الخبر وإن ضعَّفه الألباني، إلاَّ أن أبا جعفر الطحاوي قد استدل به في (مشكل الآثار) على بقاء حكم آية الأنفال لما بعد بدر. وصنيع الطحاوي مع قول الترمذي معلِّقاً على الخبر: (هذا حديث حسن) يُنبئك عن عدم وحدة الموازين عندهم في التصحيح والتضعيف.
ثمَّ إنه يحتمل الدس في هذا الخبر لمحاولة دفع الوصمة عن ابن عمر وأصحابه؛ والوجه في ذلك أنَّ (العكَّار) ـ كما أفاد الترمذي ـ هو من يفر إلى إمامه لينصره ليس يريد الفرار من الزحف. والرواية صريحةٌ في أنَّ ابن عمر وأصحابه فرُّوا لا إلى إمامهم، ولذا تحقق لديهم أنهم باؤوا بغضب الله تعالى، وإنما بدا لهم أن يرجعوا إلى النبي ليستفهموا عن حالهم ليس إلاَّ، فوصفهم بالعكَّارين لا وجه ظاهر له. بل إنَّ ما قاله الترمذي فيه نظر؛ لأنَّ العكَّار ـ كما في معاجم اللغة وقبله الطحاوي في مشكل الآثار ـ هو الكرَّار في الحرب، فهو يشبه أن يكون عكس الفرَّار، فكيف يصح إطلاقه على الفرَّار؟
ولذا أورد الطحاوي الرواية في مشكل الآثار وحاول الإجابة عن هذا الإشكال، فقال ما نصه: (فقال قائل: العكارون عند العرب هم الكرارون فكيف جاز في هذا الحديث أن يقال هذا القول للفرارين ؟ فكان جوابنا له في ذلك أنَّ المراد بذلك أنهم لما كروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فئتهم؛ ليرجعوا إلى ما يأمرهم به، ولينصرفوا فيما يصرفهم فيه كان ذلك كرا منهم إليه، وعودا منهم إلى ما كانوا عليه من بذل أنفسهم لقتال عدوهم فاستحقوا بذلك أن يكونوا عكارين، والله أعلم بحقيقة ذلك) انتهى.
أقول: والإشكال في جوابه ظاهر جداً؛ إذ العكر هو الكر في الحرب، لا الكر إلى الإمام بمعنى الرجوع إليه، فهذا الكلام من الطحاوي أقرب إلى الهزل منه بالجد، وإنه منه لعجيب! ثمَّ إنه يرد عليه ما أوردناه على كلام الترمذي؛ لأنَّ القوم فرُّوا لا إلى إمام، وإنما بدا لهم الرجوع إلى رسول الله لاحقاً ليتساءلوا إن كانت لهم توبة.
هذا ما تيسَّر من الإجابة عن الدفاع الأول، وبه يُعلم بطلانه.
تفنيد المحاولة الثانية:
وقد ذكروا في الدفاع عن عثمان أن الله عفا عنه وعن أمثاله في قوله تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) آل عمران: 155. وقد عرفتَ أن عثمان نفسه دافع بهذا عن نفسه، كما دافع عنه به ابن عمر في رواية البخاري وغيره.
وهذا دفاع لا يسمن ولا يغني من جوع؛ وبيان بطلانه كما يلي:
أولاً: العفو أعم من العفو الأُخروي والعفو الدنيوي، أي أنه يمكن أن يراد به العفو في الآخرة بمعنى غفران الذنب، ويمكن أن يراد به العفو في الدنيا بمعنى عدم المعاقبة؛ ومطلوب المدافع عن عثمان بن عفان هو المعنى الأخروي للعفو، فعليه أن يثبته، وهيهات أن يثبته. وبعبارة فنية: الدليل أعم من المطلوب.
ثانياً: في الآية نفسها إشارة إلى أن المراد من العفو هو العفو في الدنيا، بقرينة قوله تعالى في آخر الآية: (غفور حليم)؛ فإنَّ ذكر الحلم يناسب العفو الدنيوي دون الأخروي، لأنَّ العفو الدنيوي هو مجرد عدم المعاقبة في الدنيا، وهذا يلائم الحلم.
