دروس في القواعد الفقهية21 درس
الدرس الأول: نظرة في القواعد الفقهيّة
أهداف الدرس - التعرّف على معنى القاعدة في اللغة والاصطلاح. - التعرّف على الفرق بين القاعدة الفقهيّة والمسألة الفقهيّة. - التعرّف على الفرق بين القواعد الفقهيّة والقواعد الأصوليّة. -------------------------------------------------------------------------------- 13 -------------------------------------------------------------------------------- مقدّمة لا شبهة في أنَّ الفقه الإسلاميّ من أشرف العلوم وأجلّها مرتبة وقيمة من بين العلوم، كما أنَّه أهمُّ العلوم وأوسعها عملاً ونطاقاً، والفقه (الأحكام الشرعيّة) يُستنبط من الحجج والأمارات الشرعيّة (كالكتاب والسنَّة والإجماع والعقل)، وأكثر ما يُستنبط منه الحكم الشرعيّ هوالسنَّة (خصوصاً النصوص)، وتنبثق من هذه الأدلَّة الأصليّة جملةٌ من الضوابط والأصول (الكبريات)، فتسمَّى بـ "القواعد الفقهيّة"، وهي كبريات تُطبّق على مصاديقها، وهذه القواعد منتشرة في مختلف الأبواب وشتَّى المسائل، ولم يقم بتدوينها من الفقهاء إلا عددٌ قليلٌ، وعليه يكون تدوين القواعد ذا أهمية كبيرة معنىً ومدركاً ومورداً.1 فإنّه من ضروريّات المتبحِّر في الفقه الإسلاميّ (الّذي يروم الوصول إلى الفهم العلمي المركّز أو يسعى للوصول إلى مرتبة الاجتهاد) الإحاطة بنوعين من القواعد: الأول: القواعد الأصوليّة، وترتكز عليها عملية استنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة الكلّيَّة. -------------------------------------------------------------------------------- 15 -------------------------------------------------------------------------------- الثاني: القواعد الفقهيّة، وهي أحكام كلّيَّة يندرج تحت كلٍّ منها مجموعة من المسائل الشرعيّة المتشابهة، (ولها مصاديق كثيرة). وبالإحاطة بهذه القواعد ـ إضافة إلى بعض المعدَّات الأخرى للاجتهاد ـ تحصل للفقيه ملكة الاجتهاد الشرعيّ. وبقدر الإحاطة بتلك القواعد يعظم قدر الفقيه، وتتّضح مناهج الاستنباط لديه.2 تعريف القاعدة في اللغة: تستعمل القاعدة، في اللغة، تارةً بمعنى الأمر الكلِّيّ المنطبق على جميع جزئيّاته: القاعدة: حكمٌ كلّيّ ينطبق على جزئيّاته.3 والقاعدة في مصطلح أهل العلم: الضابطة، وهي الأمر الكلِّيّ المنطبق على جميع الجزئيّات، كما يقال: "كلّ إنسان حيوان، وكلّ ناطق إنسان" ونحوذلك.4 في الاصطلاح: القاعدة في الاصطلاح بمعنى الضابط، وهي الأمر الكلّيّ المنطبق على جميع جزئيّاته.5 فعندما تُضاف كلمة القاعدة إلى الفقه يُراد بها الحكم الشرعيّ الكلّيّ المستنبط من أدلّته، المنطبق على موارده الجزئيّة، فقاعدة: "من ملك شيئاً ملك الإقرار به" مثلاً هي حكم شرعيّ كلّيّ بعد أن يستنبطه الفقيه من مداركه يطبّقه على مصاديق متعدّدة، كنفوذ إقراره في بيعه، وشرائه، وهبته، وصلحه، وعاريته، وإجارته، وطلاقه، وعتقه. وسيأتي مزيد بيان لذلك عند البحث عن الفارق بينها وبين القاعدة الأصوليّة. -------------------------------------------------------------------------------- 16 -------------------------------------------------------------------------------- الفرق بين القاعدة الفقهيّة والقاعدة الأصوليّة 1- إنّ المستنتج من المسألة الأصوليّة لا يكون إلاّ حكماً كليّاً، بخلاف المستنتج من القاعدة الفقهيّة، فإنه يكون حكماً جزئيّاً، وإن صلحت في بعض الموارد "لاستنتاج الحكم الكليّ أيضاً، إلاّ أنّ صلاحيتها لاستنتاج الحكم الجزئيّ هوالمائز بينها وبين المسألة الأصوليّة، حيث إنّها لا تصلح إلاّ لاستنتاج حكم كلّيّ"6. - توضيح ذلك: إنّ قاعدة الطهارة- مثلاً- تنتج من خلال تطبيقها على مواردها، أنّ هذا الماء طاهر، وذاك الثوب طاهر، وهذا الفراش طاهر وهكذا، وهذه أحكام جزئيّة خاصّة بموارد معيّنة، بينما يُستفاد من قاعدة حجيّة خبر الثقة أنّ العصير العنبيّ إذا غلا حرم، لا خصوص هذا العصير أوذاك، وأنّ البول من مأكول اللحم ذي النفس السائلة نجس، وهكذا. نعم بعض القواعد الفقهيّة قد تقدّم لنا حكماً كليّاً أيضاً في الموضوع الكليّ، كما لوشككنا في أنّ العصير العنبيّ إذا غلا فهل هوطاهر أم لا؟ وأن الفأرة طاهرة أم لا؟ فإنّنا نحكم بالطهارة في الموردين لأصالة الطهارة، والحكم بالطهارة في مثلهما حكم كليّ، إذ لا نظر فيه إلى عصير معيّن أوفأرة معيّنة، ومع هذا يبقى المائز بين المسألة الفقهيّة والمسألة الأصوليّة محفوظاً، وذلك بأن نقول: إنّ القاعدة الفقهية تنتج حكماً جزئيّاً غالباً، وقد تنتج حكماً كلّيّاً نادراً، وهذا بخلافه في المسألة الأصوليّة، فإنّها لا تعطينا إلاّ حكماً كلّيّاً دائماً. 2- إنّ نتيجة المسألة الفقهيّة قاعدة كانت أوغيرها بنفسها تلقى إلى العاميّ -------------------------------------------------------------------------------- 17 -------------------------------------------------------------------------------- غير المتمكّن من الاستنباط، فيقال له: كلّما دخل وقت الظهر، وكنت واجداً للشروط وجبت عليك الصلاة، أويُقال: كلّما فرغت من عملٍ وشككت في صحّته وفساده فلا يجب عليك الاعتناء به، فيذكر له جميع قيود الحكم الظاهريّ، وهذا بخلافه في المسألة الأصوليّة، فإنّ إعمال نتيجتها مختصٌّ بالمجتهد، ولاحظَّ للمقلّد فيها، ولا معنى لإلقائها إليه، بل الملقى إليه يكون الحكم المستنبط من تلك المسألة".7 - توضيح ذلك: إنّ القاعدة الفقهيّة يتعهّد المكلّف العامّيّ بتطبيقها دون المجتهد، بل يقدّم المجتهد كبرى قاعدة الطهارة، والمكلّف يطبّقها فيقول: هذا طاهر، وذاك طاهر، باعتباره مشكوك الطهارة، بدون حاجة إلى الرجوع إلى الفقيه ليتصدّى لاستنتاج ذلك، بخلاف كبرى حجيّة خبر الثقة، فتطبيقها على مواردها من وظيفة المجتهد، فهوالّذي يبحث عن الخبر الدّالّ على حرمة العصير العنبيّ، ويبحث عن وثاقة الراوي، ويطبّق كبرى حجيّة خبر الثقة عليه، بعد ثبوت كونه ثقة. 3- ما ذكره السيّد الخوئي قدس سره: "أنّ استفادة الأحكام الشرعيّة الإلهيّة من المسألة الأصوليّة من باب الاستنباط والتوسيط، لا من باب التطبيق، أي تطبيق مضامينها بنفسها على مصاديقها، ... والنكتة في اعتبار ذلك الاحتراز عن القواعد الفقهيّة، فإنّها قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعيّة الإلهيّة، ولا يكون ذلك من باب الاستنباط والتوسيط، بل من باب التطبيق".8 -------------------------------------------------------------------------------- 18 -------------------------------------------------------------------------------- - توضيح ذلك: أنّ القاعدة الفقهيّة حكم شرعي عامّ، إذا طبِّق على موارده حصلنا على أحكام تتّفق ومضمون القاعدة، وتشكّل مصداقاً من مصاديقها، وليس شيئاً غير القاعدة، بل هي أحكام أضيق دائرة من القاعدة، بخلاف القاعدة الأصوليّة فإنّها بتطبيقها على مضامينها نحصل على أحكام مغايرة للقاعدة، فحجيّة خبر الثقة مثلاً - كقاعدة أصوليّة - يُستنتج منها وجوب صلاة الجمعة، وحرمة العصير العنبيّ إذا غلى، وهي أحكام شرعيّة مغايرة لخبر الثقة، ولا تشكِّل مِصداقاً من مصاديقه. 4- ما ذكره السيّد الشهيد الصدر قدس سره بقوله: "الميزان في أصوليّة القاعدة عدم اختصاص مجال الاستفادة والاستنباط منها بباب فقهيّ معيّن..., لأنّ قاعدة الطهارة، والقواعد الفقهيّة الاستدلالية، وإن كانت عامّة في نفسها، ولكنّها لا تبلغ درجة من العموميّة تجعلها مشتركة في استنباط الحكم في أبواب فقهيّة متعدِّدة، وهذا هوالذي يسوِّغ أن يكون البحث عن كلّ واحدة منها في المجال الفقهيّ المناسب لها، بخلاف القواعد الأصوليّة المشتركة في أبواب فقهيّة مختلفة، فإنّه لا مسوِّغ لجعلها جزءاً من بحوث باب فقهيّ معيّن دون سائر الأبواب".9 - توضيح ذلك: إنّ القاعدة الأصوليّة يستفيد منها الفقيه في أبواب فقهيّة مختلفة، ولا اختصاص لها بباب دون باب، كحجيّة خبر الثقة، والعموم والإطلاق، والمفهوم، ... ومقدّمة الواجب، بخلاف القاعدة الفقهيّة فإنّها تختصّ بباب معيّن كقاعدة الطهارة، فإنّها وإن استفيد منها حكم كلّيّ أحياناً إلّا أنّها تختصّ بباب الطهارة، ولا يُستفاد منها في أبواب فقهية أخرى. -------------------------------------------------------------------------------- 19 -------------------------------------------------------------------------------- نعم بعض المسائل الفقهيّة قد يتّسع مجالها كقاعدة (لا ضرر ولا ضرار)، حيث إنّها ترفع كلّ حكم ضرريّ، فتجري في الوضوء، والغسل، والصلاة، والصوم، والحجّ، وفي أغلب العقود والإيقاعات، إلاَّ أنّها تبقى محدودة في أبواب خاصّة، بدون أن تكون عنصراً مشتركاً في كلّ الأبواب الفقهيّة كما هو الحال في القاعدة الأصولية. الفرق بين القاعدة الفقهيّة والمسألة الفقهيّة الفارق بينهما هوأنّ موضوع الأولى عامّ، ويمكن أن تكون له تطبيقات متعدَّدة مأخوذة منه كقاعدة الطهارة، بخلاف المسألة الفقهيّة، فإنّ موضوعها خاصّ، ولّما كان كذلك فلا تطبيقات لها بحيث يُستنتج منها أحكام تعدُّ مصاديق للقاعدة، بل المستنتج في المسألة الفقهيّة أحكام لموضوعات خاصّة، فقاعدة الطهارة مثلاً موضوعها أوسع من موضوع المسألة الفقهية، وتكون المسألة الفقهيّة مندرجة تحت القاعدة، فهذا الثوب طاهر، وذاك الفراش طاهر مسائل فقهيّة، وكذلك نفوذ إقرار الإنسان في بيعه، وشرائه، وهبته، وصلحه، وعاريته، وإجارته، وتزويجه، وطلاقه، وسائر العقود والإيقاعات مندرجة تحت قاعدة: "مَنْ ملك شيئاً ملك الإقرار به". -------------------------------------------------------------------------------- 20 -------------------------------------------------------------------------------- الأفكار الرئيسة - القاعدة في اللغة قضيّة كلّيّة منطبقة على جزئيّاتها، وتستعمل اصطلاحاً في المعنى اللغويّ نفسه. - عندما تُضاف كلمة القاعدة إلى الفقه يُراد بها الحكم الشرعيّ الكلّيّ المستنبط من أدلّته، المنطبق على موارده الجزئيّة. - أهمّ الفروق بين القاعدة الفقهيّة والقاعدة الأصوليّة أنّ المستنتَج من المسألة الأصوليّة لا يكون إلّا حكماً كلّيّاً، بخلاف المستنتَج من القاعدة الفقهيَّة فإنّه يكون حكماً جزئيّاً غالباً. - الفرق بين القاعدة الفقهيّة والمسألة الفقهيّة هوأنّ موضوع الأولى عامّ، ويمكن أن تكون له تطبيقات متعدَّدة مأخوذة منه، بخلاف المسألة الفقهيّة، فإنّ موضوعها خاصّ، ولا تطبيقات لها، بل المستنتَج في المسألة الفقهيّة أحكام لموضوعات خاصّة. مطالعة تاريخ القواعد الفقهيّة إنّ البذور الأولى لهذه القواعد زُرعت في الوسط العلميّ مبكِّراً، فنشاهد جذورَ هذه القواعد في نصوص النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والأئمّة المعصومين عليهم السلام . بل إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أوَّل من بدأ بطرح قواعد كلّيَّة فقهيّة، وغير فقهيّة، كبيان قاعدة "لا ضرر ولا ضرار"، وقاعدة "على اليد"، وحديث "الرفع"، وقاعدة "الجبّ"...، فإنَّه صلى الله عليه وآله وسلم صاحب جوامع الكلم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "أُعطيت خمساً لم يعطها أحدٌ قبلي... وأُعطيت جوامع الكلم و..."10. بل وردت بعض القواعد الكلّيَّة في الكتاب الكريم، كقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ...﴾11، و﴿...أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ...﴾12، وغيرهما. كما أنّنا نلاحظ بوضوح القواعد الكلّيّة في أحاديث الأئمّة عليهم السلام والكتب المدوَّنة فيها. ويمكن القول بأنَّهم كانوا أوَّل من فتح هذا الباب وبدأ ببيانها بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلم تكن هذه القواعد بمحتواها أمراً مغفولاً عنه لديهم عليهم السلام ، فقد أملى الإمام الباقر عليه السلام ـ وأعقبه الإمام الصادق عليه السلام ـ على الأصحاب قواعد كلّيَّة في الاستنباط, رتّبها بعض الأصحاب قدّست أسرارهم، فروي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "الأشياء مطلقةٌ ما لم يرد عليها أمرٌ ونهيٌ، وكلُّ شيء يكون فيه حلالٌ وحرامٌ فهولك حلالٌ أبداً ما لم تعرف الحرامَ منه فتدعه"13. وعنه عليه السلام أيضاً: "إنَّما علينا أن نلقي عليكم الأصول وعليكم أن تفرِّعوا"14. أسئلة وتمارين - ضع علامة صحّ أو خطأ في المكان المناسب: 1- القواعد الفقهيّة هي أحكام جزئيّة، يندرج تحت كلٍّ منها مجموعة من المسائل الشرعيّة المتشابهة من باب فقهيّ واحد أوأكثر. 2- القواعد الفقهيّة هي أحكام كلّيَّة، يندرج تحت كلٍّ منها مجموعة من المسائل الشرعيّة المتشابهة من باب فقهيّ واحد. 3- موضوع القاعدة الفقهيّة عامّ، ويمكن أن تكون له تطبيقات متعدَّدة مأخوذة منه، بينما موضوع المسألة الفقهيّة خاصّ. 4- القاعدة الفقهيّة حكم كلّيّ يُستنتج منها حكمٌ جزئيّ غالباً. 5- المستنتَج من القاعدة الأصوليّة لا يكون إلّا حكماً كلّيّاً دائماً. 6- القاعدة الفقهيّة يتعهّد المكلّف العامّيّ بتطبيقها، بينما يتكفّل المجتهد دون غيره بتطبيق القاعدة الأصوليّة. - عالج الأسئلة الآتية: 1- اشرح معنى القاعدة في اللغة؟ 2- اشرح معنى القاعدة في الاصطلاح؟ 3- كيف تقارب المعنى الاصطلاحيّ للقاعدة في علم الفقه؟ 4- ما هوالفرق بين القاعدة الفقهيّة والقاعدة الأصوليّة ؟ 5- ما هوالفرق بين القاعدة الفقهيّة والمسألة الفقهية؟ 6- ما هوالميزان في أصوليّة القاعدة ؟ هوامش 1- المصطفوي، محمد كاظم: مائة قاعدة فقهية، ط 3، قمّ المقدّسة، مؤسّسة النشرالإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة، 1417هـ.ق، ص5. 2-العاملي، القواعدوالفوائد، م.س، ج1، مقدّمة التحقيق، ص3. 3- فتح الله،أحمد: معجم ألفاظ الفقه الجعفري، ط1، السعودية - الدمام، مطابع المدوخل، 1415هـ.ق/ 1995م، ص261. 4- الطريحي، فخرالدين: مجمع البحرين، ط2، طهران، نشر مرتضوي, چابخانه طراوت، 1362هـ.ش، ج3، ص131. 5- الفيُّومي، مصباح المنير،لاط، لام، دار الفكر، لات، ج2،ص510. 6- النائيني، حسين: فوائد الأصول، تقرير الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، تعليق الشيخ آغاضياء الدين العراقي،لاط،مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجامعة المدرّسين بقمّ المقدّسة، قمّ المقدّسة، 1404هـ.ق، ج1 ص19. 7- الخوئي، أبوالقاسم: أجود التقريرات،ط2، قم المقدّسة، مؤسّسة مطبوعات ديني, مطبعة أهل البيت عليهم السلام ، 1369هـ.ش، ج4،ص345. عن تقريرات المحقّق النائيني قدس سره. 8- الخوئي، محاضرات في أصول الفقه، م.س، ص11. 9- الهاشمي، محمود: بحوث في علم الأصول، ط3، إيران، مؤسّسة دائرة معارف الفقه الإسلامي, مطبعة فروردين، 1418هـ.ق/ 1996م، ج1، ص26. 10- الحرّ العاملي، محمد بن الحسن: وسائل الشيعة، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، ط2، قم المقدّسة، مطبعة مهر، 1414هـ.ق، ج3، باب7 من أبواب التيمّم، ح4، ص351. 11- الحج: 78. 12- المائدة: 1. 13- الطوسي، الأمالي، م.س، ح1405، ص669. 14- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج27، باب 6 من أبواب صفات القاضي...، ح51، ص61-62. يتبع |
الدرس الثاني: قاعدة الفراغ والتجاوز
أهداف الدرس - التعرّف على معنى قاعدة الفراغ والتجاوز وأدلّتهما. - القدرة على الاستدلال على حجّيّة القاعدة. - التعرّف على إمكانية جريان قاعدة الفراغ والتجاوز في مختلف الأبواب الفقهيّة. - التدرّب على تطبيق القاعدة في مواردها. -------------------------------------------------------------------------------- 25 -------------------------------------------------------------------------------- المقدّمة إنّ من القواعد المهمَّة الّتي اشتهرت على ألسنة الفقهاء المتأخِّرين1 حتّى صارت كالمسلّمات الدائرة بينهم، هي قاعدة التجاوز والفراغ، وإن اختلفوا في أنّها هل ترجع إلى قاعدتين: (التجاوز) و(الفراغ)، أوهي قاعدة واحدة يعبّر عنها باسم تارة، وبآخر أخرى، بحسب اختلاف المقامات؟ وهي المدرك الوحيد لكثير من الفروع الفقهيّة في أبوابها، ولذا وضع غير واحد من المحقّقين رسالات خاصّة بها. في بيان المراد من القاعدة قاعدة الفراغ: معنى القاعدة هوالحكم بصحّة العمل المركّب الّذي شُكّ في صحّته بعد الفراغ منه (أي الشكّ بعد تمامية الفعل المركّب ونهايته)، كالشكّ في صحّة الصلاة (لاحتمال الخلل)، فيُحكَم بصحّة الصلاة وتماميّتها، ولا يترتّب الأثر على الشكّ2, ولهذا يفتي الفقهاء بأنّ المكلّف إذا فرغ من عمل عباديّ -------------------------------------------------------------------------------- 27 -------------------------------------------------------------------------------- معيّن كالوضوء أوالصلاة مثلاً، ثمَّ شكَّ في صحّته، فإنّه يبني على الصحّة، ولا يعتني بشكّه. وقيل إنّ قاعدة الفراع لا تختص بالشك في صحة الكلّ، بل تعمّ الشكّ في صحّة الجزء أيضاً، فمن شكّ في صحّة الفاتحة بعد الفراغ منها يبني على الصحّة، ومن شكَّ في صحّة تكبيرة الإحرام بعد الفراغ منها يبني على الصحّة، وهكذا... قاعدة التجاوز: وأمّا قاعدة التجاوز فهي الحكم بوجود عمل شُكَّ في وجوده بعد التجاوز عن محلّه والدخول في غيره، أوبعد ما خرج وقته (علماً بأنّ الشكّ في أجزاء المركّب هنا يعني الشك في أثناء الفعل). فالمصلّي إذا شكّ في وجود3 جزء من أجزاء الصلاة بعد أن تجاوز محلّه لم يعتن بشكّه، واعتبر الجزء المشكوك كأنّه موجود، وبنى على صحّة صلاته. فهي قاعدة مجعولة لحكم الشكّ في وجود الشيء بمفاد كان التامّة، بعد الخروج عن محلّه والدخول في غيره، وهوالبناء على وجود المشكوك فيه، وحكمه عدم الاعتناء بالشكّ، وصحّة العمل. قال السيد الخوئي قدس سره: "ملاك قاعدة التجاوز هو الشكّ في وجود الشيء بعد التجاوز عن محلّه"4 واشترط المحقّق النائيني قدس سره الدخول في الجزء الآخر"5. في بيان مدرك القاعدة يستدلّ على القاعدة بالأخبار المستفيضة الواردة في أبواب مختلفة6: بعضها مختصّة بالطهارة أوالصلاة، وبعضها عامّة لا تقييد فيها بشيء، وقسم ثالث منها وإن كان وارداً في مورد خاصّ، ولكنّه مشتمل على كبرى كليّة يُستفاد منها -------------------------------------------------------------------------------- 28 -------------------------------------------------------------------------------- قاعدة كليّة شاملة لسائر الأبواب الفقهيّة. ونحن نكتفي بذكر بعض الروايات بما يلبّي الحاجة اختصاراً. 1- ما رواه زرارة عن أبى عبد الله عليه السلام قال: "رجل شكّ في الأذان والإقامة وقد كبّر؟ قال يمضي، قلت: رجل شكّ في التكبير وقد قرأ؟ قال يمضي، قلت: شكّ في القراءة وقد ركع؟ قال: يمضي، قلت: شكّ في الركوع وقد سجد؟ قال: يمضى على صلاته، ثم قال: يا زرارة، إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكُّك ليس بشيء"7. هذه الرواية، بحسب ظاهرها، شاملة للطهارة والصلاة، وغيرهما من العبادات، بل تشمل جميع المركّبات الّتي لها أثر شرعيّ في أبواب العبادات والمعاملات, لعموم لفظ "شيء" فيها. ولكنّ ظاهرها بقرينة قوله: "خرجت من..." اختصاصه بالشكّ في صحّته بعد الفراغ عن أصل وجوده، فانّ الخروج عن الشيء - بحسب الظهور الأوّليّ - هوالخروج عن نفسه لا عن محلّه. كما أنّ ظاهره، بادئ الأمر، هواعتبار الدخول في الغير، إلّا أن يكون جارياً مجرى الغالب, لأنّ الإنسان لا يخلومن فعل ما غالباً، فكلّما خرج من شيء دخل في غيره عادة، فيكون قوله: "ودخلت في غيره" من باب التأكيد للخروج من الفعل الأوّل. - وتوضيح ذلك: إنّ قاعدة الفراغ ناظرة إلى الشكّ في صحّة العمل بعد الفراغ منه، بينما قاعدة التجاوز ناظرة إلى الشكّ في الإتيان بالجزء السابق بعد الدخول في الجزء اللاحق. فلو شكّ المصلّي في صلاته تارة يكون شكّه في صحّتها بعد الفراغ منها، وأخرى يشكّ في أثنائها بالإتيان بالجزء السابق بعد الدخول في الجزء اللاحق. فإنْ شكّ في صحّتها بعد الفراغ منها حكم بصحّتها، وذلك مضمون قاعدة -------------------------------------------------------------------------------- 29 -------------------------------------------------------------------------------- الفراغ. وإن شك في الإتيان بالجزء السابق بعد الدخول في اللاحق حكم بتحقّقه، وذلك مضمون قاعدة التجاوز. وبعبارة أوضح: أنً المصلي تارة يشك في صحة ما أتى به بعد جزمه بإتيانه به، سواء أكان ما شك في صحته هو الكل أم الجزء، وأخرى يشك في أصل إتيانه بالشيء. ففي الحالة الأولى يحكم عليه بصحة ما أتى به، وذلك هو مضمون قاعدة الفراغ، من دون تخصيصها بالشك في صحة الكل بل تعم الشك في صحة الجزء أيضاً. وفي الحالة الثانية يحكم بتحقّق الجزء المشكوك، وذلك مضمون قاعدة التجاوز. والأخبار الواردة في المسألة على نحوين، فبعضها ناظر إلى الحكم بوجود الشيء المشكوك، وبعضها الآخر ناظر إلى الحكم بصحة الشيء المشكوك. 2- عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: "كلّما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو"8. دلّت على الحكم بالصحّة والتماميّة، بالنسبة إلى العمل الذي شكّ فيه بعد الفراغ منه، وهي أعمّ من أن يكون المشكوك هوجزء العمل أوتمامه. وهي ظاهرة في عدم اعتبار الدخول في الغير. إلّا أن يقال بأنّ إطلاقها منصرف إلى ما هو الغالب من تلازم بين مضيّ الشيء وبين الدخول في الآخر، ولكنّها من حيث اختصاصها بالشكّ في الصحّة دون أصل الوجود كالرواية الأولى، وإن كان القول بالتعميم (هنا) أقرب, لأنّ إطلاق مضيّ الشيء على مضي وقته أو محلّه كثير، يقال: مضت الصلاة أي فات وقتها9. 3- عن عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إذا شكّكت في شيء -------------------------------------------------------------------------------- 30 -------------------------------------------------------------------------------- من الوضوء، وقد دخلت في غيره، فليس شكّك بشيء، إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه"10. والرواية عامّة للشكّ في الصحّة والوجود معاً، وليست مختصّة بأحدهما، فظاهر صدرها التعميم، فإنّ الشكّ في شيء من الوضوء أعمّ من الشكّ في أصل الوضوء أو صحته. 4- عن إسماعيل بن جابر قال: قال أبوجعفر عليه السلام: "إنْ شكَّ في الركوع بعدما سجد فليمض، وإن شكّ في السجود بعدما قام فليمضِ، كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه".11 وصدر الرواية وإن كان مختصًّا بباب أجزاء الصلاة، إلّا أنّ ذيلها قضيّة عامّة كالرواية الأولى، وظهورها (بادئ الأمر) في اعتبارالدخول في الجزء الآخر مثلها. 5- صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: "كلُّ ما شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فامض ولا تعد"12، دلّت على أنّ كلّ صلاة شكّ في صحّتها بعد الإتيان يُحكم بالصحّة والتماميّة. وبالنتيجة يُستفاد من هذه الأدلّة وغيرها حجيّة مدّرك قاعدة الفراغ والتجاوز، فالروايات صحيحة السند، صريحة أو ظاهرة الدلالة على المطلوب في موردي الفراغ والتجاوز. -------------------------------------------------------------------------------- 31 -------------------------------------------------------------------------------- اعتبار الدخول في الجزء الآخر يقع الكلام تارة في اعتبار هذا القيد في قاعدة التجاوز، وأخرى في اعتباره في قاعدة الفراغ. - أمّا اعتباره في قاعدة التجاوز فمّما لا ينبغي الارتياب فيه, لكونه مصرّحاً به في صحيحة زرارة13، قال: "يا زرارة إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء"، وموثّق إسماعيل بن جابر: "كلُّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمضِ عليه"،14 ورواية عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام: "إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشيء، إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه".15 - وأما اعتباره في قاعدة الفراغ، فإنّ النظر لا يساعد عليه, فإنّ المذكور في الأدلّة عنوان: "ممّا قد مضى"، وهو صادق على انقضاء الفعل سواء أدخل في فعل وجوديّ غير ما مضى أم لم يدخل فيه، خصوصاً إذا فسّرنا "غير" بمطلق المغاير للصلاة - مثلاً -، فإنّ الإنسان لا يخلو (بعد انتهاء الفعل) من الحركة أوالسكون. فالمتحصِّل هو عدم اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ، بل يكفي صدق عنوان: "أنّ الفعل قد مضى"، وعليه، فإذا شكّ الإنسان في صحّة الصلاة لشكّه في آخر جزء منها بعد الفراغ منها، وهولا زال جالساً، فيبني على صحّة صلاته، بخلاف ما لواعتبرنا الدخول في غيره فإنه يجب إعادة التسليم. ماذا يراد من الجزء الآخر؟ قد وقع الاختلاف في المراد بغير المشكوك المعتبر في قاعدة التجاوز، بين -------------------------------------------------------------------------------- 32 -------------------------------------------------------------------------------- متمسّك بإرادة الأجزاء المستقلّة, تمسّكاً بلفظ ما جاء في الأخبار، وبين من ذهب إلى القول بالعموم, اعتماداً على ما جاء من كلمات تفيد ذلك في الأخبار أيضاً، فهنا قولان: الأوّل: اشتراط الدخول في الأجزاء المستقلّة:اختار جماعة منهم الشيخ النائينيّ اعتبار الدخول في الأجزاء المستقلّة، ولا يكفي الدخول في أجزاء الأجزاء16, لأنّ القدر المتيقّن من غيره الأجزاء المستقلّة المذكورة في صحيحة زرارة من الشكّ في الأذان بعد الدخول في الإقامة، والشكّ في الإقامة بعد الدخول في التكبير... الخ، ولا يجب الوقوف عند الأجزاء المذكورة لفظاً، بل يمكن إجراؤها في غيرها من الأجزاء المستقلّة، كما إذا شك في السجود بعد الدخول في التشهّد، لأنّ المتّبع إطلاق قوله عليه السلام: "يا زرارة إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء". فالمقصود من الدخول في "غيره" هنا الدخول في الجزء المستقلّ، بحسب الاصطلاح، على ألسنة المتشرّعة دون غيره كجزء الجزء ونحوه. الثاني: اشتراط الدخول في الأجزاء المستقلّة وغيرها: ذهب فريق آخر إلى أنّ المناسب التعميم لتشمل القاعدة الأجزاء المستقلّة وغيرها من أجزاء الأجزاء، وأجزاء أجزاء الأجزاء، تمسّكاً بإطلاق كلمة "غيره" الواردة في صحيحة زرارة، حيث لم تقيّد بما إذا كان الغير جزءاً مستقلًّا بحسب الاصطلاح. وعليه إذا شكّ المكلّف في القراءة بعد الدخول في الركوع، أو شكّ في قراءة الحمد بعد الدخول في السورة، أوشكّ في آية بعد الدخول في آية أخرى، فلا يعتني بشكّه كما هو واضح. نعم لا تجري قاعدة الفراغ فيما لو دخل في -------------------------------------------------------------------------------- 33 -------------------------------------------------------------------------------- كلمةٍ وشكّ في سابقتها، فضلاً عمّا إذا دخل في حرفٍ وشك في سابقه، لعدم صدق الخروج منه والدخول في غيره - عرفاً -، وإن كان الإطلاق صادقاً بالدقّة العقليّة. عموم القاعدتين وقع البحث في عموم القاعدتين وإمكانيّة الاستناد إليهما في مختلف الأبواب الفقهيّة أم لا، ونظراً لاختلاف الأدلّة يقع الكلام في مقامين: الأوّل: في قاعدة الفراغ: أمّا قاعدة الفراغ فينبغي الجزم بعمومها، فهي عامّة، وإن كانت أغلب نصوصها قد وردت في باب الطهارة أوالصلاة، كرواية محمّد بن مسلم17، ولكن يمكن استفادة العموم من موثّق ابن بكير في قوله عليه السلام: "كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو". وعموم التعليل كما في بعض الأخبار كقوله: "هو حين يتوضأ أَذْكَرُ منه حين يشكُّ"، وقوله: "وكان حين انصرفَ أَقْرَبَ إلى الحقّ منه بعد ذلك"، فلا مانع من جريان قاعدة الفراغ في كلّ مركّب شرعيّ إذا شكّ في صحّته بعد الفراغ منه وإحراز أصل وجوده. الثاني: قاعدة التجاوز: أمّا قاعدة التجاوز فهي من القواعد العامّة أيضاً، وقد خرج عنها الوضوء للنصوص الخاصّة، ووجود القدر المتيقَن في مقام التخاطب في صحيحة زرارة لا يمنع من انعقاد الإطلاق في القاعدة, لقول الإمام عليه السلام في آخرها: "يا زرارة إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء". أوبناءً على أنّ عموم موثقة محمّد بن مسلم، كما يشمل الشكّ في صحّة المركّب بعد الفراغ -------------------------------------------------------------------------------- 34 -------------------------------------------------------------------------------- منه، كذلك يشمل الشكّ في صحّة أوأصل تحقّقه، فلا تختصّ القاعدة بالطهارة والصلاة، بل تعمّ جميع العبادات بل والمعاملات أيضاً. عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء لقد أجمع الأعلام على أنّ الشاكّ في فعل من أفعال الوضوء، قبل إتمام الوضوء، يأتي به وإنْ دخل في فعل آخر، فمن شكّ في غسل الوجه وهويغسل اليد اليمنى وجب عليه إعادة غسل الوجه. ومستند خروج الوضوء من القاعدة صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: "إذا كنت قاعداً على وضوئك فلم تدرِ أغسلت ذراعيك أم لا؟ فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنّك لم تغسله أوتمسحْهُ، ممّا سمّى الله ما دمت في حالة الوضوء، فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه، وقد صرت في حال أخرى في الصلاة أوفي غيرها، فشككت في بعض ما سمّى الله ممّا أوجب الله عليك فيه وضوءه لا شيء عليك فيه"18، وهي صريحة في وجوب الاعتناء بالشكّ، والإتيان بالمشكوك مادام مشتغلاً بالوضوء، وأنّ عدم الاعتناء به يختصّ بصورة الفراغ منه والدخول في حال آخر. اشتراط عدم العلم بالغفلة حين العمل في القاعدتين توضيح ذلك: إنّه تارة يفرض أنّ الشخص بعد فراغه من العمل، وطروالشكّ عليه، يقطع بكونه حين العمل كان غافلاً عن الجزء أوالشرط المشكوك، وأخرى يفترض احتماله الالتفات. فمثلاً الشخص الّذي يتوضّأ وهولابس الخاتم، وبعد إتمامه الوضوء شكّ هل وصل الماء تحته، أولا19؟ فهنا يوجد حالتان: الأولى: يحتمل أنّه كان حالة الوضوء ملتفتاً إلى الخاتم، -------------------------------------------------------------------------------- 35 -------------------------------------------------------------------------------- وإلى تحريكه وإيصال الماء تحته. ففي هذه الحالة لا إشكال في جواز تطبيق قاعدة الفراغ. الثانية: إنّه تارة يقطع بكونه كان غافلاً حالة الوضوء(حين العمل) عن وجود الخاتم بيده، وعن تحريكه، غايته يحتمل تسرّب الماء تحته بلا التفات منه، ففي هذه الحالة عند القطع بكونه كان حين العمل غافلاً عن الجزء أوالشرط المشكوك، فقد رفض بعض الأعلام كالسيّد الخوئيّ قدس سره والسيّد الشهيد قدس سره تطبيق قاعدة الفراغ، مدّعياً عدم شمولها لمثل ذلك, لأنّ جريان قاعدة التجاوز والفراغ مختصٌّ بما إذا كان الشكّ ناشئاً من احتمال الغفلة والسهو، فلا مجال لجريانهما فيما إذا احتمل ترك الجزء أوالشرط عمد, لأنّ القاعدة ليست من القواعد التعبّديّة بل إمضاء لقاعدة ارتكازيّة عقلائيّة، وهي أصالة عدم الغفلة, لظهور حالهم حين الامتثال في عدم الغفلة، ولا يُستفاد من الأدلّة أزيد من هذا المعنى، مضافاً إلى دلالة التعليل المذكور في بعض الروايات على الاختصاص، فإنّ كونه "أذكر" إنّما ينافي الترك السهويّ، لا الترك العمديّ، كما هوواضح20. -------------------------------------------------------------------------------- 36 -------------------------------------------------------------------------------- الأفكار الرئيسة - قاعدة الفراغ: هي الحكم بصحَّة العمل الّذي يُشكُّ في صحَّته وتماميّته بعد الفراغ منه. - قاعدة التجاوز: هي الحكم بصحّة العمل وتحقُّق الجزء الذي يشكُّ في تحقُّقه وإيجاده بعد تجاوز موضع الشكّ ومحلِّه والدخول في غيره. - تجري قاعدة الفراغ في كلِّ مركَّب فرغ منه المكلَّف وتعقَّبه الشكّ، في أبواب الصَّلاة والطَّهارة كالغسل والوضوء والتيمُّم، بل جميع العبادات والمعاملات. - اختار جماعة اعتبار الدخول في الأجزاء المستقلّة ولا يكفي الدخول في أجزاء الأجزاء, لأنّ القدر المتيقّن من غيره الأجزاء المستقلّة. - ذهب فريق آخر إلى أنّ المناسب التعميم لتشمل القاعدة الأجزاء المستقلّة وغيرها من أجزاء الأجزاء، وأجزاء أجزاء الأجزاء، تمسّكاً بإطلاق كلمة "غيره". - ينبغي الجزم في عموم قاعدة الفراغ، والاستناد إليها في مختلف الأبواب الفقهيّة، فهي عامّة، وإن كانت أغلب نصوصها قد وردت في باب الطهارة أوالصلاة. - يمكن أن يُقال بعموم قاعدة التجاوز, للإطلاق في صحيحة زرارة، ولا يمنع من انعقاد الإطلاق وجود قدر متيقّن في مقام التخاطب. - تجري قاعدة التجاوز في أجزاء المركَّب إذا كان الشكّ بعد تجاوز محلّه، فتجري في الصَّلاة أيضاً، ولا تجري عند الشكّ في أجزاء الوضوء قبل القيام عن محلّ الوضوء، وقد أُلحق الغسل والتيمُّم بالوضوء للدليل الخاصّ. - لقد أجمع الأعلام على عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء، فإنّ الشاكّ في فعل من أفعال الوضوء، قبل إتمام الوضوء يأتي به وإنْ دخل في فعل آخر. مطالعة القواعد والفوائد للشهيد الأوّل يعتبر كتاب "القواعد والفوائد" أوَّل تأليف مستقلّ وصل إلينا في قواعد الفقه الإماميّ وفروعه، وقد قال عنه الشهيد الأوَّل قدس سره في إجازته لابن الخازن الحائريّ: "فممَّا صنعته كتاب القواعد والفوائد، مختصر يشتمل على ضوابط كلّيَّة أصوليَّة وفرعيَّة، تُستنبط منها الأحكام الشرعيَّة، لم يعمل الأصحاب مثله"21. وقد احتوى هذا الكتاب على ما يقرب من ثلاث مئة وثلاثين قاعدة، إضافةً إلى فوائد تقرب من مئة فائدة، عدا التنبيهات والفروع. أمَّا منهج الشهيد قدس سره في هذا الكتاب22 فهو أنَّه يورد القاعدة أو الفائدة ثمّ يبيِّن ما يندرج تحتها من فروعٍ فقهيَّة، وما قد يرد عليها من استثناءات إن كان هناك استثناء منها.ولم يقتصر الشهيد قدس سره على بيان رأي الإماميّة في ما يذكره من المسائل فحسب، بل اتَّخذ منهج المقارنة في أغلب الفروع الفقهيّة، فيعرض ما قيل من الوجوه سواءً أكان القائل إماميَّاً أم غيره، كما أنَّه قد يذكر قولاً نادراً تفرَّد به بعض الإماميّة أو غيرهم. ولا يكتفي بنقل تلك الأقوال والوجوه في المسألة الفقهيّة، بل هو ـ غالباً ـ ما يذكر أدلَّتها وحججها، ويناقش ما لا يرتضيه منها مناقشات جليلة. أسئلة وتمارين - ضع علامة أو خطأ في المكان المناسب: 1- معنى قاعدة الفراغ هوالحكم بصحّة العمل المركّب، الّذي شُكّ في صحّته بعد الفراغ منه والدخول في غيره. 2- معنى قاعدة التجاوز هوالحكم بوجود عمل شُكّ في وجوده، بعد التجاوز عن محلّه بعد ما خرج وقته. 3- مورد قاعدة الفراغ والتجاوز هوالشكّ المتعلّق بالشبهات الموضوعيّة، دون الشكّ المتعلّق بالشبهات الحكميّة. 4- يُشترط في تطبيق قاعدة الفراغ الدخول في غير المشكوك من الأجزاء. 5- يُشترط في تطبيق قاعدة التجاوز الدخول في غير المشكوك من الأجزاء. 6- الدخول في غيره يصدق على الدخول في أجزاء الأجزاء. - عالج الأسئلة الآتية: 1- إذا قطع بعد الفراغ من الوضوء أنّه مسح على الحائل، ولكنّه شكّ في أنّه هل كان هناك مسوِّغ لذلك من جبيرةٍ أوضرورة أوتقيّة، أم فعل ذلك من غير مسوّغ شرعيّ؟ فهل يمكن الالتزام بقاعدة الفراغ للحكم بالصحّة؟ 2- إذا تيقّن أنّه دخل في الوضوء وأتى ببعض أفعاله، ولكن شكّ في أنّه هل عدل عنه باختياره أوباضطرار؟ فهل تجري قاعدة الفراغ للحكم بالصحّة؟ 3- إذا علم بوجود مانع، وعلم زمان حدوثه، وشكّ في أنّ الوضوء هل كان قبل حدوثه أوبعده؟ فهل يُبنى على الصحّة أم الفساد؟ ولماذا؟ 4- إذا كان محلّ وضوئه من بدنه نجساً فتوضّأ، وشكّ بعده في أنّه طهّره ثمّ توضّأ أم لا، فما حكم هذا الوضوء؟ وما حكم الوضوء لما يأتي من الأعمال؟ 5- إذا شكّ بعد الصلاة في الوضوء لها وعدمه، فما حكم الصلاة؟ وما حكم البناء على هذا الوضوء بالنسبة إلى لصلاة الآتية؟ وما حكم الشكّ السابق لوكان في أثناء الصلاة؟ 6- إذا تيقّن بعد الوضوء أنّه ترك منه جزءاً ثمّ تبدّل يقينه إلى شكّ؟ فهل يحكم ببطلان الوضوء أم بصحّته؟ ولماذا؟ هوامش 1- لم تكن قاعدة الفراغ والتجاوز معروفة عند القدماء كمعروفيّتها عند المتأخِّرين وإن استند إليها بعضهم أحياناً في مسائل الطهارة والصلاة، لكن لا بعنوان أنّها قاعدة كلّية سارية في معظم أبواب الفقه. 2- المصطفوي، مائة قاعدة فقهية، ص 187. 3- أي: شكّ في الإتيان به. 4- الخوئي، مصباح الأصول، ج3، ص 279. 5- المحقّق النائيني: أجود التقريرات: ج2، ص 465. 6- الشيرازي، ناصر مكارم: القواعد الفقهية، ط 3، قم المقدّسة، مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، 1411هـ.ق، ج1،ص213. 7- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج5، الباب23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ح1، ص237. 8- م.ن، ح3، 237-238. 9- الشيرازي، القواعد الفقهية، م.س، ج1، ص214. 10- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج1، الباب 42 من أبواب الوضوء، ح5، ص331. 11- م.ن، ج4، الباب 13 من أبواب الركوع، ح4، ص318. 12- م.ن، ج5، باب 27 من أبواب الخلل، ح2، ص343. 13- م.ن، الباب 23 في أبواب الخلل الواقع في الصلاة،ح1، ص237. 14- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج4، الباب 13 من أبواب الركوع، ح4، ص318. 15- م.ن، ج1، الباب 42 من أبواب الوضوء، ح2، 469-470. 16- الخوئي، أجود التقريرات، م.س، ج2، ص473. 17- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج5، الباب27 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ح3. 18- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج1، الباب 42 في أبواب الوضوء، ح1. 19- هاتان حالتان ولا ثالثة لهما، إذ الثالثة ليست هي إلا حالة القطع بالالتفات، ومعها لا يبقى مجال للشكّ واحتمال عدم وصول الماء ليحتاج إلى تطبيق قاعدة الفراغ. 20- الخوئي، مصباح الأصول، م.س، ج3، ص268. 21- العاملي، محمّد بن مكّي (الشهيد الأوّل): غاية المراد في شرح نكت الإرشاد، تحقيق ونشر مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية،ط1، قم المقدّسة، مكتب الإعلام الإسلامي، 1414هـ.ق، ج1، مقدّمة التحقيق، ص106. 22- انظر: العاملي، محمّد بن مكّي (الشهيد الأوّل): القواعد والفوائد، تحقيق السيّدعبدالهادي الحكيم، لاط، قم المقدّسة، منشورات مكتبة المفيد، لات، ج1، مقدّمة التحقيق، ص8. يتبع |
الدرس الثالث: قاعدة لا تُعاد الصلاة
أهداف الدرس - التعرّف على معنى قاعدة لا تُعاد الصلاة وأدلّتها. - القدرة على الاستدلال على حجّيّة القاعدة. - التدرّب على تطبيق القاعدة في مواردها. -------------------------------------------------------------------------------- 41 -------------------------------------------------------------------------------- مقدّمة قاعدة "لا تُعاد الصلاة إلّا من خمسة" من القواعد الفقهيّة التي تنطبق على فروع كثيرة مذكورة في الفقه، في أبواب الخلل من كتاب الصلاة. ولا إشكال في اختصاص هذه القاعدة بباب الصلاة، حيث إنّها واردةلتصحيح الصلاة، ونفي لزوم إعادته, إذا كان الخلل الواقع فيهامن غير الخمسة المذكورة في الرواية وهي: الطهور، والوقت، والقبلة، والركوع، والسجود. بيان المراد من القاعدة معنى القاعدة هوعدم وجوب إعادة1 الصلاة في فرض وقوع الخلل فيها، إلّا في الموارد الخمسة المنصوصة في الحديث (الركوع أوالسجود أوالطهارة من الحدث والقبلة والوقت) وعليه، إذا ورد الخلل في الصلاة، من غير عمد ولا تقصير، ولم يكن ذلك الخلل في أحد الأمور الخمسة المذكورة في الحديث، فلا يجب إعادة الصلاة. -------------------------------------------------------------------------------- 43 -------------------------------------------------------------------------------- اختصاص القاعدة بحالة الفراغ من الصلاة تختصّ القاعدة بحالة الفراغ من الصلاة, لأنّ القدر المتيقّن من الحديث مختصّ في حالة فراغ المكلّف من الصلاة، وبعد الفراغ منها يتّضح له الخلل فيها، بترك جزء أوشرط. وأمّا إذا اتّضح ذلك له في أثناء العمل، فقد يقال بعدم شمول الحديث له, لأنّ التعبير بالإعادة يدلّ على فرض الفراغ من العمل، وإلّا فلا معنى للإعادة وعدمها. وهكذا التعبير بالصلاة يدلّ على إرادة تمام الصلاة. شمول القاعدة لحالتيّ النقصان والزيادة: بعد ثبوت عدم وجوب إعادة الصلاة في فرض وقوع الخلل فيها إلّا في الموارد المستثناة في الرواية، من المناسب أن نحدّد ما هونوع هذا الخلل المفهوم من الرواية؟ والجواب أنّ الخلل في الصلاة، هنا، ينحصر بين النقصان بترك جزء أوشرط فيها، والزيادة بزيادة جزء أوشرط فيها. وقد اتفقت كلمة الفقهاء على أنّ القدر المتيقّن من الحديث هوالأوّل، أعني النقصان. وهذا لا يعني عدم شمولها للإخلال في حالة الزيادة، وإن كان ثلاثة من الخمسة "الوقت والقبلة والطهور" لا يتصوّر فيها الزيادة, لأنّ عدم قبول بعض الأفراد للزيادة لا يمنع من التمسّك بالإطلاق، بلحاظ ما يقبل ذلك2. بيان المراد من الطهور في الرواية: إنّ كلمة الطهارة الواردة في الصحيحة وإن كانت أعمّ من الطهارة الحدثيّة والخبثية، ولكنّ الظاهر اختصاصها بالطهارة الحدثيّة دون الخبثيّة، وتقريب ذلك أنّ الرواية واردة في بيان أنّ الإخلال بما فرضه الله ناقض للصلاة، دون -------------------------------------------------------------------------------- 44 -------------------------------------------------------------------------------- ما كان منشأ التشريع فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "ولا تنقض السنّةُ الفريضةَ"3، وحيث إنَّ الطهارة الحدثيّة، سواء أكانت وضوءاً أم غسلاً أم تيمّماً، ممّا نصَّ الله تعالى عليه بقوله: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ...ï´¾،4 فتركها ناقض للصلاة، دون الطهارة الخبثيّة، حيث لم ترد في نصّ قرآنيّ، فوجودها سهواً ليس ناقضاً للصلاة, لعدم النصّ القرآنيّ عليها، بل جاء تشريعها وتفصيلها من السنّة المطهّرة. بيان مدرك القاعدة المدرك للقاعدة المذكورة صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: "لا تُعاد الصلاة إلّا من خمسة: الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود. ثمّ قال عليه السلام: القراءة سنَّة والتشهُّد سنة والتكبير سنّة، ولا تنقض السنّة5 الفريضة"6. ولا ينبغي الإشكال في أنّ المستفاد منها كبرى كليّة، وهي أنّ الصلاة مشتملة علىصنفين من القيود: الأوّل: صنف منها قيود مهمّة خطيرة يعبّر عنها بالفرض، تكون مفروضة من قبل الله سبحانه فيالقرآن الكريم، ولا بدَّ من حفظها، وعدم الإخلال بها، حتّى سهواً. الثاني: وصنف آخر قيود أقلّ أهمّيّة وركنيّة يعبَّر عنها بالسنّة، والسنّة تُطلق بالأصل بمعنى ما جعله النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وفرضه قولاً أوعملاً، في قبال ما فرضه -------------------------------------------------------------------------------- 45 -------------------------------------------------------------------------------- الله سبحانه في القرآن الكريم، وأمّا استخدام السنّة بمعنى المستحبّ في قبال الواجب، فهو مصطلح محدث من الفقهاء دارج على ألسنتهم، والظاهر أنّ المراد بها (في المقام) هوالمعنى الأوّل، برغم عطف التكبير في ذيل صحيح زرارة على التشهّد والقراءة، فيسياق بيان السنّة، وظاهره غير تكبيرة الإحرام، وهومستحبّ، إلّا أنّه مع ذلك يناسب كلا المعنيين كما هوواضح، فيكون المعنى الثاني هوالظاهر, لتصريح جملة من الروايات السابقة وغيرها، بلزوم سائر الأجزاء غير الركنيّة في الصلاة، بل ووجوب الإعادة إذا ترك شيئاً منها متعمِّداً، فهي واجبة كالأركان، إلّا أنّه يكون لأجل متابعةالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أوأمره، لا من جهة فرض الله سبحانه وتعالى في القرآن، ومن هنا لم تجب الإعادة بالإخلال به إلّا عن عمد، بل لعلّ المعنى الثاني للسنّة اصطلاح متأخِّر7. وعلى كلّ حال، فقد دلّت هذه الصحيحة على عدم وجوب إعادة الصلاة عند وقوع الخلل فيها، إلّا إذا كان الإخلال في أحد الأمور الخمسة المنصوصة، والدلالة - بعد صحّة السند - صريحة لا إشكال فيها. كيف نوفّق بين أدلّة الأركان ومفاد الحديث؟ وقع الإشكال في الجمع بين مفاد الحديث، ومفاد أدلّة الركنيّة وأدلّة الجزئيّة، فلا بدَّ من حلّ هذه الإشكالية. حيث إنّ مفاد الحديث هو حصر الإعادة في فرض النقص أو الزيادة الواقع بوساطة أحد الأمور الخمسة، ولكن دلّت الأدلّة الخاصّة - المتّفق عليها بين الفقهاء - أنّ مثل التكبير والنيّة والقيام هي من الأركان، وتجب الإعادة عند وقوع الخلل بكلّ واحد منها بلا فرق بين الزيادة أو النقصان، مع العلم أنّ الحديث لم يذكر إلّا ركنين من الأركان الخمسة المبطلة للصلاة عند وقوع الخلل فيه زيادة أو نقصاناً. فكيف يمكن التوفيق بين مفاد -------------------------------------------------------------------------------- 46 -------------------------------------------------------------------------------- الحديث ومفاد أدلّة الأركان؟ وللإجابة عن هذا الإشكال نقول: - إنّ التكبير والنيّة معاً مفتاح الصلاة، والقيام الركنيّ (في أحد مورديه) يتحقّق في ضمن التكبير، أمّا النيّة فإنّ الفعل لا يُسمّى صلاة إلّا بعد تحقّقها، والصحيحة كأنّها تفرغ عن فعل سُمّي بالصلاة، فقالت: "لا تعاد الصلاة"، أي بعد تمام النيّة. - وأمّا القيام فإنّ حقيقة الركوع هي الانحناء عن قيام، فالهويّ عنه إلى الحدّ المعتبر في الركوع داخل في حقيقته ومتقوّم به، فالإخلال به إخلال بالركوع، فلا ركوع حقيقة واصطلاحاً إن لم يكن عن قيام، ولذا اكتفى بذكره دونه.فمفاد الحديث هوبيان الوظيفةبعد تحقّق الصلاة. وبعبارة واضحة يقال: إنّ الصلاة لا توجد بدون الأمور الثلاثة، والحديث يبيّن الحكم بعد التكوّن والإقامة، فيكون مفاده في طول هذه الأمور الثلاثة، فلا تعارض في المقام. عدم شمول الحديث للعامد إنّ حديث "لا تُعاد" لا يشمل الترك العمديّ، فلوترك الفاتحة أوالسورة أوالتشهّد أوالذكر، في الركوع والسجود، عامداً عالماً، بطلت صلاته, إذ لوكانت الصلاة صحيحة مع تركها عمداً، وأنّ حديث "لا تعاد" شامل لصورة العمد، لكان خُلف تشريعها والأمر به, إذ معناه أنّ ما هوجزء أوشرط أومانع بأدلّة الأجزاء والشروط والموانع ليس بجزء، ولا بشرط، ولا بمانع، وهذا عين الخلف والمناقضة. هذا مضافاً إلى انصراف التعبيربـ "لا تعاد" إلى من اعتقد إتيانه الصلاة بكامل متطلّباتها ثمّ التفت بعد ذلك إلى وقوع الخلل فيها. -------------------------------------------------------------------------------- 47 -------------------------------------------------------------------------------- هل تشمل القاعدة كلًّا من الناسي والجاهل؟ لا إشكال في أنّ القدر المتيقّن من الحديث هوالناسي، وإنّما الكلام في شموله للجاهل. اختار جمع من العلماء الاختصاص بالناسي، وقرّبوا ذلك بأنّ الجاهل حيث لم يأت بالواجب الثابت عليه واقعاً، فلا يخاطب بخطاب "أَعِدْ أولا تُعِدْ"، بل بخطاب إئت بالسورة أوبالتشهّد أو...، وهذا بخلاف الناسي فإنّه حيث لا يكون مكلّفاً حالة النسيان بما نَسِيَهُ لعدم إمكان تكليف الناسي، بسبب عدم قدرته على فعل المنسيّ حالة نسيانه - وهذا بخلاف الجاهل، فإنّ جهله لا يسلب قدرته على فعل الجزء - فمن المناسب توجيه الأمر بالإعادة إليه، فيقال له "أَعِدْ أولا تُعِدْ"8. -------------------------------------------------------------------------------- 48 -------------------------------------------------------------------------------- الأفكار الرئيسة - قاعدة "لا تُعاد" من القواعد الخاصّة بالصلاة، بالاتّفاق بحسب صريح الرواية. - يُقصد بالقاعدة عدم وجوب إعادة الصلاة عند وقوع الخلل - زيادة أونقيصة - إلّا إذا كان في الركوع أوالسجود أوالطهور أوالقبلة أوالوقت. - تختصّ القاعدة بحالة الفراغ من الصلاة. - مستند القاعدة رواية حجّة سنداً، صريحة الدلالة، عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام. - يمكن التوفيق بين مفاد حديث "لا تعاد" وبين أدلّة الأركان والأجزاء بعدة وجوه. - لا يشمل حديث "لا تعاد" العامد، والقدر المتيقّن شموله للناسي. - الظاهر شمول حديث "لا تعاد" للجاهل على تفصيل بين القاصر والمقصّر. مطالعة تعريف الفقه وموضوعه ومسائله في اللغة: يقال: فقهت الكلام إذا فهمته، ومنه سمِّي الفقيه فقيهاً. يقال: فَقِهَ الرجل بالكسر يَفقَه فقهاً من باب تَعِبَ: إذا عَلِمَ. وفَقُهَ بالضمّ مثله، وقيل: الضمّ إذا صار الفقه له سجيَّة. وفلانٌ لا يَفْقَهُ أي لا يفهم. ثمَّ خُصّ به علم الشريعة. قال بعض الأعلام: الفقه هوالتوصُّل إلى علمٍ غائبٍ بعلمٍ شاهدٍ، ويسمَّى العلم بالأحكام فقهاً، والفقيه: الذي علم ذلك، واهتدى به إلى استنباط ما خفي عليه. انتهى.9 فقه: الفِقْهُ: العلم بالشيء والفهم له، وغلب على علم الدين؛ لسيادته وشرفه وفضله على سائر أنواع العلم، كما غلب النجم على الثريَّا، والعود على المندل، قال ابن الأثير: واشتقاقه من الشقّ والفتح، وقد جعله العُرف خاصَّاً بعلم الشريعة، شرَّفها الله تعالى، وتخصيصاً بعلم الفروع منها. قال غيره: والفِقْهُ في الأصل: الفَهم. يقال: أُوتيَ فلانٌ فِقهاً في الدين، أي فَهماً فيه.10 في الاصطلاح: "الفقه هوالعلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة"11. موضوع الفقه: موضوع الفقه هو: أفعالُ المكلَّفين12 من حيث الاقتضاء13 والتخيير، وأوصاف الأفعال والتروك. أسئلة وتمارين - ضع علامة صح أو خطأ في المكان المناسب: 1- إذا سجد على الموضع النجس جهلاً بالنجاسة أونسياناً، حكم بالبطلان لقاعدة "لا تعاد". 2- شخص صلّى نسياناً، وعلى ثوبه نجاسة من الدم، فصلاته صحيحة لقاعدة "لا تعاد". 3- المقصود بالخلل في الصلاة - في قاعدة "لا تعاد"- النقصان بترك جزء أوشرط فيها، والزيادة بزيادة جزء أوشرط فيها. 4- لا يشمل حديث "لا تعاد" العامد، والقدر المتيقّن منه هوالناسي. 5- المقصود من "الطهور" الوارد في الحديث هوالأعمّ من الطهارة الحدثيّة والخبثيّة. 6- الظاهر شمول حديث "لا تعاد" للجاهل القاصر دون المقصّر. - عالج الأسئلة الآتية: 1- هل ينطبق حديث "لا تعاد" فيما لو نوى الخروج من الصلاة، بعد أن حصلت النيّة الصحيحة منه، ثمّ عاد إليها قبل أن يقع شيء من أفعال الصلاة بدونها؟ 2- بيّن معلّلاً إمكانية جريان، أوعدم جريان قاعدة "لا تعاد" إذا تيقّن دخول الوقت فصلّى، ثمّ تبيّن وقوعها بتمامها قبل الوقت. 3- ما الحكم في ضوء قاعدة "لا تعاد" فيما لوصلّى شخص العشاء قبل المغرب بتخيُّل أداء المغرب، أوالعصر قبل الظهر بتخيُّل أداء الظهر؟ 4- شخص كان يقلِّد مجتهداً يقول بوجوب أداء الصلاة قصرا،ً ثمّ قلّد ثانياً ممّن يقول بوجوب التمام. ما حكم صلاته في الأيام السابقة؟ 5- إذا اتّضح للمكلّف عدم صحّة قراءته في الصّلاة بعد مدّة من الزمن، فهل يلزم إعادة صلواته السابقة؟ ولماذا؟ 6- شخص كان يغتسل أويتوضّأ مدّة من الزمن وعلى بعض أعضائه حائل ثمّ التفت، ما حكم صلواته السابقة بناءً على قاعدة "لا تعاد"؟ هوامش 1- إنّ مفهوم الإعادة عبارة عن إيجاد الشيء بعد إيجاده ثانياً أوثالثاً، وهكذا مقابل الإيجاد ابتداءً من غير سبق إيجاده، غاية الأمر أن الإعادة بالمعنى المذكور قد تكون إعادة بالدقّة بحيث يكون الوجود الثاني مثل الوجود الأول بالدقّة، وقد تكون إعادة عرفاً ولوكان المعاد لا يكون على طبق الوجود الأوّل تماماً وطابق النعل بالنعل. 2- الإيرواني، محمّد باقر: دروس تمهيدية في القواعد الفقهية، ط1، قم المقدّسة، مؤسّسة الفقه؛ مطبعة باقري، 1417هـ.ق، ج1، ص29. 3- المراد بالفريضة ما ثبت بتشريع الله سبحانه وتعالى، والمراد بالسنّة ما ثبت بتشريع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. 4- المائدة: 6. 5- التعبير بالسنة مصطلح يراد به عادة ما سنّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وثبت بتشريعه، في مقابل الفرض الذي يراد به عادة ما شرعه الله سبحانه تبطل الصلاة به، بخلاف الخلل فيما شرعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه لا تبطل به الصلاة ولا يؤثّر في صحة ما فرضه الله سبحانه. وقد عقد الشيخ الكليني في الكافي تحت عنوان: "باب التفويض إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى الأئمّة عليهم السلام في أمر الدين"، ما يدلّ على ثبوت السلطة التشريعية للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. الكليني، محمّد بن يعقوب: الكافي، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، ط5، طهران، دار الكتب الإسلامية؛ مطبعة حيدري، 1363هـ.ش، ج1، ص265. 6- العاملي، وسائل الشيعة، م.س،ج4، باب1 من أبواب أفعال الصلاة، ح14. 7- الهاشمي، مجلّة فقه أهل البيت، م.س، العدد1 8-19، قاعدة لاتعاد. 8- الخوئي، أبو القاسم: شرح العروة الوثقى- التقليد- (موسوعة الإمام الخوئي قدس سره)، شرح الشيخ علي الغروي، ط2، قم المقدّسة، مؤسّسة إحياء آثارالإمام الخوئي قدس سره، 1426هـ.ق/ 2005م، ص33. 9- الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج6، ص355. 10- الإفريقي، لسان العرب، م.س، ج13، ص522. 11- العاملي، حسن بن زين الدين: معالم الدين وملاذ المجتهدين،تحقيق ونشر مؤسّسة النشرالإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة، لاط، قم المقدّسة، لات، ص26. 12- الخوئي، أبوالقاسم: محاضرات في أصول الفقه، تقرير الشيخ محمد إسحاق الفيّاض، تحقيق ونشر مؤسّسة النشرالإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة، لاط، قم المقدّسة، لات، ج1، ص28. 13- الاقتضاء: ما يقتضي اللزوم، من وجوب وحرمة. والتخيير: ما يجوز معه الفعل والترك. يتبع |
