|
مشرف المنتدى الثقافي
|
رقم العضوية : 7208
|
الإنتساب : Jul 2007
|
المشاركات : 3,027
|
بمعدل : 0.47 يوميا
|
|
|
|
كاتب الموضوع :
حفيد الكرار
المنتدى :
المنتدى الفقهي
بتاريخ : 10-12-2013 الساعة : 09:21 PM
الإشكالية المنهجية بين العقلين: الفلسفي والتفكيكي
(نظرية المعاد الصدرائية)
القسم الثاني
حوار بين جوادي آملي وجعفر سيدان
إعداد وتنظيم: مهدي مرواريد(*)
ترجمة: وسام الخطاوي
مناظرة
بين الأُستاذ الشيخ جوادي آملي(**)
والأُستاذ السيد جعفر سيدان الخراساني(***)
تعدّ هذه المناظرة من أهمّ المناظرات التي وقعت بين التيار التفكيكي المعاصر الذي يعدّ السيد جعفر سيدان الخراساني من أبرز وجوهه ورجالاته، والتيار التوليفي السائد، القائل بمصالحة بل اندماج ـ بين الفلسفة والعرفان والنص، والذي يعدّ الأستاذ الشيخ عبدالله جوادي آملي من أكبر رجاله، وأكثرهم إسهاماً، وقد تناولت المناظرة ـ إضافة إلى بعض المداخل المنهجية ـ موضوعةً إشكالية بين الطرفين هي مسألة المعاد الجسماني والروحاني، مسلّطةً الضوء على نظرية الملا صدرا الشيرازي في هذا الموضوع.
وستبدو للقارئ في طيّاتها كيفية تعامل كل مدرسة من المدرستين مع الموضوعات العالقة بين النصّ والعقل (التحرير).
الجلسة الخامسة ــــــــــ
اشتراك النظريات المختلفة في النتائج، صورية التماثــل بين المعـــاد القـــرآني والصــدرائي، المخصّصات اللبية الفلسفية حاجة لفهم النص الديني...
الأُستاذ سيدان:
وصل البحث بنا إلى حيث تفضلتم بأنه قد ثبتت أحكام في الشرع للجسم الأُخروي، فيما سلبت عنه أحكام أخرى،والحكيم الإسلامي يقبل تلك الأحكام الإثباتية والسلبية معاً، ويرتضي جسمانية المعاد، وعليه، لا اختلاف بين هذين المسلكين، لكن أقول هنا: على أيّ موضوع تحمل هذه الأحكام؟
هل يقبل الحكيم الإسلامي الأحكام المذكورة على أنّ موضوعها من أجزاء هذا العالم؟ أي الجسم المعدود من أجزاء هذا العالم، أو أن موضوعها هو الموجود الذي أبدعته النفس؟
فإذا اختلف الأساس، اختلف البناء أيضاً، والمهمّ هو الأساس، وإلاّ فلو جعلنا الميزان هو الاتفاق في الأحكام، فسوف تغدو كثير من المدارس المختلفة متفقةً مع بعضها، مثل الموحّد والثانوي، فكلاهما قائل بوجود مبدأ الخير والشر، والعلّة والمعلول، إلا أنّ أحدهما يؤمن بأن الخير معلول لمبدأ، والشرّ معلول لآخر، فيما يؤمن الموحّد بانبثاق الطرفين من مبدأ واحد، وهكذا.
وكذلك الاختلافات بين الفلاسفة، فمثلاً ابن سينا، وصدر المتألهين، كلاهما له مدرسة تخصّه في كثير من المسائل، بيد أنهما يشتركان من حيث الأحكام، فكلاهما يحمل صفات الله تعالى على اسم واحد: القدير، العليم، و... والحال أنّ المدرستين: المشائية والعرفانية تختلفان في علم الله تعالى.
والأمر كذلك في مسألة المعاد، فالجنة والنار وتطاير الكتب وغيرها، جميعها أحكام يقبلها صدر المتألهين، إلا أنّ المحتوى المنظور له مختلف عما لدى الفقيه، فهو لا يستفيد من الأدلة النقلية على ذلك، وإنما هو اشتراك لفظي.
وعليه، لا يمكن القول: إنّ للإثنين وجهة نظرٍ واحدة. مضافاً إلى ذلك، وبغضّ النظر عن الاشتراك في أحكام النفس، نسأل: ما هو موضوع هذه الأحكام؟ فمثلاً نتساءل هنا في قضية الجسم المحشور: هل هو من الأجزاء العنصرية لهذا العالم أو لا؟ إنّ هذا الأمر من الحقائق التي يتحتم فهمها.
وبما أن البحث عقائدي يتطلّب الالتـزام وعقد القلب، نضيف: بأيّ شيء نعتقد؟ وبما أن البحث منصبّ على نسبة شيء للشرع، فلا بد لنا من ملاحظة المستفاد من الشرع نفسه: هل المحشور البدن الصوري أو المادي العنصري؟ وذلك حتى يمكن نسبة هذا الأمر إلى الآيات والروايات.
الأُستاذ جوادي:
المقصود من اشتراك الأحكام ــ الذي جعلناه دليلاً على الوحدة ــ اللوازم الذاتية للموضوع، فإذا اتفق على كونها لوازم ذاتية، فسيغدو ذلك الشيء مقبولاً قهراً، ومعنى ذلك أنّه لا أهمية للاشتراك في الجامع الانتـزاعي، ولهذا لا يمكن القول: إن الثنوي والموحد متحدان في الخط والمسير؛ انطلاقاً من اشتراكهما في المبدأ بعنوانه العريض.