فإن قلتَ: فلم لا يصلح ذكر الغفران كقرينة على العفو الأخروي؟
قلتُ: إنما يصح هذا إذا كان الغُفران بمعناه في الارتكاز المتشرعي، الذي هو التجاوز بالكُلِّية عن الذنب بعدم المعاقبة عليه في الآخرة، لا معناه في اللغة الذي هو التغطية. فنحن نقول: حمله على المعنى المتشرعي يحتاج إلى دليل، فاللفظ من هذه الجهة مُجمل لا يصلح التمسك به كقرينة. بل نقول: إنَّ حمله على المعنى اللغوي أقرب لعدَّة نكات:
النكتة الأولى: أنَّ التغطية هو المعنى الأنسب لعنوان الحلم المقترن به.
النكتة الثانية: أنَّ التغطية هي الأنسب مع مضمون الآية 159 في نفس السورة، حيث يأمر الله نبيه في السياق نفسه أن يعفو عنهم ويستغفر لهم ويشاورهم.. وهذه كلها صور للتغطية، وكما يعبِّرون في هذا الزمان: طيّ صفحة الماضي.
النكتة الثالثة: أنَّ الله تعالى أمر النبي صلى الله عليه وآله بأن يستغفر لهم في الآية 159، ولو كان الغفران في الآية 155 بمعنى الغفران الأخروي، وصحَّ بقرينة ذلك حمل العفو على العفو الأخروي، لما كان هناك من داع للمطالبة بالاستغفار لهم ثانياً؛ فإن العفو الأخروي يتضمن العفو الدنيوي، ولا عكس؛ ولذا هناك مجال للاستغفار والعفو الأخروي بعد الاستغفار والعفو الدنيوي، ولكن لا معنى للاستغفار والعفو الدنيوي بعد صدور العفو الأخروي، لتضمن الأخير قرينه. فافهم واغتنمْ.
ثالثاً: العفو الأخروي فرعُ التوبة والندم من قبل العاصي، وليس في الآية دليل ولا إشارة إلى أن عثمان وغيره من الفارين ندموا وتابوا، ولا في السيرة والتاريخ ما يدل على هذا الندم. وخُلُوُّ الآية من إشارة إلى توبة أصحاب هذه الكبيرة، قرينة قوية على أنَّ المراد من العفو هو التغطية وعدم المعاقبة، وليس الغفران والعفو الأخرويان.
رابعاً: إنَّ الآية الـ 16 من سورة الأنفال، صريحة في غضب الله وعقوبة جهنم للفار من الزحف، ولسان الآية آبٍ عن التخصيص إلاَّ في مورد الندم والتوبة مع قبولهما من قبل الله تعالى، فحمل العفو في الآية 155 من آل عمران على العفو الأخروي مع عدم دلالة فيها على التوبة، يخلق تعارضاً بيِّناً بين الآيتين. فالحاصل: أنَّ حمل العفو في آية آل عمران على الأخروي، يتعارض مع صريح آية الأنفال.
خامساً: إنَّ الآية 159 من آل عمران، وهي في السياق نفسه، تدل على أنَّ العفو الأخروي لم يتحقق، وذلك بدليل أن الآية تأمر النبي بالاستغفار لهم، وهذا يعني أن العفو الأخروي لم يتحقق من قبل، وإلا لم يكن النبي مطالباً بالاستغفار.
فإن قلتَ: فأمر النبي بالاستغفار لهم دليل على أنهم استأهلوا المغفرة، وهذا كاشف عن الندم والتوبة.
قلتُ: هذا يتم إن كان الاستغفار حقيقياً، ولم يكن من باب تطييب القلوب وتأليف الجمع والمداراة والتشجيع على الاستغفار والتوبة.
