|
شيعي حسيني
|
رقم العضوية : 429
|
الإنتساب : Oct 2006
|
المشاركات : 12,843
|
بمعدل : 1.91 يوميا
|
|
|
|
كاتب الموضوع :
Dr.Zahra
المنتدى :
المنتدى الثقافي
بتاريخ : 08-11-2007 الساعة : 08:47 PM
بالرياضات النفسية تخلص من ذلك الخوف، وانتقل إلى دار السرور مسروراً،
رضوان الـلّه عليه. جاء في "الكافي" بإسناده عن طلحة بن زيد، عن أبي
عبدالله عليه السّلام قال: "مَثَلُ الدُّنيا كَمَثـَلِ ماءِ البحرِ كُلَّما شَرِبَ مِنْهُ
العطشانُ ازدادَ عَطَشاً حَتَّى يقتل"(أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان
والكفر، باب ذم الدنيا ح 54 ). إن حب الدنيا ينتهي بالإنسان إلى الهلاك
الأبدي، وهو أصل البلايا والسيّئات الباطنية والظاهرية وقد نقل عن رسول
الـلّه صلّى الـلّه عليه وآله وسلم قول: "إِنَّ الدِّرْهَمَ وَالدِّينَارَ أَهْلَـكَا مَنْ
كَانَ قَبْلَكُمْ، وَهُمَا مُهْلِكَاكُمْ". [151] وعلى فرض أن الإنسان لم يرتكب
معاصي أخرى - على الرغم من أن هذا الفرض بعيد، أو من المستحيل عادة -
فإن التعلق بالدنيا نفسه معصية، بل أن مقياس طول بقاء الإنسان في عالم القبر
والبرزخ هو أمثال هذه التعلقات. فكلّما كان التعلق بالدنيا أقل كان البرزخ
وقبر الإنسان أكثر نوراً وأوسع، ومكثه فيه أقصر. لذلك فقد ورد في بعض
الروايات: إن عالم القبر لأولياء الله لا يزيد عن ثلاثة أيام، وإنّما كان هذا
لأجل التعلق الطبيعي والعلاقة الجِبِلّية لأولياء الـلّه تجاه العالم. وإن من مفاسد
حب الدنيا والتعلّق بها هو أنه يجعل الإنسان يخاف الموت. وهذا الخوف
الناشئ من حب الدنيا، والتع لق القلبي بها المذموم جداً. غير الخوف من المرجع
- مآل الإنسان بعد الموت - المعدود من صفات المؤمنين. إن أهم صعوبة في
الموت هي ضغوطات لرفع هذه العلائق، والخوف من الموت. يقول المحقق
المدقق الإسلامي البارع، السيد العظيم الشأن، الداماد، كرّم اللّه وجهه، في
كتابه "القبسات" الذي يعد من الكتب النادرة: "لاَ يُخيِفنك الموتُ، فإنَّ
مَرارَته في خوفه"(قبسات ميرداماد، ص 72). ومن المفاسد الكبيرة لحب الدنيا
أنه يمنع الإنسان من الرياضات الشرعية والعبادات والمناسك، ويُقويّ جانب
الطبيعة في الإنسان بحيث يجعلها تعصي الروح وتتمرد عليها ويوهن عزم
الإنسان وإرادته، مع أن من أكبر أسرار العبادات والرياضات الشرعية هو أن
تجعل الجسم وقواه الطبيعية تابعة ومنقادة للروح بحيث يكون للإرادة دوراً مؤثراً
في الجسم ويخضع الجسم لأوامر الإرادة فيعمل ما تشاء، ويمتنع عمّا تشاء،
ويصبح مُلك الجسم وقواه الظاهرة مقهوراً ومسخّراً للملكوت بحيث أنه يقوم
بما يريد من دون مشقة ولا عناء. إن من الفضائل والأسرارالشاقة والصعبة
للعبادات تحقق هذا الهدف - تسخير مُلك الجسم للملكوت - أكثر حيث
يصير الإنسان بذلك ذا عزم، ويتغلب إلى الطبيعة والملك. فإذا اكتملت الإرادة
وقوي العزم واشتد، أصبح كمَــثَل الجسم وقواه الظاهرة والباطنة مَثَل