الدرس الرابع: قاعدة نفي الحَرَج
أهداف الدرس - التعرّف على معنى قاعدة نفي الحرج وأدلّتها. - القدرة على الاستدلال على حجّيّة القاعدة. - التدرّب على تطبيق القاعدة في مواردها. -------------------------------------------------------------------------------- 53 -------------------------------------------------------------------------------- المقدّمة اشتهر بين الفقهاء - ولاسيّما المتأخّرين منهم - الاستدلال بهذه القاعدة في كثير من الموارد، لنفي كثير من التكاليف التي تستلزم العسر والحرج على المكلّفين، وذلك في غير واحد من أبواب العبادات، كالوضوء والغسل والتيمّم والصلاة والصيام وغيرها. وهذا ما يعطي الفقيه بصيرة ومعرفة بحال الفروع الكثيرة المبنيّة عليها، ويساعد المكلّف على التعامل الشرعيّ مع الأحكام الشرعيّة الحرجيّة. ولا يوجد (بين الأعلام) اختلاف في المقصود من قاعدة نفي الحرج, والسبب في ذلك هوأنّ مدرك القاعدة - الآتي ذكره - لا يحتمل احتمالات وفروضاً متعدّدة، كما سيأتي. بيان المراد من القاعدة معنى القاعدة هونفي الحكم الشرعيّ الموجب للعسر والحرج، وعليه كلّ حكم كان موجباً للعسر أوالحرج هو منفيّ من ناحية الشرع، فإذا كان الغسل أوالوضوء - مثلاً - في شدّة البرد في الشتاء عسراً أوحرجاً يرتفع عن عاتق المكلّف, -------------------------------------------------------------------------------- 55 -------------------------------------------------------------------------------- امتناناً منه تعالى على العباد، فتكون القاعدة حاكمة1 على الأدلّة الأوّليّة الّتي تدلّ على وجوب الأحكام الشرعيّة كالوضوء والغسل وغيرهما. وإلى هذا أشار السيّد الخوئيّ قدس سره بقوله: "إنّ مفاد نفي الحرج في عالم التشريع هونفي الحكم الحرجيّ"2، وحكم "بسقوط وجوب الطلب (طلب الماء للوضوء) في ضيق الوقت، كما يسقط ... إذا كان في طلبه حرج ومشقّة لا تتحمّل, وذلك لقاعدة نفي الحرج"3، و"وردت الرخصة في إفطار شهر رمضان لأشخاص، منهم: الشيخ والشيخة وذوالعطاش، ... إذا كان حرجاً ومشقّة". إذاً المقصود من القاعدة: نفي كلّ حكم شرعيّ يستلزم ثبوته الحرج على المكلّف، فحرمة كشف المرأة جسدها أمام الطبيب، أوعورتها أمام الطبيبة للفحص ونحوه من العلاجات، إذا استلزم الحرج عليها، يكون مرفوعاً. بيان المراد من مصطلحيّ العُسر والحرَج العُسر لغةً: هوالصعب الشديد، والحرج: هوالتعب والضيق. ويتّحد العسر والحرج في الحكم، وأُخذا كموضوع واحد للقاعدة الواحدة، ولكن من المعلوم أنّهما يختلفان معنىً، فإنّ العسر أخفّ بالنسبة إلى الحرج، فالعسر عبارة عن المشقة التي تتعلّق بعضومن أعضاء البدن، وأمّا الحرج فهوعبارة عن المشقّة التي تتعلّق بالنفس الإنسانية، وعليه يُقال: إنّ العسر بدنيّ، والحرج نفسيّ، والذي يسهّل الخطب أنّ العسر والحرج أصبحا معاً موضوعاً واحداً للقاعدة4. فالمراد من الحرج الذي يكون سبباً في رفع التكليف الفعل الذي يشقّ تحمّله، -------------------------------------------------------------------------------- 56 -------------------------------------------------------------------------------- ويصعب على فاعله صعوبة شديدة عادة5، لا مطلق الصعوبة، وإلاّ للزم كون جميع التكاليف حرجيّة ومرفوعة, لأنّ التكليف إنّما يكون تكليفاً لما فيه من الكلفة والمشقّة. فليس المقصود من الحرج عدم القدرة على الشيء، وأنّ كلّ شيء لا يكون مقدوراً يكون حرجيّ, لأنّ المتبادر من الحرج المشقّة والضيق دون عدم القدرة. نعم ليس كلّ مشقة حرجاً بل خصوص المشقّة الشديدة. والشاهد على ذلك (مضافاً إلى قضاء الوجدان والتبادر) أنّ لازم تفسيره بمطلق المشقّة كون جميع التكاليف حرجيّة, لأنّ التكليف إنّما كان تكليفاً باعتبار اشتماله على الكلفة والمشقّة. بيان مدرك القاعدة 1 - دليل القاعدة من الكتاب جملة آيات منها: قال تعالى: ï´؟وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ...ï´¾6. ومنها: ï´؟مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍï´¾7. ومنها: ï´؟يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَï´¾8. وقد أرشد الإمام الصادق عليه السلام إلى إحدى هذه الآيات الكريمة بما رواه عبد الأعلى مولى آل سام، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: "عثرت فانقطع ظفري، فجعلت على إصبعي مرارة، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّ وجلّ، قال الله تعالى: ï´؟وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍï´¾، امسح عليه"9. فهذه الآيات تدلّ دلالةً واضحة على أنّ المولى تبارك وتعالى لم يجعل في دينه حكماً يلزم من امتثاله وإطاعته حرجاً على عباده، في أمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، كما يشعر به قوله -تعالى - ï´؟عليكم، وبكمï´¾. -------------------------------------------------------------------------------- 57 -------------------------------------------------------------------------------- 2- دليل القاعدة من السنّة: يمكن الاستشهاد من السنّة الشريفة بجملة من النصوص، أنهاها الشيخ النراقي في عوائده إلى ثمانية عشر حديثاً10، بيد أنّه لا حاجة إلى استعراضها بالكامل بعد دلالة الكتاب الكريم على ذلك، فنقتصر على ما ورد في صحيح محمّد بن مسلم قال: "سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: "الشيخ الكبير والذي به العطاش لا حرج عليهما أن يفطرا في شهر رمضان"11، فالحكم بالإفطار في هذه الصحيحة يستند إلى وجود الحرج عليهما في الصوم، وما هذا إلا قاعدة لا حرج. 3- الاستدلال بالعقل: وأمّا الاستدلال بالعقل فيقال فيه: إنّ الإدراك العقلي إذا لم يدخل من باب التحسين والتقبيح العقليين لا يؤخذ به, لأنّ العقل لا يأبى التكليف مع المشقّة, نعم يمكن تقريب الاستدلال به من باب اللطف، فإنّ قضيّة العقل السليم عدم وقوعهما (العسر والحرج) في التكاليف, نظراً إلى أنّ المتّفَق عليه عند الفقهاء وجوب اللطف على الله سبحانه وتعالى، ومعناه التقريب من الطاعة، والتبعيد من المعصية الّتي هي المهلكة العظمى، ولا ريب أنّ التكليف البالغ حدّ الحرج يُبعّدُ عن الطاعة ويكون باعثاً لكثرة المخالفة، والله سبحانه أرحم بعباده من أن يفتنهم بما يوقعهم في العذاب غالب, وكما أنّ التكليف بما لا يطاق ممتنع عليه تعالى, للزوم القبح والخروج عن العدل، فكذلك التكليف الحرجيّ فإنّه منافٍ للّطف والرحمة.12 خروج الأحكام الحرجيّة بالأصل عن القاعدة إنّ قاعدة نفي العسر والحرج لا تشمل التكاليف الشاقّة بطبعها، كوجوب الجهاد، وحرمة الفرار من الزحف، وتسليم النفس للقصاص والحدّ وأمثاله, -------------------------------------------------------------------------------- 58 -------------------------------------------------------------------------------- لأنّ أدلّة القاعدة ناظرة إلى العمومات والإطلاقات الدّالة على التكاليف الّتي قد تكون في بعض الأحيان حرجيّة، وفي بعضها لا تكون كذلك، وتقيّدها بصورة عدم العسر والحرج على المكلّف، لا تنظر إلى الأحكام التي لا تكون بطبعها إلّا حرجيّة، فهي خارجة عن القاعدة تخصّصاً. هل المدار على رفع الحرج النوعيّ أوالشخصيّ؟ الحرج تارة يكون شخصيّاً وأخرى نوعيّاً. والمراد من الحرج الشخصيّ: الحرج الثابت لهذا الشخص بخصوصه أولذاك بخصوصه، بينما المراد من الحرج النوعيّ: الحرج الثابت لنوع الناس (أي غالبهم) كما هوالحال في وجوب الوضوء حالةالمرض، فإنّه حرجيّ لغالب المرضى، وإن لم يكن حرجيّاً بلحاظ بعض المرضى. وإذا كان المدار على الحرج الشخصيّ فوجوب الوضوء - مثلاً - لا يرتفع إلّا عمّن كان ثبوت الوجوب في حقّه حرجيّاً بالخصوص، ولا يكفي كونه حرجيّاً بلحاظ النوع والغالب، وهذا بخلافه بناءً على إرادة الحرج النوعيّ، فإنّه يرتفع به الوجوب في حقّ كلّ مريض، حتّى من لم يكن ثبوت الوجوب في حقّه حرجيّاً. وباتضاح المقصود نعود لنطرح السؤال: هل قاعدة "لا حرج" تنفي الأحكام الأوّليّة في حالة لزوم الحرج الشخصيّ بالخصوص، ولا يكفي لزوم الحرج النوعيّ؟ أوأنّها تنفي الأحكام حالة الحرج النوعيّ أيضاً، ولا يلزم تحقُّق الحرج الشخصيّ؟ والصحيح كون المدار على الحرج الشخصيّ, لأنّ ذلك هوالمتبادر والمفهوم من لسان دليل القاعدة ï´؟وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ...ï´¾، والحمل على الحرج النوعيّ يحتاج إلى قرينة، وهي مفقودة13. وقد يكفي الحرج النوعيّ في بعض الموارد، حتّى لو لم يوجد حرج شخصيّ. -------------------------------------------------------------------------------- 59 -------------------------------------------------------------------------------- هل القاعدة ترفع الإلزام والرخصة معاً؟ بعد ثبوت أنّ القاعدة ترفع الأحكام الحرجيّة عن المكلّف، يجب أنّ نبيّن أنّ القاعدة هل ترفع الإلزام والرخصة معاً؟ بمعنى أنّها ترفع حكم وجوب الوضوء والحجّ الحرجيّين، وتمنع الرخصة في الإتيان بهما حتّى مع تحمّل الحرج والمشقّة، فلو أتى بهما مع تحمّل الحرج والمشقة كانا باطلين. أم أنّ القاعدة ترفع الإلزام بالحكم الحرجيّ، دون الرخصة بالإتيان به، فلو أتى بهما مع تحمّل الحرج والمشقة كانا صحيحين؟ ولزيادة الإيضاح يمكن القول: إنّه إذا كان وجوب الوضوء في حق مريض حرجيًّا فلا إشكال في ارتفاعه بالقاعدة، ولكن لو فرض أنّ المريض تكلّف وأتى به بالرغم من كونه حرجيًّا في حقّه فهل يقع منه صحيحاً أو يحكم ببطلانه؟ وجوابه أنّه على القول بأنّ الرفع في القاعدة وارد بنحو الرخصة، أي أنّ المكلّف مرخّص في ترك الوضوء مثلاً وليس ملزماً به ولكنّه في نفس الوقت مرخّص في الإتيان به، ولذا فلو أتى به حتّى مع وجود الحرج يقع صحيحاً، كما ذهبه إليه جماعة من العلماء، كالسيّد اليزدي في العروة الوثقى.14 وأما على القول بأنّ الرفع في القاعدة وارد بنحو العزيمة، أي أنّ المكلّف ملزم بترك الوضوء مثلاً وليس مرخّصاً في الإتيان به، ولذا فلو أتى به يحكم ببطلان وضوئه، كما ذهب إليه جماعة أخرى من العلماء. والدليل على أنّ القاعدة ترفع الإلزام دون الرخصة أنّ العقلاء يرون أن تحمّل المشاقّ والصعاب في سبيل امتثال أوامر الموالي أمرٌ ممدوح في نظرهم، بل يعدّونه من أعلى مراتب الامتثال، حتى اشتهر الحديث: "أفضل العبادات أحمزها" (أشقّها)15، من دون تقييد للأحمزيّة بعدم وصولها إلى مرتبة الحرج. -------------------------------------------------------------------------------- 60 -------------------------------------------------------------------------------- وإلى هذا ذهب آية الله الشيخ مكارم الشيرازي بقوله: "إلّا أنّ الذي يظهر من غير واحد من أعاظم المتأخّرين في الفروع الفقهيّة المتفرّعة على هذه القاعدة، كونها من باب الرخصة لا العزيمة"16. بينما ذهب آخرون إلى القول: بأنّ هذا لا يمكن الالتزام به, حيث إنّ الدالّ على الملاك والرجحان هو الوجوب، فإذا رفع بقاعدة لا حرج لا يبقى ما يدلّ على بقاء الملاك والرجحان حتى يمكن بواسطته الحكم بصحّة الوضوء مثلاً17. -------------------------------------------------------------------------------- 61 -------------------------------------------------------------------------------- الأفكار الرئيسة - قاعدة نفي العسر والحرج من القواعد المتّفق عليها بين المسلمين، وقد استُدِلّ عليها كتاباً وسنّة. - مفاد القاعدة نفي الحكم الشرعيّ الموجب للعسر والحرج، ورفعه عن عاتق المكلّف. - إنّ العسر بدنيّ، والحرج نفسيّ. - لا تشمل قاعدة نفي الحرج الأحكام الحرجيّة بطبعها كوجوب الجهاد ونحوه. - وقع الاختلاف في أنّ القاعدة ترفع الإلزام والرخصة معاً، بمعنى أنّها ترفع حكم وجوب الوضوء والحج الحرجيَّيْن، وتمنع الرخصة في الإتيان بهما، حتّى مع تحمّل الحرج والمشقّة، أم أنّها ترفع الإلزام بالحكم الحرجيّ دون الرخصة بالإتيان به، فلوأتى بهما مع تحمّل الحرج والمشقّة كانا صحيحين. - تختصّ القاعدة بنفي الأحكام الحرجيّة في الواجبات دون المحرّمات، وإن شمل إطلاق الآيات الشريفة كلّ حكم شرعيّ حرجيّ، سواء أكان في الواجبات أم المحرّمات، فإنّ بناء الفقهاء على ترك الأخذ بهذا الإطلاق، وقد قيل في توجيه رفع اليد عن إطلاق الآيات هي أنّها واردة في مقام الامتنان على العباد، ولا امتنان في إلقائهم في المفاسد الواقعية. - يباح كثير من محظورات الإحرام مع الفدية، ويباح الإفطار في شهر رمضان للحامل والمرضع، والشيخ والشيخة، وذي العطاش، والتداوي بالمتنجّسات والمحرّمات، عند الاضطرار, لرفع الحرج والمشقّة المترتبيْن عليها. مطالعة قاعدة ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده معنى القاعدة هوأنّ العقد الذي لا يوجب الضمان في فرض الصحّة لا يوجب الضمان في فرض الفساد، كالرهن والوكالة والمضاربة وغيرها. وقد تحقّق التسالم عند الفقهاء على مدلول القاعدة، كما قال المحقّق صاحب الجواهر رحمه الله نقلاً عنهم: "إنّ الأصحاب وغيرهم أطلقوا القول في هذه القاعدة ولم يخالف فيها أحد"18. ويمكن الاستدلال على اعتبار القاعدة أيضاً: بالأولويّة: قال الشيخ الأنصاري رحمه الله: ثمّ إنّ مبنى هذه القضية السالبة على ما تقدّم من كلام الشيخ في المبسوط هي الأولويّة، وحاصلها أنّ الرهن لا يضمن بصحيحه فكيف بفاسده. وتوضيحه: إنّ الصحيح من العقد إذا لم يقتضِ الضمان مع إمضاء الشارع له فالفاسد الذي بمنزلة العدم لا يؤثّر في الضمان. وبالاستقراء: الصحيح أنّ هذه القاعدة قد حصلت من الاستقراء التامّ في موارد العقود التي لا توجب الضمان، فوجدوا عدم الضمان في فاسدها كصحيحها، وإن كان المنشأ هوعدم وجود السبب للضمان بحسب الواقع، فلا كلام فيه (عدم الضمان) بينهم، والأمر متّفق عليه عندهم، فلمّا تمّ الاستقراء تمّ المدرك للقاعدة، ولا حاجة بعد ذلك إلى ذكر الدليل من الأولويّة وانتفاء السبب وغيرهما19. أسئلة وتمارين - ضع علامة صحّ أو خطأ في المكان المناسب: 1- يتّحد العسر والحرج في الحكم، وأُخذا كموضوع واحد للقاعدة الواحدة، ولكنّهما يختلفان معنىً. 2- المقصود من قاعدة نفي الحرج كلُّ حكم شرعيّ يستلزم ثبوته الحرج على المكلّف في العبادة. 3- محلّ البحث في "قاعدة لا حرج" هوالأفعال الحرجيّة البالغة حدّاً لا يُطاق، والموجبة لاختلال النظام. 4- يسقط وجوب طلب الماء للوضوء والغسل إذا كان في طلبه حرج ومشقَّة جسديّة أوماليّة, لقاعدة نفي الحرج. 5- يجوز مصافحة الأجنبية في الموارد الّتي يقع فيها الحرج الشخصيّ على المكلّف. 6- إذا ثبت بوساطة الأجهزة الحديثة أنَّ الحمل مشوّه الخلق، فيجوز للأمّ الإجهاض رفعاً للحرج. - عالج الأسئلة الآتية: 1- رجل حصل على مال يساوي الاستطاعة للحجّ ولم تكن له دار سكن، فهل يجوز له صرف ذلك في شرائها، رفعاً للحرج ؟ 2- هل يجوز لمن حصل على ما يساوي مقدار الاستطاعة صرف المال في شراء سيّارة، أوالزواج به؟ 3- إذا حضر شخصٌ بعض الحفلات الّتي يشترك فيها الرجال والنساء وتقدّمت إليه امرأة للمصافحة، فهل يجوز له تقديم يده رفعاً للحرج؟ 4- كثيراً ما تذهب النساء إلى الطبيبة لإجراء فحوصات عليها بالرغم من عدم وجود حاجة ملحَّة لها، فهل يجوز ذلك؟ 5- امرأة تريد وضع لولب لمنع الحمل، فهل ذلك جائز بعد الالتفات إلى أنَّ ذلك يستدعي الكشف عن عورتها أمام الطبيب أوالطبيبة؟ 6- لو توضَّأ المكلَّف في البرد الشديد ممَّا سبَّب له حرجاً، أوصام في النهار القائظ الطويل، فما هوحكم وضوئه وصيامه, بحسب المباني المختلفة؟ هوامش 1- الحاكم هو الدليل الشارح والمفسّر للدليل المحكوم، ويتقدّم الدليل الحاكم تقدّم القرينة على ذيها، وهو إمّا أن يضيّق دائرة المحكوم (كما في المقام) أو يوسّع. وفي مقام الوضوء - مثلاً - يجب الوضوء بالدليل الأوّليّ، لكنّه يُنفى عند الحرج بأدلّة نفي الحرج، فيسقط وجوب الوضوء. 2- الخوئي، مصباح الأصول، م. س، ج2، ص530. 3- م.ن،ج2 ،ص530. 4- المصطفوي، مئة قاعدة فقهية، م. س، ص299. 5- عادة تعني غالباً. 6- الحج: 78. 7- المائدة: 6. 8- البقرة: 185. 9- العاملي، وسائل الشيعة، م.س،ج1، أبواب الوضوءح5 ، ص327. 10- النراقي، أحمد: عوائد الأيام، تحقيق ونشر مكتب الإعلام الإسلامي، ط1، إيران، 1417هـ.ق/ 1375هـ.ش، ص57-58. 11- وسائل الشيعة: ح7، باب 15 من أبواب من يصح منه الصوم، حديث 1 و 2. 12- الحسيني المراغي، مير عبد الفتّاح: العناوين الفقهية، تحقيق ونشر مؤسّسة النشرالإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة، ط1، قم المقدّسة،1417هـ.ق، ج1،ص286. 13- الإيرواني، دروس تمهيدية في القواعد الفقهية، م.س، ج1، ص178. 14- العروة الوثقى مسألة 18، من فصل مسوّغات التيمّم. 15- المجلسي، محمّد باقر: بحار الأنوار، تحقيق محمّد الباقرالبهبودي، ط3، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1403هـ.ق/ 1983م، ج79، ص279. 16- الشيرازي، القواعد الفقهية، م.س، ج1، ص201. 17- الإيرواني، باقر، دروس تمهيدية في القواعد الفقهية، م.س. ص58. 18- النجفي، جواهرالكلام، م.س، ج25، ص227. 19- المصطفوي، مئة قاعدة فقهية، م.س، ص205. يتبع |
الدرس الخامس: قاعدة سوق المسلمين
أهداف الدرس - التعرّف على معنى قاعدة سوق المسلمين وأدلّتها. - القدرة على الاستدلال على حجّيّة القاعدة. - التدرّب على تطبيق القاعدة في مواردها. -------------------------------------------------------------------------------- 67 -------------------------------------------------------------------------------- المقدّمة لقد منّ الشارع المقدّس على عباده بمجموعة كبيرة من التشريعات الّتي تكفل العلاقة الإيجابيّة والحسنة بين المسلمين، في تعاملاتهم وعلاقاتهم شبه اليوميّة مع بعضهم البعض، ما يعني انتظام العلاقات، وحفظ الحقوق. وقاعدة سوق المسلمين من جملة القواعد الّتي اعتبر الفقهاء أنّ انتظام السوق وحركة البيع والشراء قائمان عليها، بل إنّ لازم عدم حجيّة سوق المسلمين اختلال نظام الحياة الّذي جاء الإسلام للحفاظ عليه وتشييده. بيان المراد من القاعدة يُقصد بقاعدة السوق الحكم بأماريّة السوق على التذكية، فإنّ الحيوان إذا لم يذكَّ لم يجز تناول لحمه ولا الصلاة في جلده، وإذا شكّ في تذكيته حكم عليه بعدمه, تمسّكاً باستصحاب عدمها، فإنّ الحيوان حالة حياته لم يكن مذكّى، فإذا شكّ في حصولها له عند زهاق روحه استصحب ذلك العدم، فالأصل عند الشكّ في تذكية لحوم الحيوانات وجلودها وعدم تذكيتها، هوالحكم بعدم التذكية استصحاباً، حيث يترتّب على الاستصحاب الأثر الشرعيّ من الحرمة، والنجاسة وغيرهما1. -------------------------------------------------------------------------------- 69 -------------------------------------------------------------------------------- فمعنى القاعدة هوأماريّة سوق المسلمين للطهارة والذكاة عند الشكّ فيهما بالنسبة إلى البضائع الّتي توجد في أسواق المسلمين، من اللحوم والجلود وغيرها، فإن نفس كونها في سوق المسلمين يكفي للطهارة والحلّيّة، وإن كان من يعرضها مجهول الحال، ولا مجال لأصالة عدم التذكية, لحكومة القاعدة عليها وعلى الاستصحاب. وبعبارة ثانية: إنّ الأصل عند الشكّ في التذكية وغيرها العدم، وفي قاعدة السوق يراد إثبات الخروج بها عن هذا الأصل، وإمضاء أسواق المسلمين على ظاهرها في الطهارة وغيرها، وعدم لزوم الفحص عن حال البائعين. ولا يراد من خلال قاعدة السوق إثبات خصوص تذكية الحيوان، وطهارته، بل إمضاء السوق كما هي، فمن ابتاع رقيقاً من سوق المسلمين، فادّعى الحرّيّة لم تسمع دعواه، إلّا أن تقوم البيّنة، ومن اشترى من أسواقهم جلداً بنى على طهارته، ولحماً بنى على تذكيته. وبهذا تكون قاعدة سوق المسلمين حاكمة على استصحاب عدم التذكية المعّبر عنه بأصالة عدم التذكية. مدرك القاعدة بيان مدرك القاعدة: يمكن الاستدلال على القاعدة بعدّة أدلّة. أهمّها: الأوّل: الروايات: 1- صحيح الحلبيّ، قال: "سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الخفاف الّتي تباع في السوق؟ فقال: اشترِ وصلّ فيها حتّى تعلم أنّه ميّت بعينه"2. 2- صحيحة فضيل وزرارة ومحمّد بن مسلم، حيث سألوا أبا جعفر عليه السلام عن شراء اللحوم من الأسواق، ولا يدري ما صنع القصّابون؟ فقال: "كُلْ إذا كان ذلك في سوق المسلمين، ولا تسأل عنه"3. -------------------------------------------------------------------------------- 70 -------------------------------------------------------------------------------- 3- صحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر، قال: "سألته عن الرجل يأتي للسوق فيشتري جبّة فراء لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة، أيصلّي فيها؟ فقال: نعم ليس عليكم المسألة، إنّ أبا جعفر عليه السلام كان يقول: إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم، إنّ الدين أوسع من ذلك"4. 4- صحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن الرضا عليه السلام قال: "سألته عن الخفّاف يأتي السوق فيشتري الخفّ، لا يدري أذكيٌّ هوأم لا، ما تقول في الصلاة فيه وهولا يدري؟ أيصلي فيه؟ قال: نعم، أنا أشتري الخفّ من السوق، ويُصنع لي، وأصلّي فيه، وليس عليكم المسألة".5 5- خبر إسماعيل بن عيسى، قال: "سألت أبا الحسن عليه السلامعن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارف؟ قال: "عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه"6. وغيرها من الروايات التي لا يبقى معها شكّ في اعتبار السوق أمارة، ولمزيد من التوضيح لا بدّ من ملاحظة عدّة أمور: منها: الظاهر أنّ المراد بالسوق هو خصوص سوق المسلمين لا مطلق السوق، ولوكان للكافرين, لأنّها وردت في الروايات مُعرّفة بالألف واللام العهدية، ومن المعلوم أنّ المراد به الإشارة إلى أسواق المدن الإسلاميّة, إذ إنّها واردة عن الأئمّة الصادق والباقر والرضا عليه السلام، أعني في زمان كان حافلاً باتّساع رقعة الأرض الإسلاميّة. بل في رواية الفضلاء وردت كلمة السوق مضافة إلى المسلمين في كلام الإمام عليه السلام, فلوصحّ أن تكون روايات السوق مطلقة، ولم يكن هناك عهد -------------------------------------------------------------------------------- 71 -------------------------------------------------------------------------------- صارف لها لأمكن تقييدها بما ورد في كلماته عليه السلام، بل قد يُفهم من موثّق إسحاق بن عمّار عن العبد الصالح عليه السلام أنّه قال: "لا بأس بالصلاة في الفراء اليمانيّ، وفيما صُنع في أرض الإسلام، قلت: فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال: إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس"7، فإنّ المدار على كون المسلمين يشكّلون الأغلبيّة على الأرض، سواء أكانت الأرض سوقاً لهم أم لم تكن. ومنها: أنّه ليس في كلمات الأعلام بيان الضابط في تحديد سوق المسلمين، وفي موثّق إسحاق بن عمّار المتقدّم جعلُ المدار في الحكم بالذكاة على أغلبيّتهم في الأرض، سواء أكانت سوقاً أم لا، وهومطابق للإطلاق العرفيّ. ثمّ إنّه لا أثر لوقوع البلد تحت حكومة المسلمين أم لا، وإنّما المدار على كونهم يشكّلون أغلب أفراده، سواء أكان الحاكم مسلماً أم كافراً، إذ لا مدخليّة له في تحديد ذلك، ففي يومنا هذا لا مانع من تصوّر سوق المسلمين في بلاد الغرب، إذا فرض أنّهم أغلبيّة عرفيّة فيه، أوسوق الكّفار في بلد المسلمين بالشرط المتقدّم. هذا وتدلّ صحيحتا البزنطي ورواية إسماعيل بن عيسى على اعتبار السوق مطلقاً، أعني: سواء أسأل عن ذكاته أم لم يسأل، بل ورد النهي عن السؤال. الثاني: سيرة المتشرّعة: استقرّت سيرة المسلمين والمؤمنين على أنّهم يدخلون الأسواق ويشترون اللحوم والجلود من دون السؤال عن أنّها ميتة أومذكّاة، حتّى إنّ صاحب الشريعة صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة المعصومين عليهم السلام أيضاً كانوا كذلك، وهذا شيء لا يقبل الإنكار، ولم يرد عنهم عليهم السلام ردع عن هذه السيرة، قال السيّد الخوئي قدس سره: "إنّ اعتبار السوق هوالّذي جرت عليه سيرة المسلمين, لأنّه لم يعهد منهم السؤال عن كفر البائع وإسلامه في شيء من أسواقهم"8. -------------------------------------------------------------------------------- 72 -------------------------------------------------------------------------------- ويؤيّد ما ذكر من الأدلةإنّ لازم عدم حجّيّة سوق المسلمين اختلال النظام, إذ يلزم أن يذبح كلّ فرد مسلم الحيوان لنفسه، ولا يجوز له شراء اللحم من السوق والأكل منه, لأنّ احتمال عدم تحقّق التذكية بشكلها الشرعي ما دام موجوداً، فبالاستصحاب يثبت عدم تذكية الحيوان المشكوك فيه، وبالتالي عدم جواز تناوله، وبذلك يلزم اختلال نظام الحياة الذي جاء الإسلام للحفاظ عليه وتشييده، ولهذا ورد عنه عليه السلام في رواية حفص بن غياث: "لولم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق"9، وظاهر هذه العبارة أنّ الاعتناء بهذه الاحتمالات - أي احتمال عدم التذكية في اللحوم والجلود، واحتمال كونهم أحراراً في العبيد والإماء، واحتمال كونه مال الغير وأنّه سُرق أوغُصب في سائر الأموال - يوجب تعطيل الأسواق واختلال أمر المسلمين في معاملاتهم، وهذا أمر مرغوب عنه عند الشارع، فعدم الاعتناء بأسواق المسلمين وترتيب الأثر على هذه الوساوس منفور منه. ما المقصود بيد المسلم؟ تارة يؤخذ اللحم من سوق المسلمين، وأخرى من يد المسلم بدون فرض مروره بسوق المسلمين. والأوّل محكوم بالتذكية كما تقدّم. وهل الثاني كذلك؟ نعم, لأنّ الروايات وإن عبّرت بسوق المسلمين إلا أنّا لا نحتمل الخصوصية لنفس السوق بما هوبناء خاصّ ذومحلّات محدودة، بل لأنّ المكان إذا ضمّ المسلمين وتواجدوا فيه كشف ذلك عن كون اليد المأخوذ منها يداً مسلمة. فالمنصرف من الروايات أنّ كاشفيّة السوق ناشئة من كونه كاشفاً عن إسلام من بيده مشكوك التذكية، باعتبار أنّ الغالب في سوق المسلمين أوفي بلدهم المسلمون، فتكون هذه الغلبة أمارة على إسلام البائع، وتكون يده هي الأمارة على التذكية، وهذا ما ذهب إليه السيّد الخوئيّ قدس سره، حيث قال: "إنّ أماريّة -------------------------------------------------------------------------------- 73 -------------------------------------------------------------------------------- السوق ليست في عرض أماريّة يد المسلم، إنّما هي في طولها، بمعنى أنّ السوق جُعلت أمارة كاشفة عن يد المسلم، وهي الأمارة على التذكية حقيقة، والسوق أمارة على الأمارة"10. وعليه، فلوأحرزت يد المسلم كانت أمارة على التذكية، ولولم يكن موجوداً في ضمن سوق المسلمين، أوفي ضمن أرضهم، فاعتبار السوق ناشئ من كشفه عن يد المسلم، ولا اعتبار له بما هو سوق. شمول القاعدة لجميع المسلمين هل الحكم بأماريّة سوق المسلمين على التذكية يختصّ بما إذا كان مسلموالسوق من الإمامية؟ كلا، بل يعمّ ما إذا كانوا من الفرق الأخرى11، قال السيّد اليزدي: "مايؤخذ من الجلود من أيدي المسلمين، أومن أسواقهم محكوم بالتذكية، وإن كانواممّن يقول بطهارة جلد الميتة بالدبغ12، إشارة إلى بعض المذاهب الذين يرون طهارة جلد الميتة بالدبغ، وذلك لوجهين: - إطلاق النصوص وعدم تقييد كلمة "المسلمين" فيها بفرقة دون أخرى. - إنّ الطابع العامّ على سوق المسلمين، عصر صدور النص، احتواؤها على المذاهب الأخرى من غير الإماميّة، وتخصيصها بهم دون غيرهم يلزم منه تخصيص الأكثر الّذي هومستهجن عرفاً. حكم ما وُجد مطروحاً في أرض الإسلام لاشكّ في أماريّة السوق بالنسبة إلى الأشياء الّتي تكون في معرض تصرّف المسلمين، وأمّا إذا كان شيء خارجاً عن ذلك كالجلد الذي كان مطروحاً في الصحاري والأراضي - داخل البلاد الإسلاميّة - فهل يكون من موارد القاعدة، -------------------------------------------------------------------------------- 67 -------------------------------------------------------------------------------- أولا؟ قال السيّد اليزديّ رحمه الله في العروة: "ما يؤخذ من يد المسلم من اللّحم أوالشحم أوالجلد محكوم بالطهارة وإن لم يعلم تذكيته، وكذا ما يوجد في أرض المسلمين مطروحاً إذا كان عليه أثر الاستعمال، لكنّ الأحوط الاجتناب13، والتحقيق عدم قصور الدليل عن شمول المقام، كما يستظهر من صحيحة إسحاق بن عمّار المتقدّمة". -------------------------------------------------------------------------------- 68 -------------------------------------------------------------------------------- الأفكار الرئيسة - يقصد بقاعدة السوق الحكم بأماريّة السوق على التذكية، فمعنى القاعدة هوأماريّة سوق المسلمين للطهارة والذكاة، عند الشكّ فيهما، بالنسبة إلى البضائع الّتي توجد في أسواق المسلمين، من اللحوم والجلود وغيرها. - يمكن الاستدلال على القاعدة بعدّة روايات، تدلّ دلالة واضحة على حجيّة القاعدة، والمراد منها. - استقرّت سيرة المسلمين والمؤمنين على أنّهم يدخلون الأسواق ويشترون اللحوم والجلود من دون السؤال عن أنّها ميتة أومذكّاة، حتى إنّ صاحب الشريعة صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة المعصومين عليهم السلام أيضاً كانوا كذلك. - إنّ لازم عدم حجّيّة سوق المسلمين اختلال النظام. - ما يؤخذ من الجلود من أيدي المسلمين، أومن أسواقهم محكوم بالتذكية، وإن كانوا ممّن يقول بطهارة جلد الميتة بالدبغ. - ما يؤخذ من يد المسلم من اللحم أوالشحم أوالجلد محكوم بالطهارة، وإن لم يعلم تذكيته، وكذا ما يوجد في أرض المسلمين مطروحاً، إذا كان عليه أثر الاستعمال. مطالعة قاعدة كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده معنى القاعدة هوأنّ كل عقد يوجب الضمان في فرض الصحة يكون كذلك في فرض الفساد، والمراد من العقد هنا هوالذي يتعلّق بالمعاملة المالية، وعليه يخرج عقد النكاح تخصّصاً. وبناءً على تمامية هذه القاعدة واعتبارها فالضمان في الصحيح والفاسد بمعنى واحد، غاية الأمر في الصحيح حيث إن المتعاملين عيّنا ضمان كل واحد من العوضين في الآخر والتزما بذلك وأمضى الشارع هذه المعاوضة والالتزام من الطرفين فيجب على كل واحد منهما الوفاء بالتزامه. وأما في الفاسد حيث إن الشارع لم يمض تلك المبادلة وذلك الالتزام الذي التزم به الطرفان فلا يجب الوفاء فلا يبقى محل ومجال لضمان المسمىّ14. فمفاد هذه القاعدة إذاً هوأن المقبوض بالعقد الفاسد أوبالإيقاع الفاسد لا يذهب هدراً، بل هو مضمون على القابض بمعنى أنّ نفس المقبوض والمأخوذ بوجوده الاعتباري في عهدة القابض وفي ذمّته، ولا يفرغ إلّا بأدائه إلى صاحبه، وأداؤه ما دام كان المال المأخوذ موجوداً يكون بأداء نفس العين المأخوذة، ومع تلفه فبالمثل إن كان مثلياً وبالقيمة إن كان قيمياً. ويمكن الاستدلال على اعتبار القاعدة بما يلي: السيرة: فقد قامت السيرة القطعية العقلائية الممضاة للشارع على أنّ التسلّط على مال الغير تسلّطاً غير مجّاني موجب للضمان، وحيث إنّ الشارع المقدّس لم يمضِ الضمان بالمسمّى فيثبت الضمان (الواقعيّ) بالمثل أوالقيمة، إذاً فثبوت الضمان إنّما هوبالإقدام المنضمّ إلى الاستيلاء من جهة السيرة العقلائية15. كما يستدلّ بالإقدام المعاملي: والمراد به أنّ كلا المتعاقدين أقدما على أن يكون مال الآخر له بضمان، لا مجاناً وبلا عوض، ولذلك لوكانت المعاملة صحيحة كان كلّ واحد منهما ضامناً للمسمّى حسب إقدامه والتزامه، فالبائع مثلاً يكون ضامناً للمبيع المسمّى، بمعنى أنّه في عهدته ويجب عليه تفريغ ما في ذمّته، بإعطاء المبيع المسمّى في العقد للمشتري، وكذلك الأمر في طرف المشتري. أسئلة وتمارين - ضع علامة صحّ أوخطأ في المكان المناسب: 1- يجوز ابتياع ما سباه الظالمون من الرقيق، وتحلّ سائر التصرفات الخاصة بملك اليمين، إذا عُرض في سوق المسلمين. 2- يجوز الصلاة في جلد وجِد مطروحاً في أرض بلاد الغالب فيها من المسلمين. 3- معنى قاعدة السوق هوأماريّة سوق المسلمين للطهارة دون الذكاة، عند الشكّ فيهما، بالنسبة إلى اللحوم والجلود التي توجد في أسواق المسلمين. 4- يجوز الصلاة في الأحزمة التي نجدها في سوق الكفّار وقد كتب عليها أنّها مصنوعة في بلد إسلامي، إذا حصل الاطمئنان بصدق الكتابة. 5- يُحكم بتذكية ما يؤخذ من الجلود من أيدي المسلمين، أومن أسواقهم، وإن كانوا من غير الإمامية. 6- يُستفاد من الروايات أنّ كاشفيّة السوق ناشئة من كونه كاشفاً عن إسلام من بيده مشكوك التذكية, لأنّ الغالب في سوق المسلمين أوفي بلدهم من المسلمين. - عالج الأسئلة الآتية: 1- إذا لم يعلم أنّ الجلد ميتة، فصلّى فيه، ثمّ علم، فما حكم المسألتين الآتيتين: أ- إذا كان قد أخذه من يد مسلم أومن سوق المسلمين؟ ب- إذا كان قد أخذه من غير مسلم؟ 2- جاء في رواية إسحاق بن عمّار، عن العبد الصالح ، قال: "لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني، وفيما صُنع في أرض الإسلام. قلت له: فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال: إن كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس". - كيف جُعل الضابط في سوق المسلمين أغلبيّتهم فيه استناداً إلى هذه الرواية، مع أنّ المذكور فيها عنوان (أرض الإسلام).؟ فما الحكم من حيث الطهارة فيما إذا وجد جلد في سوق: أ- الكفّار، وعُلم صنعه في أرض الإسلام؟ ب- الكفّار، وعُلم صنعه في أرض الكفّار؟ ج- المسلمين، وعُلم صنعه في أرض الكفّار؟ د- المسلمين، وعُلم صنعه في أرض المسلمين؟ هـ - كيف يمكن أن نتصوّر سوقاً للمسلمين في بلاد الكفر؟ و- كيف يمكن أنّ نتصوّر سوقاً للكافرين في بلاد المسلمين؟ 3- عن أبي عبد الله عليه السلام إنّ أمير المؤمنين سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة، كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها، وفيها سكّين؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: "يُقوّم ما فيها ثمّ يؤكلُ, لأنّه يفسد وليس له بقاء، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن، قيل له: يا أمير المؤمنين لا يُدرى سفرة مسلم أوسفرة مجوسي؟ فقال: هم في سعة حتّى يعلموا"16. هل يُستفاد من هذه الرواية إمكان الخروج عن أصالة عدم التذكية بوجدان اللحم مطروحاً في أرض المسلمين؟ أوأنّ ذلك مستفاد من آثار استعمال المسلم له؟ أم كيف؟ 4- عن عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السلام قال: "سألته عن رجل اشترى ثوباً من السوق للّبس، لا يدري لمن كان، هل تصلح الصلاةُ فيه؟ قال: إن كان اشتراه من مسلم فليصلِّ فيه، وإن اشترى من نصرانيّ فلا يصلِّ فيه حتّى يغسله"17. أ- ما هي الثمرةُ المترتّبةُ على القولِ بأنّ السوقَ أمارةٌ على الأمارة ِ، أوأنّه أمارةٌ برأسه؟ ب- هل تؤيّدُ هذه الروايةُ القولَ الأوّلَ أوالثاني؟ وكيف؟ 5- إذا اشترينا طعاماً من سوق الكفّار، وهويشتمل على مادّة لا ندري هي من قسم اللحوم أولا، فهل يجوز تناوله؟ وما حكم الأسماك الّتي تباع في أسواق البلاد الكافرة؟ 6- شخص يبيع اللحم وهوليس في السوق ولا ندري هومسلم أولا، والطابع العامّ على البلاد هوالإسلام. ما هوحكم شراء اللحم منه؟ ولأيّ قاعدة؟ هوامش 1- النراقي، عوائد الأيّام، م.س، ص607. 2- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج3، باب 50 من أبواب النجاسات، ح2. 3- م.ن، ج16، باب29 من أبواب الذبائح، ح1. 4- م.ن، ج3، باب 50 من أبواب النجاسات، ح3. 5- م.ن، ح6. 6- م.ن، ح7. 7- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج 3، باب 50 من أبواب النجاسات، ح5. 8- الخوئي، شرح العروة الوثقى- الطهارة- موسوعة الإمام الخوئي قدس سره، م.س، ص454. 9- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج27، باب25 من أبواب كيفية الحكم، ح2. 10- الخوئي، شرح العروة الوثقى- الطهارة- موسوعة الإمام الخوئي قدس سره، م.س، ص453. 11- الإيرواني، دروس تمهيدية في القواعدالفقهية،م.س، ج2، ص87. 12- اليزدي، محمّد كاظم: العروة الوثقى، تحقيق ونشر مؤسّسة النشرالإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة، ط1، قم المقدّسة، 1417هـ.ق،ج1، ص295. 13- اليزدي، العروة الوثقى، م.س، ص130. 14- المسمّى هو المثمن والثمن المتّفق عليهما بين المتعاملين. 15- الخوئي، مصباح الفقاهة، م.س، ج3، ص96. 16- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج3، الباب 50 من أبواب النجاسات، ح11. 17- م.ن، ح1. يتبع |
الدرس السادس: قاعدة الطهارة
أهداف الدرس: - التعرّف على معنى قاعدة الطهارة وأدلّتها. - القدرة على الاستدلال على حجّيّة القاعدة. - التدرّب على تطبيق القاعدة في موارده. -------------------------------------------------------------------------------- 81 -------------------------------------------------------------------------------- مقدّمة قاعدة الطهارة من القواعد المشهورة والمسلّمة الّتي لم يقع فيها خلاف في الجملة، ولهذا أرسلها الفقهاء في كتبهم إرسال المسلّمات، وقد اتّفقت كلماتهم على مدلول القاعدة، فلا خلاف ولا إشكال فيه بينهم، والأمر متسالم عليه عندهم، بل إنّ مدلول القاعدة من الواضحات العلميّة والضرورات الفقهيّة، وهي من القواعد المهمّة الّتي تعين الفقيه في الحكم على الأشياء بالطهارة، حتّى يعلم بأنّها نجسة أومتنجّسة، فيتمسّك بها في أبواب الطهارات، وحاصلها الحكم بطهارة كلّ شيء ما لم تثبت نجاسته. بيان معنى القاعدة يقصد بقاعدة الطهارة، الحكم بالطهارة على كلّ شيء يشكّ في طهارته ونجاسته بنحوالحكم الظاهري المغيّى بالعلم بالنجاسة، وهذا الحكم على إجماله مجمع عليه بين الفقهاء، كما ذكر صاحب الحدائق بقوله: "إنّ أصل الحكم المذكور ممّا لاخلاف فيه ولا شبهة تعتريه"،1 فمتى ما تحقّق العلم -------------------------------------------------------------------------------- 83 -------------------------------------------------------------------------------- بالنجاسة ارتفع الحكم بالطهارة، ومتى لم يتحقّق لم يرتفع وكان باقياً. فالأصل في كلّ شيء شُكّ في طهارته هوالطهارة.وليس المقصود الحكم بالطهارة على الأشياء في مرحلة الواقع، بل في مرحلة الظاهر، أي ما دام يُشكّ في طهارة الشيء واقعاً، محكوم بها ظاهراً لا واقعاً2. بيان مدرك القاعدة بالإمكان أن يُستدلّ على القاعدة بوجوه: الأوّل: موثّقة عمّار، فعنه عن أبي عبد الله عليه السلام في حديثٍ قال: "كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك شيء"3. فقد دلّت على طهارة كلّ شيء شُكّ في طهارته دلالة كاملة تامّة، واستدلّ عليها غير واحد من الفقهاء، كما قال السيّد الخوئي قدس سره: "ومن جملة أدلّتها (الطهارة) قوله عليه السلام في موثّقة عمّار: "كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر..."4، وهكذا استدلّ مشهور العلماء على قاعدة الطهارة. الثاني: قاعدة الطهارة متصيّدة من مجموعة روايات، القاسم المشترك بينها عدم الاعتناء بالشكّ وإلغاء احتمال النجاسة، وهي طائفة من الأخبار، نورد منها ما يأتي: 1- عن حفص بن غياث عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ عليه السلام قال: "ما أبالي أبولٌ أصابني أوماء إذا لم أعلم"5. -------------------------------------------------------------------------------- 84 -------------------------------------------------------------------------------- 2- عن موسى بن القاسم، عن عليّ (جعفر) بن محمّد، سألته عن الفأرة والدجاجة والحمام وأشباهها تطأ العذرة، ثمّ تطأ الثوب، أيغسل؟ قال: "إن كان استبان من أثره شيء فاغسله، وإلّا فلا بأس"6. 3- عن عمّار بن موسى الساباطي، أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن رجل يجد في إنائه فأرة، وقد توضّأ من ذلك الإناء مراراً، أواغتسل منه، أوغسل ثيابه، وقد كانت الفأرة متسلّخة؟ فقال: "إن كان رآها في الإناء، فعليه أن يغسل ثيابه ويغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء، ويعيد الوضوء والصلاة، وإن كان إنّما رآها بعد ما فرغ من ذلك، وفعله، فلا يمسّ من ذلك الماء شيئاً، وليس عليه شيء, لأنّه لا يعلم متى سقطت فيه. ثمّ قال: لعلّه أنّ يكون إنّما سقطت فيه تلك الساعة التي رآها"7. وتقريب الاستدلال بكلّ هذه الروايات أنّها تدلّ على أنّ مجرّد إبداء الشكّ في النجاسة كاف للتأمين عنها، فالإمام عليه السلام حينما يصرّح بعدم مبالاته بالنجاسة إذا لم يعلم، أوينفي البأس مع عدم الاستبانة، أويبرز الشكّ في احتمال تقدّم وقوع الفأرة، أويعلّم طريقة لإيجاد الشكّ في النجاسة تخّلصاً من لزوم الغسل، يفهم العرف من كلّ ذلك أن الميزان في التأمين هومجرّد عدم العلم بالنجاسة، دون النظر إلى خصوصيّات الموارد، وهوالمعنى المراد من قاعدة الطهارة. الثالث: التمسّك بالاستصحاب، بأن يقال: نشكّ في جعل النجاسة للشيء المشكوك، ومقتضى الأصل عدم جعلها. -------------------------------------------------------------------------------- 85 -------------------------------------------------------------------------------- شمول القاعدة للشبهة الحكميّة وقع الكلام بين الفقهاء في شمول القاعدة للشبهات الحكميّة وعدمه. ولتوضيح ذلك نقول: إنّ الشكّ بالطهارة على أنحاء ثلاثة: 1- أن يكون الشكّ بها ناشئا ً من الشكّ في طروالنجاسة وعدمه، كما لو شكّ في إصابة النجاسة لثوبه أوبدنه. 2- أن يكون الشكّ ناشئاً من الجهل في اندراج هذا الموضوع الخارجيّ تحت أيّ القسمين، كما لوعلم أنّ هذا بول، ولكنّه يشكّ أنّه بول إنسان، أوبول مأكول اللحم (كالغنم)، أوعلم أنّ هذا دم، ولكنّه لا يدري هل هودم إنسان أم دم سمك أوأفعى، أولا يدري أنّ هذا السائل هل هو خمر نجسة ـ على تقدير النجاسة ـ أم ماء طاهر. 3- أن يكون الشكّ فيها ناشئاً من الشكّ في الحكم الشرعيّ، كما لوكان جاهلاً بأنّ الخمر نجسة أم لا؟ وهكذا. ويسمّى القسمان الأوّلان بالشبهة الموضوعيّة، والقسم الثالث بالشبهة الحكميّة. ولا خلاف بين الأعلام في شمول الطهارة للقسمين الأوَّلين. قال في الحدائق: "إنّ القدر المتيقّن فهمه من الخبر المذكور، هوما وقع الاتّفاق عليه، إذ الظاهر أنّ المراد من هذا الخبر وأمثاله إنّما هودفع الوساوس الشيطانيّة والشكوك النفسانيّة بالنسبة إلى الجهل بملاقاة النجاسة، وبيان سعة الحنفيّة السهلة بالنسبة إلى اشتباه بعض الأفراد غير المحصورة ببعضٍ، فيحكم بطهارة الجميع حتّى يعلم الفرد النجس بعينه"8. وإنّما محل الكلام في شمولها للقسم الثالث (الشبهة الحكميّة)، فهنا قولان: -------------------------------------------------------------------------------- 86 -------------------------------------------------------------------------------- الأوّل: نقل في الحدائق أنّ الأمين الأسترابادي اختار عدم جريان القاعدة في الشبهة الحكميّة، ومال الشيخ يوسف نفسه إلى ذلك أيضاً، وقرّب ذلك بأنّ المتيقّن من موثّقة عمّار أنّ احتمال إصابة النجاسة للشيء الطاهر لا يعتني له, دفعاً للوساوس الشيطانيّة والشكوك النفسانيّة، وأمّا تطبيقها في حالة الجهل بالحكم الشرعيّ فلا يخلومن الإشكال والجرأة9. وفيه: إنّ إطلاق الموثّقة حجّة، تنتفي معه الجرأة والإشكال. الثاني: ذهب جملة من الأعلام إلى شمولها لكلتا الشبهتين، الموضوعيّة والحكميّة. بل ذكر السيّد الخوئيّ أنّه لا خلاف في ذلك، فقال: "طهارة ما يُشكّ في طهارته ونجاسته من الوضوح بمكان، ولم يقع فيها خلاف، لا في الشبهات الموضوعيّة، ولا في الشبهات الحكميّة"10. وقال السيّد اليزديّ رحمه الله: "كلّ شيء مشكوك طاهر، سواء كانت الشبهة لاحتمال كونه من الأعيان النجسة (الشبهة الحكمية)، أولاحتمال تنجّسه مع كونه من الأعيان الطاهرة (الشبهة الموضوعية)"11. فالصحيح أنّه مع تماميّة سند موثّقة عمّار المتقدّمة فلا بأس بالقول بشمول القاعدة لموارد الشبهة الموضوعيّة والحكميّة معاً. نعم، لوقيل: إنّ مدرك القاعدة الروايات المتعدّدة التي يُتصيَّد من مجموعها عدم الاعتناء باحتمال الشكّ في الطهارة وحدها، فلا بُدّ من الالتزام باختصاصها بالشبهة الموضوعيّة, لأنّ الروايات المتعدّدة واردة في هذا المقام، كقوله عليه السلام: "أَبْولٌ أصابني"، و"الحمامة تطأ العذرة ثمّ تطأ الثوب" وغيرهما. -------------------------------------------------------------------------------- 87 -------------------------------------------------------------------------------- الأفكار الرئيسة - يُقصد بقاعدة الطهارة الحكم بالطهارة على كلّ شيء يشكّ في طهارته ونجاسته، سواء أكان الشكّ على نحوالشبهة الموضوعيّة، أوعلى نحوالشبهة الحكميّة. - يمكن الاستدلال على اعتبار القاعدة بالروايات، وهي تامّة الدلالة عليها، إضافة إلى التسالم بين الفقهاء على مدلولها. - الاستصحاب لا يسمح بجريان القاعدة يقتضي الحكم بالنجاسة. - المعروف لدى الفقهاء أنّ قاعدة الطهارة تثبت طهارة ظاهريّة عند الشكّ، وذهب آخرون إلى كون الطهارة الثابتة بها واقعيّة لا ظاهريّة. مطالعة هل الطهارة - في القاعدة - حكم واقعيّ أم ظاهريّ؟ في الإجابة عن هذا السؤال، وقع الكلام بين الفقهاء على قولين: الأول: المعروف لدى الفقهاء أنّ قاعدة الطهارة تثبت طهارة ظاهريّة عند الشكّ. فالقاعدة تؤسّس لحكم ظاهريّ، وأنّ الأشياء محكومة بالطهارة الظاهريّة حتّى يحصل العلم بالنجاسة. الثاني: ذهب المحدّث الشيخ يوسف البحرانيّ رحمه الله إلى كون الطهارة الثابتة بها واقعيّة لا ظاهريّة، بمعنى أنّ من لا يعلم بكون الشيء نجساً واقعاً، فهوطاهر في حقّه واقعاً، لا ظاهراً فقط. واستدلّ على قوله بالآتي: - ظاهر الخبر المذكور (موثّقة عمّار) أنّه لا تثبت النجاسة للأشياء ولا تتّصف بها إلّا بالنظر إلى علم المكلّف، لقوله عليه السلام: "فإذا علمت فقد قذُر"، بمعنى أنّه ليس التنجّس عبارة عمّا لاقته عين النجاسة واقعاً خاصّة، بل ما كان كذلك وعلم به المكلّف، فما دام لم يعلم به فهوطاهرٌ، لقوله عليه السلام: "فإذا علمت فقد قذُر"، كأنّه قبل العلم لا قذارة؛ لأنّ (قَذُرَ) فعل دالّ على التجدّد والحدوث, وكذلك ثبوت النجاسة لشيء إنّما هوعبارة عن حكم الشارع بأنّه نجس وعلم المكلّف بذلك. ويرد عليه أنّه لوصلّى المكلّف بثوب نجس واقعاً، اعتماداً على قاعدة الطهارة، فلا موجب لإعادة صلاته قضاءً، ولا أداءً، بعد أن صلّى بثوب طاهر واقعاً في ظرف الجهل، وليس ذلك من إجزاء الحكم الظاهريّ عن الحكم الواقعيّ، بل من إجزاء الحكم الواقعيّ عن الواقعيّ، فالطاهر الواقعيّ عنده رحمه الله شيئان: هو ما لم تلاقه النجاسة، وما لاقته ولم يعلم بها المكلّف، وأمّا من علم بملاقاة النجاسة للثوب ـ مثلاًـ فهونجس في حقّه، ولا تصحّ منه الصّلاة فيه. وأمّا الاستدلال له بظاهر قوله عليه السلام: "فإذا علمت فقد قذُر"، الدالّ على أنّ القذارة تثبت عند العلم بها، ففيه: أنّ الموثّقة قالت: "حتّى تعلم أنّه قذر"، وهذا يدلّ على أنّ الشيء قذر واقعاً، والعلم يتعلّق بما هوقذر واقعاً، وإذا كان الشيء قذراً واقعاً، فكيف يُحكَم عليه بكونه نظيفاً واقعاً؟! إنّه تناقض واضح. وبهذا يتّضح عدم صحّة التمسّك بجملة "فإذا علمت فقد قذر"، لإثبات الطهارة الواقعيّة؛ إذ المقصود: فإذا علمت بنجاسته واقعاً، فآنذاك يحكم بذلك، وقبل العلم لا يحكم بنجاسته واقعاً، بل يحكم بطهارته ظاهراً. - وأنّ ما ذكره مخالف لظاهر جميع ما ورد في أبواب الأعيان النجسة والطاهرة، فإنّ قوله عليه السلام في الكلب: "إنّه نجس"، وكذا الحكم بالنجاسة وما يفيد معناها بالنسبة إلى العناوين الأخرى، وكذا "حكمه بطهارة الماء" وغيره، فهذه كلّها ظاهرة في تعلّق الحكم بعناوينه الواقعيّة، مع قطع النظر عن العلم والجهل، فإنّ الكلب، أوالدم، أوالمنيّ، أوالماء، عناوين خارجيّة، علمناها أولم نعلم بها12. - لازم ما ذكره أيضاً أن تكون النجاسة أمراً نسبيّاً، فثوب واحد نجس واقعاً بالنسبة إلى من يعلم، وطاهر واقعاً بالنسبة إلى من لا يعلم، وهذا أمر عجيب لا يقبله ذوق الفقه وارتكاز أهل الشرع وأحاديث الباب. أسئلة وتمارين - ضع علامة صحّ أوخطأ في المكان المناسب: 1- إذا علم أنّ هذا السائل دم، ولكنّه لا يعلم هل هودم شاة أم سمك، يمكن تطبيق قاعدة الطهارة والحكم بطهارته. 2- إذا وجد على ثوبه دماً، ولكنّه لا يدري أنّه منه أومن البقّ أوالبرغوث، فلا يحكم بطهارته. 3- يقصد بقاعدة الطهارة الحكم بالطهارة على كلّ شيء يشكّ في طهارته ونجاسته، إذا كان الشكّ على نحوالشبهة الحكميّة. 4- قاعدة الطهارة تثبت طهارة ظاهريّة وواقعيّة عند الشكّ. 5- لوعلم أنّ هذا بول، ولكنّه يشكّ أنّه بول إنسان أوبول مأكول اللحم كالغنم فيحكم بالطهارة. 6- إذا علم بنجاسة الماء سابقاً، ثمّ شكّ في نجاسته وطهارته، فيجري استصحاب النجاسة ولا تجري قاعدة الطهارة. - عالج الأسئلة الآتية: 1- ما حكم لوعلم أنّ هذا دم حيوان ولكنّه لا يعلم أنّه ممّا له نفس سائلة أم لا؟ وعلى أيّ قاعدة نحكم هنا؟ 2- إذا دخل الشخص إلى المرافق العامّة لقضاء الحاجة، ووصل إلى ثوبه بعض الماء الواقع على الأرض، فما حكم ذلك الماء؟ 3- هل يحكم على أواني المشركين وسائر الكفّار بالنجاسة، أم يحكم عليها بالطهارة؟ ولماذا؟ 4- شخص يشكّ في نجاسة الجلد المأخوذ من يد الكافر، ثمّ صلّى فيه؟ فما هوحكم صلاته، ولماذا نحكم بالصحّة أوالبطلان؟ 5- ما حكم الخبز أوالأطعمة الأخرى التي تُباع في سوق البلاد الكافرة ؟ فهل يجوز الأكل من الخبز المقدَّم له أوالحليب أو الحساء(الشوربة) المقدّمة في تلك المطاعم؟ 6- ما يُصنع في بلاد الكفر من أقمشة وغيرها مع احتمال كون بعضها مصنوعاً من أجزاء الحيوان، هل يحكم بطهارته وجواز الصلاة فيه، أولا؟ هوامش 1 البحراني، يوسف: الحدائق الناضرة، لاط، قم المقدّسة، مؤسّسة النشرالإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة، لات، ج1، المقدّمة الحادية عشرة، ص134. 2 الإيرواني، دروس تمهيدية في القواعد الفقهية، م.س، ج2، ص44. 3 العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج3، الباب 37 من أبواب النجاسات، ح4. 4 الخوئي، شرح العروة الوثقى- الطهارة- موسوعة الإمام الخوئي قدس سره، م.س، ص148. 5 العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج3، الباب37 من أبواب النجاسات، ح5 . 6 م.ن، ح3. 7 العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج1، الباب 4 من أبواب الماء المطلق، ح1. 8 البحراني، الحدائق الناظرة، م.س، ج1، ص135. 9 م.ن. 10 الخوئي، شرح العروة الوثقى- الطهارة- موسوعةالإمام الخوئي قدس سره، م.س، ص148. 11 اليزدي، العروة الوثقى، م.س، ص20. 12 الشيرازي، القواعد الفقهية، م.س، ج2، ص425. يتبع |
الدرس السابع: قاعدة لا ضرر ولا ضرار
