|
شيعي حسني
|
رقم العضوية : 24389
|
الإنتساب : Oct 2008
|
المشاركات : 5,056
|
بمعدل : 0.84 يوميا
|
|
|
|
كاتب الموضوع :
حيدر القرشي
المنتدى :
منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
بتاريخ : 22-10-2013 الساعة : 02:36 PM
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة و السلام على سيّدنا و نبينا أبي القاسم محمّد
وعلى أهل بيته الطاهرين المعصومين المكرّمين
واللعن على أعدائهم أجمعين
قال تعالى: { يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس}[1]
اليوم هو يوم عيد الغدير، و يوم عيد الولاية و التمسّك بأهل البيت والأئمّة المعصومين عليهم السلام، و لهذا ورد عندنا أنّه من المستحبّ للشيعة في هذا اليوم عندما يلتقون ببعضهم أن يتصافحوا و يقولوا: "الحمد لله الذي جعلنا من المتمسّكين بولاية أمير المؤمنين و الأئمّة المعصومين عليهم السلام" ، و ها نحن قد قلنا ذلك لجميع الإخوة و أدّينا تكليفنا بذلك [يبتسم سماحة السيّد]...
إرسال الرسول الأعظم منّة عظمى من الله على أمّته
و واقع المسألة هو هذا فعلاً؛ إذ ينبغي علينا أن نشكر الله تعالى على المنّة التي امتنّ بها علينا، و هي منّة الهداية و الوصول إلى حريمه، و منّة الوصول إلى مقام معرفته، و منّة الوصول إلى مقام السعادة و الفلاح الأبديّيَن، فهذه نعمات تستحقّ الشكر. و قد أشار الله تعالى إلى هذه المسألة في القرآن الكريم حيث يقول سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنينَ إِذْ بَعَثَ فيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِم}[2] ، فالله يمنّ على المؤمنين إرسالَ رسول الله صلّى الله عليه و آله؛ وذلك أنّ الله كان قادراً أن يرسل شخصاً آخر مكان النبيّ، بل كان قادراً على ألاّ يرسل أيّ رسول، فبين عيسى عليه السلام و بين رسول الله صلّى الله عليه و آله حوالي خمسمائة سنة تقريباً، و قد كان الله تعالى قادراً أن يجعل الفاصلة بينهما ستّمائة سنة أو حتّى ألف سنة ! وليس ذلك بأمر عسير على الله تعالى. أو كان من الممكن أن يرسل رسولاً آخر بدلاً من رسول الله، فلو لاحظنا كلّ الأنبياء السابقين لوجدنا أنّ لهم مراتب متفاوتة و درجات مختلفة، فقد جاء حضرة موسى، و جاء حضرة عيسى، و كذلك جاء نوحٌ و إدريس و يوشع عليهم السلام... فهؤلاء جميعاً كانوا من أنبياء الله ورسله، و كان الله قادراً أن يستمرّ بهذه السلسلة فيرسل لنا شخصاً في رتبة هؤلاء و درجتهم. ألم يكن الله قادراً أن يفعل ذلك؟ بلى كان قادراً؛ فالله قادر على كلّ شيء.
و لكنّه انتخب لنا من بين جميع هذه الاحتمالات الممكنة فرداً خاصاً، و أرسل إلينا شخصاً معيّناً، و عندما أرسل لنا هذا الشخص خصوصاً قال لنا: الآن أنا أمنّ عليكم بإرسالي لهذا الشخص و ببعثته لكم! (هل فهمتم ما هي حقيقة الأمر ؟ و ما هي حقيقة حالنا؟ فنحن نضيّع أنفسنا و نخسرها بالمجان و دون أيّ مقابل!!)، إنّ الله تعالى يقول لنا: إنّني أمنّ عليكم ببعثي لهذا الشخص، و قد فتحت لكم طريقاً لم أفتحه حتّى الآن لأيٍّ من الأمم السالفة، ولم أجعل لأيٍّ منهم هذه المرتبة من المعرفة، و لم أجعل لأيٍّ منهم هذه المرتبة من الفعلية و الكمال، و ذلك كما يقول رسول الله صلّى الله عليه و آله: "إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"[3] .. يعني : أنا إنّما بعثت لكي أُوصل تمامَ المراتب الوجوديةِ للمعرفة و جميعَ مراتب الكمال الإنسانيّ إلى آخر درجاتها وأقصى مراتبها، بحيث لا يوجد مرتبةٌ أعلى منها!
