قال الرازي في كتابه مفاتيح الغيب : أما القائلون بأنّ الإنسان عبارةٌ عن هذه البنية المحسوسة ، وهذا الهيكل المجسّم المحسوس ، فإذا أبطلنا كون الإنسان عبارةً عن هذا الجسم ، وأبطلنا كون الإنسان محسوساً ، فقد بطل كلامهم بالكلية .
والذي يدلّ على أنه لا يمكن أن يكون الإنسان عبارةً عن هذا الجسم وجوه :
الأول : أنّ العلم البديهي حاصلٌ ، بأنّ أجزاء هذه الجثة متبدّلةٌ ، بالزيادة والنقصان تارةً بحسب النمو والذبول ، وتارةً بحسب السمن والهزال ، والعلم الضروري حاصلٌ ، بأنّ المتبدّل المتغيّر مغايرٌ للثابت الباقي ، ويحصل من مجموع هذه المقدّمات الثلاث : العلم القطعي بأنه ليس عبارةً عن مجموع هذه الجثة .
الثاني : أنّ الإنسان حال ما يكون مشتغل الفكر ، متوجّه الهمة نحو أمرٍ مخصوصٍ ، فإنه في تلك الحالة غير غافلٍ عن نفسه المعيّنة ، بدليل أنه في تلك الحالة قد يقول : غضبتُ ، واشتهيتُ ، وسمعتُ كلامك ، وأبصرتُ وجهك ، و " تاء " الضمير كناية عن نفسه المخصوصة ، فهو في تلك الحالة عالمٌ بنفسه المخصوصة ، وغافلٌ عن جملة بدنه ، وعن كلّ واحدٍ من أعضائه وأبعاضه .
الثالث : أنّ كلّ أحدٍ يحكم بصريح عقله ، بإضافة كلّ واحدٍ من هذه الأعضاء إلى نفسه ، فيقول : رأسي ، وعيني ، ويدي ، ورجلي ، ولساني ، وقلبي ، وبدني .. والمضاف غير المضاف إليه ، فوجب أن يكون الشيء الذي هو الإنسان مغايراً لجملة هذا البدن ، ولكلّ واحدٍ من هذه الأعضاء ، فإن قالوا : فقد يقول : نفسي وذاتي ، فيضيف النفس والذات إلى نفسه ، فيلزم أنّ نفس الشيء وذاته مغايرةٌ لنفسه وذاته وذلك محالٌ ، قلنا : قد يُراد بنفس الشيء وذاته هذا البدن المخصوص ، وقد يُراد بنفس الشيء وذاته الحقيقة المخصوصة التي إليها يشير كلّ أحدٍ بقوله : " أنا " ، فإذا قال : نفسي وذاتي ، كان المراد منه البدن ، وعندنا أنه مغايرٌ لجوهر الإنسان .
الرابع : أنّ كلّ دليلٍ يدلّ على أنّ الإنسان يمتنع أن يكون جسماً ، فهو أيضاً يدلّ على أنه يمتنع أن يكون عبارةً عن هذا الجسم ، وسيأتي تقرير تلك الدلائل .
الخامس : أنّ الإنسان قد يكون حيّاً حال ما يكون البدن ميّتاً ، فوجب كون الإنسان مغايراً لهذا البدن ، والدليل على صحة ما ذكرناه قوله تعالى :
{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } ، فهذا النص صريحٌ في أنّ أولئك المقتولين أحياء ، والحسّ يدلّ على أنّ هذا الجسد ميتةٌ .
السادس : أن قوله تعالى : { النار يعرضون عليها غدوا وعشيا } ، وقوله : { أُغرقوا فاُدخلوا نارا } ، يدلّ على أنّ الإنسان حيٌّ بعد الموت ، وكذلك قوله (ص) : " الأنبياء لا يموتون ولكن يُنقلون من دارٍ إلى دار " ، وكذلك قوله (ص) : " القبر روضةٌ من رياض الجنة ، أو حفرةٌ من حفر النيران " ، وكذلك قوله (ص) :
" من مات فقد قامت قيامته " .
وإن كلّ هذه النصوص يدل على أنّ الإنسان حيٌّ يبقى بعد موت الجسد ، وبديهة العقل والفطرة شاهدتان بأنّ هذا الجسد ميتٌ ، ولو جوّزنا كونه حيّاً كان يجوز مثله في جميع الجمادات ، وذلك عين السفسطة ، وإذا ثبت أنّ الإنسان حيٌّ ما كان الجسد ميتاً ، لزم أنّ الإنسان شيءٌ غير هذا الجسد .