أهداف الدرس - التعرّف على المراد الاصطلاحيّ من قاعدة لا ضرر ولا ضرار. - التعرّف على أهمّ الأقوال في المقصود من قاعدة لا ضرر. - القدرة على الاستدلال على حجّيّة قاعدة لا ضرر. - التدرّب على تطبيق القاعدة في مواردها. -------------------------------------------------------------------------------- 93 -------------------------------------------------------------------------------- المقدّمة هذه القاعدة من أشهر القواعد الفقهيّة، الّتي يستدلّ بها في جُلّ أبواب الفقه من العبادات والمعاملات، بل هي المدرك الوحيد لكثير من المسائل، ولهذا أفردها العلماء بالبحث والتحقيق، وصنّف فيها غير واحد من العلماء رسائل مستقلّة، بيّنوا فيها حال القاعدة من حيث مدركها ومعناها، وفروعها ونتائجها، وهي من القواعد المهمّة في مقام الاستنباط، فإنّه بناءً على كون المقصود منها نفي الحكم الّذي ينشأ منه الضرر، فسوف يثبت لدى الفقيه نفي وجوب الوضوء إذا ترتّب عليه الضرر...، وهكذا الحال في موارد الضرر الكثيرة. ويعتمد في إثباتها على مجموعة من الروايات أبرزها، قضيّة سَمُرة بن جندب مع الرجل الأنصاري، ففي صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: "إنّ سمرة بن جندب كان له عذق1 في حائط لرجل من الأنصار. وكان منزل الأنصاريّ بباب البستان، وكان يمرُّ به إلى نخلته ولا يستأذن، فكلّمه الأنصاريّ أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة، فلما تأبّى جاء الأنصاريّ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فشكا إليه وخبّره الخبر، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخبّره بقول الأنصاري، وما شكاه، -------------------------------------------------------------------------------- 95 -------------------------------------------------------------------------------- وقال: إن أردت الدخول فاستأذن، فأبى، فلمّا أبى ساومه حتّى بلغ به الثمن ما شاء الله، فأبى أن يبيع، فقال: لك بها عذق يمدّ لك في الجنّة، فأبى أن يقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للأنصاريّ: إذهب فاقلعها، وارم بها إليه، ولا ضرر ولا ضرار"2. على أنّنا سنفصّل الاستدلال بهذه الرواية وغيرها في سياق الدرس، وقد ذكرناها، هنا، لبيان منشأ القاعدة فقط. بيان المراد من القاعدة تعدّدت الأقوال في المقصود من قاعدة لاضرر ولا ضرار، نكتفي بذكر ثلاثة أقوال مهمّة ومشهورة، وهي: الأوّل: ما ذهب إليه شيخ الشريعة الأصفهاني قدس سره: هو أنّ المقصود النهي وإفادة تحريم الضرر تكليفاً، فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ضرر: أي يحرم الضرر. فيحرم إيجاد ضرر بالغير، أومطلقاً حتّى على النفس، فيكون مساقها مساق قوله تعالى: ï´؟فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ...ï´¾3، حيث إنّ الآية الشريفة تدلّ على حرمة هذه الأمور في الحجّ من خلال النهي عن الرفث (الفحش والجماع)، والفسوق (الكذب)، والجدال (الحلف بقول: لا والله ونحوه). ونظائرها كثيرة في الأخبار، حيث يكون ظاهر الكلام النفي، ولكن أريد منه النهي، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا سبق إلّا في خف أوحافر أونصل"4، وغير ذلك من الموارد العديدة. ولقد أصرّ شيخ الشريعة الإصفهاني قدس سره على هذا القول5. الثاني: ما ذهب إليه الإمام الخمينيّ قدس سره: وخلاصته: إنّ القاعدة لم يذكرها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على أنّها قاعدة من القواعد -------------------------------------------------------------------------------- 96 -------------------------------------------------------------------------------- الإلهيّة الّتي أُمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغها كقانون من الله تعالى، وإنّما ذلك حكم صادر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بما هورئيس للحكومة الإسلاميّة، فالقاعدة حكم سلطانيّ وحكوميّ وليس إلهيّاً. وتوجيه ذلك أنّه يوجد احتمال آخر في معنى الحديث ، وهوأنّ مفاد هذه القاعدة حكم سلطانيّ بمنع إضرار الناس بعضهم ببعض، فإنّ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مقامات ثلاثة: 1- مقام النبوّة وتبليغ الرسالة، وهومن هذه الجهة مبلّغ عن الله - تعالى -، وحاكٍ لأحكامه الظاهريّة والواقعيّة، كالمجتهد بالنسبة إلى الأحكام الشرعيّة المستفادة من الكتاب والسنّة. 2- مقام القضاء: وذلك عند تنازع الناس في حقوقهم وأموالهم، فللنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم القضاء وفصل الخصومة بينهم. 3- مقام السلطنة والرياسة من قبل الله تعالى: فأمره ونهيه نافذان فيما يراه مصلحة للأمّة، كنصب أمراء الجيوش، والقضاة وأشباهها. والظاهر أنّ حكمه صلى الله عليه وآله وسلم في قضيّة سمرة بنفي الضرر والضرار ليس من الأوّل ولا الثاني, لأنّه لم يكن للأنصاريّ ولا لسمرة شكّ في حكم تكليفيّ أووضعيّ في قضيّتهما، أوتنازع في حقّ اختلفا فيه من جهة اشتباههما في المصاديق أوالحكم، وإنّما وقع ما وقع من الأنصاريّ في مقام الشكوى والتظلّم والاستنصار منه صلى الله عليه وآله وسلم بما أنّه سلطان على المسلمين، وسائسهم، مع وضوح الحكم والموضوع كليهما، فأمره صلى الله عليه وآله وسلم بقلع النخلة حسماً لمادّة الفساد، ثمّ عقّبه بقوله: "لا ضرر ولا ضرار"، فهذا حكم سلطانيّ عامّ بعد حكمه الخاصّ، ومعناه أنّه لا يضرّ أحد أحداً في حِمى سلطاني ...، وعلى جميع الأمّة إطاعته في ذلك، والانتهاء بنهيه، لا بما أنّه حكم من أحكام الله، بل بما أنّه حكم من قبل سلطان مفترض الطاعة، ويشهد لهذا المعنى تصدير هذه الفقرة في رواية عبادة بن صامت، -------------------------------------------------------------------------------- 97 -------------------------------------------------------------------------------- المرويّة من طرق السنّة بقوله: "وقضى". وبالنتيجة يكون الأمر بالقطع لقطع مادّة الفساد المتوقّع في المقام، وأنّه لا يظلم أحد أحداً في حكومة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ودولته6. الثالث: ما ذهب إليه الشيخ الأنصاريّ7: ويقصد به نفي تشريع الحكم الّذي يستلزم الضرر ويسبّبه، أي لا حكم ينشأ منه الضرر. وهذا ما اختاره جمع من الأعلام أيضاً، فيكون مفادها نفي الحكم الضرري، بمعنى أنّ كلّ حكم صدر من الشارع، فإن استلزم ضرراً أوحصل من قِبَل جعله ضررٌ على العباد - سواء أكان الضرر على نفس المكلّف، أم على غيره - (كوجوب الوضوء الّذي حصل من قِبَل وجوبه ضرر ماليّ أوبدنيّ على المكلّف، وكلزوم المعاملة في المعاملة الغبنيّة، حيث نشأ من قبله ضرر على المغبون) يكون مرفوعاً. ولا يخفى أنّه، بناءً على هذا القول، استعملت كلمة "لا" في معناها الحقيقيّ، لأنّ معناها الحقيقيّ نفي جنس مدخوله حقيقة لا ادعاءً، ولا شكّ في أنّ رفع الحكم الضرريّ من الشارع رفع حقيقيّ, لأنّه لا وجود للحكم الضرريّ - لوكان - إلّا في عالم التشريع، والمفروض أنّه رفعه بهذه الجملة بناءً على هذا القول. وهذا الرأي هو القول المشهور8، وذلك من جهة أنّه لا شكّ في أنّه صلى الله عليه وآله وسلم في مقام التشريع، وفي مقام أنّ الحكم المشروع في المقام حكم امتنانيّ على الأمّة، ويمكن توجيهه بأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حينما يتكلّم لا بدّ وأن يتكلّم بما هوشارع، والشارع حينما يخبر عن عدم الضرر، لا بدّ وأن يكون مقصوده نفي تحقّق الضرر من ناحية أحكامه وتشريعاته، وعليه يثبت كون المقصود نفي تحقّق الضرر في حقّ -------------------------------------------------------------------------------- 98 -------------------------------------------------------------------------------- المكلّف من ناحية التشريع والأحكام، فكلّ حكم يكون ثبوته مستلزماً للضرر يكون منتفياً. وينبغي أن يكون واضحاً أنّنا لا نقصد من خلال هذا البيان دعوى أنّ كلمة "ضرر" قد استعملت بمعنى الحكم ليقال: إنّه لم يعهد استعمال كلمة "ضرر" بمعنى الحكم، بل نقصد دعوى أنّ الّذي توجّه إليه النفي هونفس الضرر بمعناه الحقيقيّ، غايته ندّعي أنّ النفي بلحاظ عالم التشريع وليس بلحاظ عالم الوجود الخارجيّ. ولا معنى لنفي تحقّق الضرر من زاوية عالم التشريع، إلّا ما تقدّمت الإشارة إليه، وهونفي كلّ حكم يستلزم تشريعه الضرر على المكلّف. بيان مدرك القاعدة أهمّ الروايات الّتي استدلّ بها على القاعدة: الرواية الأولى: ما رواه الكلينيّ (رضوان الله عليه) في الكافي، عن ابن مسكان، عن زرارة، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: "إنّ سَمُرة بن جُنْدَب9 كان له عِذق، وكان طريقه إليه في جوف منزل رجل من الأنصار، فكان يجيء -------------------------------------------------------------------------------- 99 -------------------------------------------------------------------------------- ويدخل إلى عذقه بغير إذن من الأنصاريّ فقال الأنصاريّ: يا سمرة لا تزال تَفْجَؤُنا على حال لا نحبّ أن تفجأنا عليه، فإذا دخلت فاستأذن. فقال: لا أستأذن في طريق، وهوطريقي إلى عذقي، قال: فشكاه الأنصاريّ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتاه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ فلاناً قد شكاك، وزعم أنّك تمرَّ عليه وعلى أهله بغير إذنه، فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أستأذن في طريقي إلى عذقي؟. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خلّ عنه ولك مكانه عذق في مكان كذا وكذا، فقال: لا، قال: فلك اثنان، قال: لا أريد، فلم يزل يزيده حتّى بلغ عشرة أعذاق، فقال: لا، قال صلى الله عليه وآله وسلم: فلك عشرة في مكان كذا وكذا. فأبى، فقال: خلّ عنه ولك مكانه عذق في الجنة، قال: لا أريد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّك رجل مضارّ، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن، قال: ثمّ أمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلعت ورمى بها إليه، وقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انطلق فاغرسها حيث شئت"10. وروي الحديث بصيغ قريبة من هذه في الكافي، وعن الصدوق. الرواية الثانية: مسألة الشفعة الّتي روى فيها المشايخ الثلاثة عن عقبة بن خالد، عن أبي عبد الله عليه السلام: "قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن، وقال: لا ضرر ولا ضرار، وقال: إذا أرّفت الأرف وحدّت الحدود فلا شفعة"11. والمراد من جملة: "أرّفت الأرف": رسمت الحدود. كما وأنّ المراد من جملة: "لا ضرر ولا ضرار" بيان حكمة تشريع الشفعة. والمراد بذكر جملة: "إذا أرّفت" الردّ على قول من يقول بأنّ الشفعة ثابتة بعد تقسيم الأرض، وتقييم حصّة كلّ شريك. -------------------------------------------------------------------------------- 100 -------------------------------------------------------------------------------- شرح مفردات الحديث: من المناسب قبل بيان وجه الاستدلال بالروايات، التوقّف مع بعض المصطلحات المرتبطة بالاستدلال على القاعدة ، فاشتملت الرواية الأولى وبقيّة الروايات على كلمتي "ضرر" و"ضرار"، فما هوالمقصود منهما؟. كلمة لا: وأمّا كلمة (لا) فلا شكّ في أنها لنفي الجنس إذا كان ما بعدها نكرة، نحو: لا رجلَ في الدار، فتكون ظاهرة في نفي الحقيقة حقيقة، إلّا أن يثبت أنّ النفي ادعائيّ. الضرر: أمّا الضرر فهوفي اللغة اسم مصدر يدلّ على مجرّد الحدث بلا لحاظ حيثيّة صدوره عن الفاعل، أوبالأحرى من دون دلالته على النسبة إلى الفاعل، فعندما يقال: ضرر فلان عظيم يقصد أنّ نفس النقص فاحش وعظيم، ولا يراد أنّ النقص الّذي فعله فلان عظيم وفاحش. ويقصد بالضرر (هنا) النقص في المال أوالبدن أوالعرض أوالحقّ12، ويجب أن يكون موجباً لوقوع الشخص في الضيق والشدّة, لأنّ الضرر (النقص) أمر نسبيّ قد يتفاوت بين شخص وآخر، فالتاجر الّذي يملك الملايين، إذا ضاع منه بعض الدنانير لا يصدق أنّه تضرّر، بخلاف ذلك في الفقير. الضرار: وأمّا الضرار فهومصدر يدلّ على نسبة صدور الضرر عن فاعل ما، إمّا بنحوالاستمرار أوالتكرار، أوبنحوالقصد والعمد. فالضرار (مصدر) يدلّ على الحدث مع ملاحظة حيثية صدروه عن فاعل ما. الفرق بين الضرر والضرار: يشترك الضرر والضرار في الدلالة على الضرر والنقص، إلّا أنّ أحدهما اسم مصدر والآخر مصدر. فمثلاً العلم إذا لوحظ -------------------------------------------------------------------------------- 101 -------------------------------------------------------------------------------- منسوباً إلى الفاعل وقيل: علمُ زيد بالقضيّة الفلانيّة ثابت فهو مصدر، وأمّا إذا قيل: العلم خير من الجهل، فهواسم مصدر، والمصدر واسم المصدر غالباً ما يتّفقان من حيث اللفظ في اللغة العربية، مثل: علم زيد, العلم، وقد يختلفان في اللفظ, مثل: التلف والإتلاف، النفع والمنفعة، الضرر والضرار. والخلاصة: إنّ الضرر هونفس النقص بلا لحاظ حيثية صدروه عن الفاعل، فحينما يقال: ضرر فلان عظيم يقصد أنّ نفس النقص فاحش وعظيم، ولا يراد أنّ النقص الّذي ألحقه فلان عظيم، فحيثيّة كون النقص من فعل هذا أوذاك ليست ملحوظة، وهذا كلُّه بخلافه في كلمة "الضرار"، فإنّ حيثيّة الصدور عن الفاعل ملحوظة، فيقال ضرار فلان عظيم، أيّ أنّ الضرر الّذي قام به فلان وصدر عنه عظيم. والنتيجة المستخلصة من كلّ هذا: أنّ كلمة "ضرر" تدلّ على نفس النقص، وكلمة "ضرار" تدلّ على الضرر الصادر عن الفاعل عن تعمّد وقصد، أوللتشبّث ببعض الذرائع الواهية، كما هوالحال في سمرة. وجه الاستدلال بالروايات على القاعدة تتبّع موارد القاعدة في الروايات: وردت روايات كثيرة في كتب الفريقين تروي جملة "لا ضرر ولا ضرار" عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي بمنزلة كبرى كليّة يطبّقها صلى الله عليه وآله وسلم في موارد عديدة، منها: ما رواه في الكافي في قضية سمرة بن جندب المشهورة أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال للأنصاريّ: "اذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنّه لا ضرر ولا ضرار"، وفي بعض طرق هذا الحديث هكذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّك رجل مضارّ، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن"، ومنها: ما رواه الفقيه مرسلاً في باب ميراث أهل الملل: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"، بزيادة كلمة "في الإسلام" ومنها: في أنّه قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أهل المدينة في مشارب -------------------------------------------------------------------------------- 102 -------------------------------------------------------------------------------- النخل أنّه لا يمنع نقع الشيء، وقضى صلى الله عليه وآله وسلم بين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء، وقال: "لا ضرر ولا ضرار"، ومنها: تطبيق هذه الكبرى في باب الشفعة، كما رواه الكلينيّ بإسناده عن أبي عبد الله، قال عليه السلام: "قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن، وقال: لا ضرر ولا ضرار". دراسة السند الإنصاف أنّ الفقيه - كما يقول البجنورديّ في القواعد الفقهيّة - بعد ملاحظة هذه الروايات الكثيرة من طرقنا، بضميمة ما رواه غيرنا في كتبهم عنه صلى الله عليه وآله وسلم ، ربّما يقطع بصدور هذه الجملة - أي جملة "لا ضرر ولا ضرار" - عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا حاجة إلى التكلّم في سنده، مع عمل الأصحاب به وإرساله إرسال المسلّمات. مضافاً إلى صحّة سند بعض هذه الروايات13. إذاً لا ينبغي الإشكال في صحّة السند، وقد ادّعى صاحب الكفاية قدس سره تواترها، مع اختلافها لفظاً ومورداً، فليكن المراد به تواترها إجمالاً، بمعنى القطع بصدور بعضها، والإنصاف أنّه ليس في دعوى التواتر كذلك جزاف14 . وقال الشيخ الأنصاريّ قدس سره: قاعدة لا ضرر ولا ضرار15. وقال السيّد الخوئي قدس سره: "أمّا السند فلا ينبغي التأمّل في صحّته, لكونها من الروايات المستفيضة المشتهرة بين الفريقين، حتّى ادّعى فخر المحقّقين في باب الرهن من الإيضاح تواترها"16. والسند في بعض الطرق صحيح أوموثّق، فلولم يكن متواتراً مقطوع الصدور، فلا أقلّ من الاطمئنان بصدورها عن المعصوم"17. -------------------------------------------------------------------------------- 103 -------------------------------------------------------------------------------- كثرة التخصيص في القاعدة: قد يقال: إنّ التخصيص في مدلول القاعدة يكون أكثر ممّا بقي تحته، ويكون "تخصيص الأكثر" مستهجناً أوّلاً، وموجباً للوهن في إطلاق الحديث ثانياً. والتحقيق: إنّ معظم الموارد يكون خارجاً عن مدلول القاعدة تخصّصاً، ولا يكون خارجاً بالتخصيص إلّا موارد قليلة. "قال السيد الخوئيّ: وأمّا الأحكام المجعولة في الديَات والحدود والقِصاص والحجّ والجهاد، فهي خارجة عن قاعدة لا ضرر بالتخصّص لا بالتخصيص, لأنّها من أوّل الأمر جعلت ضرريّة لمصالح فيها"18 . وأمّا التخصيص في بعض الموارد كشراء ماء الوضوء، ولو بأضعاف قيمته، فقليل جدّاً، فتبيّن أنّه ليس هناك تخصيص الأكثر. -------------------------------------------------------------------------------- 104 -------------------------------------------------------------------------------- الأفكار الرئيسة - قاعدة لا ضرر من أشهر القواعد الفقهيّة، الّتي يستدلّ بها في جُلّ أبواب الفقه من العبادات والمعاملات، بل هي المدرك الوحيد لكثير من المسائل الفقهيّة. - تعدّدت الأقوال في المقصود من قاعدة لا ضرر، إلّا أنّ القول المشهور ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري وهو نفي تشريع الحكم الّذي يستلزم الضرر ويسبّبه، أي لا حكم ينشأ منه الضرر. - ذهب شيخ الشريعة الإصفهاني قدس سره إلى أنّ المقصود من القاعدة النهي وإفادة تحريم الضرر تكليفاً، فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ضرر: أي يحرم الضرر. - ذكر الإمام الخمينيّ قدس سره فهماً خاصّاً للروايات، وهوأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلملم يذكرها على أنّها قاعدة من القواعد الإلهيّة، الّتي أُمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغها كقانون وتشريع من الله تعالى، وإنّما ذلك حكم صادر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بما هورئيس للحكومة الإسلاميّة، فالقاعدة حكم سلطانيّ وحكوميّ وليس إلهيّاً. - الضرر في اللغة اسم مصدر يدلّ على مجرّد الحدث، بلا لحاظ حيثيّة صدوره عن الفاعل، أوبالأحرى من دون دلالته على النسبة إلى الفاعل. - يقصد بالضرر النقص في المال أوالبدن أوالعرض أوالحقّ. - الضرار هومصدر يدلّ على نسبة صدور الضرر عن فاعل ما، إمّا بنحوالاستمرار أوالتكرار، أوبنحوالقصد والعمد. - من أهمّ ما استدلّ به على القاعدة ما رواه الكلينيّ في الكافي وغيره عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، في قضيّة سمرة والأنصاريّ. وقال كثيرون بتواتره والاطمئنان إلى صدوره. - معظم الموارد الّتي خرجت عن مدلول القاعدة خرجت بالتخصّص، ولا يكون خارجاً بالتخصيص إلّا موارد قليلة، فلا يقع القبح في استثناء الكثير. مطالعة وجه تقدّم قاعدة لا ضرر على الأدلّة الأوليّة لا إشكال في أنّ نسبة حديث نفي الضرر إلى أدلّة الأحكام الأوّليّة نسبة العموم من وجه. فدليل وجوب الوضوء مثلاً يدلّ على وجوب الوضوء في حالتيّ الضرر وعدمه، وحديث نفي الضرر يدلّ على نفي كلّ حكم ضرريّ سواء أكان من قبيل وجوب الوضوء أم غيره. فذاك يشمل حالة الضرر وغيرها، وهذا يشمل وجوب الوضوء وغيره. ومادّة الاجتماع الّتي يتعارضان فيها هي الوضوء الضرريّ، فإنّ أحدهما يثبت الوجوب فيها والآخر ينفيه. والمناسب في موارد المعارضة بنحوالعموم من وجه هوتساقط الدليلين في مادّة المعارضة، لا تقديم أحدهما، ومعه فلماذا يقدّم حديث نفي الضرر على الأدلّة الأوّليّة؟ قال السيّد الخوئيّ: "والتحقيق في وجه التقديم أنّ دليل لا ضرر حاكم19على الأدلّة المثبتة للتكاليف، والدليلُ الحاكم يقدّم على الدليل المحكوم بلا ملاحظة النسبة بينهما، وبلا ملاحظة الترجيحات الدلاليّة والسنديّة"20. أسئلة وتمارين - ضع علامة صحّ أوخطأ في المكان المناسب: 1- قاعدة لا ضرر تعني نفي تشريع الحكم الّذي يستلزم الضرر ويسبّبه، أي لا حكم ينشأ منه الضرر. 2- الضرر في اللغة مصدر يدلّ على مجرّد الحدث من دون دلالته على النسبة إلى الفاعل. 3- كلمة "ضرر" تدلّ على نفس النقص، وكلمة "ضرار" تدلّ على الضرر الصادر عن الفاعل عن تعمّد وقصد. 4- اعتبر الإمام الخمينيّ أنّ المقصود من قاعدة لا ضرر النهي وإفادة تحريم الضرر تكليفاً. - يمكن تطبيق قاعدة لا ضرر في الأبواب الفقهيّة المختلفة. 6- الضرار هواسم مصدر يدلّ على نسبة صدور الضرر عن فاعل ما، إمّا بنحوالاستمرار أوالتكرار، أوبنحوالقصد والعمد. - عالج الأسئلة الآتية: 1- ما هوالمقصود بقاعدة "لا ضرر" بناءً على رأي الشيخ الأعظم قدس سره، وكيف نستدلّ على قوله قدس سره من الروايات؟ 2- كيف استدلّ شيخ الشريعة الأصفهانيّ في الرواية على قاعدة لا ضرر؟ 3- لو اعتقد عدم الضرر من الوضوء أوالغسل بالماء البارد، فتوضَّأ أواغتسل فتضرَّر، فما هوحكم وضوئه وغسله؟. 4- كيف نطبّق القاعدة بناءً على فهم الإمام الخمينيّ قدس سره لحديث "لاضرر" في قضية الأنصاريّ وسمرة. 5- بناءً على كون المقصود من القاعدة نفي الحكم الّذي ينشأ منه الضرر، فهل يمكن للفقيه نفي وجوب الصوم إذا احتمل ترتّب الضرر منه؟ 6- الأصل أنّه يحرم على المرأة كشف جسدها أوعورتها أمام الطبيب لأجل العلاج، أوالولادة، حدّد بدقّة الموارد الّتي تطبّق فيها القاعدة هنا، وينتفي الحكم المذكور. هوامش 1- العذق على ما في المنجد: كلّ غصن له شعب، والحائط هوالبستان. 2- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج25، باب12 من أبواب إحياء الموات، ح3، ص428-429. 3- البقرة: 197. 4- الكليني، الكافي، م.س، ج5، باب فضل ارتباط الخيل، ح14، ص50. 5- السيستاني، قاعدة لا ضرر ولا ضرار، م.س، ص24-27. 6- بتصرّف: الخميني، روح الله: بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر، تحقيق ونشر مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره،ط2، قم المقدّسة، مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي، 1414هـ.ق. 7- الأنصاري، فرائد الأصول، م.س، ص315. 8- الأنصاري، مرتضى: المكاسب، ص372؛ الخوانساري، موسى بن محمّد: منيةالطالب، ج2، ص201. 9- سمرة: بفتح الأول وضمّ الثاني وفتح الثالث، و(جندب) بضمّ الأوّل وسكون الثاني وفتح الثالث على وزن (لعبة)، صحابي من بني شمخ بن فزارة. والذي يظهر من تتبّع كتب الرجال والسير، ولاسيّما ما نقله العلّامة المامقاني وابن أبي الحديد، في ترجمة الرجل أنّه كان من أشدّ الناس قسوة وعداوة لأهل البيت عليهم السلام وشيعتهم، وكان لا يبالى بقتل الأبرياء وجعل الأكاذيب وتحريف الكلم عن مواضعه، وإليك نبذ ممّا التقطناها من مخازيه: إنّ معاوية بذل لسمرة بن جندب مئة إلف درهم على أن يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن هذه الآية نزلت في علي عليه السلام: ï´؟وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِï´¾ - إلى قوله تعالى - ï´؟وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَï´¾ وأنّ هذه نزلت في ابن ملجم ï´؟وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِï´¾، فلم يقبل، فزاده حتّى بلغ أربعمئة ألف فقبل! (نقله ابن أبى الحديد في شرحه على نهج البلاغة). - كما استخلف زياد سمرة بن جندب على البصرة، فأتى الكوفة وقد قتل ثمانية آلاف من الناس (وفى رواية من الشيعة!) فقال له زياد: هل تخاف أن تكون قتلت أحدا بريئا؟ قال: لوقتلت مثلهم ما خشيت! (رواه أبوجعفر الطبري في أحداث سنة خمسين من تاريخه). - وقال سمرة: والله لوأطعت الله كما أطعت معاوية لما عذبني أبداً (نقله الطبري وابن الأثير). ولولم يكن دليل على فسق الرجل ومعاداته للحقّ وأوليائه إلّا هذه الرواية المنقولة في المتن عن الجوامع المعتبرة الحاكية عن اعتدائه على الأنصاري، لكان كافياً. 10- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج25، باب 12من أبواب إحياء الموات،ح3. 11- م.ن، باب5 من أبواب الشفعة، ح1. 12- كان له حقّ عقلائي وشرعي في قضية معيّنة؛ فالمنع من ممارسته لحقّه المذكور ضرر أيضاً. فمثلاً من حقّ الشخص أن يعيش في داره حرّاً، والحيلولة دون ممارسة حقّه - كما حال سمرة دون إعمال الأنصاري لحقّه المذكور - ضرر أيضاً... 13- البجنوردي، القواعدالفقهية، م.س، ج1، ص214. 14- الخراساني، كفايةالأصول، م.س، ج2، ص266. 15- الأنصاري، المكاسب، م.س، ص 372. 16- الحلّي، محمّد بن الحسن: إيضاح الفوائد، ج2، ص48. 17- الخوئي، مصباح الأصول، م.س، ج2، ص518. 18- م.ن. 19- وتعني الحكومة نظر أحد الدليلين إلى الآخر، بحيث يكون الأوّل لغواً، لولم يفرض الثاني في مرحلة أسبق، كما هوالحال في مقامنا، فإنّ حديث لا ضرر ينفي الضرر من زاوية التشريع، فلا بدّ من فرض تشريع وأحكام في مرحلة سابقة لينفيها الحديث في حالة الضرر. أمّا ما هي النكتة في تقدّم الحاكم؟ فإنّ النكتة هي النظر، ونفس كون الدليل الحاكم ناظراً إلى الدليل المحكوم هو بنفسه نكتة تكفي في نظر العرف للتقدّم، لأنّ معنى كون الدليل ناظراً هو أنّ المتكلّم قد أعدّه لتوضيح المقصود من الدليل المحكوم، وواضح أنّ ما أُعدّ لتوضيح المقصود من غيره يكون هو المقدّم في نظر العرف (الإيرواني، دروس تمهيدية في القواعد الفقهية، م.س، ج1، ص154) . 20- الخوئي، مصباح الأصول، م.س، ج2، ص539. يتبع |
الدرس الثامن: قاعدة أصالة الصحّة