فإن قلتَ: فما الدليل على أنه لمجرد التطييب والتأليف؟
قلتُ: الدليل على ذلك هو أنه وقع في سياق الأمر بمشاورتهم في الأمر، وهذه المشاورة تطييبية تعليمية بلا ريب؛ لأن النبي غني عن عقولهم بكمال عقله وكونه مؤيداً بالوحي والعصمة.
فإن قلتَ: فحملك الاستغفار على غير حقيقته، ينفي صلاحيته للتدليل على أن المغفرة لم تقع من قبل.
قلتُ: بل هو على غير حقيقته لا يزال صالحاً لذلك؛ والسبب هو أنَّه في الظاهر على حقيقته، أي عند متلقي الاستغفار، أي من يتعلق به الاستغفار من أولئك المذنبين، ولو كان الذنب قد غُفر لهم حقيقةً من قبل لما ساغ أمر النبي بالاستغفار لهم لا حقيقةً ولا ظاهراً، فلمَّا كان الذنب غير مغفور حقيقةً، ساغ الأمر بالاستغفار حقيقةً على فرض تحقق أهليتهم عبر الندم والتوبة، أو الاستغفار غير الحقيقي على فرض عدم أهليتهم بسبب عدم توبتهم. فاتضح أنَّ الاستغفار الظاهري أيضاً يتوقف على عدم تحقُّق المغفرة من ذي قبل.
سادساً: إنَّ العفو والاستغفار وقعا متعاطفين، فعُطف بالأمر بالاستغفار على الأمر بالعفو، وذلك في الآية 159، وهذه قرينة على أن المراد بالعفو غير المراد بالاستغفار وهو طلب المغفرة الأخروية، فيكون المراد بالعفو عدم المعاقبة من قبل النبي؛ لأن إرادة النبي هي تجسيد لإرادة الله تبارك وتعالى، فلا يصح افتراض أن يكون النبي مطالباً بالعفو الحقيقي الذي يستلزم الرضا القلبي في حين أنَّ الله تعالى لم يعفُ عفواً أخروياً، بل لا يزال ذلك في حيِّز الطلب والدعاء بـ (استغفر لهم) ، فيثبت بذلك أن العفو في الآية 159 هو عفو بمعنى عدم المعاقبة، وهذه قرينة على أنَّ المراد في الآية 155 من العفو هو نفس هذا المعنى.
ولا تغفل عن أنَّ هذا الاستغفار ـ كما ذكرنا آنفاً ـ وإن كان يرتبط بالآخرة، إلا أنه ظاهري، أي أن الغرض منه التطييب والتأليف، وذلك بقرينة المشاورة كما أوضحنا.
سابعاً: إن ما نقوله من أن المراد بالعفو هو مجرد عدم المعاقبة في الدنيا، وليس المغفرة الأخروية، إن ما نقوله من ذلك هو رأي غير واحد من علماء أهل السنة، فهو ما ذهب إليه الحافظ ابن جريج المكي (ت: 150 هـ) ، حيث روى الطبري في تفسيره عنه ذلك، فقال الطبري: (حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله: (ولقد عفا الله عنهم)، يقول: (ولقد عفا الله عنهم) إذ لم يعاقبهم) انتهى من تفسير الطبري. وهو صريح في أن المراد بالعفو عدم المعاقبة في الدنيا؛ فإن (لم يعاقبهم) مختص بالماضي، وليس يشمل الزمان المستقبل ليستوعب الدار الآخرة. وهو الرأي الذي تبناه ابن جرير الطبري (ت: 310 هـ) في تفسيره 4 : 195 دار الفكر ـ بيروت، فقال ما نصه: (وأما قوله (ولقد عفا الله عنهم) فإن معناه: ولقد تجاوز الله عن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان، أن يعاقبهم بتوليهم عن عدوهم) انتهى.
ثامناً: قد مرَّ آنفاً ما رواه أهل السنة أنفسهم من أنَّ عبد الرحمن بن عوف لم يقتنع بتمسك عثمان بالعفو في الآية الكريمة، ولذا تكرَّرت منه مؤاخذة عثمان بالفرار من الزحف بالرغم من اطلاعه على طريقة اعتذار عثمان. وهذا الموقف من عبد الرحمن بن عوف ينبئ عن أنه لم يوافق عثمان بن عفان في فهمه للعفو على أنه مغفرة للذنب بالمعنى الأخروي، فيؤيد ما نقوله.
