دروس السيد محمد باقر السيستاني حول منهج التثبت في شأن الدين ( الحلقة 10)
بتاريخ : 19-08-2016 الساعة : 11:43 PM
دروس السيد محمد باقر السيستاني حول منهج التثبت في شأن الدين ( الحلقة 10)
1
منهج التثبت في شأن الدين
(الحلقة العاشرة)
الفصل الثاني
يتعرّض هذا الفصل للمقياس العقلي العام للزوم الاهتمام بالشيء والتحقق
منه، ثم تطبيق ذلك في شأن الدين.
(المقياس العقلي العام للزوم الاهتمام بالشيء)
إن للإنسان اهتماماً ببعض الأشياء دون بعض؛ بدليل أنه يرغب في بعض
الأشياء والأفعال ويكره بعضاً آخر، فهو إذن يسعد ببعضها فيطلبها، ويشقى ببعض
آخر فيكرهها.
وأصل هذا الأمر يحصل للإنسان بغريزته كما يحصل للحيوانات أيضاً ، - -
ويكفي في حصوله له أن يحس به ويدركه ولو بأدنى مستويات الإدراك، فلا يتوقف
على التعقل.
وأما العقل الإنساني، فهو يقضي بقاعدتين فطريتين تجريان في شعوره
وارتكازه مجرى الدم في عروقه، وتمثلان أساساً لجميع تصرفات الإنسان المعقولة..
القاعدة الأولى: إن ضابط السلوك السليم أحد أمرين:
)الأول(: اتباع الحكمة.
ومرجع الحكمة إلى رعاية السعادة والشقاء على وجه جامع؛ فلا يقدم
الإنسان تحصيل لذة يسيرة عاجلة على معاناة طويلة آجلة، بل لا ينساق خلف لذة
عاجلة من دون البحث والفحص عما يمكن أن تخلّ فه من معاناة.
وتوضيح ذلك: أن بإمكان الإنسان أن يكتشف بقوّة العقل والتفكير
العواقب المستقبلية لتصرفاته وأفعاله، كما أن بإمكانه الاهتداء إلى ما يغيب عن
إحساسه من الأضرار الحالية غير المحسوسة، وهو يتميّ ز في ذلك عن الحيوانات؛
حيث لا يتأتّ ى لها ذلك إلا بمقدار ما ض مّ نت غرائزها من رعاية مصالحها.
2
وعليه: فإنه يلزم الإنسان تحرّي مقتضيات السعادة والشقاء -عاجلها
وآجلها، ظاهرها وباطنها-، والأخذ بما تقتضيه ملاحظة مجموعها؛ فلا يرجح اللذة
اليسيرة العاجلة المشهودة على المعاناة الطويلة اآججلة أو غير المحسوسة ابتداءً.
وهذا المعنى من البديهيات العامة المعروفة لدى كل إنسان؛ فكل إنسان يذعن
بوضوح بأن مقتضى العقل تقديم الأهم على المهم، والمهم على ما لا أهمية له، ولا يزال
بعض الناس ينصح بعضاً آخر بتأمل عاقبة الشيء، وينهاه عن الاندفاع العاجل فيما لا
تحمد عاقبته، بل هذا المبدأ مما يعيه الطفل أيضاً ، وإنما يقع النصح به تذكيراً لا تعليماً ؛
لأن الرغبات العاجلة قد تؤدي إلى عدم تقدير العواقب العاجلة، كما أن بعض
الشهوات قد تضعّف الإرادة وتغلب سلطان العقل.
فالحكمة مجموعة في كلمتين: الاعتبار بالغائب حتى كأنه حاضر، والاعتبار
بالمستقبل حتى كأنه حالّ وقائم.
)الثاني(: مراعاة القيم الأخلاقية وإن أدت إلى نكد وعناء؛ فلا يصح في حكم
العقل أن يكذب المرء، أو يتعدى على الغير، أو على ماله، أو يسيء إليه، أو يترك
المضطر ليموت، وإن كان في ذلك لذة يشعر معها بالسعادة ولا يخشى منها ضرراً
عاجلاً أو آجلا .
وهذا المعنى أيضاً من البديهيات التي يجري عليها عمل عامة الناس -على
الإجمال-؛ فإن القيم الأخلاقية -الإيجابية والسلبية- من أصول قواعد السلوك
الإنساني، كما سبق التذكير به في تمهيد البحث.