يقول الثنوي: إن الشرّ أمر وجودي، ولهذا يحتاج إلى المبدأ مثل الخير، أمّا الموحد فيقول: إن الشرَّ أمر عدمي فلا يحتاج إلى مبدأ.
أمّا الاستناد إلى الشرع، فبما أن الموضوع من النظريات لا الضروريات، فالحدّ الوسط فيه هو الاجتهاد والنظر.
إننا نملك علماً إجماليّاً واعتقاداً كذلك، يتمثل في الإيمان بما جاء به
النبي على نحو الإجمال، وهذا لا اختلاف فيه ولا نـزاع، إنما الاختلاف في العلم التفصيلي، وهو تحديد ما جاء به النبي بالضبط، والحدّ الوسط هنا هو نظر المجتهد واستنباطه.
وكما هو الحال في اختلاف أصحاب الرأي في الفروع، إلى الحدّ الذي تصل فيه الحالة أحياناً إلى المنافرة والخصومة الشديدة، كما حصل مع انتقاد الشهيد الثاني الشديد في رسالة صلاة الجمعة القائلينَ بعدم الوجوب، وكلّ صاحب نظر يسند نظره إلى الشريعة، فكذلك الأمر في أصول الشريعة.
فنحن نرى أنّ الآشتياني والخوانساري يثبتان بالأدلّة العقلية والشواهد السمعية تجرّد الروح، فيما ينكره في الطرف الآخر العلامة المجلسي.
وهكذا نجد لدى صدر المتألهين رأياً خاصّاً في المعاد الجسماني، فيما يناقشه الآغا علي حكيم بالقول: إن إنشاء البدن نفسه بإذن الله غير موافق للروايات، وهكذا وجدناه يردّ مقولة الملا صدرا ويستند إلى الحديث الشريف الذي نقله الفيض الكاشاني في تفسير الصافي: فينتقل بإذن الله إلى حيث الروح، أي يذهب البدن إلى جانب الروح، ويقول في سبيل الرشاد: لم أسمع بفيلسوف إلهيّ إلى الآن أنكر المعاد الجسماني ( ).
فعلى هذا، لا يجرّ الحديث ــ بما هو حديث ــ الإنسان إلى الأخذ بمادية الروح، كما يقول المجلسي، ولا إلى تجرّدها، ولا تثبت الفلسفة ــ بما هي فلسفة ــ التجرّد، ولا المادية، فالموضوع نظري.
لقد قلنا في ذلك اليوم: إن المادة والهيولى ليسا أمراً عرفياً، ولا اصطلاحاً حديثيّاً، بل مصطلح فلسفي.
يقول الملا هادي السبزواري في منظومته:
إن الهيولى العم أعني ما حمل قوة شيء أثبتت كــــــــلّ الملل
ويقل في الشرح: معناه أن الهيولى تعني حامل القوّة، والجوهر الذي يطرأ عليه الانفعالات اتفاقية.
لقد اتفق الحكماء على أن الجسم الذي يقبل الكون والفساد، وله القوة والفعلية، هو الهيولى، أي تلك الحالة من استعداد الهيولى، غاية ذلك أن الاختلاف وقع في: هل أن الحامل للاستعداد شيء، فيما الحامل للفعلية شيء آخر ــ بناءً على أن الجسم مركّب من الهيولى والصورة ــ أو أنه لا يوجد عندنا إلاّ شيء واحد، فالشيء الذي له استعداد الاستكمال له هيولى؟
إذا أردنا أن نقول: هل الجسم في عالم الآخرة له هيولى أو لا؟ تلك الهيولى المتفق عليها، فلا بد من معرفتها بآثارها وأحكامها، وإذا رأينا جسماً هناك لا استكمال ولا تدرّج فيه، فسوف نعرف أنه لا هيولى له، وإنما هو صورةٌ محضة.
الأُستاذ سيدان:
لا يوجد هنا اشتراك في الأحكام ولوازمها، بالمعنى الواقعي للكلمة، إنما الاشتراك في اللفظ فقط في مسألة الصراط، والميزان، وتطاير الكتب، فعندما نُقارن بين المستفاد من القرآن والحديث وما اختاره صدر المتألهين، نجد أن الاشتراك إنّما يقع في الكلمات فقط.
والمهم ـ مضافاً إلى هذا ـ معرفة هل أنّ الجسد الذي قال به الفلاسفة الإسلاميون، مع ما يظهر من الفقهاء والمحدثين، واحد أم إثنان؟ وإذا كان المقصود متعدّداً، فما هو المستفاد من القرآن والحديث؟
ثم إنّ الجسم الذي تتعلّق به الروح، هل هو من أجزاء هذا العالم العنصرية أو صورة أبدعتها النفس في ذلك العالم؟
وعليه، ليس البحث في أن الجسم الأُخروي يوجد تدريجيّاً أو دفعةً واحدة، وإنما في أن ذلك الجسم الذي وُجِد دفعةً، هل هو من أجزاء هذا العالم ــ وإن تغيّرت كيفية تكوّنه وعوارضه في ظروف العالم الآخر ــ أو أنه ليس من أجزاء هذا العالم، وإنما هو مُبدع النفس؟
قلنا: إن الأكابر جعلوا هذين المسلكين مقابل بعضهما.
ويمكن ـ بغضّ النظر عمّا تقدم ـ إسناد الاتجاه الذي يستفيد حقيقة من الآيات، بعد استيضاحه الدقيق لدلالاتها، ومن الروايات بعد تماميّة سندها ودلالتها طبقاً للموازين المتعارفة، مع ملاحظة مجموع الأدلة في ذلك.. يمكن إسناده إلى الشرع الشريف.
