|
شيعي حسيني
|
رقم العضوية : 429
|
الإنتساب : Oct 2006
|
المشاركات : 12,843
|
بمعدل : 1.91 يوميا
|
|
|
|
كاتب الموضوع :
Dr.Zahra
المنتدى :
المنتدى الثقافي
بتاريخ : 08-11-2007 الساعة : 09:33 PM
منه أكثر وإذا وجد مدينة أفضل منه لأقبل عليها وإن لم يستطع التحرك نحوها، لاشتاق
إليها وتوجّه قلبه نحوها. فالإنسان إذا عاش هموم الدنيا وآلامها وأسقامها ومشاكلها و
عنائها و شعر بأن أمواج الفتن و المحن تزحف نحوه، خفّ تعلقه بها - أي الدنيا - و قل
ركونه إليها و نفر قلبه منها. و إذا اعتقد بوجود عالم آخر، وفضاء رحب فارغ من جميع
أنواع الشقاء و التعاسة، ارتحل إليه. وإذا لم يتمكن من السفر بجسمه لذهب بروحه و بعث
بقلبه إلى ذلك العالم. وواضح جداً أن المفاسد الروحية و الخلقية والسلوكية بأسرها تنجم
عن حب الدنيا والغفلة عن الله سبحانه و عالم الآخرة، و إن حبّ الدنيا رأس كل خطيئة.
في حين أن الصلاح الروحي والخلقي والسلوكي ينبعث من التوجه نحو الحق، ودار الكرامة
- عالم الآخرة - ومن اللامبالاة بالدنيا وعدم الانبهار بزخارفها. إذاً، علمنا من هذا
التمهيد بأن لطف الحق تبارك و تعالى وعنايته كلما شملت لشخص أكثر، ووسعته رحمة
الذات المقدسة بصورة أوفى، كلما أبعد سبحانه عن هذا العالم وزخرفه أكثر، ودفع عنه
أمواج المحن والفتن أكثر، حتى تنقلع رغبته في الدنيا وزركشتها، ووجه وجَّهه حسب
مستوى إيمانه إلى عالم الآخرة وارتبطت روحه بذلك العالم. وإن لم تكن جدوى من
احتمال شدائد المحن إلاّ هذه الجهة - الانزجار والإعراض عن الدنيا والإقبال نحو الآخرة -
لوحدها، لكفى. وفي الأحاديث الشريفة إشارة إلى هذا المعنى: محمّدُ بْنِ يَعْقُوب بِإسْنادِهِ
عَنْ أبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قالَ:"إنَّ الله تَعالَى لَيَتَعاهَدَ المؤمِنَ بالْبَلاءِ كَما يَتَعاهَدُ الرَّجُلُ
أهْلَهُ بِالهَدِيَّةَ مِنَ الغَيبَةِ وَيحْمِيهِ الدُّنْيا كَما يَحْمِي الطَّبيبُ الْمَريضَ"( أصول الكافي، المجلد
الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب شدة ابتلاء المؤمن، ح17) [277] ونقل هذا المعنى في
حديث آخر. ولا يحسبن أحد إن محبة الحق وشدة عناية ذاته الأقدس، لبعض عباده جزاف
ومن دون جهة - والعياذ بالله - بل كل خطوة يخطوها مؤمن وعبد من عباده، غمرته
رحمة الحق المتعالي وأقبل على عبده قدر ذراع. إن مَثَلَ الإيمان وتوفير بواعث التوفيق، مَثَلُ
إنسان قد حمل مصباحاً وسلك طريقاً مظلماً فكلما تقدم خطوة، أضاء أمامه واهتدى
للخطوة اللاحقة. فكلما رفع الإنسان قدماً نحو عالم الآخرة، اتضح السبيل أكثر، وغمرته
عنايات الحق بصورة أكبر، وتوفرت عوامل التوجه إلى عالم القرب - الآخرة - والانزعاج
عن عالم البعد - الدنيا -. والعنايات الأزلية للحق المتعالي إنما تسع الأنبياء والأولياء لعلمه
- سبحانه - الأزلي بطاعتهم أيام التكليف. كما أنكم لو علمتم أيام طفولة ولديكم بأن
أحدهما سيطيعكم ويسعى في تأمين رضاكم وثانيهما يبعث على سخطكم وامتعاضكم،
فمن المعلوم أن ألطافكم ستشمل المطيع أكثر من الثاني منذ الأيام الأولى. ومن فوائد شدّة
ابتلاء الخواص من العباد، أن هؤلاء من خلال المحن والمعاناة يذكرون الحق ويناجونه.