ففي زمان حضرة موسى عليه السلام، كان يمكن افتراض شخصٍ ذو مرتبة أعلى، و لكنّه لم يكن موجوداً، و في زمان حضرة عيسى عليه السلام كان يمكن لنا أن نتصوّر مرتبة إنسانية أعلى، غاية الأمر أنّها لم تتحقّق واقعاً و لم تكن موجودة في ذلك الزمان، و كذلك الأمر في زمان نوحٍ و إدريس وسائر الأنبياء الكرام عليهم السلام، فهؤلاء جميعاً كان لهم مراتب و درجات من المعرفة، و هذا بحدّ ذاته بحثّ مفصّل، و أعتقد أنّنا قد تحدّثنا عن هذه القضية سابقاً، و هي أنّه كيف أنّ مرتبة أمّة النبيّ صلّى الله عليه و آله وسلّم أعلى من مراتب الأمم السابقة من ناحية المعرفة الوجودية، و أنّ أمّة رسول الله تصل إلى مقام معرفة "الله أكبر"، وهو مقامٌ أعلى حتّى من مقام "لا إله إلاّ الله"، و هو مقام الجمع بين الهوهوية وبين الواحدية.
إنّ هذه مسألة مهمّة جداً حتّى أنّه ورد في بعض المجامع الروائية أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: "علماء أمّتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل"، وقد وردت هذه الرواية في كتب أهل السنّة.
إنّ السرّ في هذه الأفضلية هو أنّ تلك المرتبة من المعرفة و الكمال التي فتحها رسول الله لم تكن موجودة في الأمم السابقة، فمقدار معرفتهم، و سعتهم الوجودية و اطّلاعهم على مراتب الأسماء والصفات الإطلاقية اللانهائية للحقّ تعالى كانت محدودةً، وذلك مع أنّهم كانوا أنبياءً و رسلاً دون شكّ؛ و ذلك كما أنّ بين نفس الأنبياء و الرسل مراتب و درجات مختلفة ، يقول تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْض}[4] ، فالله يقول: نحن فضّلنا بعض الرسل على بعضٍ في المقامات المعرفية، فالمقام المعرفي و المرتبة الكمالية لكل واحدٍ يختلف عن مقام الآخر، و في عين أنّهم جميعاً كان يتلقّون الوحي الإلهي إلاّ أنّهم كانوا يمتلكون مراتب مختلفة.
الوحي له معنى واحد ولكن له مراتب متفاوتة
و إذا كان الرفقاء قد طالعوا تلك المقدمة التي كتبها الحقير في كتاب "أفق الوحي" فسيجدون أنّني قد أشرت إلى هذه المسألة، و هي أنّ الوحي مقولةٌ مشكّكة.. أي أنّ لها مراتب مختلفة ومتدرّجة، فمن الممكن أن يوحَى إلى شخص تلك الأحداث التي ستحصل غداً على سبيل المثال، فهذه مرتبة من الوحي... و يمكن أن يوحى إلى شخص آخر الأحداث التي ستحصل بعد شهر من الزمان، كما يمكن أن يوحى إلى شخص ثالث أنّه ما هو الأمر المختفي خلف القضيّة الفلانية و الذي يمثّل سرّ تلك القضية، و هذا النوع من الوحي أعمق قليلاً من السابق... ثمّ ممن الممكن أن يوحى إلى شخص بعض المعاني [المجرّدة]... و يمكن أن يوحى إلى شخصٍ أمورٌ لها علاقة بمراتب الذات الإلهيّة المقدّسة، و هذه المرتبة من الوحي الذي يتجاوز عن مرتبة الصورة وحتّى عن مرتبة المعنى! و من هنا يتبيّن أنّ الوحي ليس بمرتبة واحدة، ولا في جهة واحدة ولا بمنزلة واحدة.