وقد يبحث الفيلسوف الإسلامي ــ في الوقت الذي يعتقد فيه بأمر ما، ويتقيّد فيه بالشريعة، ويطّلع فيه على الأفكار والعقائد البشرية ــ في موضوعٍ ما وفقاً لهذه المبادئ والأصول، فيتخذ لنفسه رأياً، بيد أنه ـ وانطلاقاً من اعتقاده بالشريعة ـ يراجع الأدلة النقلية أيضاً، وحيث كان قد سبق أن صاغ في عقله الموضوع وخرج فيه بنتيجة معينة، نجده يواجه أدلّةً شرعية لا تخلو من التشابه والإجمال، مما يجعله يندفع تلقائياً لحمل هذه النصوص النقلية على المعنى المستقرّ في وعيه واستنتاجه، ويعتبر هذا النوع من الأدلة أدلةً أصلية، وبذلك يتخلّى عن الظواهر والمحكمات، أو يحملها على ذلك المعنى الذي صاغه سلفاً.
ومنشأ هذا النوع من الحمل، الأُنس الذهني بسلسلة من الأيديولوجيات الرائجة في الفلسفة والمذاهب البشرية، مما قد يكون في نفسها محل خلاف. والمسألة ليست مسألة كليّة عالمية...
وإذا أردنا دراسة معضلة المعاد من وجهة نظر الشريعة، فلا بد من الأخذ برؤية إنسان متعقّل دقيق، لكنه خالي الذهن من القواعد والأحكام الفلسفية الخاصة المسبقة، فيلقي نظرةً على الأدلة الشرعية؛ ليرى هل أن سبيل المحدّثين والفقهاء يعتمد على القرآن والحديث، أم منهج صدر المتألّهين؟
مثلاً قد يقال: إنه لا زمان في العالم البعدي؛ لأنه ليس هناك شمس وقمر، طبيعيّ أن محدّد الزمان في هذه الدنيا هو حركة الأرض أو الشمس والقمر، إلا أنّه يمكن وجود زمان في ذلك العالم، وإن كان معياره أمراً آخر غيرهما، أو أن الحركة موجودة، بيد أنها سريعة جداً.
أو يقال: بما أن الأشياء توجد في ذلك العالم دفعةً ودون حركة وتدرّج، فيعلم أن لها صورة، وليس لها مادة، ويبدو أن في هذا الكلام مقارنةً بهذا العالم؛ لأن الصور الخيالية فيه تقع على هذه الشاكلة، وذلك بأن تخترعها النفس دفعة دون حاجةٍ إلى تدرّج.
إذن، لا بد أن تكون الموجودات في العالم الآخر ـ كلّما كانت أكمل وأتم ـ من سنخ هذه الصور.
الأُستاذ جوادي:
الفرق بين المسائل العلمية والمسائل الأيديولوجية والفلسفية أنّ المسائل العلمية والتجريبية تخصّ هذا العالم، فالفيزيائي ـ مثلاً ـ لا يمكنه أن يقول: إن قوانين الفيزياء تجري في العالم البعدي؛ لأنّها جرّبت في هذا العالم، وليست القواعد الفلسفية كذلك، فإن الأبحاث الفلسفية ذات طابع كلّي وعام، تدور مناقشاتها في داخل محور استحالة اجتماع النقيضين، فما كان جزئياً لا يدخل فيها، وما كان كلياً فهو يقبل التطبيق على العالمين معاً.
يقول الفيلسوف الإسلامي: إني أقبل أصل الوحي والنبوة مع القراءة الفلسفية الكلّية. إذاً فهو يأخذ الجزئيات من الوحي، ولا يبدي نظره فيها، أمّا الكليات فما كان منها مسلّماً عقلاً، فلن يكون هناك فرق فيه بين هذا العالم أو ذاك.
ولا تدفع الفلسفة ــ بما هي فلسفة ــ الإنسان إلى مخالفة الظواهر، كما هي الحال بالنسبة للمحدّث بما هو محدث، فقد أنكر العلامة المجلسي التجرّد، في قبال ما قاله بعض: إذا لم تكن الروح مجرّدةً، مثل ماء الورد في الورد، فلا يمكن إثبات عالم البرزخ، والفريقان من أهل الحديث.
فالقاعدة العامّة في دراسة معطيات القرآن والحديث تستدعي الفحص في المخصّصات اللبية، فلا بد ـ مثلاً ـ من البحث أولاً في حقيقة الزمان، فهناك خمسة عشر قولاً فيه، ومن ثمّ استكشاف قواعده العامة وقوانينه الكلية، فإذا لم توجد تلك الأحكام في العالم البعدي، فسوف نعرف أن لا زمان هناك، وما لم يوجد زمان فلن يكون للحركة وجود أيضاً، فإذا قلتم: إن هناك زمان، لكنه سريع، فهذا كلام جميل جداً، إلا أنه لا بد من إثباته،وهذا معناه أنه لا بد على أيّ حال من دراسة معضلة الزمان فلسفياً.
ويذهب الملا صدرا إلى تخيّل البعض أن الآخرة من تتمّات وذيول الدنيا، إنهم يعتقدون أن القيامة فرع مرتبط في امتداد هذه الدنيا، وهذا بالحقيقة إنكار لعالم الآخرة.