ملائكة اللّه الذين لا يعصون الله وإنما يطيعونه [152] في كل ما يأمرهم به
وينهاهم عنه، من دون أن يعانوا في ذلك عنتاً ولا مشقة. كذلك إذا أصبحت
قوى الإِنسان مسخّرة للروح، زال كل تكلف وتعب وتحوّل إلى الراحة
واليسر، واستسلمت أقاليم الملك السبعة للملكوت وأصبحت جميع القوى
عمّالاً له. فاعلم، يا عزيزي، أن العزم والإرادة القوية لذلك العالم ضروريان
وذات فعالية. إن البلوغ لأحد مراتب الجنة والذي يُعدّ من أفضلها هو العزم
والإرادة. فالإنسان الذي ليست له إرادة نافذة ولا عزم قوي لا ينال تلك الجنة
ولا ذلك المقام الرفيع. جاء في الحديث، أن أهل الجنة عندما يستقر ون فيها،
تنزل عليهم رسالة من ساحة القدس الإلهي جلّت عظمته بهذا المضمون: "هذه
رسالة من الحي الثابت الخالد إلى الحي الثابت الخالد إلى الحي الثابت الخالد. أنا
الذي أقول للشيء: كن، فيكون. وقد جعلتك اليوم أيضاً في مستوىً إذا أمرت
الشي: وقلت له كن، فيكون". فلاحظ أي مقام و سلطان هذا؟ وأية قدرة
إلهية هذه التي تجعل إرادة الإِنسان مظهراً لإرادة اللّه! فــيُلبس العدم لباس
الوجود؟ هذه القدرة وهذا النفوذ هما أفضل وأرفع من كل النعم الجسمانية.
وبديهي، أن تلك الرسالة لم تكتب عبثاً وجزافاً. إن من كانت إرادته تابعة
للشهوات الحيوانية، وعزيمته ميته خامدة، لا يصل إلى هذا المقام. إن أعمال اللّه
منزّهة عن العبث. فكما أن هذا العالم قائم على النظام والترتيب، على الأسباب
والمسببات، كذلك هي الحال في العالم الآخر، بل إن العالم الآخر ألْيَق بالنظام
والأسباب والمسببات، وإن جميع نظا عالم الآخرة ينبعث من المناسبات
والأسباب، وإن نفوذ الإرادة يجب أن يتهيأ من هذا العالم، فإن الدنيا مزرعة
الآخرة وإن هذا العالم مادة لكل نعم الجنة ونقم النار. إذاً، كل عبادة من
العبادات وكل منسكٍ من المناسك الشرعية، فضلاً عن إن لها صورة أخروية
وملكوتية، وبها يتم عمارة الجنة الجسمانية وقصورها، وتهيئة الغلمان والحور
- طبقاً للبراهين والأحاديث - فإن لكل عبادة من العبادات أيضاً أثراً يحصل في
النفس، مما يقوّي الإِرادة شيئاً فشيئاً ويصل بقدرتها إلى حد الكمال. [153]
لذلك كلّما كانت العبادات أشق كانت أرغب: "أَفْضَــلُ الأَعْمَــالِ
أَحْــمَزُهَا"(نهاية ابن الأثير، المجلد الأول، ص 440، مادة"همز"أهمزها أي
أقواها وأشدّها ). فالتنازل عن النوم اللذيذ في ليل الشتاء البارد، والانصراف
إلى عبادة الحق المتعـال، يزيد من قوة الروح وتغلبها على قوى الجسم، ويقوّي
الإرادة. وإذا ك ان هذا في أول الأمر على شيءٍ من المشقة والعناء، فإن ذلك
يخف تدريجاً كلّما واصل العبادة، وازدادت طاعة الجسم للنفس. إذ أننا نلاحظ
أن أهل العبادة يقومون بالأعمال دون مشقة وتكلف. أما نحن فشعورنا
بالكسل وبالمشقة ناشئ من أننا لا نبدأ بالعمل. فلو إننا بدأنا العمل وكررناه
عدة مرات، لتبدلت مشقته إلى راحة، بل إن أهلها يلتذون بها أكثر مما نلتذ نحن
