كان في واقع الخيال مدينة عظيمة فاتنة، فيها من سحر الطبيعة ما يدهش القلب ويأسر اللب، تتناثر على أطرافها الورود الباسمة، وتتعانق في هوائها الخمائل، وتتراقص على نسائمها الأغصان طربًا لأغنية البلابل الشادية، في منظرحالم يحكي غاية الحسن وعبقري الجمال.
وازدانت المدينة على حلل الجمال بحلة أخرى، حين اجتمع على ثراها الحكماء ممن جمعوا سداد الرأي، وقوة النظر، وصواب الفكرة، واتفقوا على أن ينتخبوا في كل مرة أميرًا على هذه المدينة، يكون حقهم عليه وحقه عليهم أن يعمل ما يشاء بعد أن يرغد عيشهم وينثر الخير في حياتهم، ومع ذلك فهم يأتمرون بأمره عامين، وعامين فقط، ثم يخلعوه ويلقوه في بيداء مقفرةٍ مجاورةٍ، تشققت منها الأرض، وتجهمت فيها السماء، وتفرقت على ثراها الوحوش الضواري، وماتت عندها معاني الحياة إلا حياة البؤس والفقر والفاقة، ليقضي ما بقي فيها حيًّا إن كانت له حياة.
وهكذا كان دستور المدينة الصارم (مدينة الحكماء)، يعيش فيها الأمير زمنًا في الجنة والقصر ثم يستحيل القصر قبرًا، والغنى فقرًا. ولذا لم يتعاقب على إمرة هذه المدينة على مر الأعوام إلا من كان شيخًا هرمًا ممن عاش الحياة حتى سئمها، فرضي بهذا المصير بعد تلك النعمة الضّافية تحت ذلك القصر المشيد، إلا أميرًا واحدًا انتخب نفسه وهو في ريعان شبابه، وروض حياته!! وكان مع ذلك حكيمًا أريبًا لبيبًا.
لما تولى مقاليد الحكم شمر عن ساعد الجد، فلم يسعد في حياته بعيش، أو يستقر له جفن، أو ينعم براحة، بل سعى بعملٍ دؤوب وهمة وثابة فقسم عماله وسيرهم إلى تلك البيداء المقفرة، فأنشأ فيها المزراع، ورفعوا عليها الجسور، وشقوا لها الينابيع، وشيدوا القصور... ولم يتم العامان حتى استحالت جنةً عظيمة يغار من حسنها الحسن، ويتوارى من جمالها الجمال، وانتقل هذا الأمير إلى هذه الجنة ليبدأ حياة الراحة بعد شقاء التعب.
أخي القارئ، إن ذلك الأمير الشاب بنفاذ رأيه وبعد نظره وصدق عزيمته، نموذج لحال المؤمن الحصيف الذي يرى دنياه مزرعةً لآخرته، فلا تأسره شهوة أو نزوة ولا يغويه هوى أو شيطان في سيره إلى جنة الله، فإن العمل بطاعة الله ورسوله وآله الكرام والصبر على مغريات الحياة يعقبه النعيم الذي لم تره عين ولم تسمعه أذن... فهل نكون ذاك الأمير؟!!