من كان في المرتبة الأدنى لا يدرك ما يجري في المراتب العليا
وإذا كان الرفقاء الأعزّاء يذكرون ما ذكرناه عن قضيّة ذلك العالم الجليل الذي تشرّف بزيارة مدينة مشهد المقدّسة (وهو حالياً قد انتقل إلى رحمة الله)، فجاء لعيادة السيّد الوالد رضوان الله عليه، ففهم من خلال الكشف البرزخي و انكشاف الصورة البرزخية له أنّ السيّد العلاّمة رضوان الله عليه قد ترك أداء صلاة الليل لمدّة معيّنة (و كان ذلك عندما كان سماحته في المستشفى بعد إجراء عملية جراحية له، و كان الحقير في خدمته في تلك الفترة)، و عندما انكشف ذلك لهذا العالم رحمه الله أراد أن يلفت نظر العلاّمة و يذكّره بأنّه ينبغي الاهتمام الشديد بصلاة الليل، و أنّه لا ينبغي ترك صلاة الليل بأيّ حالٍ من الأحوال!
و من الواضح أنّ كلامه كان صحيحاً، فصلاة الليل مهمّة جداً، و لا ينبغي للإنسان أن يتركها طالما أنّه قادر على ذلك، و إذا واجهته مشكلة منعته من أدائها في وقتها قبل أذان الصبح و بعد منتصف الليل، فيستحبّ له أن يصلّيها قبل أن ينام، أو يمكن له أن يقضيها في اليوم التالي!! و هذا يكشف عن الأهميّة الكبيرة لصلاة الليل. واضح؟
عندما نقل الحقير هذه القضية، فقد ذكرت مسألةً هناك (ولا أدري إن كنتم تذكرون أم لا)، و هي أنّ درجة المعرفة التي كانت عند هذا الرجل العظيم (رحمه الله، فأمثال سماحته في هذه المرتبة قد غدَوا في حكم الكيمياء و الإكسير النادر[5]، يعني لقد وصل الحال إلى درجة أنّنا ينبغي أن نعبّر عن مثل هؤلاء الأفراد بأنّهم كالإكسير و الكيمياء ). أجل .. إنّ هذا العالم بالرغم من أنّ كشفه كان صحيحاً، و ما ذكره من أمور كانت صحيحة إلاّ أنّ ذلك يكشف عن كونه في حدود مرتبة معيّنة من الانكشاف و الكشف المعنوي ولميتجاوزها، و هي المرتبة الصورية والمرتبة المثالية البرزخيّة، فهو قد انكشفت له هذه الصورة في المرتبة البرزخية فقط، حيث يظهر في تلك المرتبة بأنّ هذا الشخص هل هو واجدٌ لهذه الصورة [أي صورة أداء صلاة الليل] أم لا؟
لقد كان أحد الأعاظم (و هو ممّن له حقّ التعليم على الحقير) يقول: لقد منّ الله عليَّ ـ بواسطة بعض الحالات و الرياضات التي أديتها ـ بنوعٍ من التنبّه و الإدراك الذي أستطيع من خلاله أن أشخّص الأفراد الذين يلتقون بصاحب الزمان عجّل الله فرجه، و يشاهدونه حضورياً، فأنا أشاهد صورةً خاصّة و حالةً خاصّة في وجه هذا الشخص على إثر لقائه بالإمام عليه السلام!
و هذا الكلام يمكن أن يكون صحيحاً فعلاً، ولا إشكال في ذلك. و قد كان هناك شخصٌ من العلماء يعيش هنا في قم، و كان من السادة المحترمين الأجلاّء، و كان معروفاً عنه بأنّه يلتقي بصاحب الزمان بعض الأحيان، و عندما رأى ذلك العالمُ هذا السيّدَ قال له: أنت قد قابلت حضرة صاحب الزمان! فأنكر السيّدُ الأمرَ، فقال له: لا تنكر فأنا أعرف حقيقة الأمر ولا فائدة من الإنكار! و قد كان بينهما نوعٌ من الصداقة، فلم يتمكّن ذلك السيّد من الإنكار بعد ذلك...