]الفرق بين الحكمة والفضيلة[:
وبذلك يتبيّن أن مراعاة القيم الأخلاقية لا ترجع إلى مراعاة السعادة والنفع
-بمعنى: النفع على وجه جامع-؛ لافتراقهما في موردين:
)الأول(: أن تكون مراعاة القيمة الأخلاقية وعدمها سواء من حيث اآجثار
التي يرجوها أو يحذرها.
)الثاني(: أن يكون في مراعاة القيمة عناء ومشقة أزيد بالقياس إلى ما لو لم
يراعها وحينئذ يشعر المرء بالتضحية في مراعاتها، كمن يعرض نفسه للخطر لإنقاذ
اآجخرين، وكمن يؤثر اآجخرين بماله رغم حاجته.
ويتضح الفرق بين مقولة الحكمة -بمعنى تحرّي النفع على الوجه الجامع-
وبين مقولة القيم الأخلاقية، لو لاحظنا حال من يترك السرقة مع قدرته عليها.. فهو
3
تارة: يتركها حذراً من انكشاف الأمر والمعاقبة عليها ويقدر أن مفسدة ذلك أزيد من
المنفعة التي يرجوها بالمال المسروق، وأخرى: يكون تجنب السرقة كراهة للتعدي على
مال الغير ورغبة عن الانتفاع به.
فالسبب في اجتناب السرقة في الحالة الاولى ملاحظة حسابات النفع
والخسارة فحسب؛ ومن هنا يكون اجتنابه هذا رعاية لحكم العقل الحكمي، بخلاف
الحالة الثانية التي لا ينطلق الاجتناب فيها من حسابات النفع والخسارة؛ إذ قد يعتقد
المرء جازماً أنه لو فعل لم ينكشف عمله، ولهذا يكون تركه منطلقاً من الاستجابة
للعقل القيمي والضمير الإنساني.
هذا، وينبغي تتميم هذه القاعدة بنقاط ثلاث شارحة لها:
)النقطة الأولى(: في التأكد من عدم رجوع مقولة القيم إلى مقولة الحكمة -
بمعنى تحرّي النفع وتوقّي الضرر على وجه جامع ؛ إذ قد ي دّ عى أن حكم العقل -
برجحان الأعمال الفاضلة وحظر أضدادها يرجع في الحقيقة إلى ملاحظة مقتضى
الحكمة فيما ينفع المرء ويضره بأحد وجهين:
)الوجه الأول(: بالنظر إلى أن مراعاة القيمة الأخلاقية يرافق ضرباً من
السعادة المعنوية؛ لأنها تورث شعوراً بالرضا عن النفس والانسجام معها، كما أن
انتهاكها يوجب ضرباً من الشقاء النفسي؛ لما تورثه من الشعور بالنكد والحزازة ووخز
الضمير.
وعليه: تكون مراعاة القيمة طلباً للرضا عن النفس أو تجنباً للنكد والحزازة،
وهما أيضاً جزء من الشقاء والسعادة؛ إذ لا يصح حصر السعادة والشقاء لدى الإنسان
بالمتعة والالتذاذ الحسي ونحوها كالمال والجاه.
ولكن الواقع أن هذا الوجه مخالف للوجدان العام؛ إذ تفقد التضحية بناءً
عليه معناها؛ لأنها لا تزيد حينئذ على ترجيح بعد نفسي معنوي على بعد نفسي مادي،
وهذا خلاف البداهة العقلائية.. في عدّ التضحية والإيثار بالمال والنفس لأجل
اآجخرين تجاوزاً للذات وإهمالا لمآرب النفس.
على أننا قد نجد المرء يراعي قيمة معنوية من غير أن يحدث في داخله أي
حزازة معتد بها فيما لو لم يراع تلك القيمة، فمثلاً : من يحتضن الانتحاري لينقذ
اآجخرين، أو يرجع في الحرب على أدباره لحفظ شخصه، قد لا يجد حزازة كبيرة
4
توجب تضحيته بنفسه ولا سيّما إذا كان ذلك حالة متعارفة في زملائه لا محاسبة -
عليها أو تشهير ، ولكنه رغم ذلك يعرض عن الحياة وملذّاتها، ويقدم على هذه -
الخطوة الفاضلة.
)الوجه الثاني(: أن يدعى أنه لا حكم عقلي مغروس في باطن الإنسان، بل
هذه الأحكام المنسوبة إلى العقل العملي مما يجعله العقلاء رعاية لمصالح النوع وحفظاً
للنظام الإنساني كما عليه الاتجاه المشهور في المنطق الأ رسطي ؛ حيث يلقن الإنسان - -
هذه القضايا منذ صغره؛ فيظن أنها تنبعث من داخله.