ويتضرّعون على أعتابه المقدسة في ساحة ذاته الأقدس ويعيشون مع ذكره وفكره. ومن
الطبيعي أن نوع بني الإنسان يتشبث حين الشدة بكل ما يرجو فيه النجاة، وعند الرخاء
والراحة يغفل عنه. ولما كان الخواص من العباد، لا يعرفون ملجأً إلا الحق، توجهوا نحوه،
وانقطعوا إلى مقامه المقدس، وإن الحق المتعال يوفر لهم سبب الانقطاع إليه من خلال عنايته
الخاصة بهم. ولا تستساغ هذه الفائدة - من الابتلاء - وحتى الفائدة السابقة، لدى الأنبياء
والأولياء الكُمَّـلين، لتنزّه مقامهم الشامخ عن ذلك، وعدم انعطاف قلوبهم تجاه الدنيا، ولا
تتبدل في الانقطاع إلى الحق من جراء تغيّر الأحوال. ويمكن أن يكون إيثار الأنبياء والأولياء
للفقر على الغنى، والابتلاء على الراحة، والمعاناة على غيرها نتيجة أنهم وقفوا من خلال
النور الباطني والمكاشفات [278] الروحانية على أن الحق المتعالي لا ينظر بعين اللطف إلى
هذا العالم ولا إلى زخارفه، ولا يكون للدنيا وما فيها موقع أمام ساحته المقدسة إلاّ الذل
والهوان. والأحاديث الشريفة شاهدة على ذلك. ففي الحديث أن جبرائيل قد نزل على
رسول الله صلّى الله عليه وأله وسلم ومعه مفاتيح خزائن الأرض وقال لو اخترتها لما هبط
من درجاتك الأخروية، شيء أبدا. ولكن رسول الله صلّى الله عليه وأله وسلم قد امتنع عن
القبول تواضعا للحق سبحانه، واختار الفقر. وفي الكافي الشريف في حديث بسنده عن
الإمام الصادق عليه السلام:"إنَّ الكَافِرَ لَيَهُونُ عَلَى اللهِ لَوْ سَأَلَهُ الدُّنْيَا بِمَا فيها أَعْطَاهُ
ذلِكَ"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان و الكفر، باب شدة ابتلاء المؤمن، ح
28 ) وذلك من جرّاء هوان الدنيا في عين الحق الكبير المتعالي. وفي حديث أن الحق جل
وعلا منذ أن خلق العالم المادي لم ينظر إليه نظرة لطف وعناية. ومن فوائد شدة ابتلاء
المؤمنين حسب ما أشير إليها في الأخبار، أن لهم درجات لا ينالونها إلاّ من وراء المصائب
والأسقام والآلام. ويحتمل أن تكون هذه الفوائد صورة - غيبية - للإعراض عن الدنيا
والإقبال على الحق المتعالي. ويمكن أن تكون صورة ملكوتية لهذه المحن حيث لا تبلغ إلا بعد
حصولها -البليّات - في عالم المُلك وابتلاء الإنسان بها، كما ورد في الحديث الشريف
المأثور في الكافي بسنده إلى الإمام الصادق عليه السلام قال:"إِنَّهُ لَيَكُونُ لِلْعَبْدِ مَنْزِلَةُ عِنْدَ
اللهِ فَمَا يَنالُها إِلاّ بِإِحْدَى الخَصْلَتَيْنِ إمّا بِذَهابِ مالِ أوْ بِبَلِيَّةٍ في جَسَدِهِ"( أصول الكافي،
المجلد الثاني، كتاب الإيمان و الكفر، باب شدة ابتلاء المؤمـن،ح23 وح3 ). وفي رواية
شهادة الإمام أبي عبدالله الحسين عليه السلام أنه رأى جده رسول الله صلّى الله عليه وآله
وسلم في المنام وأخبره بـ {أَنَّ لَكَ دَرَجَةً فِي الجَنَّةِ لاَ تَنَالُهَا إِلاَّ بِالشَّهَادَةِ}( بحار الأنوار،
المجلد 67، ص250) ومن المعلوم أن الصورة الملكوتية للشهادة في سبيل الله لم تحصل إلا
بعد وقوع الشهادة في عالم الملك - عالمنا الحاضر- كما برهن على ذلك في العلوم
[279] العالية. وورد في الأخبار المذكورة أن لكل عمل في هذا العالم صورة في عالم
آخر. وفي الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال:"إِنَّ عَظيمَ الأَجْرِ لَمَعَ عَظيمِ البلاءِ