أجل، إنّ حصول مثل هذه الحالات للإنسان، (أي أن يظهر له أثر تلك الحالة المعنوية على وجه الشخص الذي مرّ بتلك الحالة فيعرفها) أمرٌ ممكن، ولكن من الواضح أنّ ذلك لا يظهر لكلّ شخص، بل لا يفهم ذلك إلاّ الأشخاص الذين حصل لهم مقدارٌ من التنبّه و الإدراك لمثل هذه الأمور.
حسناً.. ولكن هذه مرتبةٌ معينة من الانكشاف والإدراك، و يوجد مراتب أخرى أعمق و أكثر بطوناً وخفاءً، و هؤلاء الأفراد لا يقدرون أن يدركوا هذه المرتبة بل هي خافية عليهم، و هذه هي المرتبة التي يشير إليها الخواجة بابا طاهر بقوله:
خوشا آنان که الله یارشان بی
به حمد و قل هوالله کارشان بی
خوشا آنان که دائم در نمازند
بهشت جاودان بازارشان بی
(يقول: هنيئاً لأولئك الذين كان الله جليساً لهم على كلّ حال ، فهم دوماً مشغولون بـ "الحمد" و "قل هو الله أحد".
هنيئاً لأولئك الذين هم دائماً في حالة صلاة، فتجارتهم ليست إلا جنّة الخلد).
إنّ كونهم في حالة صلاة دائمة يعدّ مرتبةً عاليةً لا يراها من كان محدوداً بتلك المرتبة من الكشف ولا تظهر له؛ فهذا العارف جالسٌ يتحدّث ولكنّه في الواقع في حالة صلاة، أو هو يمشي في الشارع ظاهراً ولكنّه في الواقع في حالة صلاة، و أنت تراه نائماً لكنّه في الواقع في حالة صلاة ، و ما ورد في الرواية أنّه: "حبّذا نوم الأكياس و إفطارهم" يتحدّث عن هؤلاء...
أو تراه يتناول طعامه ولكنّه في الواقع في حالة صلاة، فهو يأكل الطعام ظاهراً ولكن لو استطعت أن تدقّق في حاله لعرفت أنّه في مكان آخر! و يحلّق في أفق آخر! فهو يتناول الطعام معك ولكنّه يحلّق في أفق آخر، فوجناته تحكي عن كونه في وادٍ آخر، وتجده يتحدّث معك، و لكنّك ترى أنّه فمه هو الذي يتحرّك بالكلمات، ولكنّه في مكان آخر و أفق مختلف...
و من هنا فأولئك الأفراد الذين وصلوا إلى مرتبة الانكشاف الصوري فقط لا يمكنهم إدراك ما يحصل مع هؤلاء! لا يمكنهم ذلك! و بطبيعة الحال فإنّ الإنسان يمكن أن يصل إلى مرتبة بحيث يمكنه أن يدرك هذه المعاني العميقة، و لكنّه لو وصل إلى هذه المرتبة فإنّه لن يعترض على المرحوم السيّد العلاّمة رضوان الله عليه قائلاً: لا ينبغي للإنسان أن يترك صلاة الليل! فاعتراضه يكشف أنّه لم يدرك تلك المرتبة ولم يصل إليها، و بذلك يتبيّن أنّه وصل إلى حدٍّ معيّنٍ فقط و لم يتجاوزه، و ما وصل إليه صحيحٌ، و هو أنّ الحقيقة الصورية للصلاة التي تحصل من خلال أدائها لم تظهر له ولم يشاهدها في عالم البرزخ ؛ لأنّ هذا هو حدود قدرته و استطاعته وطاقته.