أهداف الدرس - التعرّف على معنى قاعدة أصالة الصحّة وأدلّتها. - القدرة على الاستدلال على حجّيّة القاعدة. - التدرّب على تطبيق القاعدة في مواردها. -------------------------------------------------------------------------------- 109 -------------------------------------------------------------------------------- المقدّمة هذه القاعدة من القواعد الفقهيّة المشهورة جدّاً، والمتداولة بين الفقهاء، ويتمسّك بها في جلّ أبواب الفقه أوكلّها، وهي تنظّم علاقة جميع أفراد المجتمع مع بعضهم البعض، بلا فرق بين علاقات المسلمين بعضهم ببعض أوبغيرهم، وذلك من خلال إيجاد عناصر الثّقة والتعامل الإيجابيّ مع ما يصدر من الأفعال من قبل الآخرين، أوالأفعال ضمن الأحكام التكليفيّة في العبادات أوالمعاملات، أوحتى على مستوى السلوك الأخلاقيّ. وقد قامت سيرة العقلاء كافّة على ذلك، من جميع الملل، وفي جميع العصور، من أرباب جميع الأديان من المسلمين وغيرهم، بل يمكن أن يقال: لولم يكن هذا الأصل معتبراً لا يمكن أن يقوم للمسلمين سوق، فإنّ هذه القاعدة جارية في أغلب أبواب الفقه من العبادات والمعاملات. بل إنّه لولم يبن على هذا الأصل لَلَزِمَ اختلال نظام المعاد والمعاش، بل الاختلال الحاصل من ترك العمل بهذا الأصل، أزيد من الاختلال الحاصل من ترك العمل بسوق المسلمين1. -------------------------------------------------------------------------------- 111 -------------------------------------------------------------------------------- في بيان المراد من القاعدة إنّ الصحّة تطلق في لسان العلماء ويراد بها معنيان: الأوّل: الصحّة في مقابل القبيح, فمعنى أصالة الصحّة (هنا) أنّه لودار الأمر الصادر عن الغير بين كونه حسناً أو قبيحاً فينبغي الحمل على الأوّل، وهومعنى أخلاقيّ، دلّت على الحثّ عليه جملة من النصوص، رُوي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "ضع أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً"2. وأصالة الصحّة بهذا المعنى الأخلاقيّ مختصّة بعمل المؤمن، فلا تجري في حقّ غيره من سائر فرق المسلمين، فضلاً عن الكافرين، إذ الحمل على الصحّة بهذا المعنى من حقوق الأخوّة، كما هو لسان الأدلّة، وصحّة الأعمال الّتي هي مدار قاعدة أصالة الصحّة، وهي - بهذا المعنى - ليست محلًّا للكلام, لعدم ترتّب أثر عمليّ عليها، فإنّه لودار الأمر بين كون الكلام الصادر عن المؤمن شتماً لي، أوسلاماً عليّ، فالحمل على السلام لا يستوجب ترتيب الأثر من وجوب ردّ السلام. الثاني: إطلاق الصحيح في مقابل الفاسد: فمعنى أصالة الصحّة هوترتيب الأثر على العمل الصادر عن الغير، وهذا هومحّل الكلام في قاعدة أصالة الصحّة، فلوصدر عن الغير عقد أوإيقاع أوصلاة أووضوء، وشّك في كون هذا الصادر عن الغير صحيحاً يترتّب عليه الأثر، أوباطلاً لا يترتّب عليه الأثر، فيحمل على كونه صحيحاً ذا أثر، وهذا المعنى هوالمراد من القاعدة المذكورة. "فالمقصود من القاعدة ترتيب آثار الفعل الصحيح الواقعيّ على فعله، بمعنى فرض عمله صحيحاً واقعاً وفي نفس الأمر، لا بحسب اعتقاده فقط، -------------------------------------------------------------------------------- 112 -------------------------------------------------------------------------------- كما في الوجه السابق، فيرتّب عليه ما هومن آثاره الواقعيّة، فيفرض فعله تامّ الأجزاء والشروط واقعاً، ويرتّب عليه ما يترتّب عليه، ويكون عمله منشئأً للآثار الشرعيّة، وهذا هوالمعنى المقصود من هذه القاعدة، لا المعنى السابق"3. بيان مدرك القاعدة: يستدلّ على القاعدة بوجوه: الأوّل - السيرة: وهوعمدة الأدلّة في المقام، قال السيّد البجنورديّ: "إنّ عمدة الدليل على قاعدة الصحّة هي سيرة العقلاء كافّة من جميع الملل، في جميع العصور، من أرباب جميع الأديان، من المسلمين وغيرهم، والشارع لم يردع عن هذه الطريقة، بل أمضاها، كما هومفاد الأخبار في أبواب متعدِّدة".4 وقال السيّد الخوئي قدس سره في بيان مدرك القاعدة: "السيرة القطعية من جميع المسلمين المتديّنين على ترتيب آثار الصحّة على أعمال الناس، من العبادات والمعاملات والعقود والإيقاعات, ولذا لا يقدم أحد على تزويج امرأة لاحتمال كون العقدالواقع بينها وبين زوجها باطلاً، وهذه السيرة متّصلة بزمان المعصوم عليه السلام ولم يردع عنها، وهذا الدليل هوالدليل التامّ الوافي في إثبات المقام"5. وبالنتيجة فقد استقرّت السيرة عند المتشرّعة قاطبة على مدلول القاعدة، ونطاق السيرة واسع، فلا يختصّ بالشكّ في المعاملات، بل تعمّ المعاملات والعبادات،فالمدرك الوحيد الّذي لا يقبل النقاش هوالسيرة القطعيّة. ولعلّ نكتة السيرة المذكورة ظهور حال العاقل في أنّه لا يرتكب إلّا الفعل الصحيح، وإلّا كان لاغياً وعابثاً في أفعاله، أولأنّه يلزم العسر والحرج واختلال -------------------------------------------------------------------------------- 113 -------------------------------------------------------------------------------- النظام، لولم تُحمل أفعال الآخرين على الصحّة. الثاني - الدليل النقلي: من الكتاب الكريم: قوله تعالى: ï´؟...أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ...ï´¾،6 وقوله: ï´؟...إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ...ï´¾،7 بناءً على أنّ الخطاب ليس مختصّاً بالمتعاقدين، بل جميع المكلّفين مخاطبون به، ومأمورون بالوفاء بالعقد الصادر عن المتعاقدين، وما ذلك إلّا لترتيب آثار الصحّة عليه. وفيه: إنّ الخطاب مختصّ بالمتعاقدَيْن دون غيرهما، وعلى تقدير كونه عامًّا فالدليل المذكور مختصّ بالمعاملات دون الإيقاعات، ولوقلنا بعمومه لها أيضاً، فلا يشمل المعاملات بالمعنى الأعمّ كالطهارة والنجاسة، والمراد إثبات أصالة الصحّة في جميع هذه الموارد، فالدليل على تقدير تماميّته أخصّ من المدّعى. وبالإضافة إلى ما ذكر يقال: إنّ الناقد البصير إذا أمعن النظر في الأحكام الواردة في الشرع، الثابتة عند أهله بإجماع أوغيره، يرى أنّ الشارع المقدّس لا يخرج في حكمه عمّا يطابق هذا الأصل في موارد، بحيث يورثه الاطمئنان بثبوت هذه الكلّيّة في الشرع، فلاحظ ما ورد من الأحكام المختلفة في أبواب الطهارات والنجاسات، مّما يرتبط بفعل الغير، وأبواب الذبائح والجلود، وأبواب الشهادات، والدعاوى والتنازع في صحّة بعض العقود والإيقاعات وفسادها وغيرها، تجده شاهد صدق على ما ذكرنا، وكلّما كرّرت النظر زادك وضوحاً وظهوراً. ويُستفاد من بعض كلمات الشيخ الأعظم ما يؤيّد هذا: "فالمستفاد من تتبّع فتاوى الفقهاء في موارد كثيرة، أنّهم لا يختلفون في أنّ قول مدّعي الصحّة في الجملة مطابق للأصل".8 -------------------------------------------------------------------------------- 114 -------------------------------------------------------------------------------- العلم بالصحّة والفساد إنّ فعل الغير (المكلّف) الّذي أمرنا - وفق قاعدة أصالة الصحّة- بالبناء على صحّة عمله، وترتيب الأثر عليه، يُتصوّر على أنحاء ثلاثة: الأوّل: يفترض أنّنا نجزم بإطلاعه ومعرفته بالعقد الصحيح -مثلاً- وتمييزه من العقد الفاسد، وفي هذه الحالة لا إشكال في حمل فعله على الصحيح, لأنّه القدر المتيقّن من السيرة المتقدّمة. الثاني: يفترض جزمنا بعدم تمييزه لذلك، وفي مثله لا تجري أصالة الصحّة, لعدم إطلاق السيرة المتقدّمة لذلك، إمّا جزماً، وإمّا احتمالاً، فمع علمنا أنّ العامل جاهل بصحّة عمله وفساده، إمّا من جهة الجهل بالحكم، أومن جهة الجهل بالموضوع، فيكون احتمال الصحّة لمجرّد احتمال المصادفة الاتفاقيّة للواقع. قال السيّد الخوئيّ قدس سره: "فالظاهر عدم جريان أصالة الصحّة فيها، إذ ليس لنا دليل لفظيّ نتمسّك بعمومه أوإطلاقه، بل الدليل على أصالة الصحّة إنّما هوالسيرة على ما عرفت، وهي دليل لبّي لا بدّ فيه من الاقتصار على القدر المتيقّن"9. الثالث: يفرض أن لا نعلم علمه (العامل) أو جهله بالصحّة والفساد، أي نشكّ في تمييزه بين الصحيح والفاسد. فقد يقال: بشمول السيرة لهذه الحالة, لأنّ غالب الناس الذين يجرون العقود لا يعرفون شروط صحّة العقود والموانع من ذلك بشكل تفصيليّ, لأنّهم إمّا لم يتفقّهوا في أحكام دينهم، أوأنّهم تفقّهوا ولكنّهم لم يطّلعوا على أنّ هذا شرط للصحّة، وذاك مانع منها، بل إنّ كثيراً من أهل العلم، في زماننا هذا لا يعرفون ذلك، فكيف بغيرهم؟ فيلزم لو لم تطبّق أصالة الصحّة (هنا) اختلال النظام. ولهذا فالظاهر جريان أصالة الصحّة -------------------------------------------------------------------------------- 115 -------------------------------------------------------------------------------- فيها، فإنّ السيرة قائمة على ترتيب الآثار على أعمال الناس بلا تفحّص عن حال العامل، من حيث كونه عالماً أو جاهلاً10. امتياز القاعدة من قاعدة الفراغ يمكن التمييز بينهما من وجهين:11. الأوّل: إنّ قاعدة الفراغ جارية بالنسبة إلى العمل الصادر عن نفس الشاكّ على ما هوالمستفاد من أدلّتها، كما في موثَّقة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: "كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو"12. وصحيحته الأخرى: "كلّ ما شككت فيه بعدما تفرغ من صلاتك فامضِ ولا تُعِدْ"13. وقاعدة الصحّة جارية بالنسبة إلى العمل الصادر عن الغير. الثاني: إنّ قاعدة الفراغ مختصّة بما إذا كان الشكّ بعد الفراغ من العمل، كما يبدو من أدلّتها، وأمّا أصالة الصحّة فلا اختصاص لها بالشكّ بعد الفراغ، بل هي جارية في صحّة العمل في أثنائه، كما إذا كان أحد مشغولاً بالصلاة على الميّت، وشككنا في صحّة هذه الصلاة لاحتمال كون الميّت مقلوباً مثلاً، فتجري أصالة الصحّة بلا إشكال. هل يلزم إحراز وقوع الفعل الجامع؟ تارة يفرض أنّنا نجزم بإجراء شخص عقداً على امرأة، ولكن نشكُّ هل هوصحيح أو فاسد؟ وأخرى يفرض الشكّ في أصل وقوع العقد منه، كما إذا رأيناه يتلفّظ بألفاظ معيّنة مع امرأة، وشككنا هل هي ألفاظ العقد أو ألفاظ أخرى أجنبيّة عن العقد، والحالة الأولى هي القدر المتيقّن من السيرة، وأمّا -------------------------------------------------------------------------------- 116 -------------------------------------------------------------------------------- الثانية فإن لم يجزم بعدم انعقاد السيرة فيها فلا أقلّ من الشكّ. وعلى هذا الأساس لو فرض أنّ وصيّ الميّت استأجر شخصاً لأداء الصلاة عن الميّت، فأتى الأجير بعمل لا يدري الوليّ أنّه قد قصد به النيابة أولا، فلا يمكن إجراء أصالة الصحّة للحكم بفراغ ذمّة الميت, لأنّ فراغ الذمّة موقوف على قصد النيابة، فإذا أحرز قصده أمكن آنذاك إجراء أصالة الصحّة فيما لوشكّ في اختلال أحد الشروط فيه. أجل، لوأخبر الأجير بأنّي قد قصدت النيابة، وأتيت بالصلاة بقصد النيابة، صُدّق في ذلك، لكن لا لأجل أصالة الصحّة، بل لقاعدة أخرى تسمّى "من ملك شيئاً ملك الإقرار به"، فالزوج مثلاً يملك تطليق زوجته، فإذا أخبر بأنّه قد طلّقها صدّق, للقاعدة المذكورة، وهكذا الحال في المقام. -------------------------------------------------------------------------------- 117 -------------------------------------------------------------------------------- الأفكار الرئيسة - هذه القاعدة من القواعد الفقهيّة المشهورة جداً المتداولة بين الفقهاء، يتمسّك بها في جلّ أبواب الفقه أوكلّها، وهي تنظّيم علاقة جميع أفراد المجتمع بعضِهم ببعض. - قامت سيرة العقلاء كافّة على الحكم بصحّة عمل الآخر عند الشكّ فيه، من جميع الملل، في جميع العصور، من أرباب جميع الأديان من المسلمين وغيرهم، والشارع لم يردع عن هذه الطريقة بل أمضاها. - معنى أصالة الصحّة هوترتيب الأثر على العمل الصادر عن الغير، فلوصدر عن الغير عقد أو إيقاع أوصلاة أو وضوء، وشّك في كون هذا الصادر صحيحاً يحكم بصحّته، ويترتّب عليه الأثر. - عمدة الأدلّة على قاعدة الصحّة هي سيرة العقلاء كافّة، من جميع الملل في جميع العصور، من أرباب جميع الأديان، من المسلمين وغيرهم، والشارع لم يردع عن هذه الطريقة. - قيل بدلالّة أدلّة من الكتاب الكريم، كقوله تعالى: ï´؟...أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ...ï´¾، وقوله تعالى: ï´؟...إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ...ï´¾، بناءً على أنّ الخطاب ليس مختصّاً بالمتعاقدين، بل جميع المكلفين مخاطبون به، ومأمورون بالوفاء به. - القدر المتيقّن في جريان القاعدة أن لا نعلم علم العامل بالصحّة والفساد، وجهله بهما، أي نشكّ في تمييزه بين الصحيح والفاسد. فإنّ السيرة قائمة على ترتيب الآثار على أعمال الناس بلا تفحّص عن حال العامل، من حيث كونه عالماً أو جاهلاً. مطالعة قاعدة الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي معنى القاعدة هو أنّ الشيء الذي تعلّق به المنع الشرعي (كشرب الخمر) يستحيل أن يتعلّق به الأمر (الأمر بالشرب)، ويكون حاله حال الممتنع العقلي، الذي لا يمكن أن يقع متعلّق الأمر كالأمر بالطيران بدون الوسيلة. ويمكن الاستدلال على اعتبار القاعدة: - بتحقّق التسالم بين الفقهاء على مدلول القاعدة، ولا خلاف ولا إشكال فيه بينهم، بل الأمر عندهم من المسلّمات في مختلف المجالات. - التكليف بما لا يطاق: من المعلوم أنّ الفعل المنهيّ عنه إذا وقع متعلّقاً للأمر لا يتمكّن المكلّف من الامتثال، فيكون التكليف بما لا يطاق, لاستحالة الجمع بين الضدين. - اشتراط القدرة: لا ريب أنّ القدرة من الشروط الأصلية للتكليف الشرعي، فلا يصحّ التكليف للعاجز (فاقد القدرة). والمقصود من القدرة هنا هي القدرة الشرعية، بمعنى عدم المانع الشرعي تجاه العمل، وعليه لوكان هناك مانع شرعي لم توجد القدرة على التكليف، وها هومعنى قولهم أنّ الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي, وذلك لعدم التمكّن بإتيان العمل المشروع - في صورة وجود المانع الشرعي - شرعاً وعقلاً. أسئلة وتمارين - ضع علامة صحّ أو خطأ في المكان المناسب: 1- إذا أجرى شخص غير مسلم عقداً من العقود، يُحمل عقده على الصحّة. 2- شخص رأيناه من بعيد يتكلَّم لا ندري هل هو يمدحنا، أو هو مشغول بسبّنا، فنحكم بأنّه يمدحنا، بناءً على قاعدة أصالة الصحّة. 3- القدر المتيقّن في جريان قاعدة الصحّة أن لا نعلم علم العامل بالصحّة والفساد، أي نشكّ في تمييزه بين الصحيح والفاسد. 4- استقرّت السيرة عند المتشرّعة قاطبة على مدلول القاعدة ، وهي تختصّ بالشك في المعاملات دون العبادات, لأنّها دليل لبّي. 5- معنى أصالة الصحّة أنّه لودار الأمر الصادر عن الغير بين كونه حسناً أوقبيحاً، فينبغي الحمل على الحسن. 6- قاعدة الفراغ جارية بالنسبة إلى العمل الصادر عن نفس الشاكّ فقط، وقاعدة الصحّة جارية بالنسبة إلى العمل الصادر عن الغير وعن النفس. - عالج الأسئلة الآتية: 1- لوأجرى شخص عقد زواج مع امرأة كانت مطلّقة، وشككنا في وقوع العقد في عدّتها من زوجها الأوّل وعدمه، فكيف تجري الاستصحاب؟ وكيف تجري أصالة الصحّة؟ وأيّهما ترجّح؟ ولماذا؟ 2- إذا وقعت الإجارة من شخص على دارٍ، وشككنا هل اشترط في العقد أنَّ المنزل لفعل للحرام، أم أنّ الإجارة للمنزل للأفعال المباحة؟ فهل تطبّق أصالة الصحّة بالمعنى الأوّل أم بالمعنى الثاني، أم بالإمكان جريانهما معاً في المقام؟ ولماذا؟ 3- لو تسالم صاحب المال مع المستودع على تلف الوديعة، ولكن ادّعى الأوّل التعدّي أوالتفريط، وأنكره الثاني، فقول من تقدّم؟ ولماذا؟ وهل يمكن أن يكون للاستصحاب دور؟ 4- أجرى شخص عقداً، وبعد الفراغ منه بمدّة شكَّ في صحَّة عقده، فبماذا يحكم؟ ولأيّ نكتة؟ 5- العين الموقوفة إذا باعها الناظر عليها، وشكّ في أنَّ بيعه هل هومع وجود المسوِّغ أولا فبماذا يحكم؟ ولماذا؟ 6- الشخص الذي نراه يأكل في شهر رمضان، فبماذا نحكم عليه؟ ولأيّ قاعدة؟ هوامش 1- الأنصاري، فرائد الأصول،م.س، ج2، ص720. 2- الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب من لم يناصح أخاه المؤمن، ح3. 3- الشيرازي، القواعدالفقهية، م.س، ج1، ص115. 4- البجنوردي، القواعدالفقهية، م.س، ج1، ص239. 5- الخوئي، مصباح الأصول، م.س، ج3،ص324. 6- المائدة: 1. 7- النساء: 29. 8- الأنصاري، فرائد الأصول، م.س، ص719. 9- الخوئي، مصباح الأصول، م.س، ص325. 10- الخوئي، مصباح الأصول، م.س، ج3، ص326. 11- م.ن، ص321 - 322 . 12- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج8، الباب23 من أبواب الخلل، ح3. 13- م.ن، باب27 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ح2. يتبع |
الدرس التاسع: قاعدة اليد أمارة الملك
أهداف الدرس - التعرّف على معنى قاعدة اليد أمارة الملك وأدلّتها. - القدرة على الاستدلال على حجّيّة القاعدة. - التدرّب على تطبيق القاعدة في مواردها. -------------------------------------------------------------------------------- 123 -------------------------------------------------------------------------------- المقدّمة هذه القاعدة من القواعد الّتي يعتمدها الفقيه في المعاملات، والقضاء للحكم من خلالها بالملكيّة، فمن كان له الاستيلاء على شيء يجوز شراؤه منه على أنّه المالك، ويجوز للحاكم القضاء بكونه مالكاً، وقد أجمع المسلمون، بل كافّة العقلاء من أرباب المذاهب وغيرهم على حجيّة اليد، ودلالتهاعلى الملك في الجملة، وهذا الحكم على إجماله من ضروريّات الدين. بيان المراد من القاعدة معنى القاعدة هوإثبات الملكيّة بوساطة وضع اليد، والمقصود من اليد هوالاستيلاء والتسلّط على المال، والتعبير باليد من باب تسمية العامّ باسم الخاصّ، فكلّ من له استيلاء على شيء معيّن، بحيث كان ذلك الشيء واقعاً في حوزته ومن توابعه، وله الاستيلاء عليه، يكون ذلك أمارة على ملكيّته له. فمن كان له سيّارة أو دار أوكتاب وأشباه ذلك، ويتصرّف فيه تصرّف الملاّك فهو بنفسه أمارة على ملكيّته لذلك الشيء، إلّا أن تقوم بيّنة ونحوها على الخلاف فتسقط أماريّة اليد عن الاعتبار آنذاك. وبهذا نعرف المقصود من اليد، فإنّه يُراد بها الكناية عن الاستيلاء والسيطرة -------------------------------------------------------------------------------- 125 -------------------------------------------------------------------------------- الخارجيّة، بحيث يكون زمام ما تحت يده بيده، يتصرّف فيه كيف يشاء من التصرّفات العقلائيّة المتعارفة، وهوأمر عرفيّ يختلف من موضع لآخر، فلا بدّ من الرجوع إلى العرف ليحدّد الاستيلاء في كلّ موطن. مثلاً: تكون اليد متحقّقة على الدار والدكّان بأن يكون ساكناً في الدار، ومشغولاً بالكسب في الدكان، أو أن يكون بابهما مغلقاً والمفتاح في يده، وتتحقّق اليد في الأراضي بالزرع والغرس فيها، وتحقّق اليد على الدوابّ بربطها في اصطبله، أو ركوبها، أو كون زمامها بيده، وهكذا. بيان مدرك القاعدة تحقّق التسالم عند الفقهاء على مدلول القاعدة، فلا خلاف فيه بينهم، والأمر متسالم عليه عندهم، ومع هذا يمكن الاستدلال عليها بعدّة أدلّة: أوّلاً:الروايات: - رواية حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام: "قال له رجل: إذا رأيت شيئاً في يديّ رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال: نعم. فقال الرجل: أشهد أنّه في يده ولا أشهد أنّه له، فلعلّه لغيره؟ فقال أبوعبد الله عليه السلام: أفيحلّ الشراء منه؟ قال: نعم، فقال عليه السلام: فلعلّه لغيره، فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك، ثمّ تقول بعد الملك هو لي، وتحلف عليه، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟ ثمّ قال عليه السلام: لولم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق"1. دلّت الرواية على أنّ اليد أمارة الملكيّة، وتجوز الشهادة على أساس تلك الأمارة وبها قام نظام السوق للمسلمين فالدلالة كاملة. -------------------------------------------------------------------------------- 126 -------------------------------------------------------------------------------- - صحيحة عثمان بن عيسى، وحمّاد بن عثمان، عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث فدك: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لأبي بكر: "أتحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال: لا. فقال: فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادّعيت أنا فيه، من تسأل البيّنة؟ قال: إيّاك كنت أسأل البيّنة على ما تدّعيه على المسلمين. قال: فإذا كان في يدي شيء فادّعى فيه المسلمون تسألني البيّنة على ما في يدي، وقد ملكته في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعده..."2. تدلّ الرواية بوضوح على أنّ من بيده شيء لا يطالَب بالبيّنة، وإنّما يطالب بها غيره، وهذا لا وجه له إلّا حجّيّة اليد. وتفصيل الاستدلال أنّ فدك كانت ملكاً للسيّدة الزهراء عليه السلام في حياة أبيها صلى الله عليه وآله وسلم وتحت يدها، فلماذا تُطلب البيّنة منها ومن عليّ عليه السلام؟. - صحيحة العيص بن القاسم عن أبي عبد الله عليه السلام: "سألته عن مملوك ادّعى أنّه حرّ، ولم يأتِ ببيّنة على ذلك أشتريه؟ قال: نعم"3. فإنّه لا وجه لجواز شرائه ورفض دعواه الحرّيّة إلّا حجّيّة يد المملوك على نفسه وكونه حرّاً. - عن العبّاس بن هلال عن أبي الحسن الرضا عليه السلام: "ذكر أنّه لو أُفضي إليه الحكم لأقرّ الناس على ما في أيديهم، ولم ينظر في شيءٍ إلّا بما حدث في سلطانه. وذكر أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم ينظر في حدث أحدثوه وهم مشركون، وأنّ من أسلم أقرّ على ما في يده"4، ولا شكّ في وضوح دلالة هذه الرواية على اعتبار اليد أمارة على الملك. -------------------------------------------------------------------------------- 127 -------------------------------------------------------------------------------- ثانياً: بناء العقلاء: بناء العقلاء من جميع الملل والأمم، سواء أكانوا متديّنين أم لا، على اعتبار اليد أمارة لملكيّة المال لمن في يده، ولا يتردّدون في ترتيب آثارها على ما في أيدي الناس، ولا يفتّشون عن أنّ هذا الذي بيده الشيء هل هو له أم لغيره، أوأنّه مسروق، أو حلال ونحوه، والشارع لم يردع عن هذه السيرة والبناء عليها بل أمضاها، كما هومفاد الروايات، فإنّها لم تأتِ لإحداث أمرٍ جديد، بل جاءت تعبيراً عن هذا الإمضاء. يضاف إلى ما ذكر أنّه لو لم تكن اليد أمارة على الملك لما قام للمسلمين سوق، ولاختلّ النظام، وكلّ ما يلزم منه الباطل فهوباطل، ونقيضه الحقّ، فيلزم أن تكون اليد أمارة الملك. بل إنّ اليد لولم تكن دليلاً على الملك لزم العسر الأكيد، والحرج الشديد على الناس، واختلّ النظام في أمور الدنيا والدين، وبلغ الأمر إلى ما لا يكاد يتحمّله أحد، ولم يستقرّ حجرٌ على حجر، ولا يحتاج لزوم هذه الأمور إلى مضيّ برهة طويلة من الدهر أو زمن كثير، بل يلزم ذلك من إلغاء حجّيّة اليد ولوساعة واحدة. اعتبار الجهل بالحالة السابقة في أماريّة اليد إذا كان شخص يسكن داراً مثلاً، وكان صاحب يد عليها، فتارة نجهل الحال السابق لليد، وأخرى نعرف ذلك. أمّا مع الجهل بالحال السابق - كما لو رأينا شخصاً يسكن داراً ولا نعرف الحال السابق ليده - وكنّا نحتمل أنّه توارثها أباً عن جدّ، أو اشتراها من مالكها الشرعيّ، وغير ذلك من الاحتمالات الّتي أحدها احتمال أن لا يكون وصولها إليه شرعيّاً، بل نتيجة غصب ونحوه، فذلك هوالقدر المتيقّن من سيرة العقلاء على التمسّك باليد. -------------------------------------------------------------------------------- 128 -------------------------------------------------------------------------------- وأمّا مع العلم بالحال السابق - كما لوكان شخص يسكن داراً في زمان سابق بنحوالإجارة، واحتملنا شراءه لها بعد ذلك. أوكانت الدار أمانة بيده سابقاً أوغصباً واحتملنا شراءه لها بعد ذلك - فهل تكون أمارة على الملك أيضاً؟ فإنّ اليد ما دامت غاصبة مثلاً سابقاً، فيجري استصحاب بقائها على كونها غاصبة، ومع ثبوت حال اليد الآن بسبب الاستصحاب، وكونها غاصبة لا معنى للتمسّك بقاعدة اليد، فإنّ التمسّك بها فرع الشكّ والجهل بحالها، والمفروض معرفة حالها وكونها غاصبة، وهكذا الحال لوكانت يد أمانة سابقاً أويد إجارة، فإنّه يجري استصحاب الحال السابق وهي الأمانة أو الإجارة، وبه يتّضح حال اليد الآن5. في جريان القاعدة في حقّ ذي اليد وقع الكلام في جريان القاعدة في حقّ ذي اليد، فيما إذا شكّ أنّ ما بيده من كتاب- مثلاً- هل هو له أم لغيره؟ ولم يكن هناك مدّعٍ في قباله، فهل تعتبر يده أمارة على ملكه أم لا؟ يمكن الجواب عن ذلك بالإيجاب, لعموم السيرة العقلائيّة لمثل ذلك، فإنّ العقلاء إنّما يحكمون بأماريّة اليد في سائر الموارد من باب غلبة كون ما تحت اليد ملكاً لصاحبها، ومن النادر أن يكون غاصباً، ومثل هذه الغلبة ثابتة في الفرض، فإنّ الغالب كون ما في صندوق الإنسان مثلاً أمراً راجعاً إليه وخاصّاً به، إلّا إذا كان الصندوق معدّاً لوضع أشخاص متعدّدين فيه أشياءهم فلا يحكم باختصاص الشيء بصاحب الصندوق. ويمكن الاستدلال عليه - مضافاً إلى انعقاد السيرة عليه - بصحيحة جميل ابن صالح عن الصادق عليه السلام: "رجل وجد في بيته ديناراً؟ قال: دخل منزله -------------------------------------------------------------------------------- 129 -------------------------------------------------------------------------------- غيره؟ قلت: نعم، كثيرٌ، قال عليه السلام: هذه لقطة، قلت: رجل وجد في صندوقه ديناراً؟ قال عليه السلام فيدخل أحدٌ في صندوقه غيره، أويضع فيه شيئاً؟ قلت: لا، قال: هوله"، فكأنّ الإمام عليه السلام جعل اليد أمارة الملك وكاشفةً عنه، إلّا إذا زالت الكاشفيّة، ولذا حكم عليه السلام بأنّ الدينار في الصورة الأولى لقطة, وذلك لدخول غير ذي اليد ومشاركته له بحيث كان أحدهم، ولا اختصاص له به، فزالت كاشفيّة يده عن الملك، وحكم عليه السلام في مسألة الصندوق بأنّه له, لعدم مشاركة يد غيره مع يده، وهذه الصحيحة هي المعتمد في هذا الحكم في المقام، وليس فيها جانب تأسيسي، بمقدار ما هي تعبير عن إمضاء السيرة العقلائيّة القائمة على ذلك، قال المحقّق الأصفهاني: "إنّ ملاك الطريقيّة - أي كاشفيّة اليد عن الملكيّة - عن العقلاء لا اختصاص له باستيلاء الغير، بل هوجار في استيلاء الشخص أيضاً".6 وبناءً على ذلك لوعُرف شخص بكونه سارقاً فيشكل الحكم بالملكيّة لما في يده بناءً على أمارة اليد. وكذا الحال لوعرف شخص أنّ أغلب ما في يده ليس له، وأنّه أمانات شخصيّة أوحقوق شرعيّة، كما هوالحال في الأموال الموجودة في أيادي مراجع الدين, لكون الغالب ممّا في أيديهم من الأخماس والزكوات والمظالم.7 -------------------------------------------------------------------------------- 130 -------------------------------------------------------------------------------- الأفكار الرئيسة - المراد من القاعدة هوإثبات الملكيّة بوساطة وضع اليد، وقد تحقّق التسالم عند الفقهاء على مدلول القاعدة، فلا خلاف فيه بينهم . - والمقصود من اليد هوالاستيلاء والتسلّط على المال، والتعبير باليد من باب تسمية العامّ باسم الخاصّ. - تثبت القاعدة أنّ كلّ من له استيلاء على شيء معيّن، بحيث كان ذلك الشيء واقعاً في حوزته ومن توابعه، وله الاستيلاء عليه، فإنّ ذلك أمارة على ملكيّته له. - إضافة إلى الروايات وإلى سيرة العقلاء الّتي يستدلّ بها على حجّيّة القاعدة، فإنّه لولم تكن اليد أمارة على الملك لما قام للمسلمين سوق، ولاختلّ النظام. - القدر المتيقّن من سيرة العقلاء على التمسّك باليد مع الجهل بالحال السابق، كما لوكنّا نحتمل أنّه توارثها أباً عن جدّ، أواشتراها من مالكها الشرعيّ، وغير ذلك من الاحتمالات الّتي أحدها احتمال أن لا يكون وصولها إليه شرعيّاً، بل نتيجة غصب ونحوه. - تجري القاعدة في حقّ ذي اليد لعموم السيرة العقلائيّة لمثل ذلك. فإنّ العقلاء إنّما يحكمون بأماريّة اليد في سائر الموارد، من باب غلبة كون ما تحت اليد ملكاً لصاحبها، ومن النادر أن يكون غاصباً. مطالعة قاعدة الائتمان معنى القاعدة هوعدم كون الأمين ضامناً عند تلف الأمانة، فإذا تلفت الأمانة في يد الأمين بدون تفريط ليس لصاحب المال أن يطلب من الأمين قيمة التالف أومثله, لأنّ الأمين لا يكون ضامناً بالنسبة إلى مال الأمانة. ومن المعلوم أنّ المراد من الأمين هومن قبض المال بنحوالأمانة لا على نحو التعدّي. والمراد من الضمان هو الضمان الواقعي أي القيمة في القيميات، والمثل في المثليات. ويمكن الاستدلال على اعتبار القاعدة: بالعلويّ المعروف عن الإمام علي عليه السلام: "ليس على المؤتمن ضمان"،8 دلّ على مدلول القاعدة دلالة تامّة كاملة. وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام في الوديعة، قال: "صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان"، دلّت على أنّ يد المستودع أمانيّة، فلا ضمان عليه إلّا مع التفريط. أسئلة وتمارين - ضع علامة صح أو خطأ في المكان المناسب: 1- القدر المتيقّن من سيرة العقلاء على اعتبار اليد أمارة الملك عند الجهل بالحالة السابقة لليد. 2- إذا كنّا نحتمل أنّ وصول الشيء إلى اليد نتيجة غصب ونحوه، لكن لا يوجد علم بالحالة السابقة، نحكم بإجراء القاعدة والملكيّة. 3- القدر المتيقّن في جريان القاعدة في حال العلم بأنّ حيازة اليد كانت من طريق الحيازة، أو الإرث أو الهبة ونحوها. 4- لا تجري القاعدة في حقّ ذي اليد على نفسه، لعدم شموله بدليل السيرة. 5- إنّ اليد لولم تكن دليلاً على الملك لَلَزِمَ الحرج الشديد على الناس، واختلّ النظام في أمور الدنيا والدين. 6- من كان بيده شيء ولا نعلم كيف حصل عليه، لا يطالَب بالبيّنة، وإنّما يطالَب به, غيره لقاعدة اليد أمارة الملك. - عالج الأسئلة الآتية: 1- لوكان في يد شخص شيء، فمات، ولم يعلم أنّه له أم لا، ولم يسمع منه دعوى الملكيّة، فهل يحكم أنّه لوارثه أم لا؟ ولماذا؟ 2- إن اعترف الشخص: "بأنّي لا أعلم أنّ ما في يدي لي أم لا"، فهل يحقّ للوارث أخذه؟ ولماذا؟ 3- إذا كان ما في اليد مسبوقاً بالوقفيّة، واحتمل حصول المسوّغ للملك، فهل تكون اليد والحال هذه أمارة الملك؟ ولماذا؟ 4- اعترف شخص كانت له يد على سيَّارة بأنَّها ملكٌ لزيد، وأنَّه وهبها له أو اشتراها منه، وأنكر زيد ذلك وادَّعى أنَّها له، فما هوالحكم في المقام؟ 5- شخصٌ له يد على سيَّارة أجرة (تاكسي) ويعمل بها، وادَّعى آخر بأنَّها له وأنَّ هذا الشخص يشتغل له في مقابل أجرة، فما هوالحكم في المسألة؟ 6- لو ذكر شخّص أنّ أغلب ما في يده ليس له، وأنّه أمانات شخصيّة أو حقوق شرعيّة، كما هوالحال في الأموال الموجودة في أيادي مراجع الدين، لكون الغالب مّما في أيديهم من الأخماس والزكوات والمظالم، فهل يمكن إجراء القاعدة في حقّه؟ هوامش 1- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج27، باب25 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، ح2. 2- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج27، باب25 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى،ح3. 3- العاملي، وسائل الشيعة،م.س، ج18،باب جواز شراء الرقيق...، ح1. 4- م.ن، ج27، باب وجوب الحكم بملكية صاحب اليد...، ح1. 5- النائيني، فوائد الأصول، م.س، ج4، ص605. 6- الأصفهاني، محمّد حسين: نهاية الدراية،ج3،ص332. 7- العراقي، ضياء الدين: نهاية الأفكار،ج3، ص 333. 8- النوري، مستدرك الوسائل، م.س، ج13، كتاب الوديعة، باب4، ص237. يتبع |