ويرى أيضاً أن ظواهر كثير من الآيات تقضي بأنّ ذلك العالم مثل هذا العالم، إلا أن عندنا أدلة من جانب آخر تصرّح بأن الجنة والنار موجودتان الآن، فلا بد من التحقيق في هذه الخصوصيات.
الأُستاذ سيدان:
حاصل ما قيل:
الحكيم يلقي نظرةً على القوانين الكلّية الفلسفية، مع ما جاء من الشرع؛ ولهذا قد تكون نظرته مختلفةً عن آراء الآخرين الذين لم يأخذوا بالحسبان تلك القوانين.
والخلاصة: لا بد من الأخذ بعين الاعتبار المخصصات العقلية عند الاستفادة من الأدلّة الشرعية.
أقول: إن القوانين اللبيّة قد تكون قوانين قطعية واضحة، تتفق أنظار العقلاء عليها، ولا شك هنا في انضمامها إلى الأدلة الشرعية، أمّا لو وقع في تلك القوانين اختلاف كبير، مثل الزمان الذي تفضلتم بأن فيه خمسة عشر قولاً، فهل يمكن لمثل هكذا قانون أن يكون مخصّصاً لبيّاً، نصرف به ظواهر الكتاب والسنة ونأوّلهما؟! وهل اعتمد النبي والأئمة المرسلون إلى البشر جميعهم على هذه المواضيع الخلافية، ليقولوا كلاماً يريدون خلاف ظاهره أو صريحه اعتماداً على هكذا قرينة.
نعم، إذا قطع شخص بأحد هذه الأقوال، فلا يمكن القول له: إصرف نظرك عن هذا القطع، ولكن، لا بد من تذكيره بسؤال: كيف يقول صاحب الشريعة ــ وهو المعلّم والمرشد ــ كلاماً يتبادر منه معنى يفهمه العقلاء جميعاً،لكنّه اعتمد فيه على موضوعٍ مختلَف فيه بحيث يصبح كلامه ظاهراً في المعنى المنسجم مع نظرية خاصة في ذلك الموضوع الخلافي؟!...
في الختام نقول:
إذا لم يكن عندنا مخصّص لبي واضح لدى دراستنا لأيّ مذهب، فلا بد من الأخذ بظواهر ذلك المذهب. والطريق الذي يؤدّي بالإنسان إلى مخالفة ظواهر الشرع لدى اصطدامها بالقواعد العقلية، طريق غير مأمون من الخطأ.
الأُستاذ جوادي:
إذا عزم الإنسان على البحث في مسألةٍ اجتهادية، واحتمل أن تكون بعض المذاهب الفلسفية لها رأي صحيح في مقدّمات تلك المسألة، فلا يمكنه تناول الأدلة الشرعية مباشرةً، واليقين بنسبة النتيجة ــ بمجرّد الاستفادة من الظواهر ــ إلى الشارع؛ إذ يحتمل مع ذلك وجود المخصّص اللبّي.
الأُستاذ سيدان:
نعم، يصحّ هذا الكلام إذا كانت الأدلّة الشرعية ظنيّةً، ففي هذا النوع من الأدلّة لا يمكن نسبة النتائج ــ حتى بعد الفحص عن المخصّصات اللبية ــ إلى الشارع سبحانه وتعالى على نحو الجزم واليقين، لكن فرضنا هنا يقوم على امتلاكنا أدلةً قطعيةً ــ ولو بلحاظ المجموع ــ يغدو احتمال وجود دليل عقلي قطعيّ قبالها احتمالاً غير صحيح.
[وفي ختام الجلسة أوضح الشيخ جوادي]: إن هناك أدلّةً كثيرة في مسألة المعاد، تدل ـ كما يفهم أيضاً من كلمات المحدّثين ـ على أن المحشور هو الأبدان العنصرية، ولهذا لا يلزم الفحص في هذه الجهة، لكن يمكن التوصّل إلى أدلة أخرى من قبيل: كون الجنة والنار مخلوقتين، والتي يستفاد منها مسلك صدر المتألهين، ولا بد من بحثها.
الجلسة السادسة ــــــــــ
الجنة والنار مخلوقتان الآن أم لا، نظرية تجسّم الأعمال وعلاقتها بخلق الجنة والنار، المادّة بين الاصــطلاح العــرفي والتجــريبي والمصــطلح الفلسفي،
الأُستاذ سيدان:
بعد أن تقرّر في الجلسة السابقة أن ظواهر الآيات والأدلّة الشرعية يدلّ أكثرها على كلام المحدّثين، أي أن المشحور في القيامة هم الناس بالأبدان العنصرية المادية، إلا أن هناك آيات وروايات أخرى في البين يمكن من خلالها إثبات النظريّة الصدرائيّة، وبهذا نتخلّى ـ تلقائيّاً ـ عن ظواهر الأدلة الأوليّة، وبعبارة أخرى: إن هذه الطائفة من النصوص الدينية تعدّ مفسّرةً للطائفة الأولى.
ونتدارس في هذه الجلسة هذه الأدلّة الشرعية، إن شاء الله تعالى.
الأُستاذ جوادي:
وصف الله تعالى في كثير من الآيات الجنة والنار، وعرّف بكثيرٍ من ميزاتهما وخصوصيّاتهما، فقد قال في بعض الآيات: إن الجنة والنار أعدتا للمتقين والكافرين:
وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ آل عمران: 133.
إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا النساء: 102.
أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا النساء: 18.