علماً أنَّ الشيخ المفيد ـ رحمه الله ـ قد سبق إلى هذا التفريق بين مَعنَيَي العفو، واختار أن المراد بالعفو في الآية هو عدم المعاقبة، وليس المراد به العفو الأخروي. انظر: الإفصاح، ص70.
هذا تمام ما تيسَّر في بيان أنَّ عثمان بن عفان وغيره مغضوب عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير، وبيان بطلان ما تمسك به القوم في الدفاع عنه.
وقد عرفتَ أنَّ شيعة أهل البيت ليسوا هم الناقمين فحسب، بل في كبار سلف أهل السنة من أبرز نقمته وسخطه على عثمان لفراره، ولم يقبل منه الاستناد إلى العفو الوارد في آية آل عمران 155، وهو عبد الرحمن بن عوف.
ويقرب أنَّ نقمة ذلك المصري الذي ورد ذكره في الرواية الأولى عند البخاري وغيره، حاكية عن نقمة أهل مصر الذين دورهم معروفٌ في الثورة على عثمان التي أدت إلى مقتله، كما أنَّ استناد المصريين إلى هكذا مضامين لها بُعد وتأصيل قرآني، يقرب أنه ناشئ من إعلام انطلق من مجتمع الصحابة نفسه، ويشهد لذلك وجود بعض الصحابة في زعامة الثائرية على عثمان، منهم: محمد بن لأبي حذيفة الذي كان يؤلِّب الناس على عثمان في مصر، فانظر ترجمته في كتاب الإصابة لابن حجر. ولا تغفل عن موقف عبد الرحمن بن عوف في هذا السياق.
وبقي أن نجيب عن تساؤل ربما يخطر ببال الدارسين لهذا الموضوع، ومفاده:
ألا يمكن التمسك بالفضائل التي رويت في شأن عثمان بن عفان؛ لنقول إنه تاب وعفا الله عنه؟
فنجيب:
بعد ثبوت كونه ممن غضب الله عليهم بنص القرآن الكريم، لا يسعنا تصديق ما يُذكر في حقه من الفضائل الروائية؛ فإن الثبوت القرآني لا يصمد أمامه روايات يحتمل أنها من وضع شيعة عثمان الذين استولوا على جهاز الإعلام الإسلامي لفترة طويلة من الزمن، ويقوي احتمال الوضع أنَّ من الصحابة من كان يطعن في عثمان، كالذي مرَّ عليك من موقف عبد الرحمن بن عوف وموقف محمد بن أبي حذيفة، ولو صح ما يزعمه شيعته من فضائل له، لما كان أولئك الصحابة يمقتونه بهذا النحو الصريح. وقد ذكرت العديد من المواقف من قبل الصحابة ضد عثمان، نذكر منها الأمثلة التالية مضافةً إلى موقفَي ابن عوف وابن أبي حذيفة:
المثال الأول: ما ورد في مجمع الزوائد (9/298) من أنَّ الذي قتل عمَّار بن ياسر رضي الله عنه، إنما قتله حقداً عليه لما سمعه يقع في (يسب) عثمان. و في كتاب (العقد الفريد) لابن عبد ربه (5/44) ما يؤيد مساهمة عمَّار في قتل عثمان.
المثال الثاني: ما ورد في كتاب (العقد الفريد) لابن عبد ربه (5/44) أنَّ عائشة وطلحة والزبير وعليًّا عليه السلام كان لهم دور في قتل عثمان، وإليك النص: (العتبي: قال رجل من بني ليث: لقيت الزبير قادمًا، فقلتُ: أبا عبد الله، ما بالُك؟ قال: مطلوبٌ مغلوبٌ، يغلبني ابني ويطلبني ذنبي! قال: فقدمت المدينة فلقيت سعد بن أبي وقاص، فقلتُ: أبا إسحق، من قتل عثمان؟ قال: قتله سيفٌ سلَّته عائشة، وشحذه طلحة، وسمَّه عليٌّ! قلتُ: فما حال الزبير؟ قال: أشار بيده، وصمت بلسانه) انتهى.