ولكن هذا الادعاء أيضاً ينافي الوجدان العام؛ فإن من المشهود انبعاث القبح
والحسن من ضمير الإنسان.
نعم، قد يتحفّز هذا الاستعداد بعد مرحلة الإدراك ويستعلي تدريجاً ، وقد
يوجب التلقين تحفز هذا الاستعداد مبكراً، ولكن هذا لا يعني أن هذا الاستعداد وليد
التربية.. كما هو الحال في اللغة؛ حيث إن الطفل تتكوّ ن له لغة لا محالة فيما إذا لم يعلّ مه
البالغون لأن اللغة حاجة إنسانية ماسة، والإنسان بطبيعته ناطق؛ فيريد التفهم -
والتفهيم بالنطق .. ولكن البالغين يسبقون الطفل بتلقينه باللغة؛ فيحفزون فيه الحسّ -
اللغوي مبكراً؛ فالحسّ اللغوي في الطفل ليس وليد التلقين، بل يتحفّز به بهذا العامل
الخارجي، وهذا أمر واضح.
فتبيّن من هذا العرض: أن باب الفضيلة يغاير باب النفع والضرر؛ فهو شعور
في داخل الإنسان يجرّه إلى اتجاه الفضيلة ويبعّده عن اتجاه الرذيلة، من غير أن يتحرّى به
منفعة فيكون شعوراً نفعياً .
]غاية الفضيلة مراعاة الصلاح[:
)النقطة الثانية(: أن الرغبة الإنسانية إلى الفضيلة، وإن لم ترجع إلى تحرّي
النفع، إلا أنه لا يبعد القول بأن الغاية والمغزى من زرع القيم في داخل الإنسان هو
رعاية المصالح والمفاسد النوعية الدنيوية؛ وذلك لوجهين:
)الوجه الأول(: المتابعة والاستقراء.
فإننا نجد أن المصالح النوعية للإنسان منوطة بالفضائل، ويتضح ذلك لنا
جلياً فيما لو فرضنا الإنسان حيادياً تجاه الفضائل، كما لو لم يتصف مثلاً بروح محبة - -
الصدق وكان معتاداً على اللامبالاة فإنه ينتج عن ذلك: أن لا يثق أحد بأحد، مع أن
5
الحياة الاجتماعية مبنيّة على أصل الصدق في المخبِ . وهكذا لو فرض أن الإنسان لم
يغرس فيه روح الوفاء بالالتزامات، وكان بطبيعته غير مبا ل تجاه أي التزام،
لاستوجب انهيار الحياة الإنسانية؛ فإن الشروط والمواثيق، والعهود الفردية،
والعشائرية، والدولية، والأمان كلها مبنية على قيمة الالتزام، وكذلك الحال في روح
العفاف فلو فرضنا الإنسان غير مبا ل تجاه الارتباط بأي شخص، لكان حال المجتمع
البشري أشبه بالحيوانات؛ يتحرك كل من فيه من منطلق الغريزة دون محدودية في
ممارساته. وكذا لو لم يكن الإنسان شاكراً بطبعه لا يشعر تجاه من أسدى له خدمة -
وإحساناً بأي إحساس إيجابي، بل كان يستوي عنده من أحسن إليه ومن لم يحسن ، -
لزهد الناس في إسداء إحسان إلى اآجخرين إلا نادراً .
وهكذا يظهر: أن الفضائل الأخلاقية تضمن المصالح النوعية للإنسان في
الحياة الدنيا، ومن ثَمَّ تتحرّ اها على الإجمال جميع القوانين.
نعم، هذه المصالح على ضربين:
مصالح إلزامية، تقتضي وجود إلزام قانوني عام بها، وهي الواجبات
والمحرمات في الشريعة والقانون.
ومصالح غير إلزامية.. مثل التبع بالإحسان إلى اآجخرين، وهذه لا تدخل
في حيطة القانون الوضعي؛ ومن ثَمَّ يذكر علماء القانون أن هذه المصالح تندرج ضمن
مقولة الأخلاق لا ضمن مقولة القانون؛ وذلك لأن العقل لا يستسيغ المعاقبة على
تركها، ولا يستطيع القانون تقدير ثواب عليها.
ولكن القانون الشرعي يستوعب ذلك من خلال حكمي الاستحباب
والكراهة؛ لأن الثواب والمكافأة لا ينحصر في الشرع با لم جازاة الدنيوية، بل منهما ما
يكون في اآجخرة.