ظاهر هذه الآيات وأمثالها أن الجنة والنار بتلك الأوصاف مخلوقتان الآن، وهذا الظاهر يثبت الروايات، كالرواية التي ينقلها الصدوق في التوحيد وعيون أخبار الرضا والأمالي بسنده عن الهروي، قال: قلت له (للرضا ): يا ابن رسول الله! فأخبرني عن الجنة والنار أهما اليوم مخلوقتان؟
فقال: نعم، وأن رسول الله 2 قد دخل الجنة، ورأى النار لما عُرِجَ به إلى السماء.
قال: فقلت له: إن قوماً يقولون: إنهما اليوم مقدّرتان غير مخلوقتين.
فقالA: ما أُولئك منّا ولا نحن منهم، من أنكر خلق الجنة والنار كذّب النبي 2 وكذّبنا، ولا من ولايتنا على شيء، ويخلد في نار جهنم، قال الله عزّ وجلّ: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آن( ).
وهناك روايات تدلّ على أن النبي الأكرم 2 رأى في ليلة المعراج الجنّة والنار، قال الله سبحانه وتعالى في سورة التكاثر: كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ التكاثر: 5 ــ 6، فإذا وجدت علم اليقين فسوف ترى الجحيم، وقصّة حارثة تؤيّد هذا الأمر.
بعد هذه المرحلة، نلاحظ أن الله تعالى جعل الجنة جزاءً للمحسنين، وجهنم جزاءً للمذنبين، ثم جعل الجزاء مطاوعاً للعمل، فقال: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ النمل: 90.
وعليه، فالجزاء في الأصل عملُ الإنسان نفسه، أمّا جهنم فليس حالها حال الأُمور التعاقدية كقوانين الجزاء في هذا العالم، وإذا كان عندنا دليل معتبر يثبت أن ما وراء العمل يوجد جزاء آخر أيضاً، فإنه يمكن الجمع بينهما بأن نقول: إن العمل نفسه جزاء، وجزاء آخر أيضاً من نوع القوانين الجزائية، وعلى كلّ حال، فلا شك فيما قررناه.
ونلاحظ أيضاً أن الله سبحانه قال في وصف النار وجهنم: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا الجن: 15، فالمجرم هو الموادّ المحترقة في النار، كما أنه هو وقودها أيضاً: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ البقرة: 24، والحجارة هي الأصنام التي كانوا يعبدونها.
فعليه، يكون الإنسان نفسه ذاك الحطب المحترق، وهو الوقود. إذاً، فالإنسان في النار يحرق نفسه بنفسه ويشعلها: ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ غافر: 72، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن العمل هو الجزاء.
وبناء عليه، ليست الجنة والنار موجودتين في إقليمٍ من الأقاليم الجغرافية، كما أراد بعض تصويرهما، وقالوا: ما الإشكال أن تكون في أرض لم تكتشف بعد؟!
فإذا كان نظام الجنة والنار نظاماً أخرويّاً، وهو غير النظام الدنيوي المادي، كذلك الجسم؛ فمع كونه مرئياً، لكنه لا يُرى ضمن الظروف الدنيوية.
كانت هذه خارطة البحث ومساره،والخطوط الكلّية العامّة له.
الأُستاذ سيدان:
مع ملاحظة أسلوب عرض الموضوعات على هذا النحو ــ وبغضّ النظر عن بعض الملاحظات الناقدة ــ لا يمكننا ومن هذه المقدمات استنتاج عدم مادية العالم البَعدي.
فإذا فرضنا أن الجزاء هو العمل نفسه، وأن الإنسان وقودٌ وحطب، والجنّة والنار موجودتان، بل قد رؤيتا، فلا يمكن إثبات كونهما ليستا بماديتين، بل يمكن أن تكون مادّة الآثار وخصوصيّاتها تفترق في شروط معينة، كما أن المادة في هذا العالم تفترق شرائطها في زمانين وفي مرحلتين، فتختلف أحكامها.
أمّا الانتقادات التي أشرنا إليها، فهي ما قيل: إن الجزاء هو العمل، فهل يعني ذلك أن العمل نفسه يتحوّل إلى جزاء؟ كهاتين الركعتين من الصلاة تكونان قصراً مثلاً، أو أن عمل الخير هذا، يكون باعثاً على بناء قصرٍ بإرادة الله سبحانه؟
بالطبع هناك نحو ارتباط بين العمل والجزاء، أمّا العينية فليست ثابتة، وعلى أيّ حال لا منافاة لذلك مع مادية الجزاء، أمّا كون الإنسان وقوداً وحطباً، فليس معناه أنه لا توجد نار قبل ذلك، بل معناه: أن الإنسان يغدو وسيلةً للاشتعال وظهور النار، فهو يقع في النار فيضاعف اشتعالها، وآية: كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ التكاثر: 5، فسّرها أكثر المفسّرين بنحو آخر.، مثلاً لو للتمنّي، و: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ التكاثر: 6، إخبار عن مستقبلٍ محقّق الوقوع.
أمّا رؤية النبيّ الأكرم 2 للجنة والنار فلا دلالة فيها على عدم المادية، فيمكن أن يكون جسم مادي لطيف مرئيّاً في شرائط العالم الأعلى، ولا يُرى في الشرائط الخاصّة الأرضية، بل إن الآثار والخصوصيات المذكورة للجنة والنار تؤيّد المادية.
الأُستاذ جوادي:
المادة التي نتحدّث عنها هنا ليست أمراً عرفياً ولا شرعيّاً، بل إصطلاح فلسفي خاص، متداول في العلوم العقلية، فهي لا تعني قابلية الرؤية واللمس، بل هي مجرّد الاستعداد.