اختلاف مراتب الأنبياء و بلوغ رسول الله أعلى المراتب المتصوّرة
إنّ المسألة من هذا القبيل فيما يخصّ الأنبياء السابقين؛ فكلّ واحد منهم له مرتبة معيّنة من الوحي، وحتّى النحل له مرتبة من الوحي، فالله تعالى يقول: {وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتا}[6] ، وليس صحيحاً أنّ الوحي له معنيان أو ثلاثة معانٍ، كلاّ ليس الأمر كذلك، و ليس الأمر من قبيل (عموم المجاز)[7] هنا أيضاً، بل "الوحي" له معنى واحد، و هذا المعنى موجود في النحل، بل في سائر الحيوانات الأخرى؛ فذلك الحيوان الذي يمرض فيبحث عن نوعٍ من الأعشاب مناسبٍ لعلاج مرضه أو إصابته فيجده و يتعالج به.. ذلك الحيوان يتلقّى الوحي أيضاً، حتّى إنّه يقال أنّ البنسيلين اكتشف بهذه الطريقة حيث لاحظوا أنّ بعض الحيوانات عندما كانت تجرح كانت تبحث عن نوع معين من الفطر فتمسح نفسها به، فتتعافى ممّا أصابها، فبحثوا في الأمر حتّى اكتشفوا البنسيلين! فما هو هذا الذي [جعل ذلك الحيوان يعرف هذه المسألة]؟ إنّه الوحي.
فالوحي إذاً ليس مختصّاً بالنحل، بل حتّى غيرها من الحيوانات يوحى إليه أيضاً، و كذلك الإنسان؛ فأنت عندما تجلس لتفكّر في حلّ مسألة معيّنة، ولا تجد حلاً لتلك المعضلة مهما حاولت، ثمّ فجأة ترى أنّ طريق الحلّ قد انكشف أمامك، فتقول: يا للعجب! كم كان الحلّ سهلاً! فما هذا الذي حصل؟ إنّه وحيٌ أيضاً. و ذلك المكتشف و المخترع الذي يعمل على اختراع أمرٍ ما، حتّى يصل إلى نقطة مسدودة بحيث يرى أنّ تفكيره لا يقدر أن يمضي قدماً في حلّ المسألة التي بين يديه، ثمّ فجأة يرى أن الأمر الذي كان يبحث عنه قد انكشف له حتّى كأنه يراه بعينه! فمن أين جاء؟ و كيف حصل ذلك؟ فهو لم يكن يفكّر في هذا الاتّجاه، و لم يتصوّر أن الحلّ من هذه الجهة أبداً؟! إنّ ذلك وحيٌ أيضاً! ولهذا تجد المخترعين و المكتشفين يقولون: إنّ آخر مرحلة من مراحل الوصول إلى الاختراع الذي توصّلوا إليه ، و آخر مرحلة من جهودهم في الاختراع هي الإلهام، فبدون ذلك الإلهام فإنّ جميع جهودهم التي بذلوها في الليل و النهار ستذهب سدىً ولن تصل إلى النتيجة المرجوّة، فهي تمضـي و تتحرّك حتّى تصل إلى نقطة الـ 99 % لتتوقّف هناك دون أن تكلّل هذه الجهود بالنجاح و دون الوصول إلى المطلوب... إنّ هذه جميعاً من مصاديق الوحي. واضح؟
و لدينا من الوحي ما نزل على الأنبياء عليهم السلام، مثلاً يوحى إليهم أنّه ينبغي أن يؤدّى العمل الفلاني في القضية الفلانية، و أمّا القضية الفلانية فيجب أن يُفعل فيها كذا، و أمّا التكليف في هذه المسألة فهو هذا، و التكليف في تلك المسألة هو ذاك... هذا نوعٌ من الوحي النازل على الأنبياء، و هناك نوعٌ آخر من الوحي ، و هو الوحي الذي يبيّن حقائق التكاليف، بمعنى أنّه يبيّن أنّ هذا التكليف هو على أيّ أساس؟ و ما الملاك فيه؟ فيوحى لهذا الشخص لميّة الأحكام و التكاليف و حقيقتها، و على أساس ذلك يتمكّن هذا الشخص أنّ يوسّع هذا المطلب الذي كُشف له إلى المطالب الأخرى التي لم يذكر أمرها بالاسم، و هنا نلاحظ أنّ المسألة صارت أدقّ و أعلى ممّا سبق، ثمّ الأعلى من ذلك هو الوحي المتعلّق بالحقائق النوعية، ثمّ بعد ذلك تأتي مرتبة أعلى هي مرتبة الوحي المتعلّق بالحقائق التوحيدية، و من هنا تصبح تلك المراتب مراتب عالية جداً...
