عضو برونزي
|
رقم العضوية : 333
|
الإنتساب : Sep 2006
|
المشاركات : 662
|
بمعدل : 0.10 يوميا
|
|
|
|
المنتدى :
المنتدى الإجتماعي
فطام الطفل نفسيا
بتاريخ : 23-08-2007 الساعة : 05:38 PM
فطام الطفل نفسيا
بقلم : د. مصطفى حجازي
الذهاب الى المدرسة ليس حدثا عابرا بالنسبة للطفل وأهله , انه عملية عبور كبرى لاتقل في دلالاتها عن مرحلة المراهقة . لاول مرة يخرج الطفل من عالم الأسرة المحدود , مهما كان مدى اتساعه , الى عالم المدينة . ولآول مرة يصبح هناك مرجعية مجتمعية اساسية في حياته في موازنة مرجعية الأسرة وبالتفاعل معها . انها بداية الخروج من قانون الوالدين والعلاقات الأولية , الى قانون المدينة الذي يشكل الدخول في العضوية المجتمعية . مرجعية المعلم , وقانون المدرسة يدخلان على المرجعية الوالدية وقانون الأسرة , الكثير من الدينامية تعديلا وإثراء ومشاركة , الطفل لم يعد حكرا على والديه , عليه التعامل مع هذا العالم الجديد بمرجعياته وأنظمته وعلاقاته وتفاعلاته .
وابرز ما يدخل على عالم الطفل هو معيار الأداء , بينما كان الى الآن يعيش بناء لمعيار البنوة , وقد يتكامل هذان المعياران في نوع ممن التعزيز والأثراء المتبادل الذي يطلق عمليات النمو , او هما يتعارضان بمقادير متفاوتة مما يلقي على الطفل اعباء نفسية لها وزنها .
هناك اذا درجات من الأتصال والأنفصال و ومن الاستمرارية والأختلاف تطرأ على عالم الطفل النفسي منذ دخوله الى المدرسة لأول مرة , يتعرض الطفل منذ تلك اللحظة الى حكم آخر على كيانه ( قدراته , أمكاناته , استجاباته , خصائصه إلخ ...) وهو حكم ينسحب على الاهل ( من هم كأهل على مستوى جدارة الوالدية وأهليتها ) . من هنا تعاش هذه اللحظة بكثافة خاصة من قبل الطفل وأهله سواء بسواء .
يتوافق ذهاب الطفل الى المدرسة الابتدائية مع بداية رحلة هامة من مراحل نموه يتضمن مهاما جديدة على مستوى بناء كيانه ومشروعه الوجودي . انها بداية مرحلة الفطام النفسي عن الأهل , والشروع في بناء الأستقلال الذاتي . في المدرسة تتكرس العلاقات الأفقية الندية مع الأتراب بعد ان كان يغلب على علاقاته الآسرية الطابع العامودي ( رعاية والدية , تبعية , وتسلسل التعاقب , وبالتالي المكانة بين الاخوة ) .
وهنا تطرح بشكل مميز في صبغته الأنفعالية والنفسية حالة استعداده لهذا الأستقلال النفسي : الى أي مدى تم تهيئته في الأسرة لهذا الدور والمكانة الجديدين , كي يتحول الذهاب الى المدرسة الى فرصة نماء وانطلاق في العالم الخارجي الرحب , وفي المقابل ما هي مقدار الصعوبات التي سيلاقيها اذا بقي رهينة العلاقات الدولية الأولية وعالمها المغلق ؟.
ولا يقتصر الفطام النفسي على الطفل وحده , بل هو ينسحب على الأهل ( الأم او الوالدين كليهما ) ايضا . الى أي حد تمكن هؤلاء من الأنفصال النفسي النسبي عن الطفل كي يسمحان له بالأستقلالية , والأنفتاح على عالم المجتمع , وتقبل تدخل مرجعية نفسية ومعنوية واجتماعية سواهما , والاعتراف بسلطتها التي تتقاسم سلطتهما على الطفل منذ لحظة عبوره عتبة المدرسة ؟ مسألة حيوية بدورها لتقرير مصير نمو الطفل وبناء كيانه الذاتي , اذ لا دخول ممكنا في قانون المدينة وعضوية المجتمع الا بمقدار قبول الوالدين بسلطة مؤسسية على طفلهما , ومن خلاله عليهما ذاتهما معنويا . واذا لم يتم هذا القبول , فالأغلب ان تتعثر عملية الانتماء هذه بمقادير متفاوتة , ومعها قد تتعثر عملية النمو النفسي للطفل .