بمشتهيات الدنيا. إذاً، الأمر يصبح عادياً بالتكرار. والخير عادة. ولهذه العبادة
ثمرات، منها: أن صورة العمل نفسه تصبح على قدر من الجمال في ذلك العالم
لا يكون له نظير في هذا العالم، ونكون عاجزين عن تصور مثلها. ومنها: أن
النفس تصبح ذات عزم واقتدار، فتكون لها نتائج كثيرة، وقد سمعت واحدة
منها. ومنها: أيضاً أنها تجعل الإِنسان يأنس بالذكر والفكر والعبادة، فإن المجاز
قد يقرّب الإنسان إلى الحقيقة، فيتوجه القلب إلى مالك الملوك، وتحل المحبة
لجمال المحبوب الحقيقي، ويخفّ تعلق القلب وحبه للدنيا والآخرة. إذ لو
حصلت الجاذبية الربوبية والحال الخاصة، لأمكن إدراك حقيقة العبادة والسر
الحقيقي للتذكر والتفكر، ولسقط كِلا العالمين- الدنيا والآخرة - من نظره،
ولأذهب تجلّي الحبيب غبار الرؤية الإثنينيّة من القلب ولا يعر ف أحد سوى
الـلّه الكرامة المعطاة لمثل هذا العبد؟ وكما يقوى عزم الإِنسان بالرياضات
الشرعية والعبادات والمناسك وترك الرغبات ويصبح الإنسان ذا عزم وإرادة،
فكذلك في المعاصي تتغلب الطبيعة لدى الإنسان وتضعف إرادته وعزمه. كما
سبق ذكر شيء منه. [154] فصــــــل الإنسان بفطرته يحب
الكمال التّام المطلق لا يخفى على كل ذي وجدان أن الإنسـان، بحسب
فطرته الأصيلة وجبلّته الذاتية، يعشق الكمال التام المطلق، ويتوجه قل به شطر
الجميل على الإطلاق والكامل من جميع الوجوه. وهذا من فطرة الله التي فطر
الناس علي ها وبهذا الحب للكمال، تتوفر إرادة المُلك والملكوت، وتتحقق
أسباب وصول عشّاق الجمال المطلق إلى معشوقهم. غير أن كل امرئ يرى
الكمال في شيء ما، حسب حاله ومقامه، فيتوجه قلبه إليه. فأهل الآخرة يرون
الكمال في مقامات الآخرة ودرجاتها، فقلوبهم متوجهة إليها. وأهل اللّه يرون
الكمال في جمال الحق، والجمال في كماله سبحانه يقولون {إِنِّي وَجَّهْتُ
وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ }(الأنعام//79). ويقولون: "لي مَعَ
اللَّهِ حال"( إشارة إلى الحديث المشهور المنقول عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وآله وسلم ( لي مع اللّه وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ) راجع
كتاب أحاديث المنوي ) وفيهم حب وصاله وعشق جماله. وأهل الدنيا عندما
رأوا أن الكمال في لذائذها، وتـبيّن لأعينهم جمالها، اتجهوا فطرياً نحوها. ولكن
على الرغم من كل ذلك، فإنه لمّا كانَ التوجه الفطري والعشق لذاتي قد تعلقا
بالكمال المطلق، كان ما عدا ذلك من التعلقات عرضياً ومن باب الخطأ في
التطبيق. إن الإنسان مهما كثر مُلكه وملكوته، ومهما نال من الكمالات
النفسية أو الكنوز الدنيوية أو الجاه والسلطان، ازداد اشتياقه شدّه، ونار عشقه
التهاباً. فصاحب الشهوة، كلّما ازدادت أمامه المشتهيات، ازداد تعلق قلبه
بمشتهيات أخرى ليست في متناول يده، واشتدّت نار شوقه إليها. وكذلك
النفس التي تطلب الرئاسة، فهي عندما تبسط لواء قدرتها على قطر من الأقطار،
تتوجه بنظرة طامعة إلى آخر، بل لو أنها سيطرت على الكرة الأرضية برمتها،