ثمّ إنّ آخر مراتب ظهور الله تعالى، وآخر مرتبةٍ من مراتب إظهار أسماء و صفات الله، و آخر مراتب الفعلية في اكتساب الكمالات الوجودية قد جاءت بواسطة شخص الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم، يعني بعد هذه المرتبة لا يمكن تصوّر مرتبة أعلى، بحيث يمكن أن تقول عنها : (يا ربّ، إنّ المرتبة الفلانية هي مرتبة محتملة و يمكن الوصول إليها و لكنّك لم تعطنا تلك المرتبة... إنّ مثل هذه المرتبة يمكن أن نتصوّرها و لكنّك لم تجعلها لنا!) .. إنّ مثل هذه المرتبة لا وجود لها! فلك أن تتصوّر أيّة مرتبة تريد، و أيّة قدرة، و أيّة فعليةّ، و أيّة قوّة.. تصوّر ما شئت من مراتب ذلك، فإنّ كلّ مرتبة من ذلك قد حصلنا عليها [و أتيحت لنا] بمجي رسول الله صلّى الله عليه و آله!! و هنا نقول:
گر گدا كاهل بود تقصير صاحب خانه چيست؟
(يقول: إذا كان الشحّاذ مقصّراً فما ذنب صاحب المنزل[8])
ولهذا كنت أقول لكم قبل قليل: إنّنا نخسر أنفسنا و نضيّعها مجاناً و دون أي مقابل!! فنحن في موقعيةٍ يمنّ الله بها علينا ، و يقول: لقد أرسلت لكم رسولاً يأخذ بأيديكم و يوصلكم إلى مقام أعلى من مقام أنبياء بني إسرائيل، فما الذي كان أنبياء بني إسرائيل يفعلونه و ما هي مراتبهم الوجودية؟ و ما هي مراتبهم المعرفية و التوحيدية؟ والحال أنّنا نرى أنّ المرتبة التي جاء بها رسول الله صلّى الله عليه و آله تغطّي جميع تلك المراتب، و لا تترك بعد ذلك أيّ نقطة من الخلأ و الفراغ!
لمَ كان يوم الغدير يوم إكمال الدين و تمام النعمة؟
لقد برزت في يوم الغدير هذه المسألة إلى منصّة الظهور. فلماذا حصل ذلك في يوم الغدير؟! و ما القضيّة التي حصلت واقعاً في ذلك اليوم؟ هل فكّرنا في ذلك سابقاً؟ فهل كان أمير المؤمنين عليه السلام أعلى من النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم حتّى يأتي الله و يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَ رَضيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ ديناً}[9]؟! فهذا هو اليوم الذي فرغت فيه من هذا الدين الذي أرسلته لكم و اطمأننت عليه، فأنا اليوم أكملت لكم هذا الدين و أتممت نعمتي...
لقد أرسلت لكم الرسول فقضى بينكم ثلاثةً و عشرين سنة، و قد كان كلّ يومٍ من هذه السنوات الثلاثة و العشرين نعمةً من النعم، و كان كلّ يوم منها كرامةً و أفقاً جديداً يفتح أمامكم، و أنتم قد رأيتم ذلك بأنفسكم! لقد رأيتم كيف كان رسول الله يتصـرّف: كيف كان يصلّي، و كيف كان يتحدّث ، وكيف كان مع الأطفال، و كيف كان مع الشيوخ، و كيف كان يعلّمكم مكارم الأخلاق، و طريقة المعاشرة مع من حولكم، و هذه الأمورٌ كلّها موجودة في كتب سنن النبي صلّى الله عليه وآله و في المجامع الروائية و الأخلاقية، إذ لم يكن ينقضي يوم لرسول الله بين الناس دون أن يبيّن نكتةً ما، أو يطرح مطلباً مفيداً.