)الوجه الثاني(: ما يبتني على بيان حقيقة:
وهي أنه قد ثبت في علم الأحياء أن عامة الإمكانات التي زود بها كل كائن
حي من حيث نفسه وجسمه يتجه إلى غاية معينة تقع في مصلحة هذا الكائن؛ - -
فكثير من مواصفات الطيور مثلا مرتبة لغاية حفظها وتكاثرها وصيانتها عن صيد - -
أعدائها، وكذلك الحال في التصرفات التي طبعت عليها حتى وإن لم تشعر هي -
بذلك ، وهذه حقيقة متفق عليها في علم الأحياء الحديث، بل الحال كذلك في -
النباتات أيضاً وهي ليست ذات شعور؛ فالخصائص المجعولة فيها عموماً تتجه إلى
حفظ مصالحها وربما أ شير إلى ذلك بقوله تعالى: ] خَلْقَ ه
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كلَّ شََْء
6
ثمَّ هَدَى[ 1 ؛ فالخلقة تتضمن إسعاف كل كائ ن بهَد ي يوجهه إلى مصالحه بمقدار ميسور
ملائم لهذه الحياة.
وعليه يصحّ القول: إذا كان الإنسان يجد من نفسه هذه المشاعر؛ فإنه يعرف
بعقله أنها تؤ م ن المصالح النوعية وفق القاعدة الأحيائية المتقدمة.
ولا يصح النقض على هذه القاعدة بالشهوات الإنسانية التي قد توجب
هلاك الإنسان؛ لأنها مجعولة أيضاً لغاية فطرية؛ وهي تأمين احتياجات الإنسان وضمان
بقاء نوعه؛ فالجوع مثلا مجعول لأجل أن يكون نذير الحاجة إلى الطعام للبقاء. - -
نعم.. الميول الشاذة والحالات المرضية خارجة عن هذه القاعدة؛ فإن
موضوعها ما م تّ ع به النوع الإنساني من المشاعر المعتدلة؛ ومن ثَمَّ فإن من الخطأ أن
ي ظن أنّ في بعض الميول الشاذة دلالة على تجويز فطري لتلك الممارسات؛ فإنها حالات
غير طبيعية، بقرينة منافاتها مع الأعضاء واآجلات التي جهّز بها أصحابها. وعليه: فهي
من قبيل الأمراض وليست جزءً من القانون الإنساني.
]تقدّم رعاية الفضيلة على رعاية الحكمة بمعنى النفع والضرر [: - -
)النقطة الثالثة(: إن مقياس الفضيلة مقدم في ميزان العقل على مقياس - -
الحكمة بمعنى النفع والضرر ؛ فلو علم المرء مثلا أنه لو لم يسرق هذا المال - - - -
فسوف يقع في ضرر ما أو يفوته نفع ما، وإن سرقه لم يترتب عليه ضرر دنيوي ولا فاته
نفع كذلك من جهة عدم اطلاع أحد عليه .. لو علم ذلك، فإن الفطرة تنهاه عن أن - -
يرتكب هذا الفعل، وإلى ذلك تشير المقولة المعروفة: )الغاية لا تبر الوسيلة( 2 ؛ فالمراد
من الغاية تحصيل المنفعة الفردية أو الاجتماعية؛ فإنها لا تبر الوسيلة غير الأخلاقية
من قبيل الغدر والهتك والتعدي على اآجخرين.
ثم إن ما ذكرنا من أن مقياس الفضيلة مقدم على مقياس الحكمة ، إنما كان - -
مع غض النظر عن النتائج الأخروية، وأما بحسب هذه النتائج، فموافقة الفطرة أوفق
بالمصلحة على كل حال؛ لأن في موافقتها حتى بالنسبة إلى غير المؤمن بالله ما يقي - -
من بعض الشقاء والأذى.
1 طه/ 50
2 هذا بحسب أحد بعدي هذه القاعدة، ولها بعد آخر يقتضي عدم جواز الوسيلة الذميمة للتوصل إلى
الغاية الفاضلة أيضاً، وحدود ذلك يحتاج إلى إيضاح لسنا بصدده.
7
كما أن ما ذكرناه من قبل في النقطة السابقة من أن الفضائل مناط للمصالح
النوعية؛ فمن الممكن تضرر فرد ما برعاية الفضيلة ضررا دنيوياً مبني أيضاً على
غض النظر عن النتائج الأخروية، وأما بالنظر إليها، فإن في مراعاة الفضيلة مطابقة
لمصلحة كل فرد في نفسه؛ آجثارها الزاهرة في اآجخرة على كل حال.