|
عضو برونزي
|
رقم العضوية : 77639
|
الإنتساب : Mar 2013
|
المشاركات : 741
|
بمعدل : 0.17 يوميا
|
|
|
|
كاتب الموضوع :
alyatem
المنتدى :
المنتدى الفقهي
بتاريخ : 15-03-2013 الساعة : 12:58 PM
أخبرت علي حمد بأنّ كل شيء جاهز، وأخبرني أن غرفة العمليات في مطار بغداد اتصلت بالسيد مازن البساط وأكّدت له جاهزيّتهم لاستقبال الطائرة بالموعد المحدّد، وأن السيد مازن يفضّل أن يقدّم موعد الإقلاع ساعة احتياطاً، بحيث تكون في مطار بيروت الساعة الثالثة فجراً لتُقلع الطائرة الساعة الرابعة فجراً فتصل مطار بغداد الساعة السابعة صباحاً، بتوقيت بغداد، وبذلك تكون الطائرة جاهزة للرجوع إلى بيروت في حدود الساعة الثامنة صباحاً. فأبديتُ استعدادي لأكون في مطار بيروت الساعة الثالثة فجراً.
اتصلت بالسيد جواد الشهرستاني إلى لندن، وأخبرته بأن الأمور تسير وفق الخطة المرسومة، فاقترح السيد الشهرستاني نقلاً عن السيد الرباني بأن يأتي بعض الشخصيات من الخوجة وهم من شيعة الهند والباكستان الذين قطنوا أفريقيا وأوروبا وبعض العلماء العراقيين لاستقبال سماحة السيد في مطار لندن، وكلمني السيد الرباني أيضاً بهذا الخصوص، فأجبته أن سماحة السيد لن يقبل ولكنني سأنقل الاقتراح. هاتفتُ السيد محمد رضا حدود الساعة العاشرة ليلاً واطمأننت على استقرارهم ونقلت له المقترح. فقال: سماحة السيد لا يقبل عادة، ولكن سأتصل بك بعد نصف ساعة. وبالفعل اتصل بي بعد فترة ليؤكّد أنّ سماحة السيد يقول: «أحبُّ إلى قلبي أن لا يأتوا، ليأتوا فيما بعد إلى محلّ الإقامة».
وعقَّب السيد محمد رضا: ما فائدة الأمر؟ إذا كان الهدف إبراز مكانة المرجعية يُفترض أن يسمح بأن يكون الاستقبال عاماً، ثم كيف يُدعى أشخاص دون أشخاص ؟ أخبرتُ السيد جواد الشهرستاني بالأمر وكان رأيه يطابق رأينا.
وفي المساء أدليتُ بتصريح لوكالة رويترز، سرّبت فيه خبر الوعكة الصحية التي تلمّ بسماحة السيد. قلت فيه: «إنّ سماحة السيد السيستاني يعاني من اضطرابات في القلب، وقد ألغى جميع مقابلاته في الأسبوع الماضي، وهناك فريق من الأطباء العراقيين يتولّون العناية به».
وكم كان حَرَجي شديداً عندما جاءتني اتصالات عديدة في تلك الليلة من قبل شخصيات مرموقة، أكنُّ لها كل الاحترام والتقدير، تستفسر عن صحة سماحة السيد، بعد أن سمعوا ذلك من وسائل الإعلام، أذكر على سبيل المثال لا الحصر سماحة الشيخ عبد الأمير قبلان نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وسماحة الشيخ مفيد الفقيه، وسماحة الشيخ علي الكوراني، وآخرين، ولم يكن باستطاعتي أن أخبرهم عن سفرنا المقرّر بعد ساعات.