فكيف كانت صلاة رسول الله؟ و كيف كان يصوم؟ كيف كان رسول الله يؤدّي صلاته؟ هل كان يصلّي الظهر و العصر معاً كما نفعل نحن الآن؟! أم لا ؟ و هل كان يصلّي المغرب و العشاء معاً أم كان يفرّق بينهما؟ إنّ الرسول صلّى الله عليه و آله كان يفرّق بين الصلّوات.. يعني أنّه كان يصلّي الظهر في وقتها، و يصلّي العصر في وقتها (يعني بعد الظهر بساعتين)، وكان يصلّي المغرب عند غروب الشمس و استتار القرص، و كان يؤدّي صلاة العشاء بعد المغرب بحوالي ساعة و نصف، و أحياناً كان يؤخّرها عن ذلك، لأنّه قد ورد عندنا أنّ تأخير صلاة العشاء قليلاً أفضل...
ضرورة الالتزام بسنة الرسول وأهل بيته عليهم السلام واتّخاذ ذلك شعاراً
حسناً.. فلماذا نحن الآن نصلّيهما معاً دون تفريق؟! حتّى أنّني سمعت أنّ شخصاً من أصحاب الرسالة العملية يقول: إنّ الجمع بين الصلوات قد صار شعاراً للشيعة، و لا ينبغي تركه! فوا عجباً له!! يعني هل ينبغي لنا أن نترك تلك السنّة التي سنّها رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و اتّبعها الأئمّة عليهم السلام من بعده، و نجمع بين الصلوات ـ الذي هو خلاف سنّة الرسول ـ بعنوانه شعاراً للشيعة ؟! هل هذا هو شعار الشيعة؟! لا كان مثل هذا شعاراً للشيعة أبداً! فأيّ شعار أعلى من اتّباع سنّة النبيّ صلّى الله عليه و آله؟! هل ينبغي أن نرجّح شعاراً مخترعاً على سنّة رسول الله؟! لهذا السبب ترى الأوضاع كما هي عليه الآن!! هل يمكن للشيعة أن يتّخذوا لأنفسهم شعاراً مخالفاً لسنّة رسول الله و الأئمّة من بعده صلوات الله عليهم أجمعين؟! أم أنّ الشيعي ينبغي له أن يضع قدمه حيث وضع رسول الله قدمه، و كفى! و أن يضع قدمه حيث وضع الإمام السجّاد قدمه، و ليقل كلّ شخص ما يشاء! فهل كان الإمام السجّاد عليه السلام يصلّي صلواته مجموعة أم مفرّقة؟ هذا هو المهمّ، ولا شيء غيره! فهل كان الإمام السجاد يجمع بين صلاتيه أم لا؟! سواء كان فلان يجمع أم لا، فهذا غير مرتبط بي، لو كان يصلّيهما معاً فليفعل.. ولو كان فلان يفعل ذلك فليفعل.. علينا أن ننظر إلى الإمام السجاد ماذا كان يفعل وكفى، هذا هو الشيء الذي أخطأنا الوجهة فيه! هذه هي خلاصة القضية. هل فهمتم الآن لماذا قال: (اليوم أكملت لكم دينكم)؟ سببه أنّنا تركنا أئمّتنا جانباً!!