وَما أحَبَّ اللهُ قَوْماً إِلاَّ ابْتَلاهُمْ"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب
شدة ابتلاء المؤمن، ح23 وح3). فصل الأنبياء مبرؤون من العيوب الجسدية
يقول المحدث الكبير المجلسي - عليه الرحمة - ( في هذه الأحاديث - أحاديث ابتلاء الأنبياء
- الواردة من طرق الخاصة والعامة، دلالة واضحة على أن الأنبياء والأوصياء عليهم السلام
في الأمراض الحسية والبلايا الجسمية كغيرهم بل هم أولى بها من الغير تعظيماً لأجرهم
الذي يوجب التفاضل في الدرجات ولا يقدح ذلك في رتبتهم بل هو تثبيت لأمرهم وأنهم
بشر إذ لو لم يصبهم ما أصاب سائر البشر مع ما يظهر في أيديهم من خرق العادة لقيل
فيهم ما قالت النصارى في نبيهم ) انتهى ( بحار الأنوار، المجلد67، ص250). وقال المحقق
المدقق الطوسي والحكيم العظيم القدوسي - عطّر الله مرقده - في كتاب التجريد في بحث
ما يجب كونه فـي كل نبي (... وكلما ينفر عنه الخلق... )( بحار الأنوار، المجلد67،
ص250). وقال علامة علماء الإسلام - رضوان الله عليـه - في شـرح هذه الجمـلة
وأن يكون منزهاً عن الأمراض المنفّرة نحو الأُنبَة وسلس الريح والجذام والبرص لأن ذلك
كله مما ينفر عنه فيكون منافياً للغرض من البعثة)( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان
والكفر، باب شدة ابتلاء المؤمن، ح23 وح3 ). يقول الكاتب: إن درجة النبوة و إن كانت
تابعة للكمالات النفسية و الدرجات الروحانية، و لا علاقة لها بالجسم. و أن النقائص
الجسمانية و أمراضها لا تسيء إلى [280] المقام الروحاني للأنبياء. و أن الأمراض المنفرة
لا تقلل شيئاً من علو شأنهم وعظمة رتبتهم، إن لم تؤكد كمالاتهم و تدعم درجاتهم،
كما أشير إليها. ولكن ما ألمح إليه المحققان لا يخلو عن وجه، لأن عوام الناس لا يفرقون
بين المقامات - الجسمية والروحية - ويحسبون أن النقص الجسماني نتيجة النقص
الروحاني أو ملازم له، ويعتبرون أن من عناية الحق سبحانه أن لا يصيب الأنبياء
أصحاب الشريعة والمبعوثين بالرسالة، بأمراض تسبب نفرة الطباع واستيحاش الناس.
فعدم ابتلائهم لا يكون نتيجة أن هذه المصائب والبلايا تحط من مقام النبوة، بل لأجل
فائدة هي إكمال التبليغ والإرشاد. وعليه لا مانع من ابتلاء بعض الأنبياء الذين لم يحظوا
بالشريعة، وابتلاء الأولياء الكبار والمؤمنين بمثل هذه المحن. كما أن النبي أيوب والمؤمن
حبيب النجار مبتليين. وقد وردت أحاديث كثيرة في ابتلاء النبي أيوب عليه السلام:
فمن ذلك ما روي عن تفسير علي بن إبراهيم، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله عليه
السلام في حديث طويل قال:"فَسَلَّطَهُ عَلى بَدَنِهِ ما خَلا عَقْلَهُ وَعَيْنَيْهِ فَنَفَخَ فِيهِ إبْلِيسُ
فَصارَ قُرْحَةً واحِدَةً مِنْ قَرْنِه إِلى قَدَمِهِ فَبَقِيَ في ذلِكَ دَهْرَاً طَويلاً يَحْمَدُ اللهَ وَيَشْكُرُهُ
حَتّى وَقَعَ في بَدَنِهِ الدُّودُ وَكانَتْ تَخْرُجُ مِنْ بَدَنِهِ فَيَرُدُّها وَيَقُولُ لَها ارْجِعي إلى مَوْضِعِكِ
الَّذي خَلَقَكِ اللهُ مِنْهُ وَنَتَنَ حَتّى أخْرَجَهُ أهْلُ القَرْيَةِ مِنَ القَرْيَةِ وَألْقوْهُ في المَزْبَلَةِ خارِجَ
القَرْيَةِ"( بحر الأنوار، ح12، ص 342 ) . وفي الكافي بإسْنَادِهِ عَنْ أبي بَصيرٍ، عَنْ أبـي