السابع : قوله (ص) في خطبةٍ طويلةٍ له : " حتى إذا حُمل الميت على نعشه ، رفرف روحه فوق النعش ، ويقول :
يا أهلي !.. ويا ولدي !.. لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي ، جمعتُ المال من حلّه ومن غير حلّه ، فالمهنأ لغيري والتبعة عليّ ، فاحذروا مثل ما حلّ بي " .
وجه الاستدلال : أنّ النبي (ص) صرّح ، بأنّ حال كون الجسد محمولاً على النعش ، بقي هناك شيءٌ ينادي ويقول :
" يا أهلي !.. ويا ولدي !.. جمعت المال من حلّه وغير حله...." ومعلومٌ أنّ الذي كان الأهل أهلاً له ، وكان الولد ولداً له ، وكان جامعاً للمال من الحرام والحلال ، والذي بقي في ربقته الوبال ، ليس إلا ذلك الإنسان ، فهذا تصريحٌ بأنّ في الوقت الذي كان الجسد ميّتاً محمولاً على النعش ، كان ذلك الإنسان حيّاً باقياً فاهماً ، وذلك تصريحٌ بأنّ الإنسان شيءٌ مغايرٌ لهذا الجسد والهيكل .
الثامن : قوله تعالى : { يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية } ، والخطاب بقوله : { ارجعي } إنما يتوجّه إليها حال الموت ، فدلّ هذا على أنّ الشيء الذي يرجع إلى الله بعد موت الجسد ، يكون راضياً مرضيّاً عند الله ، والذي يكون راضياً مرضيّاً ليس إلا الإنسان ، فهذا يدلّ على أنّ الإنسان بقي حيّاً بعد موت الجسد ، والحيّ غير الميّت ، فالإنسان مغايرٌ لهذا الجسد .
التاسع : قوله تعالى : { حتى إذا جاء أحدهم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ثم ردوا إلى الله موليهم الحق } ، أثبت كونهم مردودين إلى الله ، الذي هو موليهم الحقّ ، عند كون الجسد ميّتاً ، فوجب أن يكون ذلك المردود إلى الله مغايراً لذلك الجسد الميّت .
الثالث عشر : أنّ القرآن والأحاديث يدلان على أنّ جماعةً من اليهود قد مسخهم الله ، وجعلهم في صورة القردة والخنازير ، فنقول : ذلك الإنسان هل بقي حال ذلك المسخ أولم يبقَ ؟.. فإن لم يبقَ كان هذا إماتة لذلك الإنسان ، وخلق خنزير أو قردة ، وليس هذا من المسخ في شيءٍ ، وإن قلنا : إنّ ذلك الإنسان بقي حال حصول ذلك المسخ ، فنقول : فعلى هذا التقدير الإنسان باقٍ ، وتلك البنية وذلك الهيكل غير باقٍ ، فوجب أن يكون ذلك الإنسان شيئاً مغايراً لتلك البنية .
الرابع عشر : أنّ رسول الله (ص) كان يرى جبرائيل في صورة دحية الكلبي ، وكان يرى إبليس في صورة الشيخ النجدي ، فهنا بنية الإنسان وهيكله وشكله حاصلٌ ، مع أنّ الحقيقة الإنسانية غير حاصلةٍ ، وهذا يدل على أنّ الإنسان ليس عبارةً عن هذه البنية وهذا الهيكل .
السابع عشر : الإنسان يجب أن يكون عالماً ، والعلم لا يحصل إلا في القلب ، فيلزم أن يكون الإنسان عبارةً عن الشيء الموجود في القلب ، وإذا ثبت هذا بطل القول بأنّ الإنسان عبارةٌ عن هذا الهيكل وهذه الجثة .
إنما قلنا : إنّ الإنسان يجب أن يكون عالماً ، لأنه فاعلٌ مختارٌ ، والفاعل المختار هو الذي يفعل بواسطة القصد إلى تكوينه ، وهما مشروطان بالعلم ، لأنّ ما لا يكون متصوراً امتنع القصد إلى تكوينه ، فثبت أنّ الإنسان يجب أن يكون عالماً بالأشياء .
وإنما قلنا إنّ العلم لا يوجد إلا في القلب للبرهان والقرآن ، أما البرهان : فلأنّا نجد العلم الضروري بأنّا نجد علومنا من ناحية القلب .. وأما القرآن : فآيات نحو قوله تعالى : { لهم قلوب لا يفقهون بها } ، وقوله : { كتب في قلوبهم الإيمان } وقوله : { نزل به الروح الأمين على قلبك } ، وإذا ثبت أنّ الإنسان يجب أن يكون عالماً ، وثبت أنّ العلم ليس إلا في القلب ثبت أنّ الإنسان شيءٌ في القلب ، أو شيءٌ له تعلّقٌ بالقلب ، وعلى التقديرين فإنه بطل قول من يقول : إنّ الإنسان هو هذا الجسد وهذا الهيكل