المادة في العلوم التجريبية قابلةٌ للتبدّل والتحول، وتختلف باختلاف الحالات، لكنها بمعنى الهيولى لم تثبتها التجربة، وإنما أثبتها العقل، بمعنى أن العقل يحكم بأن الجسم العنصري لهذا العالم له في ذاته استعداد التحوّل والتبدل، فمثلاً يتحوّل اللحم إلى تراب، ويتحوّل التراب إلى نبات... تلك الجهة من الاستعداد يقال لها: الهيولى، وهي علّةٌ قابلية، مضافاً إلى العلّة الفاعلية.
فلو فرضنا أن جسماً كان حقيقةً مجرّدة، وقد تبدّل الآن، فهل يمكن القول: إن هذا الجسم له هيولى أيضاً؟
إنّ العمل ــ كما قلنا ــ يتبدّل إلى جزاء، وليس منحصراً بالصوم والصلاة اللذان هما عمل خارجي ومادي، وإنما يشمل النيّات والاعتقادات أيضاً، فكما أن الكفر والإيمان يتبدّلان إلى جزاء، كذلك الأخلاق الحسنة والسيئة، فإنها ليس أموراً مادية حتى نقول: إنه يمكن أن تختلف المادّة بحسب شرائط الآثار والخصوصيات.
وخلاصة القول: إنّ المادة التي يقول بها الفيلسوف لا طريق لإثباتها في ذلك العالم، نعم، لا كلام فيما لو قال شخص: نحن نسمّي كل شيء يُرى مادةً، أمّا مسألة جزاء الأعمال بالنسبة إلى الجنة، ففيها قولان، وأمّا بالنسبة إلى جهنم فقول واحد.
أحد القولين بالنسبة للجنة أن العمل الصالح يتبدّل إلى جنّة، والقول الآخر هو: وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ق: 35.
أمّا بالنسبة إلى جهنم فالقول قول حاصر: إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ التحريم: 7، الجزاء ليس إلاّ العمل.
وما قلناه عن وجود الرابطة التكوينية بين العمل والجزاء، ليس معناه العلّة الفاعلية؛ لأن هذه العلّة ليست سوى الله المتعال، إنما هي الرابطة التكوينية، بمعنى اللياقة والاستعداد لصيرورة العمل جزاءً، فالوقود لا يعني الاشتعال، بل وسيلته، كعود الثقاب، وكما أن الإنسان وقود، كذلك هو حطب، ونتيجة هذين: يسجرون، وهو الاشتعال.
مثال ذلك في هذا العالم ما بينه أميرالمؤمنين A في رواية نقلها صاحب الغدير، قال:
إنّ رجلاً أتى عثمال بن عفان... وبيده جمجمة إنسان ميّت، فقال: إنكم تـزعمون النار يعرض على هذا، وأنه يعذب في القبر، وأنا قد وضعت عليها يدي فلا أحسّ منها حرارة النار.
فسكت عنه عثمان، وأرسل إلى عليّ بن أبي طالب المرتضى يستحضره، فلما أتاه ـ وهو في ملأ من أصحابه ـ قال للرجل: أعد المسألة، فأعادها، ثم قال عثمان بن عفان: أجب الرجل عنها يا أبا الحسن.
فقال عليّ A: ائتوني بزند وحجر، والرجل السائل والناس ينظرون إليه، فأ ُتي بهما، فأخذهما وقدح منهما النار، ثم قال للرجل: ضع يدك على الحجر. فوضعها عليه، ثم قال: ضع يدك على الزند، فوضعها عليه، فقال: هل أحسست منهما حرارة النار؟ فبهت الرجل، فقال عثمان: لولا عليّ لهلك عثمان( ).
وأمّا آية: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ التكاثر: 6، فالظاهر أنها جواب: لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ التكاثر: 5، وإلاّ استلزم الأمر حذف وتقدير أمرين: أحدهما: جواب لو، والآخر: القسم في لَتَرَوُنَّ.
الأُستاذ سيدان:
صحيح أن المادة بمعنى الهيولى اصطلاح فلسفي، ولم ترد في اصطلاح الشرع والحديث، لكن مصبّ البحث هو: هل أن المحشور في العالم البَعدي هو هذا الإنسان الموجود في هذا العالم من حيث الروح والجسم، وإن اختلفت آثاره وخصوصياته عندما وقعت في ظروف أُخرى؟ أو أن المحشور هو الروح لا بجسم هذا العالم الذي هو من أجزاء هذا العالم، بل مع جسمٍ أبدعته النفس ذاتها، وهذا المقدار المستلّ من خصوصيات الجنة والنار لا ينفي الموضوع ويثبته.
أضف إلى ذلك ــ وبناءً على نظرية الملا صدرا من أن الجنة والنار قائمتان بنفس الإنسان ــ لا معنى لخلق الجنة والنار مسبقاً.
[يحتمل هنا أنه حصلت مناقشات خارجة عن المبحث، ثم أكمل الحوار بهذه الصورة].
الأُستاذ جوادي:
أتصوّر أن خلاصة ما عرض هو هذا: تدلّ الآيات والروايات أن المحشور من أجزاء هذا العالم، والآيات كثيرة في هذا الباب، ولكن قيل: لا بد من ملاحظة آيات وروايات أخرى، من جملتها مسألة الجنة والنار، وأن هذا الإنسان يشكل جنة ذلك العالم وناره، ويدخل فيهما، يعني يصبح الإنسان بصورة العمل وبصورة الصفة.