لقد قامت سيرة النبي أن يكون حائط المسجد بارتفاع مترين فقط، وأن يكون سقفه من الطين والخشب بالمقدار الذي يمنع من الشمس والمطر والثلج.. وحتى هذا المقدار لم يكن النبي يرغب في وضعه، لكنْ لكثرة إصرار الأصحاب استجاب النبي لهم؛ حيث كانوا يقولون له بأنه ماذا نفعل بالمطر.. فإن أتى الإنسان لصلاة المغرب ينبغي أن يبدّل ثيابه بعدها بسبب البلل، أو ينبغي عليه عندما يرى أن السماء ستمطر، أن يأتي بثياب معه حتى إذا تبللت ثيابه غيّرها هناك، وإلا فسوف يمرض!! فالنبي مراعاةً لحالهم قال لهم: لا بأس.. أسمح ببناء سقف!! لكنّه لم يسمح أن تبنوا قبّة، وبعد ذلك تقولوا بأنّ قبّة مسجدنا لا يوجد مثلها في العالم! ولا أن تبنوا منارة وتقولوا لقد كلّفت هذه المنارة كذا وكذا، ولا أن تعملوا على تذهيب المساجد ـ وهو فعل محرم ـ وتزينوها بالنقوش والزخارف.. بل قال لهم: "عريش كعريش موسى"[10]، اذهبوا وافعلوا ذلك. صحيح؟
فإذا أردنا أن نفعل خلاف ذلك، فما الفرق بين مساجدنا وبين الكنائس وكنس اليهود، إذ عندما يرى الإنسان هذه الكنائس يرى أن جميع همّ باني هذه الكنيسة وهدفه وكذا هدف البنّاء والمهندس وجميع المشاركين.. إنما تبتني على أساس النفسانيات والأنانيات والأهواء.. فهم يريدون أنّه عندما يأتي البابا ليتحدث إلى الناس يجلس في المكان المرتفع المخصّص له، بحيث أن أنظار جميع الناس تتّجه نحوه تلقائياً، ويحكّم فيها تلك الأبهة الجلالية والظاهرية، بحيث أنّ الناس يتأثرّون بتلك العظمة الخاوية والظاهرية.. ما هذه!؟ جميع هذه الأمور هي الدنيا. فهو ليس لديه عظمة معنوية، ولا جلال معنوي، ولا أن بهاءه بهاء الله، ولا جلاله جلال الله، ولا نوره نور الله، ولا عظمته عظمة الله؛ لذا يرى نفسه مجبراً على الاستفادة من الأبّهة الشيطانية والبهاء الشيطاني والعظمة الفارغة الشيطانية لرفع النقص الموجود عنده، ويلفت أنظار الناس إليه، إذ لا بدّ أن يستمعوا له، وإلاّ فلا فائدة في هذا الديكور الذي ابتدعه لنفسه وتلك المسائل الأخرى، لذا فهو مجبر على الاستفادة من هذه المسرحية، وكذا الاستفادة من هذا الديكور.. فتراه يعلي نفسه ويصغّر الآخرين، إلى أن تضعف نفوس الناس أمامه ويخضعون له ويطأطئون رؤوسهم في محضره.. حتّى أنّ بعضهم يتأثر وينفعل، فيبدأ بالبكاء!!
وقد شاهدت بنفسي بعضهم يبكون عندما يأتي البابا لإلقاء خطاب عليهم.. لماذا تبكون أيها الناس؟! لماذا تعظ!مونه إلى هذا الحد!؟! فهو ليس له علم ولا معرفة، وكلّ ما لديه هو هذه العظمة الظاهرية وهذه العظمة الخاوية والدعاية الفارغة، وهذه هي التي تأتي وتتغلّب على إحساساتنا، وبعد غلبة الإحساسات يكون هو المسيطر، وبعد ذلك لا وجود للعقل، بل الموجود في هذه الحالة هو الإحساسات، فتراهم يقولون: فلنذهب لملاقاة البابا، لنذهب إلى الكنيسة لرؤية البابا!! عندما يجلس في ذاك المكان.. فيأتون بالبساط الأحمر والكاميرات وسائر الأمور، فإذا جاء تجد الناس يبدؤون بالبكاء.. يا عزيزي لماذا تبكي؟ وما الذي أثّر فيك؟
|
|
|
|
|