كان يومي مضنياً من الصباح الباكر وحتى الليل. وبما أنه تَحتّم عَلَيّ التواجد في مطار بيروت الساعة الثالثة فجراً، فلم تكن هناك أية إمكانية للنوم. كانت الأفكار تأخذني يميناً وشمالاً، فالأمانة ثقيلة، وسوف لن يغفر لنا التاريخ إن حدث إشكال ما. هل سننجح؟؟ هل ستحدث عوائق؟؟ ماذا لو لم يستطع سماحة السيد الوصول إلى مطار بغداد نتيجة إشكالات أمنية؟؟ هل هذه الطائرة التي سأنتقل بها إلى مطار بغداد ستؤدي الغرض من دون مشاكل؟ هل تقنيات الأمن فيها كاملة؟ لم أكن أغالب النعاس لأنه لم يجد له محلاً في رأسي ومستوى التوتّر والتحفّز عندي كان قد بلغ أقصى درجاته، تلك الساعات القليلة كانت مرهقة جداً، فالليل بطبيعته الهادئة الساكنة يجعلك تعيد سرد الوقائع. كنت أفكر بكل التفاصيل مرة بعد أخرى خشية أن يكون ثمّة ما يعيق إتمام الرحلة بشكل صحيح. لعلني استذكرت امرئ القيس ومعلّقته الشهيرة ومُكابدته مع ليله:
وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله ** عَلَيّ بأنواع الهمـوم ليبتلـي
بصبـح ومـا الإصبـاح منـك بأمـثـل **ألا أيهـا الليـل الطـويـل ألا انجلـي
يوم السفر الى لندن
في الساعة الثانية والنصف من فجر يوم الجمعة 6 / 8 / 2004، توجهت إلى مطار بيروت. الأخوة الذين يعملون معي في المكتب أوصلوني إلى المطار وهم لا يعرفون من الأمر شيئاً، إمعاناً في السرية المطلقة. وكان بانتظاري في المطار السيد مازن البساط صاحب شركة الطيران مع موظّفة لديه، وبدأوا بترتيب إجراءات السفر.
كنت المسافر الوحيد على الطائرة، وكان السيد علي حمد قد أفهم مازن البساط أنني ذاهب إلى بغداد لأعود مع وفد برلماني عراقي مُصغّر إلى بيروت. طاقم الطائرة يتكون من ثلاثة أفراد هم: الطيّار (حسام) ومساعده، ومضيفة.
عندما صعدت الطائرة اضطررتُ أن أحني رأسي لأن سقفها منخفض، وهي صغيرة الحجم، تحتوي على ستة عشر مقعداً حديدياً. لوهلة تملّكني نوع من الاضطراب دفعني أن أسأل الطيّار حساماً عن متانة الطائرة، فتبسّم قائلاً: لا تخف هذه طائرة صغيرة وخفيفة وقوية في نفس الوقت، ونحن نقوم برحلات عديدة في منطقة الشرق الأوسط، إلى العراق وتركيا ومصر، وفي الفترة الأخيرة نتردّد كثيراً على بغداد، فحمدت الله على كل حال.
في مطار بغداد:
الساعة الرابعة وعشر دقائق أقلعت الطائرة من مطار بيروت، وهبطنا في مطار بغداد الساعة السابعة وسبع دقائق. المُلْفِت أنّ هبوط الطائرة كان هبوطاً حلزونياً، لأنّ محيط مطار بغداد غير آمن.
استقرّت الطائرة على أرض المطار، وترجّلنا منها، فلم نجد أحداً، كان المطار خالياً، أجَلْتُ النظر يميناً وشمالاً ثم رفعتُ رأسي وحدّقت بعين الشمس، هذه سماء بغداد ما أحلاها! الشمسُ في بلادي أجمل من أي شمسٍ أخرى. الهواء كان طليقاً، وكنت أُعبّئه في صدري كما لو كنت مريضاً شفي لتوّه من داء الخناق.
ما هذا الحلم الجميل؟ هذا صُبْح بغداد، وهذه شمسها. وتمتمت بأبيات السيد مصطفى جمال الدين:
بغداد ما اشتبكت عليك الأعصر ** إلا ذَوَتْ ووريق عمرك أخضـرُ
مـرّت بـك الـدنيـا وصبحك مشمس ** ودَجَـتْ عليـكِ ووجـه ليـلـك مُقْمِـرُ
بقينا واقفين لمدة خمس دقائق تقريباً لم نشاهد خلالها أحداً، قررنا بعدها التوجه إلى بوابات المطار، مشينا مسافة مئتي متر تقريباً حتى وصلنا إلى الأبواب فكانت مغلقة. اليوم يوم الجمعة، والمطار أساساً لا يفتح قبل الساعة الثامنة صباحاً، وإنما أخذنا إذناً بالهبوط بشكل خاص. قررنا مواصلة السير باتجاه بوابات أخرى، لعلنا نجد فيها من يستقبلنا. الأبواب الأخرى كانت مغلقة أيضاً. في هذه الأثناء وصلت سيارة جيپ عسكرية يقودها جندي أميركي، طلب منا العودة إلى الطائرة والانتظار إلى جانبها وأخبرنا أن أبواب المطار مغلقة، ولا يوجد أحد هنا.