والذهاب الى المدرسة هو في بعد هام آخر من ابعاده بداية الأنطلاق الفعلي لمشروع الطفل المعرفي . انه تكريس رسمي لتلك العملية التي ابتدأت منذ ايام حياته الاولى . فالطفل هو كائن باحث عن المعرفة بالاصل . . . . تابع
وتظل هذه العملية غير رسمية حتى لحظة دخوله المدرسة , هنا تبدأ العملية المنظمة والمقننة والمكرسة بأنظمة تقويم تحكمها , وتحكم بالتالي على مقدار كفاءة الطفل فيها ومدى تقدمه على دروبها , انه تحول جذري في وضعية ودلالة الطفل مؤسسيا ونفسيا في آن معا , يرسي اسس الاهلية المجتمعية اللاحقة , ذلك ان المعرفة ترتبط بالكبر باعتبار ان الكبير هو الذي يعرف , وان اكتساب المعرفة هو تكريس للأعتراف بالكبر . كما ان الكبر المعرفي يكرس بدوره بدايات الخروج من التبعية الطفلية ليس فقط في المكانة , بل في مركز الضبط النفسي – السلوكي : أنا اعرف , إذا انا استطيع ان ادير ذاتي , وبالتالي فأنا كبير , الى اي حد تهيأ الطفل لعملية الكبر هذه ؟ والى اي حد يتقبل الاهل ان يكبر ولدهم ويكتسب مركز ضبط داخلي , ومرجعية ذاتية ؟ ذلكم ما يحدد بدرجة لا يستهان بمصير عملية التحصيل والنجاح فيها , هل الاهل مستعدون ان يكبر الطفل لحسابه الخاص ام انهم يحولون نموه المعرفي الى اداة تخدم اغراض كبرهم هم انفسهم ؟ مسألة حاسمة في تحديد نوعية خبرة النمو ومسارها في المدرسة , وماذا لو كان الطفل غير مستعد للكبر المعرفي ؟ هل ستعطي عملية التمدرس ثمارها في هذه الحالة . ماذا لو كان ممنوع على الطفل ان يكبر لاسباب تتعلق بدينامية علاقاته اللاواعية مع والديه او احدهما ؟ هل ستتفتح امكاناته الذهنية , وهل سينمو ككيان حيوي ام ماذا سيكون مصيره ؟.
تبين هذه الاشارات السريعة مقدار تعقد دينامية الذهاب الى المدرسة وعمق دلالاتها وبالتالي نتائجها , فالأمر اكبر وأخطر واكثر غنى بما لا يقاس من مجرد مسألة روتين يتمثل في الاستيقاظ صباحا والذهاب الى المدرسة , وقضاء ساعات الدرس , ولعب ثم العودة الى المنزل . وهو ما يظهر مدى اهمية البحث في هذه الوضعية الفريدة من منظور الصحة النفسية وليس من مجرد الأنشطة التعليمية /التعلمية بشكل بّراني سطحي , كما يتضح منه كذلك مقدار الوعي والبصيرة والفهم الذي يجب ان يتمتع به الاهل والمعلمون والسلطات المدرسية عموما , وصولا الى حسن التعامل مع هذه الدينامية بالغة الغنى , وتوظيفها لصالح نمو الطفل كتلميذ متعلم من ناحية , وككيان كلي يشكل مشروع وجود مستقبلي من الناحية الاخرى ,هنا يلعب علم الصحة النفسية وتطبيقاته وبرامجه كامل دوره , ويجد مكانته الرئيسة في الحياة المدرسية التي لا تقل بحال , رغم طول اغفال , عن اهمية عملية التحصيل .
|