المثال الثالث: في كتاب (العقد الفريد) لابن عبد ربه (5/47) أنَّ الزبير كان راضيًا بمنع عثمان من الماء مشبِّهًا له بالكفار الذين يُحال يومًا ما بينهم وبين ما يشتهون، وإليك نص الرواية: (الفضل عن كثير عن سعيد المقبري قال: لما حصروا عثمان ومنعوه الماء، قال الزبير: وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل..) انتهى. وتمام الآية: (.. إنهم كانوا في شك مُريب) [سبأ : 54].
المثال الرابع: في كتاب "أنساب الأشراف" للبلاذري (279 هـ) : (6/203 ـ 204) دار الفكر ـ بيروت ، أنَّ أبا الجَهْم بن حذيفة العدوي مع مجموعة أرادوا أن يصلوا على عثمان بن عفان فعارضهم مجموعة من رجال الأنصار قائلين: "لا ندعكم تصلون عليه"، فأجابهم أبو الجهم: "إلاَّ تدعونا نصلِّي عليه فقد صلَّت عليه الملائكة"، فقال الحجَّاج بن غَزِيَّة : "إن كنت كاذباً فأدخلك الله مدخله"، قال: "نعم حشرني الله معه"، قال ابن غزية : "إنَّ الله حاشرك معه ومع الشيطان، والله إنَّ تركي إلحاقك به لخطأ وعجز"، فسكت أبو الجهم . أقول: هذا واعلم أن الحجاج بن غزية صحابي من الأنصار، ترجم له في "أسد الغابة": (1/382) . واعلم أيضًا أن أبا الجهم صحابيٌّ، ترجم له في "أسد الغابة": (5/162).
المثال الخامس: ذكر علماء أهل السنة أنَّ عمرو بن الحَمِق الخزاعي ـ وهو صحابيٌّ ـ كان أحد الأربعة الذين باشروا قتل عثمان بن عفان بأيديهم . انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد: 3/74 ، تهذيب الكمال للمزي: 21/597 ، أسد الغابة لابن الأثير: 4/100 ، الإصابة لابن حجر: 4/514 .
المثال السادس: ذكر علماء أهل السنة أنَّ الصحابي عبد الرحمن بن عديس البلوي كان أحد القادة الَّذين ترأسوا حركة الثورة ضد عثمان بن عفان . انظر: المصنف لابن أبي شيبة: 7/492 ، الإكمال لابن ماكولا: 6/150 ، الإصابة لابن حجر: 4/281 .
المثال السابع: ما ذكروه من أنَّ الصحابيَّ فروة بن عمرو بن ردقة الأنصاري البياضي كان ممَّن أعان على قتل عثمان . انظر: أسد الغابة لابن الأثير: 4/179 .
المثال الثامن: ما ذكروه من أنَّ الصحابيَّ الأكدر بن حمام بن عامر اللخمي كان ممَّن تحرَّك مع الثُّوار لمُحاصرة عثمان بن عفان . الإصابة لابن حجر: 1/353 .
وهذا القدر يكفي لذي اللب؛ حتى يعرف مكانة عثمان في ذلك المجتمع، فيظهر أنَّ نسيج الفضائل التي تتراءى لعثمان، هي من صنيع شيعته من بني أمية ومَن والاهم، وإلاَّ فثبوت أنه ممَّن غضب الله عليه بالقرآن الكريم، وكونه ممن لفظه المجتمع الإسلامي حتى في جيل الصحابة، هو أمر واضح لمن ألقى السمع وهو شهيد. على أنَّ دراسة دقيقة لما روي في فضائله سنداً ودلالةً يمكن أن ينتهي بالباحث الحر إلى إسقاطها عن مرتبة الاعتبار.
والله ولي التوفيق.. والحمد لله رب العالمين.