وعلى هذا، يأتي بدن زيد ــ مثلاً ــ على شكل حيواني خاص بصفة الحسد، وقد جُعلت بصورة هذا البدن، والبدن الذي تبدّل من صفة، لا يكون بدناً عنصرياً مادياً، فمثلاً الشخص الشهواني يأتي بصورة خنـزير، وهو من أُشرب في قلبه الشهوة، أو أنّه كما قيل:
عن أبي عبدالله A قال: إن الله يحشر الناس على نياتهم يوم
القيامة( ).
أليست هذه المرحلة أدقّ من المعاد؟! وقد قال الملا صدرا: إن المعنى الأول للمعاد الذي يقول به العوام أسلم من الآفات، فيما الأخير أدقّ حتماً.
الأُستاذ سيدان:
إذا لم تكن مسألة تجسّم الأعمال مؤيّدة، فلا تنافي مع أن المحشور من أجزاء هذا العالم؛ لأن المقصود من تجسّم الأعمال أن في ذلك العالم تتكوّن الصفات بصور مختلفة، وليس معناه أن الأجزاء الوجودية لهذا العالم لا تكون هناك؛ فإن هذه الأجزاء الدنيوية تعطي صورة الخنـزير والنملة.
فعلى هذا، تبقى الآيات والروايات الصريحة على موضعها، وعلى فرض أن مثل هذه الأدلّة ظاهرة في مدّعى الملا صدرا، لكنها لا تقدَّم على ظهور الآيات والروايات ولا صراحتهما.
أمّا عن الموضوع الآخر الذي تفضلتم به، وهو أن صدر المتألهين قال: إن الرأي الأول الذي هو رأي العوام أسلم من الآفات، وفي الوقت نفسه يختار رأياً آخر.
فهنا نتساءل: كيف يمكن أن يقال عن رأي: إنه حقّ، وأسلم من الآفات، وفي الوقت عينه يجري اختيار رأي آخر بوصفه الرأي الأكثر دقةً؟! أفليس هذا جمعاً بين المتضادين؟!
الأُستاذ جوادي:
ليس المراد من تجسّم الأعمال خلق صورة الخنزير من الطين، ذلك أن هذه الصورة عرض، بل صيرورة الإنسان خنـزيراً حقيقة، فهو إنسان لكنه أصبح خنـزيراً. إذاً، فالإنسان في أبحاث المعاد نوع من الأنواع، وجنس.
قال الله سبحانه: أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ الأعراف: 179، ولسان بعض الروايات أن طائفةً في هذا العالم يأكلون النار: مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ البقرة: 174.
الأُستاذ سيدان:
إذا تبدّل الإنسان واقعاً إلى خنـزير، فهذا معناه أن هذه الصورة لم تعد عذاباً بالنسبة إليه، فمع الاحتفاط بإنسانيته السيئة، له هيئة الخنـزير، والتصوّر بصورة الخنـزير نوع عذاب له، المادة التي يمكن أن يكون الإنسان منها ــ من ناحية تشبيه روحه أو عمله بالخنـزير ــ تكون على صورة خنـزير.
وعلى كل حال، فلا منافاة مع المادية.
نعم، يمكن أن يوجد حدّ معين من النفس الخنـزيرية في الإنسان.
الجلسة السابعة ــــــــــ
تنوّع كلمات الملا صدرا في المعاد أو تناقضها، فعلية الثواب والعقاب الأخرويين في الدنيا، الجنة والنار جسم غير مادي، شهادة الأرض على فعل الإنسان...
الأُستاذ سيدان:
من المناسب تعيين جدول للموضوعات التي طرحت سابقاً.
بعدما عُلم أن الملا صدرا صرّح ـ مراراً ـ بأن المحشور هو المعاد الجسماني والبدن بعينه، وقد اتضح أن مراده من الجسم المعنى الخاص، أي شيئيّة الشيء بصورته، صور إبداعية من قبل النفس، ومقصوده من الجسم ليس هو المتبادر إلى أنظار العموم. ولقد وصل بنا البحث إلى أن المحدّثين والملا صدرا لهما نظرتان، وقد صرّح أهل الفن بهذه الاثنينية.
وقيل: إن المستفاد من الآيات والروايات في موضوع حشر الأجساد، عين ما قال به الأعلام من قبيل: الآشتياني، والآملي، والخوانساري (قدس الله أسرارهم).
لكن القسم الآخر من الأدلة المرتبطة بخلق الجنة والنار والتي وقعت موضع البحث، قلتم فيها: إن هذه الأدلة ــ مع الالتفات إلى أن الجزاء ليس أمراً تعاقدياً، وإنما هو العمل عينه، وأن الأعمال والصفات تتجسّم، ومع الأخذ بعين الاعتبار أن العالم البَعدي يخضع لنظام: كُن فَيَكُونُ، أي لا مدخلية للبطء والحركة فيه ــ يمكنها ـ من بعض الجهات الأُخر ـ تأييد نظرية صدر المتألهين.
وقلنا: إن هذه لا تنافي كلام المحدّثين، وبالنتيجة لا يمكن صرف النظر عن المستفاد من الآيات والروايات.
وما سنستعرضه الآن يرجع إلى الرواية الأخيرة المشتملة على أن النبي 2 قد دخل الجنة في معراجه، ورأى النار أيضاً، فقد ورد في ذيل تلك الرواية أن
النبي تناول من رطب الجنة: فتحوّل ذلك نطفةً في صلبي( )، وهذه الخصوصية ـ أي التبدّل إلى نطفة ـ تتناسب تماماً مع مادّية الجنة وفواكهها، لا صوريتها. والآن، حبّذا لو تتفضلون برواية أخرى أو قرينة لبية.