عَبْدِ الله عليـه السلام قالَ:"قُلْتُ لَهُ: فَإذا قَرَأْتَ القرآنَ فَاستَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطان
الرَّجيمِ * إنّه ليسَ لَهُ سُلْطانٌ على الّذين آمنوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ". فَقَال:"يا أَبَا
مُحَمَّدٍ يُسَلَّطُ وَاللهِ مِنَ المُؤْمِنِ عَلى بَدَنِهِ وَلا يُسَلَّطُ عَلى دِينِه، قَدْ سُلِّطَ عَلى أيُّوبَ فَشَوِّهَ
خَلْقَهُ وَلَمْ يُسَلَّطْ عَلى دِينِه وَقَدْ يُسَلَّطْ مِنَ المُؤْمِنينَ عَلى أَبْدانِهِمْ وَلا يُسَلَّطُ عَلى دِينِهِم"(
روضة الكافي ص 288 ح 433) وبـِإسـْنادِهِ عَنْ نَاجيَةَ قَالَ:"قُلْتُ لأبي جَعْفَرٍ عليه
السلام: إنَّ المُغيرَةَ يَقُولُ: إنَّ المُؤْمِنَ لا يُبْتَلى بِالْجُذام وَلا باِلبَرَص وَلا بكَذا ولاَ بِكَذا،
فَقالَ: إنْ كانَ لَغافِلاً عَنْ [281] صاحِبِ ياسِينَ إنَّهُ كانَ مُكَنَّعاً - ثُمَّ رَدَّ أصابِعَهُ فَقالَ:
كَأنّي أنْظُرُ إلى تَكْنِيعِه، أتاهُمْ فَأَنْذَرهُمْ ثُمَّ عادَ إِلَيْهمْ مِنَ الغَدِ، فَقَتَلُوهُ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ المُؤْمِنَ
يُبْتَلى بِكُلِّ بَلِيَّةٍ وَيَمُوتُ بِكُلِّ بَلِيَّةٍ إِلا أنَّهُ لا يَقْتُلُ نَفْسَهُ"( أصول الكافي، المجلد الثاني،
كتاب الإيمان و الكفر، باب شدة ابتلاء المؤمن، ح12) إن"صاحب ياسين"هو حبيب
النجار و"التكنيع"مع النون كما هو في أكثر النسخ بمعنى التشنج والمُثلة كما في البحار.
قال المجلسي"كأنّه كان الجذام سبباً لتكنيع أصابعه"( بحار الأنوار، المجلد 67 ص 250)
وفي هذا الكلام تأمل. ويستفاد من هذه الأحاديث والروايات الأخرى أن الأنبياء والمؤمنين
قد يصابون بأمراض منفرة لأجل بعض المصالح. وتقابل هذه الأخبار، أحاديث أخرى تنفي
تشويه جسم النبي أيوب عليه السلام بسبب الأمراض، وانبعاث الرائحة الكريهة من جسده
المبارك. ولا جدوى في الجمع بين هذه الروايات وإطالة البحث فيها. وملخص الحديث أن
مثل هذه الأمراض لا تسيء إلى المؤمنين ولا تعدّ نقصاً لهم ولا للأنبياء عليهم السلام بل
تبعث على رفعة درجتهم وعلو شأنهم والله تعالى أعلم بالصوّاب. فصل في بيان أن الدنيا
ليست محلا لثواب الحق المتعالي و عقابه اعلم أن هذا العالم الدنيوي لما فيه من النقص
والقصور والضعف لا يكون دار كرامة ولا محلاً لثواب الحق سبحانه ولا محلاًّ لعذابه
وعقابه، لأن دار كرامة الحق عز وجل عالم تكون نعمه خالصة وغير مشوبة بالنقم، وراحته
غير مخلوطة بالشقاء والتعب، ومثل هذه النعم غير متوفرة في هذا العالم، لأنه دار التزاحم
والصراع. وإن كل نعمة من نعم هذا العالم محفوفة بأنواع من العذاب والآلام والمحن. بل
قال الحكماء أن لذّات هذا العالم هي دفع للآلام ونستطيع أن نقول [282] إن لذّاته
تبعث على الآلام لأن إثر كل لذّة، شقاء ونصب وألم، بل إن مادة هذا العالم تتمرّد على
قبول الرحمة الخالصة والنعمة المحضة غير المشوبة بالمكاره. وهكذا العذاب والشقاء والألم
والتعب في هذا العالم لا يكون خالصاً، بل يكون كل ألم وتعب محفوفاً بنعمة أو نعم، وكل
واحد من الآلام والأسقام والشقاء والمحن في هذا العالم لا يكون محضاً وغير مشوب بنعمة