لرغبت في التحليق نحو الكرات الأخرى للاستيلاء عليها. إلاّ أن هذه النفس
المسكينة لا تدري بأن الفطرة إنّما تتطلع إلى شيءٍ آخر. إن العشق الفطري
الجبلّي يتجه إلى المحبوب المطلق، إن جميع الحركات [155] الجوهرية
والطبيعية والإرادية، وجميع التوجهات القلبية والميول النفسية تتوجه نحو جمال
الجميل الأعلى على الإِطلاق، ولكنهم لا يعلمون، فينحرفـون بهذا الحب
والعشق والاشتياق - التي هي براق المعراج وأجنحة الوصول - إلى وجهة هي
خلاف وجهتها، فيحرّروها ويقيدوها بلا فائدة. لقد بعدنا عن القصد، وهو
أنه لمّا كان الإنسان متوجهاً قلبياً إلى الكمال المطلق، فإنه مهما جمع من زخرف
الحياة فإن قلبه يزداد تعلقاً بها. فإذا اعتقد أن الدنيا وزخارفها هي الكمال
ازداد ولعه بها، واشتدت حاجته إليها، وتجلّى أمام بصره فقره إليها. بعكس
أهل الآخرة الذين أشاحوا بوجوههم عن الدنيا، فكلّما ازداد توجههم نحو
الآخرة، قلّ التفاتهم واهتمامهم بهذه الدنيا، وتلاشت حاجتهم إليها، وظهر
في قلوبهم الغِنى، وزهدوا في الدنيا وزخارفها. كما أن أهل الله مستغنون عن
كلا العالمين ( الدنيا والآخرة )، متحررون من كلتا النشأتين وكل حاجتهم
نحو الغنى المطلق، متجلّياً الغِنَى بالذات في قوبهم، فهنيئاً لهم. إذاً، مضمون
الحديث الشريف يمكن أن يكون إشارة لما مرّ شرحه من قوله: مَنْ أَصْبَحَ
وَأَمْسَى وَالدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللَّهُ الفقرَ بَيْنَ عَيْـنَيْهِ، وَشَتَّتَ أَمْرَه، وَلَمْ يَنَلْ
مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قـُسِمَ لَهُ، وَمَنْ أَصْبَحَ وَأَمْسَى وَالآخِرَةُ أَكْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللَّهُ
الغِنَى فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ أَمْرَهُ". ومن المعلوم، أن من يتجه قلبه إلى الآخرة،
تغدو أمور الدنيا وصعابها في نظره حقيرة سهلة، ويجد هذه الدنيا متصرّمة،
ومتغيرة، ويراها معبراً ومتجراً وداراً للابتلاء والتربية، ولا يهتم بما فيها من ألم
وسرور، فتخف حاجاته ويقل افتقاره إلى أمور الدنيا وإلى الناس، بل يصل إلى
حيث لا تبقى له حاجة، فيجتمع له أمره، وتنتظم أعماله، ويفوز بالغِنى الذاتي
والقلبي. إذاً، كلّما نظرتَ إلى هذه الدن يا بعين المحبة والتعظيم، وتعلق قلبَك
بهـا، ازدادت حاجتك بحسب درجات حبك لها، وبان الفقر في باطنك
وعلى ظاهرك، وتشتـتّت أمورك واضطربت، وتزلزل قلبك، واستولى عليه
الخوف والهم، ولا تجري أمورك كما تشتهي، وتكثر تمنياتك ويزداد جشعك،
ويغلبك الغم والتحسر، ويتمكن اليأس من قلبك والحيرة، كما وردت الإشارة
إلى بعض ذلك في الحديث [156] الشريف. فقد روي في "الكافي" بإسناده
عن حفص بن قرط، عن أبي عبدالله الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "مَنْ
كَثُرَ اشْـتِبَاكُه بالدُّنْيَا كَانَ أَ شَدَّ لِحَسْرِتَهِ عِنْدَ فِرَاقِهَا"( أصول الكافي، كتاب