هذا الموقف أيقظني من حُلمي الجميل، ليضعني أمام كابوس الحقيقة، الحقيقة المُرّة. نحن شعب محتلّ، والمطار بيد قوات الاحتلال، وسوف لن أجد هنا من أبناء جِلدتي من يستقبلني بكلمة (يا هلا ومرحبا)، ما أقسى الزمن! وما أبشع الدكتاتور المخلوع الذي أسقط (العراق) وشمسه المتألّقة أسرى بيد الغرباء!
كمن لاحول ولا قوة له، رجعنا إلى جوار الطائرة، نستظلُّ بفيئها من حرارة الشمس التي بدأت بالارتفاع، واغتنمتُ فرصة الانتظار لأفكّر بالمكان المناسب لجلوس سماحة السيد عند وصوله، فطلبتُ من المضيفة نقل صندوق من فِلّين فيه مستلزمات الضيافة من مؤخرة الطائرة إلى مقدّمها، وأخبرتها بأنّ الركّاب ليسوا بحاجة إلى ضيافة، وأنهم سيجلسون في المقاعد الخلفية، وأنا سأجلس في الوسط، وإذا احتاجوا لأي شيء سأطلب منك ذلك، وتمنّيتُ عليها أن تلزم مقعدها في الأمام، وأنني سأقوم بواجب الضيافة لو تطلّب الأمر ذلك، وعلّلتُ الأمر بوجود بعض المرضى بين المسافرين الذين يحتاجون إلى عناية خاصة.
طال انتظارنا حدود الساعة والربع، اتصلت خلالها من هاتف الطيار حسام بالدكتور موفق الربيعي الذي أخبرني أنهم في الطريق إلى المطار. كان القلق قد بدأ يدبُّ في نفسي. اللحظات المقبلة حاسمة جداً، وعلى ضوئها تُحسم مسألة نجاح الرحلة أو فشلها.
في حدود الساعة الثامنة وعشرين دقيقة، لاح من بعيد موكب من السيارات يتّجه نحونا، كان الموكب يتألّف من ثلاث سيارات. توقّف الموكب على بعد عشرة أمتار من الطائرة، ترجّل سماحة السيد السيستاني دام ظله ونجله السيد محمد رضا من إحداها، فتوجّهتُ إليهم وقبّلت يد سماحة السيد وعانقتُه وحمدتُ الله على سلامته، وسلّمت على شباب الحماية، وصعد سماحة السيد ونجله السيد محمد رضا والدكتور مجيد المصطفى إلى متن الطائرة، وجلسنا وفق ما اتفقتُ عليه مع طاقم الطائرة.
في الساعة الثامنة والنصف صباحاً، أقلعت الطائرة من مطار بغداد باتجاه بيروت. طيلة فترة الرحلة التي استمرت أكثر من ساعتين، كان سماحته هادئاً متأملاً، ولم يتناول طعاماً أو شراباً، وراح السيد محمد رضا يحدّثني عن معاناتهم في الخروج من النجف والوصول إلى بغداد.
في مطار بيروت:
هبطت الطائرة في حدود الساعة العاشرة صباحاً في مطار بيروت. الرئيس نبيه بري وإلى جانبه العميد شقير، مدير أمن المطار، كانا باستقبال سماحة السيد. صعد الرئيس بري الطائرة وسلّم على سماحته وأنزله من الطائرة واصطحبنا إلى قاعة الشرف، وأمر بإغلاق الأبواب والستائر.