ورحمة: فإن مادّة هذا العالم تتمرّد على قبول العذاب الخالص المطلق. إن دار عذاب الحق
سبحانه ودار عقابه، دار فيها العذاب المحض والعقاب الخالص، وأن آلامها وأسقامها لا
تضاهى بآلام وأسقام هذا العالم كأن يمس العذاب عضواً دون عضو، أو يكون عضو سالماً
وفي راحة والآخر في تعب وشقاء. وقد أشير إلى بعض ما ذكرنا في الحديث الشريف الذي
شرحناه عندما يقول:"وَذِلكَ - السبب في ابتلاء المؤمن بالبليات - أنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلِ
الدُّنْيا ثَواباً لِمُؤْمِنٍ وَلا عُقُوبَةً لِكافِرٍ"هنا - عالم الدنيا - دار تكليف، ومزرعة الآخرة،
وعالم الكسب. وهناك - عالم الآخرة - دار جزاء ومكافأة وثواب وعقاب. إن الذين
يتوقعون من الحق سبحانه أن ينتقم في هذا العالم من كل مرتكب معصية أو فاحشة أو جور
أو اعتداء، بأن يضع - عز وجل - حدّاً له، فيقطع يده ويقلع العاصي من الوجود إنهم
غافلون بأن مثل هذا العقاب خلاف النظم والسُّنَّة الإِلهية التي أقرّها الله سبحانه. إن هذه
الدار، دار امتحان وتفريق بين الشقي والسعيد والمطيع والعاصي، وعالم ظهور الفعاليات
وليس بدار تبيّن نتائج الأعمال والملكات. وإذا انتقم الحق المتعالي من ظالم نادراً، لأمكننا
القول بأن عناية الحق عز وجل شملته. وإذا ترك أهل الموبقات والظلم في ضلالهم وغيّهم،
كان ذلك استدراجاً. كما يقول الله سبحانه: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ،وَأُمْلِي
لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}(القلم/ 44-45 ). [283] ويقول: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ِلأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}(آل
عمران/178). وفي مجمع البيان عن الصادق عليه السلام أنه قال:"إِذا أحْدَثَ الْعَبْدُ ذَنْباً
جُدِّدَ لَهُ نِعْمَةٌ فَيَدَعُ الاستغفارَ فَهُوَ الاستدراجُ"( مجمع البيان، المجلد الخامس، ص 340 )
. فصل أن شدة المعاناة الروحية توازي شدة الإدراك يظهر من نهاية الحديث الشريف
- المذكور في بداية الموضوع -"وَمَنْ سَخُفَ دينُه وَضَعُفَ عَقْلَهُ، قَلَّ بَلاؤُهُ"إن البليـّة
تعمّ الجسمانية والروحانية، فإن الأشخاص الضعاف في عقولهم وإدراكهم في أمان من
المعاناة الروحية والانزعاجات العقلية، على خلاف من يتمتع بالعقل الكامل والإدراك[A1]
الحذق، حيث تزداد معاناته ومصائبه. ومن المحتمل أن يعود إلى هذا المعنى كلام الرسول
صلّى الله عليه وأله وسلم القائل:"مـَا أُوذِيَ نَبِيٌّ مِثْلَ مَا أوذيتُ"( الجامع الصغير، المجلد
الثاني، ص 144 ) لأن كل من يدرك جلال الربّ وعظمته أكثر، ويقف على المقام
المقدس للحق جل وعلا بشكل أعمق، يتألم ويتعذّب من جراء عصيان العباد وهتكهم
للحرمة أكثر. وأيضاً كل من كانت رحمته وعنايته وشفقته على عباد الله أكثر، تأذَّى من
اعوجاج العباد وشقائهم أكثر. وقطعاً كان خاتم النبيين صلّى الله عليه وأله وسلم في كل
هذه المقامات والمنازل الكمالية، أكمل من جميع النبيين والأولياء وبني الإنسان فتكون محنه
وآلامه أعمق. وأيضاً هناك توجيه آخر - لكلام الرسول صلّى الله عليه وأله وسلم - لا
يتناسب مع هذا المقام. والله العالم ولـَهُ الحمد. [285] الحَديث السَـادسِ عشـَر
|
|
|
|
|