الإيمان والكفر، باب حب الدنيا، ح 16). وعن أبي يعفور قال، سمعت أبا
عبدالله ( الصادق ) عليه السلام يقول: "مَنْ تَعَلَّق قَلْبُهُ بِالدُّنْــيا
تَعَــلَّــقَ قَلْبُهُ بِثَلاثِ خِصَا لٍ هَمٍّ لاَ يَفْنَى وَأَمَلٍ لاَ يُدْرَكُ وَرَجَاءٍ لا
يُنالُ"( أصول الكفي، كتاب الإيمان والكفر، باب حب الدنيا، ح 17 ) . أما
أهل الآخرة، فإنهم كلّ ما ازدادوا قرباً من دار كرم الله، ازدادت قلوبهم
سروراً واطمئناناً، وازداد انصرافهم عن الدنيا وما فيها. ولولا أن الله قد عين
لهم آجالهم لما مكثوا في هذه الدنيا لحظة واحدة. فَهُم، كما يقول أمير المؤمنين،
علي بن أبي طالب عليه السّلام: "نُزِّلَتْ أَنْفُسَهُ فِي البَلاءِ، كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي
الرَّخَاءِ، وَلـَوْلا الأَجَلُ الّـَذِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيهم، لَمْ تَسْتَقِر أّرْوَاحُهُم فِي
أَجْسَ ادِهم طَرَفَةَ عَيْنٍ شَوْقـاً إِلَى الــثَّوَابِ"( نهج البلاغة - الخطبة
193 ( الشيخ صبحي الصالح ) ). جعلنا الله وإياكم منهم، إن شاء الله. إذاً،
يا عزيزي، بعد أن عرفت مفاسد هذا التعلق والحب، وأدركت أن ذلك يفضي
بالإنسان إلى الهلاك، ويجرّده من الإيمان، ويجعل دنياه وآخرته متشابكتين
مضطربتين، فشم ّر عن ساعد الجد، وقـلّل حسب طاقتك، التعلق بهذه
الدنيا، واقتلع جذور حبها من نفسك، واحتقر الأيام القليلة التي تقضيها في
الحياة، وأزهد في خيراتها المشوبة بالألم والعذاب والنقمة، واطلب من اللّه أن
يعينك على الخلاص من هذا العذاب وهذه المحنة، ويجعل قلبك يأنس بدارِ كرمه
تعالى: "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى". [157] الحَــديــث الـسَــابع
"الغـــضـــب" [158] بالسند المـتَّـصل إِلى محمدّ بن يعقوب
عن علي بن إبراهــيم، عن محمدّ بن عيسى، عن يونـس، عن داود بن
فــرقـد قـال: قال أبو عبدالله عـلـــيه السّــلام: "الغَـضبُ
مِــفْتاحُ كُـلِّ شَــر"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان
والكفر، باب الغضب، ح 3 ). [159] الشرح: قال المحقق الكبير أحمد بن
محمد، المعروف بابن مسكويه، في كتاب تهذيـب الأخلاق وتطهير الأعراق
القيم الذي يقل نظيره في حسن التــنظيم والبيان م نصه (تهذيب الأخلاق،
لأبي علي أحمد بن محمد مسكويه، ص 193 منشورات الجامعة الأمريكية -
بيروت): "والغضب بالحقيقة هو حركة للنفس يحدث بها غليان دم القلب
شهوة للانتقام. فإذا كانت هذه الحركة عنيفة، أججت نار الغضب وأضرمتها،
فاحتـدّ غليان دم القلب وامتلأت الشرايين والدماغ دخاناً مظلماً مضطرباً
يسوء منه حال العقل ويضعف فعله، ويصير مثل الإنسان عند ذلك على ما
حكته الحكماء مثل كهف مليء حريقاً وأضرم ناراً فاختنق فيها اللهيب
والدخان وعلا منه الأجيج والصوت المسمى وحي النار، فيصعب علاجه
ويتعذر إطفاؤه، ويصير كل ما تدنيه منه للإطفاء سبباً لزيادته ومادة لقوته.