الدرس العاشر: قاعدة على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه
أهداف الدرس - التعرّف على معنى قاعدة على اليد ما أخذت وأدلّتها. - القدرة على الاستدلال على حجّيّة القاعدة. - التدرّب على تطبيق القاعدة في مواردها. -------------------------------------------------------------------------------- 135 -------------------------------------------------------------------------------- المقدّمة وضعت الشريعة المقدّسة مجموعة من القواعد الّتي تساهم في حفظ ممتلكات الغير في المجتمع، وتلزم الغاصب أوالمسيطر عنوة على مال أوملك أو حقّ غيره بوجوب ضمان ما أخذه إلى مالكه وردّه إليه، ومن هذه القواعد قاعدة على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه، الّتي تداولها الفقهاء كمستند لإثبات الضمان كغيره من القواعد، مثل قاعدة من أتلف مالاً، أو قاعدة الغرور ونحوها، الّتي تشكّل بمجملها نظاماً كاملاً في احترام أموال الغير وممتلكاته وحقوقه. بيان المراد من القاعدة معنى القاعدة هومؤاخذة اليد العادِيَة، والمراد من اليد هوالاستيلاء، فإذا تحقّق الاستيلاء على مال الغير بدون الإذن أو الإحسان تصبح اليد عادِيَة (معادية)، وموجبة للضمان، فيستقرّ عليها الضمان، حتّى تؤدّي ما عليها (المال المأخوذ) لمالك المال، فاليد الغاصبة سبّب لضمان صاحبها، وإن وقع التلف لمتلف سماويّ، أو ورد على المال نقص أو عيب، وهي كاليد الأمينة إذا خرجت عن الأمانة بالتعدّي أو بالتفريط، فهي ضامنة. وذلك كما لو ركب شخص سيارة غيره بدون موافقته، كان ضامناً لها وملزماً -------------------------------------------------------------------------------- 137 -------------------------------------------------------------------------------- بإرجاعها إليه سالمة. فإذا تعيّب بعض أجهزتها أوسُرقت منه، ولو مع تحفّظه الكامل عليها، أوحدث زلزال فتلفت...، كان ضامناً لها في كلّ الحالات المذكورة. وواضح في حالة إتلافها عن قصد وعمد يكون الضمان ثابتاً لها بالأَولى, لاقتضاء قاعدة الإتلاف لذلك أيضاً. كما وأنّه في حالة بقاء العين سالمة عند الأوّل يكون ملزماً بإرجاعها، وعليه كامل النفقات, لقاعدة على اليد. بيان مدرك القاعدة يستدلّ على القاعدة بعدة أدلّة، أهمّها: أوّلاً: الروايات العامّة: مدرك هذه القاعدة مجموعة من الروايات الخاصّة والعامّة، إلّا أنّ أشهرها تداولاً عند الفقهاء هوالنبويّ المشهور بين المذاهب الإسلاميّة، والّذي رواه السنّة، واستند إليه فقهاء الإماميّة في أبحاثهم، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه"1. فالقاعدة متَّخَذة من هذه الرواية بتمامها وكمالها، فالدلالة تامّة كاملة، وظاهرها تحقّق الضمان على مطلق اليد، ولكنّ اليد الأمانيّة خارجة بالتخصيص. والإشكال كلّه إنّما هو في ضعف السند، وهنا يوجد اتّجاهان: الاتجاه الأوّل: ما ذهب إليه مجموعة كبيرة من الأعلام: وهوعدم الموافقة على انجباره بالشهرة، وعليه لا يكون صالحاً للاستناد، فالحديث المذكور، بالرغم من شهرته، لا وجود له في معاجمنا الحديثيّة إلّا في عوالي اللآلي2 المعروف بالضعف. نعم هو ممّا يستشهد به فقهاؤنا في كتبهم الفقهيّة الاستدلاليّة كثيراً. -------------------------------------------------------------------------------- 138 -------------------------------------------------------------------------------- ولعلّ أوّل من تمسّك به هو الشيخ الطوسيّ في خلافه3، وتابعه على ذلك من تأخّر عنه. إلّا أنّ الكلّ يذكره بشكل مرسل ومن دون ذكر للسند. والظاهر أنّ المصدر الأصلي للحديث هو معاجم الحديث عند السنّة، فقد رواه كثير منهم, كأحمد بن حنبل في مسنده، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في سننه وغيرهم4، إلّا أنّ الكلّ يرويه بسند ينتهي إلى الحسن، عن سمرة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم5. ولكن يقال هنا إنّ الشهرة لو كانت جابرة فهي الشهرة بين المتقدّمين, لأنّها المورثة للاطمئنان بحقّانيّة الرواية وصدقها، لا ما كانت مختصّة بين المتأخّرين، والشهرة في المقام هي بين المتأخّرين, لعدم استناد أحد من المتقدّمين إليها سوى الشيخ الطوسي قدس سره، وهذا المقدار لا يكفي لتحقيق الشهرة بينهم. وعليه، فالتمسّك لإثبات القاعدة بالحديث المذكور أمر قابل للتأمّل. الاتجاه الثاني: إنجبار الحديث بالشهرة: وهوما اعتمده العلّامة البجنوردي في القواعد الفقهيّة، حيث قال: فالبحث عن سنده وأنّه صحيح أو ضعيف لا وجه -------------------------------------------------------------------------------- 139 -------------------------------------------------------------------------------- له, لأنّه بعد هذا الاشتهار بين الفقهاء، وقبولهم له، والعمل به فيكون موثوق الصدور, الّذي هو موضوع الحجّيّة، بل لا يبعد أن يكون من مقطوع الصدور، وعلى كلّ حال لا كلام في حجّيّته إنّما الكلام في دلالته وبيان المراد منه6. ثانياً: الروايات الخاصّة: الروايات الخاصّة الواردة في أبواب العارية والإجارة والمضاربة والرهن وغير ذلك، ما يدلّ على أنّ المستعير أو المستأجر أو العامل أو المرتهن إذا حصل منه التعدّي أو التفريط فهوضامن لتلف العين، وليس ذلك إلّا لأنّ يده تنقلب إلى يد غير أمينة، فلا يشمله حكم براءة الأمين عن الضمان، فينطبق على ما نحن فيه، وهوكون الضمان على صاحب اليد إلى أن يؤدّيه إلى مالكه. ويدلّ عليه أيضاً كلّ ما دلّ على "احترام مال المسلم", لأنّ مقتضى السلطنة على المال عدم جواز تصرّف غيره فيه من دون إذنه، فلوتصرّف فيه وتسلّط عليه فتلف كان ضامناً، وإلّا انتهكت حرمة المال. وبالجملة حرمة مال المسلم، بل وغير المسلم الملحق به، كحرمة دمه، وكيف يكون المال محترماً ولا يجب تداركه عند التلف في غير يد مالكه بغير إذنه؟ وبالجملة التدارك للفائت من شؤون احترام المال وبدونه لا يعدّ محترماً قطعاً7. ثالثاً: السيرة: فقد استقرّت السيرة عند العقلاء بأنّ اليد العادية تستحقّ المؤاخذة، وهذه هي العمدة في الباب، كما قال السيّد الخوئيّ قدس سره: بعد المناقشة في سند النبويّ: "والعمدة في مستند الضمان في غير مورد الائتمان إنّما هي السيرة العقلائيّة الممضاة بعدم الردع، حيث إنّها قائمة على أنّ من أخذ مالاً من أحد بغير رضاه، أومع الرضا والالتزام بالضمان، كما في موارد -------------------------------------------------------------------------------- 141 -------------------------------------------------------------------------------- العقود الباطلة، فإنّ يده ضامنة"8. فإنّ العقلاء لا يزالون يحكمون بضمان من استولى على شيء بغير حقّ ثمّ تلف عنده، ولولم يكن عن تعدٍّ أوتفريط، فإذا غصب غاصب حيواناً فهلك، أودراهم أودنانير فسُرقت، أوألبسة فخرقت، فإنّ الحكم بالضمان في جميع ذلك مفروغ منه عندهم، وحيث إنّ الشارع لم يردع عنه بل أمضاه عملاً وقولاً، فهوثابت في الشرع أيضاً. عموم القاعدة للجاهل والصغير لا فرق في مسألة الضمان هنا بين العلم والجهل، فلولم يكن مأذوناً من قِبَل المالك وتلف في يده كان ضامن, وذلك لإطلاق قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "على اليد ما أخذت...", لعدم وجود قيد فيه من هذه الجهة، وكذا إطلاق سائر الأدلّة والروايات الواردة في المسألة أيضاً دليل على المقصود. وهو ما تقتضيه قاعدة احترام المال من دون أيّ فرق. وهنا صورتان: الأولى: يفرض أنّ الشخص يستولي على مال غيره، وهو بالغ وعالم بأنّه مال الغير، وفي مثله لا إشكال في الضمان. الثانية: يفترض جهله بأنّه مال غيره أو عدم بلوغه، وهنا المناسب الحكم بالضمان, لأنّ الضمان حكم وضعيّ، لا مانع من شموله للجاهل أو غير البالغ، وإنّما الّذي لا يشملهما هوالحكم التكليفيّ بالخصوص على تفصيل في محلّه. وعليه، فوجوب الردّ مثلاً، لا يشمل غير البالغ، بخلاف الضمان لوتحقّق التلف عنده، فإنّه لا محذور في شموله له، غايته يكون المكلّف بالدفع من أموال الصبيّ وليّه. وهكذا الحال في من وضع يده على مال الغير، وهويتصوّر أنّه ملكه فإنّه ضامن له. كلّ ذلك للسيرة العقلائيّة، وليس لإطلاق حديث على اليد, لضعفه على ما تقدّم. -------------------------------------------------------------------------------- 141 -------------------------------------------------------------------------------- استثناء يد الأمانة والإحسان يُستثنى من اليد المحكوم عليها بالضمان نحوان من اليد: يد الأمانة، ويد الإحسان. أمّا يد الأمانة فلا إشكال في عدم ضمانها حتّى مع تحقّق التلف عندها.والوجه في ذلك أمران: الأوّل: القصور في المقتضي, لأنّ السيرة العقلائيّة الّتي هي المدرك لضمان اليد ضيّقة من الأوّل، ومحدودة بحدود اليد غير الأمانيّة، فإنّ العقلاء إذا ائتمنوا شخصاً وأودعوا عنده مالاً وتلف فلا يحكمون عليه بالضمان إلّا مع التفريط. الثاني: الروايات الخاصّة، كصحيحة مسعدة بن زياد، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه عليه السلام: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:ليس لك أن تتّهم من قد ائتمنته..."9. وهي تدلّ بوضوح على عدم ضمان الأمين عند عدم التفريط، وعلى ضمانه معه. هذا كلّه في يد الأمانة. وأمّا يد الإحسان فهي ليست ضامنة أيضاً لقوله تعالى: ï´؟مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍï´¾10. أجل، يد الإحسان هي (في واقعها) مصداق من مصاديق يد الأمانة، وليست شيئاً مغايراً لها. وذكرها بالخصوص لأجل إشارة الآية الكريمة لها بالخصوص. ثمّ إنّه بعد استثناء يد الأمانة والإحسان يبقى تحت القاعدة كلّ يد لم تكن من أحد القسمين حتّى ولو لم تكن يد غصب، كاليد التي تستولي على شيءٍ جهلاً بكونه لغيرها. وبذلك يتّضح عدم اختصاص الضمان باليد العدوانيّة، بل قد يصطلح على كلّ يد غير أمانيّة باليد العدوانيّة. -------------------------------------------------------------------------------- 142 -------------------------------------------------------------------------------- الأفكار الرئيسة - معنى القاعدة هومؤاخذة اليد العادِيَة، فإذا تحقّق الاستيلاء على مال الغير بدون الإذن والإحسان تصبح اليد عادية، ويستقرّ عليها الضمان، حتّى تؤدّي ما عليها (المال المأخوذ) لمالك المال. - اليد الغاصبة سببٌ لضمان صاحبها وإن وقع التلف لمتلف سماوي، أو ورد على المال نقص أو عيب، وهي كاليد الأمينة إذا خرجت عن الأمانة بالتعدّي أو بالتفريط، فهي ضامنة. - مدرك هذه القاعدة مجموعة من الروايات الخاصّة والعامّة، إلّا أنّ أشهرها النبويّ المعروف المشهور الّذي رواه السنّة، وهوقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه". - العمدة في مستند الضمان في غير مورد الائتمان إنّما هي السيرة العقلائيّة الممضاة بعدم الردع، حيث إنّها قائمة على أنّ من أخذ مالاً من أحد بغير رضاه وجب ضمانه له. - لا فرق في مسألة الضمان، هنا، بين العلم والجهل، والبلوغ وعدمه، فلو لم يكن مأذوناً من قبل المالك وتلف في يده كان ضامناً. - يستثنى من اليد المحكوم عليها بالضمان نحوان من اليد: يد الأمانة، ويد الإحسان بحسب ما دلّت عليه الأدلة. مطالعة قاعدة التسبيب من القواعد المعروفة في باب الضمان قاعدة التسبيب (قاعدة السبب أقوى من المباشرة). ويقصد بالقاعدة المذكورة أنّ كل من سبّب للغير الوقوع في الخسارة ضمنها؛ لنفس تسبيبه الوقوع فيها. وليس الملاك في الضمان هو الغرور، بل لأجل التسبيب للوقوع في الخسارة، فالطبيب إذا وصف للمريض علاجاً خاصّاً اشتباهاً، وتضرّر بذلك المريض، ضمن الطبيب من باب التسبيب، وليس للغرور لفرض اشتباه الطبيب. ومن نجّس المسجد أو المصحف الشريف واحتاج تطهيرهما إلى بذل أجرة معيّنة، كان ضمان تلك الأجرة على المنجّس، ويتمكّن المتصدّي للتطهير عند بذله للأجرة من الرجوع على المنجّس، بناءً على تماميّة قاعدة التسبيب. ومدرك للقاعدة المذكورة السيرة العقلائية المنعقدة على تضمين المسبّب لوقوع الغير في الخسارة، وحيث لم يثبت الردع عنها فتكون ممضاة شرعاً. وعليه بناءً على تمامية قاعدة التسبيب ينبغي الحكم بالضمان في جميع موارد التسبيب، وأمّا بناءً على إنكارها فينبغي التفصيل بين ما إذا صدق على السبب عنوان المتلف، وبين ما إذا لم يصدق عليه ذلك، ففي الأوّل يحكم بالضمان لقاعدة الإتلاف، دونه على الثاني. مثال الأوّل: ما لوأعطى شخص سكّيناً بيد صبيّ، وأمره بضرب شخص، فإنّه يصدق على الشخص المذكور عنوان المتلف، وينسب إليه عرفاً إتلاف الجرح، باعتبار أنّ المباشر إما لا إرادة له أو ذو إرادة ضعيفة بحيث يعدّ آلة بيد السبب، ولأجل فقدان الإرادة أو ضعفها ينسب العرف الإتلاف إلى السبب حقيقة، وليس إلى المباشر. ومثال الثاني: ما لوتوسّطت الإرادة التامة للمباشر في البين، كما لو كان المعطى إليه السكّين في المثال السابق شخصاً كبيراً ذا إرادة تامّة, لأنّه آنذاك لا ينسب العرف الإتلاف إلى السبب بل إلى المباشر، ويكون هو الضامن دون السبب، بخلافه في الأول. أسئلة وتمارين - ضع علامة صحّ أو خطأ في المكان المناسب: 1- إذا تحقّق الاستيلاء على مال الغير بدون الإذن والإحسان تصبح اليد عادية، ويستقرّ عليها الضمان، حتّى تؤدّي ما عليها. 2- اليد الغاصبة ليست سبباً لضمان صاحبها، إن وقع التلف لمتلف سماويّ خارج عن إرادته. 3- لا فرق في وجوب الضمان، هنا، بين العلم والجهل، فلو لم يكن مأذوناً من قبل المالك وتلف في يده كان ضامناً. 4- لا يجب الضمان على الصغير لو أتلف مال غيره عدواناً. 5- معنى القاعدة هومؤاخذة اليد العادية، والمراد من اليد هو مطلق الاستيلاء على مال الغير بدون الإذن أوغيره، كالأمانة ونحوها. 6- يمكن إنجبار حديث "على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه" بالشهرة، بحسب بعض الآراء. - عالج الأسئلة الآتية: 1- إذا دخل شخص بيته فرأى فيه طعاماً فأكله باعتقاد أنّه راجع إليه، ثمّ اتّضح أنّه لغيره، فهل يكون ضامناً؟ ولماذا؟ 2- شخص دُفعت إليه أموال كأجور لعبادات إستيجارية، وسُرقت منه بعد أن وضعها في بيته، على من تكون الخسارة؟ ولماذا؟ 3- إذا غصب شخصٌ شيئاً من غيره، وانتقل ذلك الشيء إلى شخصٍ ثانٍ، من هوالضامن في الحالة المذكورة؟ 4- لو غصب شخص أرضاً وزرع فيها حبًّا، فلمن يكون الناتج؟ وماذا يستحقّ صاحب الأرض؟ 5- شخص تعلّق في ذمّته الخمس، وعزله في مال معيّن، وفي الطريق لإيصاله سُرق منه، فعلى من الضمان؟ 6- هل يجب إرجاع ما أُخذ بعنوان هديَّة أو رشوة في مقام القضاء بين النَّاس؟ وهل يجب الضمان لوتلفت الرشوة قبل وصولها إلى مالكها الأصلي؟ هوامش 1- النوري، حسين: مستدرك الوسائل، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، ط2، بيروت، 1408هـ.ق/ 1998م، ج17، باب1 من أبواب الغضب، ح4، ص 88؛ الترمذي، محمّد بن عيسى بن سورة: الجامع الصحيح (سنن الترمذي)، تحقيق وتصحيح عبدالرحمن محمّدعثمان، ط2، بيروت، دار الفكر، 1403 هـ.ق/ 1983م، ج2، ح1284، ص369؛ وغيرهما. 2- الإحسائي، ابن أبي جمهور: عوالي اللآلي، تقديم السيد شهاب الدين النجفي المرعشي، تحقيق الحاج آقا مجتبى العراقي، ط1، قم المقدّسة، مطبعة سيد الشهداء عليه السلام، 1403هـ.ق/ 1983م، ج1، ص244، ح106. 3- الطوسي، محمّد بن الحسن: الخلاف، تحقيق السيّد علي الخراساني؛ السيّد جواد الشهرستاني؛ الشيخ مهدي طه نجف، إشراف الشيخ مجتبى العراقي، لاط، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة، 1411هـ.ق، كتاب الغصب، مسألة 22، ص408-410. 4- ابن حنبل، أحمد: مسند أحمد، لاط، بيروت، دار صادر، لات، ج5، حديث سمرة...، ص8، 12-13؛ النيسابوري، أبوعبدالله(الحاكم النيسابوري): المستدرك على الصحيحين، إشراف يوسف عبد الرحمن المرعشلي، لاط، لام، لان، لات، ج2، ص47؛ البيهقي، أحمد بن الحسين: السنن الكبرى(سنن البيهقي)، لاط، لام، دار الفكر، لات، ج6، ص90. 5- المقصود من الحسن هوالحسن البصري، المعروف بعدائه لأمير المؤمنين عليه السلام، فقد ورد أنّه كان يبغض الإمام عليه السلام ويذمّه، ومن المخذّلين عن نصرته، وقد أنكر عليه إراقته الدماء الكثيرة، فقال: أوساءك ذلك؟ قال: نعم، فقال عليه السلام: لا زلت مسوءاً، فما رؤي الحسن البصري بعد هذا إلا عابساً قاطباً مهموماً إلى أن مات. انظر: العلوي الموسوي، محمّد بن الحسين بن موسى(الشريف الرضي): نهج البلاغة(الجامع لخطب أمير المؤمنين عليه السلام وكتبه وحكمه)، شرح ابن أبي الحديد المعتزلي، تحقيق محمّد أبوالفضل إبراهيم، لاط، لام، دار إحياء الكتب العربية؛ عيسى البابي الحلبي وشركاه، لات، ج4، الخطبة56، ص95. وأمّا سمرة فهوالمعروف بوقوفه بلا استحياء مقابل مقام النبوّة في قصّة العذق والأنصاري، وعدم تنازله حتّى بضمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم له عذقاً في المقابل في الجنّة، الدالّ على ضمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بالالتزام دخول الجنّة. وهوالمعروف بخروجه لحرب الإمام الحسين عليه السلام، وتنازله مقابل دراهم معاوية في جعل أحاديث مختلفة في ذمّ أمير المؤمنين عليه السلام، ومدح قاتله ابن ملجم. 6- البجنوردي، القواعدالفقهية، م.س، ج4 ، ص55. 7- الشيرازي، القواعدالفقهية، م.س، ج2 ، ص235. 8- الخوئي، أبوالقاسم: مستند العروة الوثقى، ط2، قم المقدّسة، مؤسّسة إحياءآثار الأمام الخوئي قدس سره، 1426هـ.ق/ 2005م،ج30، كتاب الإجارة، ص223. 9- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج19، باب4 من أبواب أحكام الوديعة، ح10. 10- التوبة: 91. يتبع |
الدرس الحادي عشر: قاعدة إخبار ذي اليد
أهداف الدرس - التعرّف على معنى قاعدة حجية إخبار ذي اليد وأدلّتها. - القدرة على الاستدلال على حجّيّة القاعدة. - التدرّب على تطبيق القاعدة في مواردها. -------------------------------------------------------------------------------- 149 -------------------------------------------------------------------------------- المقدّمة هذه القاعدة من القواعد الّتي تأتي في سياق تعزيز الثقة بين الناس، بتصديق أقوالهم فيما تحت أيديهم، وترتيب الآثار الشرعية على إخباراتهم حولها. وهي تساهم في تثبيت أركان الانتظام العامّ في المجتمع. بيان المراد من القاعدة المراد من القاعدة أنّ كلّ من كانت له يد على شيء، فإنّ قوله حجّة فيه، فإذا أخبر عن نجاسته أوطهارته، أو كونه أمانة أو غصباً أومضاربة يقبل قوله فيه، سواء أكان ثقة أم ل, لأنّ الحيثيّة المبحوث عنها في قبول القول من جهة اليد لا في جهة الوثاقة. وحيثيّة الكشف في اليد كون صاحب اليد أبصر وأعلم بما في يده، ومعه لا يفرّق بين كونه مخبراً عن الطهارة والنجاسة، أوعن كون المال غصباً أو مضاربة أو أمانة. ولذا نجدهم لا يشكّون إذا قال صاحب الدار أوصاحب الأثاث: إنّه ملكي، أو انتفاعه لي بإجارة ونحوها، في أنّهم ينتفعون به، وإذا قال: إنّه غصب أو وقف، ولست متولّياً ولا مأذوناً، لا يمسّونه، وكذا إذا قال: إنه لحم ميتة، وفي عكسه بأن قال: إنّه مذكّى. -------------------------------------------------------------------------------- 151 -------------------------------------------------------------------------------- ولا فرق بين القول والفعل بأن قدَّمه لضيوفه. وهكذا حال الأمّ إذا قالت: أنا أرضعتك العدد المحرّم بشروطه، أوقالت: إنّ الرضاع لم يكن بالشروط. أوقال صاحب المطعم: إنّه لحم غنم، أولحم أرنب، إلى غيرها من الموارد، بل ويأتي في كلّ ذلك قوله عليه السلام: "لَما قام للمسلمين سوق". بل نراهم يعتمدون على الأوزان والموزونات والموادّ الغذائيّة المركّبة وما أشبه، كمن قال: إنّه رطل أوصاع أو كرّ، أو من قال: إنّ المعدودات بقدر كذا، فيما يتعارف إعدادها مسبقاً للمشتري، وكذلك الحكم بالنسبة إلى الأدوية المركّبة، مع أنّها قد تكون خطراً على الجسم أوالعضو، فيما إذا كانت خلاف الواقع أومركّبات الأغذية ممّا للإنسان عناية بصحّتها. ولا فرق بين قول ذي اليد وفعله وتقريره, لوحدة الملاك، وإطلاق الأدلّة في الجميع. بيان مدرك القاعدة استدلّ على القاعدة بالسيرة وبجملة من الروايات: أوّلاً: الاستدلال بسيرة العقلاء: هذه القاعدة، كالعديد من القواعد الفقهيّة، عقلائيّة قبل أن تكون شرعيّة، وفي الحقيقة أمضاها الشارع لا أنّه أسّسها، ويظهرذلك بالرجوع إلى أهل العُرف والعقلاء، فإنّهم يعتمدون على إخبار ذي اليد، سواء أكان مالكاً أم وكيلاً أو أجيراً أو وليّاً، أو غير ذلك من أنحاء التسلّط على المال أو شبه ذلك، ويحتجّون بذلك في المخاصمات، ما لم يكن ذواليد متّهماً في قوله، ولا يشترطون في ذلك العدالة أو الوثاقة المعتبرة في حجّيّة خبرالواحد على نحو العموم، وهذا أمر ظاهر لمن راجعهم واختبر أحوالهم. -------------------------------------------------------------------------------- 152 -------------------------------------------------------------------------------- ثانياً: الاستدلال بالروايات: الرواية الأولى: عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، قال: "سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جُبّةَ فراءٍ، ولا يدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة أيصلّي فيها؟ فقال: نعم، ليس عليكم المسألة، إنّ أبا جعفر كان يقول: إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم، إنّ الدين أوسع من ذلك"1. وتقريب الاستدلال أنّ ظاهرها قبول قول المسؤول، وإلاّ لما حصل الضيق في الدين بالسؤال، فالأصل في الأشياء الإباحة والسعة، والضيق آتٍ من جهة السؤال. الرواية الثانية: صحيّحة معاوية بن عمّار، قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام: "عن الرجل من أهل المعرفة بالحقّ يأتيني بالبختج (عُرّبت إلى البختج)، ويقول: لقد طبخ على الثلث، وأنا أعرفه أنّه يشربه على النصف، أفأشربه بقوله، وهويشربه على النصف؟ فقال: لا تشربه، قلت: فرجل من غير أهل المعرفة، ممّن لا نعرفه يشربه على الثلث، ولا يستحلّه على النصف، يخبرنا أنّ عنده بختجاً على الثلث قد ذهب ثلثاه، وبقي ثلث، يشرب منه؟ قال:نعم"2. والبختخ: معرّب: (بختبه) أي العصير المطبوخ المخمّر. وظاهره قبول إخبار ذي اليد مع عدم ما يوجب اتهامه، وظهور أمارات الصدق منه، ولذا قبل قول المخالف ورُدّ قول المؤالف. الرواية الثالثة: عن سعد بن إسماعيل، عن أبيه إسماعيل بن عيسى، قال: "سألت أبا الحسن عليه السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارفٍ؟ قال: عليكم أنتم -------------------------------------------------------------------------------- 153 -------------------------------------------------------------------------------- أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه"3. وتقريب الاستدلال بها: ما ذكره السيّد الشهيد رحمه الله من عدم الاحتياج إلى السؤال مع كون البائع مسلماً، ولزوم السؤال مع كون البائع غير مسلم...