رحّب الرئيس بري بسماحة السيد باحترام وأدب كبيرين، وأبدى تمنياته لسماحة السيد بالشفاء ورغبته في أن يتطبب سماحته في بيروت لولا العوائق الخاصة. فشكره سماحة السيد على عواطفه، وذكر حبه الشديد للبنان، ولجبل عامل خصوصاً، وتقديره لعلمائه، وتحدث عن الشهيد الأول والشهيد الثاني، ثم تحدث الرئيس بري عن الموضوع العراقي فأشاد بمواقف سماحة السيد، وضرورة أن تلتزم بها كافة الفصائل والأحزاب والفئات لأنها الضمان الوحيد لوحدة الشعب العراقي بعربه وأكراده وكافة طوائفه. ثم سأل عن السيد مقتدى الصدر، فوضّح سماحة السيد جانباً من استقباله له، والنصائح التي وجهها إليه، خصوصاً حول ضرورة أن يشارك التيار الصدري في الانتخابات، وأن يكون فاعلاً في العملية السياسية، وأهمية أن يكون له دور في رسم مستقبل العراق السياسي.
قدموا لنا ضيافة، شاي وعصير برتقال، فلم يتناول سماحة السيد شيئاً، ثم جدّد سماحة السيد وضوءه في المغاسل، وتهيأ للمغادرة.
الفترة التي قضيناها في مطار بيروت كانت بحدود خمساً وأربعين دقيقة تقريباً، رافقنا بعدها الرئيس بري إلى داخل طائرة الخطوط الجوية اللبنانية المتجهة إلى لندن، وودّع سماحة السيد، ثمّ أقلعت الطائرة بحدود الساعة الحادية عشرة صباحاً.
لماذا الرئيس نبيه بري؟
دار جدل واسع، في الصحافة (هامش: راجع على سبيل المثال لا الحصر ما كتبه قاسم قصير في جريدة المستقبل العدد 1665، 7 / 8 / 2004)، وفي الأوساط الشعبية اللبنانية عن سبب انفراد دولة الرئيس نبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني دون غيره باستقبال سماحة السيد السيستاني دام ظله. وذهبت التحليلات منحىً خارج السياق الطبيعي، وحُمّلت المسألة أكثر مما تحتمل.
والحقيقة أن رغبتنا كانت في أن نهيّئ استقبالاً شعبياً ودينياً ورسمياً عاماً لسماحة السيد، وهذه الرغبة اصطدمت بعقبات عديدة، منها: مزاج سماحة السيد القائم على أساس الزهد والابتعاد عن المظاهر، واعتبار هذه الأمور مسائل شكلية لها طابع دنيوي، إضافة إلى المشكلة الأمنية التي كانت ضاغطة علينا لأن أي إعدادٍ لاستقبال كبير في بيروت، كان يعني شيوع خبر مغادرة سماحة السيد عبر مطار بغداد، وهذا إشكال أمني كبير. ولذلك تقرر إلغاء أي استقبال في مطار بيروت.
وعندما تقرر أن ينتقل سماحة السيد للعلاج إلى لندن عبر بيروت، كان لزاماً أن يتم التنسيق مع أحد رموز الدولة اللبنانية، إذ أن دقّة العملية وخصوصيتها وسرعتها تفترض ذلك، وكان من الطبيعي أن يتم التنسيق مع دولة الرئيس نبيه بري لأسباب عديدة، منها:
1 - هو الشخصية الرسمية الشيعية الأولى في لبنان.
2 - إنه يبدي احتراماً كبيراً لسماحة السيد واهتماماً بالغاً به.
3 - قدرته بحكم موقعه على التصرف بمفرده، من دون إخبار أية أجهزة، وهذا يساعدنا في الحفاظ على السرية المطلوبة.
لسماحة السيد السيستاني وكلاء محترمون في لبنان، كما أن للشخصيات الدينية في لبنان مكانة خاصة في قلب سماحة السيد، وعدم إخبار هؤلاء كان يحزّ في نفوسنا، وحضور الرئيس نبيه بري في مطار بيروت لم يكن استقبالاً انفرد به، لأن هذا المعنى يتعارض مع أبوة المرجعية العليا للجميع، وإنما حضور استلزمته مقتضيات إتمام الرحلة من دون أي مشاكل.
وللحقيقة، فقد كان الجهد الذي بذله الرئيس بري مميزاً وفاعلاً وأساسياً في إكمال الرحلة بنجاح في ظروف بالغة الدقّة والحساسية من النواحي الأمنية والسياسية.
انتهى الفصل الأول
يتبع ان شاء الله تعالى
|
|
|
|
|