فلذلك يعمى الإنسان عن الرشد ويصمّ عن الموعظة، بل تصير المواعظ في تلك
الحال سبباً للزيادة في الغضب ومادّة للّهيب والتأجج وليس يرجى له في تلك
الحال حيلة". ثم يقول ( تهذيب الأخلاق، لأبي علي أحمد بن محمد مسكويه،
ص 195 منشورات الجامعة الأمريكية - بيروت)"وأما سقراطيس( في كتاب
( الأربعون حديثا ) وأما بقراط... وفي كتاب تهذيب الأخلاق وأما
سقراطيس... ( المترجم ) ) قال أني للسفينة إذا عصفت بها الرياح [160]
وتلاطمت عليها الأمواج وقذفت بها إلى اللجج التي فيها الجبال، أرجى مني
للغضبان الملتهب، وذلك أن السفينة في تلك الحال يلطف لها الملاحون
ويخلصونها بضروب الحيل فأما النفس إذا استــشاطت غصباً فليس يرجى
لها حيلة البتة وذلكن كل ما رُقي به الغضب من التضرع والموعظة والخضوع
يصير له بمنزلة الجزل من الحطب يوهجه ويزيده استعاراً"انتهى. فصل في بيان
فوائد القوة الغـضبية اعلم أن غريزة الغضب من النعم الإلهية التي يمكن بها
عمارة الدنيا والآخـرة، وبها يتم الحفاظ على بقاء الفرد والجنس البشري
والنظام العائلي، ولها تأثير كبير في إيجاد المدينة الفاضلة ونظام المجتمع. فلولا
وجود هذه الغريزة الشريفة في الحيوان لما قام بالدفاع عن نفسه ضد هجمات
الطبيعة، ولآل أمره إلى الفناء والاضمحلال. ولولا وجودها في الإنسان، لما
استطاع، أن يصل إلى كثير من مراتب تطوره وكمالاته زائداً على تحقق ما
تقدم. بل إن التفريط والنقص من حال الاعتدال يعد من مثالب الأخلاق
المذمومة ومن نقائص الملكات التي يترتب عليها الكثير من المفاسد والمعايب،
كالخوف، والضعف، والتراخي، والتكاسل، والطمع، وقلة الصبر، وعدم الثبات
في المواقف التي تتطلب الثبات، والخمود، والخنوع، وتحمل الظلم، وقبول
الرذائل والاستسلام لما يصيبه أو يصيب عائلته، وانعدام الغيرة، وخور العزيمة...
إن الله سبحانه يصف المؤمنين بقوله: { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }(
سورة الفتح/ 29). إن القيام بالأمر المعروف والنهي عن المنكر، وتنفيذ الحدود
والتعزيرات وسائر التعاليم السياسية الدينية والعقلية، لا يكون إلاّ في ظل القوة
الغضب ية الشريفة. وعلى ذلك، فإن الذين يظنون أن قــتل غريزة الغضب
بالكامل وإخماد أنفاسها يعد من الكمالات والمعارج النفسية إنّما يرتكبون
خطيئة عظيمة، ويغفلون عن حدّ الكمال ومقام الاعتدال. هؤلاء المساكين لا
يعلمون أن الله تبارك وتعالى لم [161] يخلق هذه الغريزة الشريفة في جميع
أصناف الحيوانات عبثـاً، وأنه جعل هذه الغريزة في بني آدم رأسمال الحياة
المُــلكية والملكوتية، ومفتاح الخيرات والبركات. إن الجهاد ضد أعداء الدين،
وحفظ النظام العائلي للإنسان، والدفاع عن النفس والمال والعِرض، وعن سائر
القوانين الإِلهيـة، والجهاد مع النفس وهي ألد أعداء الإِنسان، لا يكون كل
ذلك إلاّ بهذه الغريزة الشريفة. إن منع الاعتداءات والذب عن الحدود والثغور،
ودفع المؤذيات والمضرات عن الفرد والمجتمع، ويجري تحت لواء هذه الغريزة.
لذلك سعى الحكماء إلى معالجة خمود هذه الغريزة وركودها. وهناك معالجات
|
|
|
|
|