الأُستاذ جوادي:
ينبغي هنا بيان نقاط ثلاث:
1 ــ تنقسم كلمات الملا صدرا في المعاد إلى نوعين:
أحدهما: ما قاله في شرح الهداية الأثيرية، وهو المتطابق مع ظواهر الكتاب والسنّة، وهو الذي قَبله بوصفه نظريةً دقيقة.
والنوع الآخر: ما بيّنه في كتبه الأُخرى كالأسفار الأربعة، وقد اختاره بوصفه النظرية الأدق.
إذن، فهناك تصور دقيق للمعاد عند صدر الدين الشيرازي، كما هناك تصوّر أدق، وقد اختار في شرح الهداية الأثيرية ذلك المعنى الذي اختاره المحدّثون.
2 ــ كلما تقدّمنا إلى الأمام وتأمّلنا، نرى أنه لا اختلاف بين نظرية الشيرازي ــ ولو بالمعنى الأدقّ ــ وبين نظرية المحدّثين والفقهاء؛ ذلك أنهم ـ المحدثين والفقهاء ـ لم يبيّنوا اصطلاحاً خاصّاً للمادة، وهم يعبّرون عنها بالجسم، ويثبتون آثاراً وخصوصيات لهذا الجسم تنطبق على الصورة التي يقول بها الملا صدرا.
3 ــ الأدلّة تقول: إن الجنة والجحيم موجودتان الآن، وأهل الجنة الآن متنعمون، والجهنّميون الآن معذبون.
أمّا الرواية التي أشير إليها وجاء في ذيلها: فتحوّلت نطفة، فمعناها: تحوّلت إلى نطفة في هذا العالم لا في الجنة، فالجنة ليست مكان نطفة، بل تنـزّلت وأصبحت نطفة، فلجميع الموجودات خزائن غيبية: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنـزلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ الحجر: 21.
ولذلك قال تعالى: وَأَنـزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ الحديد: 25، فحالة التنـزل، وبعبارة أخرى: أنـزلنا وغيرها تشير إلى التنـزيل من الخزائن، وفي الخزائن الغيبية لا يوجد كلام حول الماديات.
إن القيامة وعاء ظهور النار لا حدوثها، فالجهنمي عندما يموت ينكشف عنه الغطاء ويرى نفسه في جهنم، إنه لا يرى شيئاً جديداً: لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّـنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ق: 22، وبما أنه حطب ووقود، فهو الآن في جهنم يحترق، غايته أنه يكشف عنه الغطاء بعد ذلك.
قال تعالى في قصّة قوم نوحٍ (على نبينا وآله وعليه السلام): أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا نوح: 25.
إذن، فجهنم موجودة حتى في داخل الماء، فالإنسان الذي يغرق، لو كان كافراً، يُفتح له باب من جهنم، فقد جاء في الروايات: قبر أو حفرة من حفر النار أو ....
وعلى هذا، فالجنة والنار موجودتان، حتى في وسط الماء، فلو كانت جهنم جسماً ماديّاً لتقرّر وجودها في جزء جغرافي من هذا العالم.
ومسألة تجسّم الأعمال مسألة ثابتة، يمكن استفادتها من موارد مختلفة، نظير القواعد الفقهية المتصيّدة، والعمل أعمّ من القول والفعل والخُلُق والاعتقاد، فبالنسبة للاعتقاد يقال للمعتقد الباطل: هذا رأيك الخبيث، أمّا الجزاء فليس سوى العمل المجسّم.
وعليه، فالمستفاد من الآية الحاصرة: إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ الطور: 16، وكذلك مقتضى قوله تعالى: إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ العنكبوت: 54، أن الكفار الآن في جهنم؛ لأن المشتق حقيقةٌ في المتلبس بالمبدأ في الحال، ومجاز مسلّم في حال الاستقبال، ومقتضى قوله تعالى: مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ البقرة: 174، أن آكل مال اليتيم على نحو الظلم آكلٌ للنار حقيقةً.
ومع الأخذ بعين الاعتبار ما أسلفناه يغدو ممكناً أن تكون الجنة والنار جسماً غير مادي، فكونهما جسماً منطلق من أن لهما طولاً وعرضاً وعمقاً، أما عدم ماديتهما فلعدم وقوعهما ضمن نطاق جغرافي، ولا لهما مكان أو جهة خاصة،. ولا يمكن القول بإمكان وجودهما في إحدى زوايا هذا العالم، أو في إحدى السيّارات التي لم تُكتشف بعدُ.
هذا، والمتعارف بين عامّة المسلمين عن جهنم: أنها محلّ يُلقى فيه الناس للعذاب، ولا يعرفون أن الوقود والحطب وما تتكوّن منه النار هو الإنسان نفسه.
وقد اختار الفيض الكاشاني S ـ وهو المحدّث الكامل والفقيه الذي وقع كتابه مفاتيح الشرائع موقع اهتمام الفقهاء ـ اختار هذا الأمر في كتابه: علم اليقين.
لقد كان على كبار المحدّثين كالعلامة المجلسي S أن يفسّروا المادّة أولاً، فإن كان مرادهم منها شيء ذو طول وعرض وعمق، فلا بحث في هذا ولا خلاف، أمّا لو قصدوا ما كان له مكان وجهة معيّنة، فهذا لا معنى له، طبقاً لما سبق.
|
|
|
|
|