، وهذا يقتضي تصديقه فيما يخبر به، وإلّا لما أجدى السؤال منه، وهومعنى قبول خبر صاحب اليد، وإذا ثبت أنّ خبره -الكافر- حجّة في إثبات الطهارة، يثبت بالأولويّة العرفيّة أنّه حجّة في إثبات النجاسة, لأنّ صاحب اليد إذا كان يصدق فيما هو في مصلحته من أوصاف الكمال لماله، فتصديقه فيما هو على خلاف مصلحته من أوصاف المال أولى عرفاً، بنكتة أنّ احتمال الكذب أبعد4. الرواية الرابعة: عن عمّار، عن أبي عبد الله عليه السلام: في حديث: "أنّه سئل عن الرجل يأتي بالشراب، فيقول: هذا مطبوخ على الثلث؟ قال: إن كان مسلماً ورعاً مؤمناً مأموناً فلا بأس أن يشرب"5. تدلّ هذه الرواية على قبول قول ذي اليد بشرط الإسلام والورع والإيمان والأمان، ولا إطلاق فيها للكافر، أو لكلّ مسلم ٍ. اعتبار العدالة أوالوثاقة في ذي اليد وعدمه لا يخفى على الناظر في أخبار الباب أنّ إطلاقها ينفي اعتبار العدالة والوثاقة، وظاهرها قبول قول ذي اليد، سواء أكان عادلاً أم ثقةً أم لا، وهكذا فتاوى الفقهاء مطلقة من هذه الجهة، حتى إنّ بعضهم تردّد في اعتبار الإسلام فيه، واحتمل قبول قوله وإن كان كافراً، بل أفتى بعضهم باعتباره مطلقاً. -------------------------------------------------------------------------------- 154 -------------------------------------------------------------------------------- قال المحقّق اليزديّ في العروة: "لا فرق في اعتبار قول ذي اليد بالنجاسة بين أن يكون فاسقاً أوعادلاً بل مسلماً أو كافراً"6، ويؤيّد ما ذكرنا، بل يدلّ عليه، عدم اعتبار شيء من هذه القيود في بناء العقلاء عليه. نعم، يستثنى من ذلك ما إذا كان ذو اليد متّهماً في مقالته، أويكون هناك قرائن ظنّيّة تدلّ على كذبه، وإن لم تبلغ حدّ الحجّيّة، أو يكون ظاهر حاله مكذّباً لقوله، فإنّ بناء العقلاء على حجّيّة أمثالها بعيد جدّاً، وأخبار الباب أيضاً منصرفة عنها. وذلك مثل ما إذا كان المخبر ممّن لا يبالي في إخباره، أو كان الخبر بالطهارة مثلاً في موارد استصحاب النجاسة يجلب له نفعا كثيراً، وقد علمنا كذبه في مثل هذا الخبر في غير مورد، فإنّ الاعتماد على إخباره مشكل جدّاً، بل ممنوع7. -------------------------------------------------------------------------------- 155 -------------------------------------------------------------------------------- الأفكار الرئيسة - المراد من القاعدة أنّ كلّ من كانت له يد على شيء فإنّ قوله حجّة فيه، فإذا أخبر عن نجاسته أوطهارته، أوكونه أمانة أوغصباً أومضاربة يقبل قوله فيه، سواء أكان ثقة أم لا. - الحيثيّة المبحوث عنها في قبول القول من جهة اليد، لا في جهة الوثاقة. وحيثيّة الكشف في اليد كون صاحب اليد أبصر وأعلم بما في يده. - عند الرجوع إلى أهل العرف والعقلاء، فإنّهم يعتمدون على إخبار ذي اليد، سواء أكان مالكاً أو وكيلاً أو أجيراً أو غير ذلك من أنحاء التسلّط على المال، ويحتجّون بذلك في المخاصمات ما لم يكن ذو اليد متَّهَماً في قوله. - استدلّ على حجّيّة القاعدة بعدّة روايات، منها ما عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، قال: "سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جُبّةَ فراءٍ، ولا يدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة، أيصلّي فيها؟ فقال: نعم، ليس عليكم المسألة، إنّ أبا جعفر كان يقول: إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم، إنّ الدين أوسع من ذلك". - الظاهر أنّهم يعتمدون على قول ذي اليد، بما أنّه كاشف عن الواقع وأمارة عليه, لأنّه أعلم وأعرف بما في يده من غيره. - لا يخفى على الناظر في أخبار الباب أنّ إطلاقها ينفي اعتبار العدالة والوثاقة، وظاهرها قبول قول ذي اليد، سواء أكان عادلاً أم ثقةً أم لا. مطالعة حجّيّة قول ذي اليد من الأمارات أو من الأصول الواضح أنّ اعتماد العقلاء على القاعدة ليس من باب التعبّد المحض، فلا نقول إنّ التعبّد في أمور العقلاء غير معقول - كما ذكره بعض محقّقي المتأخّرين -، بل نقول: إنّ التعبّد في ما بينهم وإن كان معقولاً مثل تعبّدهم بالقرعة، فإنّها لا كاشفيّة لها عن الواقع عندهم، بل قد لا يكون في موردها واقعاً مجهولاً، تكشف عنه القرعة كما في موارد قسمة الأموال بين الشركاء، ولكنّ ما نحن فيه ليس من التعبّد، بل الظاهر أنّهم يعتمدون على قول ذي اليد بما أنّه كاشف عن الواقع وأمارة عليه, لأنّه أعلم وأعرف بما في يده من غيره. والحاصل أنّ جميع الخصوصيّات الموجودة في الأمارات موجودة هنا، فإنّ ذا اليد غالباً أبصر بما في يده من غيره، فيكون إخباره عنه كاشفاً عن الواقع المجهول. أسئلة وتمارين - ضع علامة صحّ أو خطأ في المكان المناسب: 1- إذا كان شخص صاحب يدٍ على شيء وادّعاه غيره، فيحكم بأنّه له. 2- إذا كان شخص يبيع لحماً نشكّ أنّه مذكّى أو لا، فنحكم بالتذكية إن أخبر البائع بها. 3- إذا دخلنا دارَ شخصٍ وقال: إنّ هذا المكان من الدار نجسٌ، فنحكم بالنجاسة لإخباره. 4- لا تختصّ هذه القاعدة بإخبار ذي اليد المسلم بل تعمّ الكافر أيضاً. 5- معنى القاعدة هوأنّ كلّ من كانت له يد على شيء فإنّ قوله حجّة فيه، سواء أكان ثقة أم لا. 6- ظاهر أخبار الباب أنّ إطلاقها ينفي اعتبار العدالة والوثاقة، وظاهرها قبول قول ذي اليد سواء أكان عادلاً أم ثقةً أم لا. - عالج الأسئلة الآتية: 1- إذا كان شخصان يسكنان داراً فتارةً يدّعيها أحدهما، وأخرى يدّعيها كلاهما، وثالثة يدّعيها شخص ثالث غيرهما، فما هوالموقف في هذه الحالات؟ 2- لوتعارض استصحاب نجاسة الإناء وقول ذي اليد بطهارته فأيُّهما يُقدّم؟ ولماذا؟ 3- لوأخبر المسلم المخالف ـ غير الإمامي ـ بطهارة الجلد الذي يبيعه، فهل يكون إخباره هذا حجَّة عندنا؟ علماً بأنَّ منهم من يعتقد طهارة الميتة بالدبغ، أولا يشترط كلّ الشروط المعتبرة في التذكية عندنا. 4- لو أخبر الفاسق بطهارة جميع ما في منزله من أثاث وفرش، فهل يُعتنى بهذا الإخبار؟ ولماذا؟. 5- استأجر شخصٌ داراً، وبعد أن تركها أخبر صديقه الّذي استأجرها بعد سنة بأنَّ بعضاً من أنحاء الدار نجسة، فهل يترتَّب الأثر على هذا الإخبار؟ علماً بأنَّه يحتمل أنَّ مالك الدار قد طهَّرها بعد خروج الأوَّل منها. 6- إذا أخبر المسلم بطهارة كلّ ما في منزله ، وكان هناك قرائنظنّية تدلّ على كذبه لم تبلغ حدّ الحجّيّة، فهل يمكن الأخذ بقوله كونه ذا اليد؟ هوامش 1- العاملي، وسائل الشيعة،م.س، ج3، باب 50 من أبواب النجاسات، ح3. 2- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج4، باب7 من أبواب الأشربة المحرّمة، ح17. 3- م.ن، ج3، باب50 من أبواب النجاسات، ح7. 4- الصدر، محمّد باقر: شرح العروة الوثقى،لاط، النجف الأشرف، مطبعة الآداب، 1392هـ.ق/ 1972م، ج2، ص126. 5- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج25، باب7 من أبواب الأشربة المحرّمة، ح6. 6- اليزدي، العروة الوثقى، م.س، طريق ثبوت النجاسة، المسألة 12. 7- الشيرازي، القواعدالفقهية، م.س، ج2، ص115. يتبع |
الدرس الثاني عشر: قاعدة الإلزام
أهداف الدرس - التعرّف إلى معنى قاعدة الإلزام وأدلّتها. - القدرة على الاستدلال على حجّيّة القاعدة. - التدرّب على تطبيق القاعدة في مواردها. -------------------------------------------------------------------------------- 161 -------------------------------------------------------------------------------- المقدّمة قاعدة الإلزام "ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم" ممّا اشتهر في كلمات الفقهاء التمسّك بها في أبواب مختلفة، مثل: النكاح والطلاق، وأبواب الميراث وغيرها، ولكن لم تنقّح حقّ التنقيح كساير القواعد الفقهيّة. ومن أهمّ فوائد هذه القاعدة وآثارها على الفرد والمجتمع أنّها تنظّم قضايا أساسيّة في الأحوال الشخصيّة بشكل رئيس، بل في غيرها من الأحكام بين الإماميّة وغيرهم من المذاهب والديانات. بيان المراد من القاعدة تمهيد: لاشكّ أنّه قد تختلف الأحكام الفرعيّة بين المذاهب الإسلاميّة أو حتّى الديانات السماويّة، والقاعدة ناظرة إلى هذا الاختلاف، فقد يكون شخص بمقتضى مذهبه ملزماً بأداء مال أو شيء آخر، ولكن لا يلزم به على مذهبنا، فيأتي الكلام هنا في جواز أخذه منه أم لا؟ والمستفاد من مجموع الأحاديث الواردة في المقام أنّه يجوز إلزام أهل السنة - مثلاً- بمذهبهم وأحكامهم. فهنا صور: -------------------------------------------------------------------------------- 163 -------------------------------------------------------------------------------- الأولى: اختلاف مذهب الإماميّة مع أهل السنّة. الثانية، اختلاف الإماميّة مع غير المسلمين. الثالثة: اختلاف مذاهب أهل السنّة بعضهم ببعض. الرابعة: اختلاف مذهب أصحاب الديانات السماويّة مع بعضهم البعض، كاليهوديّ والنصرانيّ. والقدر المسلّم والمتيقّن من القاعدة هو الصورة الأولى فقط، أي في حالة اختلاف مذاهب السنّة عن مذهب الإماميّة. وعليه يكون مفاد هذه القاعدة إلزام الآخرين بما ألزموا به أنفسهم، فيما لا نقول بصحّته عندنا، فكلّ ما يراه الآخر ملزماً له من ناحية أحكامه الدينيّة، سواء أكان ذلك من المال أم الحقوق أوالاعتباريّات ...، فيُلزم من قبل الإماميّ بما ألزم به نفسه. فإنّ غير الإماميّ إذا قام بفعل معيّن يعتقد بصحّته، وكان الإماميّ لا يعتقد بصحّته، فله الحقّ في ترتيب الآثار التي هي في صالحه، بالرغم من عدم اعتقاده بصحّته في مذهبه، إلزاماً للطرف المقابل بما يقتضيه مذهبه. ولا بدّ في مورد إلزام الآخرين من وجود منفعة وسعة لنا. مثال: يرى الإماميّة في باب إرث الزوجة أنّها ترث من الأموال المنقولة، وأمّا غير المنقولة - وهي الأرض وما ثبت عليها من بناء وأشجار - فلا ترث الزوجة من الأرض شيئاً، وترث ممّا ثبت عليها من قيمته دون عينه. وأمّا أهل السنة فيرون أنّها ترث من جميع التركة، وعلى هذا فلوكانت الزوجة من الإماميّة بينما بقيّة الورثة من غيرهم، فلها أخذ الربع أوالثمن من جميع التركة بقاعدة الإلزام. -------------------------------------------------------------------------------- 164 -------------------------------------------------------------------------------- بيان مدرك القاعدة مدرك هذه القاعدة من الإجماع والتسالم والروايات: الجهة الأولى: في مستندها من الحديث: الروايات المتعدِّدة الواردة في باب النكاح والطلاق والميراث، منها: 1- رواية عليّ بن أبي حمزة، عن أبي الحسن عليه السلام: "المطلّقة على غير السنّة أيتزوّجها الرجل؟ فقال: ألزموهم من ذلك ما ألزموه أنفسهم، وتزوّجوهنّ فلا بأس بذلك"1، فإنّها دلّت بوضوح على أنّ المطلّقة بطلاق فاقد للشروط الشرعيّة عند الإماميّة يجوز الزواج بها، وعلّل عليه السلام ذلك بتعليل عامّ وهو الإلزام بما ألزموا به أنفسهم. وروى عبد الرحمن البصريّ عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: "امرأة طلّقت على غير السنّة؟ فقال: تتزوّج هذه المرأة، لا تترك بغير زوج"2. فإنّه لا يمكن حملها على المعتقد بالبطلان، فهي محمولة على من يطلّق على غير السنّة معتقداً صحّتها، فيلزم الزوج بما التزم به من مذهبه، وتكون المرأة خليّة فتأمّل. 2- صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: "سألته عن الأحكام؟ قال: تجوز على أهل كلّ ذوي دين ما يستحلُّون"3، أي أنّ كلّ ما يرونه حلالاً وصحيحاً يكون ممضيّاً عليهم. 3- ما رواه الكلينيّ بسنده إلى عمر بن أذينة، عن عبد الله بن محرز: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل ترك ابنته وأخته لأبيه وأمّه؟ فقال: المال كلّه لابنته -------------------------------------------------------------------------------- 165 -------------------------------------------------------------------------------- وليس للأخت من الأب والأمّ شيء. فقلت: فإنّا قد احتجنا إلى هذا والميّت رجل من هؤلاء الناسُ وأخته مؤمنة عارفة؟ قال: فخذ لها النصف، خذوا منهم كما يأخذون منكم في سنّتهم وقضاياهم. قال ابن أذينة: فذكرت ذلك لزرارة، فقال: إنّ على ما جاء به ابن محرز لنوراً"4. دلّت على أنّ الوظيفة هي المؤاخذة منهم، لما ورد في مذاهبهم، والدلالة تامّة5، فتدلّ الرواية على ثبوت حقّ المقاصّة النوعيّة، وأنّه ما داموا هم يأخذون منكم فأنتم خذوا منهم بالمقابل أيضاً. 1. ما رواه عبد الله بن طاووس قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: "إنّ لي ابن أخ زوّجته ابنتي، وهو يشرب الشراب ويكثر ذكر الطلاق؟ فقال: إن كان من إخوانك فلا شيء عليه، وإن كان من هؤلاء فَأَبِنْهَا منه، فإنّه عنى الفراق، قال: قلت: أليس قد رُوي عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: إيّاكم والمطلّقات ثلاثاً في مجلس، فإنّهنّ ذوات الأزواج؟ فقال: ذلك من إخوانكم لا من هؤلاء، إنّه من دان بدين قوم لزمته أحكامهم"6، وعموم الحديث نظراً إلى ذيله ظاهر. ونكتفي بذكر هذا المقدار من الروايات الّتي يكاد يحصل القطع من خلالها بصدور مفاد القاعدة عن المعصومين عليهم السلام. -------------------------------------------------------------------------------- 166 -------------------------------------------------------------------------------- شمول القاعدة للأبواب الفقهيّة قد عرفت ممّا مرَّ أنّ جلّ أحاديث الباب وردت في الإرث والنكاح والطلاق. ولكن هل يختصّ الحكم بهذه الأبواب الثلاثة، أو يشمل أبواباً مثل: الوصيّة والوقف والهبة وإحياء الموات والحيازة، ونحوذلك، من الأحكام والحقوق؟. والجواب: إنّه لا يوجد أيّ مانع من شمولها لها بعد عموم الأدلّة، وشمول الإطلاقات، وعدم الدليل على تخصيصها. فلوأنّ أحداً من المذاهب الأخرى أوصى بوصيّة صحيحة عنده، باطلة عندنا، تشمل هذه الوصيّة أصنافاً منّا، فأيّ مانع من الأخذ بمقتضى وصيّته، والانتفاع بها، بعد عموم قوله: "ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم"، وقوله: "يجوز على كلّ ذوي دين ما يستحلّه"، وقوله: "من دان بدين قوم لزمته أحكامهم"، وقد مرّ ذكرها جميعاً في طيّ روايات الباب. وكذلك إذا وهب مالاً هبة صحيحة عنده، باطلة عندنا، يجوز التصرّف فيه بعنوان الهبة. وهكذا في أبواب المضاربة والإجارة والمزارعة والمساقاة، يجوز الأخذ بمقتضى ما يلتزمون به من أحكامهم، كما يأخذون منّا بمقتضاها. وكذلك الأمر في أبواب الحيازة وإحياء الموات، فلوأنّ أحداً منهم عمل ما يوافق قواعد الحيازة والإحياء عندنا، ولكنّه لا يراها صحيحة، بحسب أحكامهم، فيتركه من هذه الجهة، لا من باب الإعراض الّذي يوجب الخروج من الملك مهما كان، فلِمَ لا يجوز الأخذ بمقتضى مذهبهم فيما يكون عليهم، كما يأخذون منّا فيما يكون لهم؟ ولكنّ الأصحاب لم يتعرّضوا لهذه الفروع في كلماتهم، ولعلّه لعدم الابتلاء به كثيراً في غير أبواب النكاح والطلاق والإرث، ولكنّ عدم التعرّض لها لا يكون دليلاً على عدم قبولهم لها مع عموم الأدلّة، وإطلاق الفتاوى أحياناً7. -------------------------------------------------------------------------------- 167 -------------------------------------------------------------------------------- حدود القاعدة وقع البحث في أنّ المراد بالقاعدة هل هو إلزام خصوص أهل المذاهب الأخرى، أو إلزام كلّ فرد بما يعتقد؟ فهل تعمّ القاعدة سائر ذوي الأديان؟ فلوفرض أنّ الكتابيّ طلّق زوجته طلاقاً فاقداً للشروط عند الإماميّة، فهل يجوز الزواج بها؟ الجواب نعم، لوجوه: - إنّ المسلم من غير الإماميّة إذا كان يلزم بذلك، فبالأولى إلزام غير المسلم بذلك. - ظاهر قوله عليه السلام: "خذوا منهم ما يأخذون منكم في سنّتهم"، وقوله: "خذهم بحقّك في أحكامهم، كما يأخذون منكم"، في معرض السؤال عن حكم التعصيب، وقوله عليه السلام: "ألزموهم من ذلك ما ألزموه أنفسهم"، في معرض السؤال عن جواز الزواج، وحكم الطلاق، أنّ الإلزام ناظر إلى أهل السنّة. - إنّ صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة، قالت: "تجوز على أهل كلّ ذوي دين ما يستحلّون"، وهذا يعمّ غير المسلم أيضاً. فالظاهر أنّ الإلزام لا يختصّ بالمسلمين، بل يلزم أهل كلّ دين بما يعتقدون، فيكون ذكرها بعد السؤال عن التعصيب والطلاق والزواج من باب التطبيق لا الاختصاص، كما هوالمفهوم عرفاً من ذلك. وهنا ينبغي أن نشير إلى أنّ ما تقدّم من القول بعموم القاعدة لا يشمل الإماميّ مع الإماميّ، فيما لواختلف المكلّفون في التقليد، لأن لهما مذهباً واحداً، وإن احتمل الخطأ من أحدهما، مع احتمال شموله لهم, لأنّ المراد إلزام أهل كلّ اعتقاد بما يعتقدون، وليس أهل الاعتقاد نفسه مع بعضهم البعض. -------------------------------------------------------------------------------- 168 -------------------------------------------------------------------------------- الأفكار الرئيسة - أهمّ فوائد هذه القاعدة أنّها تنظّم قضايا أساسيّة ومهمَّة في الأحوال الشخصيّة بشكل رئيس، بل في غيرها من الأحكام بين الإماميّة وغيرهم من المذاهب والديانات. - مفاد القاعدة أنّ غير الإماميّ إذا قام بفعل معيّن يعتقد بصحّته، وكان الإماميّ لا يعتقد بصحّته، فللإمامي الحقّ في ترتيب الآثار الّتي هي في صالحه، بالرغم من عدم اعتقاده بصحّته, إلزاماً للطرف المقابل بما يقتضيه اعتقاده. - لا بدّ (في موارد إلزام الآخرين) من وجود منفعة وسعة للإماميّ. - دلّت الروايات الواردة في النكاح والطلاق على القاعدة، منها ما رُوي عن أبي الحسن عليه السلام: "المطلّقة على غير السنَّة أيتزوّجها الرجل؟ فقال: ألزموهم من ذلك ما ألزموه أنفسهم، وتزوّجوهنّ فلا بأس بذلك". - لا مانع من شمول القاعدة للأبواب الفقهيّة غير النكاح والطلاق والإرث، كالوصيّة والوقف، والهبة، وإحياء الموات، والحيازة، بعد عموم الأدلة، وشمول الإطلاقات وعدم الدليل على تخصيصها. - إنّ المسلم من غير الإماميّة إذا كان يلزم بذلك، فبالأولى إلزام غير المسلم بذلك، لصحيحة محمّد بن مسلم: "تجوز على أهل كلّ ذوي دين ما يستحلّون"، وهذا يعمّ غير المسلم أيضاً. مطالعة قاعدة نفي السبيل معنى القاعدة هو نفي سلطة الكافر على المسلم، وعليه فكلّ عمل من المعاملات والعلاقات بين المسلمين والكفّار إذا كان موجباً لتسلّط الكفّار على المسلمين فإنّه لا يجوز شرعاً فردياً كان أوجمعياً، فعلى ذلك لا يجوز للمسلم إجارة نفسه للكافر بحيث يكون الكافر مسلّطاً على المسلم الأجير. ويمكن الاستدلال على اعتبار القاعدة بما في قوله تعالى: ï´؟وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاًï´¾،8 فظاهر هذه الآية هو نفي السبيل بمعنى نفي الحكم الذي كان موجباً لتسلّط الكافر على المسلم، فلايكون مثل هذا الحكم مجعولاً شرعاً، كما قال السيّد الحكيم رحمه الله: "فإنّ السبيل إلى الشيء غير السبيل عليه، والأوّل: ظاهر في الوصول إلى ذاته والاستيلاء عليه (الشيء). والثاني: ظاهر في القدرة على التصرّف به، فحمل الآية - على المؤمنين - على الثاني متعيّن، فتدلّ على نفي السلطنة على التصرّف بالمؤمن9. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الملاك في المقام (السبيل المنفي) هو تسلّط الكافر من جانب وذلّة المسلم من جانب آخر، فلوتحقّق هذا الملاك فلا شكّ في فساد المعاملة، وإلّا فلا دليل على البطلان، كما قال السيّد الحكيم : "فالتحقيق أنّ السبيل المنفيّ ما كان موجباً لمذلّة المسلم ومهانة عليه لا مطلق, فإذا لم تكن الإجارة موجبة لذلك صحّت بلا مانع..."10. أسئلة وتمارين - ضع علامة صحّ أو خطأ في المكان المناسب: 1- ينحصر مفاد القاعدة إذا قام غير الإماميّ بفعل يعتقد بصحّته، فللإماميّ الحقّ في ترتيب الآثار الشرعيّة الّتي هي في صالحه، بالرغم من عدم اعتقاده بصحّة عمله. 2- تنحصر قاعدة الإلزام في الأبواب الفقهيّة الآتية: (النكاح والطلاق والإرث). 3- لوعقد رجل من السنّة على امرأة بدون إشهاد بطل عقده، ولكن لا يجوز للإماميّ أن يتزوّجها بناءً على قاعدة الإلزام. 4- إذا طلّق غير الإماميّ المرأة بالكتابة، فإنّه يجوز للشيعيّ ترتيب آثار الطلاق عليه واقعاً. 5- لوكانت الزوجة من الإماميّة، بينما بقيّة الورثة من غيرهم، فلها أخذ الربع أوالثمن من جميع التركة بقاعدة الإلزام. 6- إنّ المسلم من غير الإماميّة إذا كان يلزم بشيء، فبالأولى إلزام غير المسلم بذلك الشيء, لصحيحة محمّد ابن مسلم: "تجوز على أهل كلّ ذوي دين ما يستحلّون". - عالج الأسئلة الآتية: 1- المطلَّقة، إذا كانت يائسة أوصغيرة، لا تجب عليها العدَّة مع الدخول عند الإماميّة، بينما تجب عند السنة، فلوفرض أنَّ الزوجة كانت شيعيّة دون زوجها، فهل لها حقّ المطالبة بالنفقة أيَّام العدَّة أم لا؟ ولماذا؟ 2- إذا كانت الزوجة من الشِّيعة ومات زوجها، وكان بقيَّة الورثة من السنّة، فهل لها أخذ الربع أو الثمن من جميع التركة، من دون تفصيل بين الأموال المنقولة وغير المنقولة، كما هوعند السنّة؟ 3- لوكان الزوج إماميَّاً وله زوجة من السنّة وطلّق ثلاثاً في مجلس واحد، والذي هو باطل عند الإمامية، فما هي الأحكام التي تثبت بمقتضى قاعدة الإلزام؟ وما هي الأحكام الّتي تثبت بقطع النظر عن هذه القاعدة؟ 4- إذا تزوّج الإماميّ بغير الإماميّة بدون إشهاد، فما هوالحكم تجاه نفقتها؟ 5- إذا تزوّجت الإماميّة بغير الإماميّ بدون إشهاد، فما هي الأحكام المترتّبة بمقتضى قاعدة الإلزام؟ 6- إذا كان الزوج إماميّاً وله زوجة غير إماميّة وطلّقها ثلاثاً في مجلس واحد الّذي هو باطل عندنا، فما هي الأحكام الّتي تثبت بمقتضى قاعدة الإلزام؟ هوامش 1- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج 22، باب30 من أبواب مقدّمات الطلاق، ح5. 2- م.ن،ح3. 3- م.ن، ج26، باب 4 من أبواب ميراث الأخوة، ح4. 4- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج26، باب 4 من أبواب ميراث الأخوة، ح1. 5- وأمّا السند ففيه الثقات الأجلّة، إلّا أنّ عبد الله بن محرز مجهول، ومع ذلك يؤخذ بهذه الرواية, وذلك لما ورد من الشهادة، في ذيلها، على صحّة المدلول، وهي: قال ابن اذينة: فذكرت ذلك لزرارة فقال: إنّ على ما جاء به ابن محرز لنوراً. فبما أنّ ابن أذينة (الراوي عن ابن محرز) قال: فذكرت ذلك، يفيد الذكر بأنّه اعتمد على مدلول الرواية واعتقد بصدورها، وبعد ما سمع زرارة، فقال: إنّ على ما جاء به ابن محرز لنوراً. فالذيل يوجب الوثوق بالصدور، ويتحقّق الموضوع لحجيّة الخبر فيتمّ المطلوب. 6- م.ن، ج15، باب30 من أبواب مقدّمات الطلاق، ح9. 7- الشيرازي، القواعدالفقهية، م.س، ج2، ص166. 8- النساء: 141. 9- الحكيم، نهج الفقاهة، م.س، ص314. 10- م.ن، ص317. يتبع |
الدرس الثالث عشر: قاعدة الاشتراك في التكليف
أهداف الدرس - التعرّف على معنى قاعدة الاشتراك في التكليف وأدلّتها. - القدرة على الاستدلال على حجّيّة القاعدة. - التدرّب على تطبيق القاعدة في مواردها. -------------------------------------------------------------------------------- 173 -------------------------------------------------------------------------------- المقدّمة الأصل أن يشترك جميع المكلّفين في التشريعات والتكاليف الصادرة عن الشارع المقدّس, التزاماً بمبدأ عالميّة الدين الإسلاميّ، وتعميماً لجميع الأحكام الّتي صدرت في مناسبات مختلفة في صدر الإسلام، على جميع المكلّفين في الأزمنة التالية. بيان المراد من القاعدة المراد من القاعدة اشتراك جميع المكلّفين في التكليف في الأحكام الشرعيّة، وعدم اختصاص هذه الأحكام بجماعة دون جماعة، فهي تعمّ الحاضرين والغائبين والعالمين والجاهلين أجمعين، فلا اختصاص بزمان أومكان أو طائفة أو شخص أوجنس. وذلك كما إذا صدر في واقعة ما حكم شرعيّ موجَّه إلى طائفة أوشخص معيَّن، فهذا الحكم سيكون مشتركاً بين جميع المكلَّفين، الرجل والمرأة، الحاضر والغائب، العالم والجاهل، والمراد به توسعة الخطاب أوالمخاطب. هذا إذا لم يكن هناك ما يدلُّ على مدخليَّة خصوصيَّة لا تنطبق إلاَّ على شخصٍ خاصٍّ، أوطائفة خاصَّة، أو زمان خاصّ، كزمان حضور الإمام عليه السلام فالحكم -------------------------------------------------------------------------------- 175 -------------------------------------------------------------------------------- سيكون مشتركاً بين جميع المكلَّفين إلى يوم القيامة، سواءً أكان ثبوته بخطاب لفظيّ، أم بدليل لبِّيّ من إجماعٍ وغيره.1 وهنا، لا بدّ من بيان أمور وتوضيحها: أ- لا يُراد من الاشتراك اتّحاد جميع المكلَّفين في الأحكام بأيّ صفة كانت وعلى أيّ حال من الأحوال, لأنَّ هذا باطل بالضرورة، ولا إشكال في اختصاص بعض المكلَّفين دون بعض عند الضرورة وعدمها، وعند المرض وعدمه، وغيرها من القيود والشروط والاستثناءات. ب- الاشتراك لا ينافي اختصاص النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ببعض الأحكام, لامتيازه صلى الله عليه وآله وسلم من سائر البشر، وبلوغه أعلى مراتب الكمال. ولهذا لا يستشكل على بعض استثناءات القاعدة كاختصاصات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يستشكل أيضاً بالأحكام الخاصَّة بالرجل كالجهر دون المرأة، أوبالعكس ككون إرثها نصف إرث الرجل، في كثير من الأحيان, وذلك لأنّ الأصل الاشتراك، والخارج يحتاج إلى الدليل. بيان مدرك القاعدة تمهيد: إنَّ ذكر الدليل على اعتبار قاعدة الاشتراك كان من باب العمل بسيرة المحقِّقين، وإلاَّ فلا تحتاج هذه القاعدة إلى الاستدلال, لأنَّها من ضروريّات الفقه، ولا يكون فيها أيَّ شبهة وأدنى ريب عند المسلمين. "فالآيات والروايات الكثيرة دالَّة على اشتراك الأحكام الواقعيَّة بين العالم والجاهل، وإن شئت فعبِّر عنها بقاعدة الاشتراك، فإنَّها من ضروريات المذهب"2. ومع هذا يمكن الاستدلال على اعتبار القاعدة بأمور، هي: -------------------------------------------------------------------------------- 176 -------------------------------------------------------------------------------- الأوّل: إطلاق خطابات الكتاب: يدلّ عليها من الكتاب الخطابات الشفهيّة، مثل: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّاسُï´¾، وï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ...ï´¾، وما أشبه، ممّا لا إشكال في اتّحاد مفادها مع مفاد سائر الأحكام الّتي لم تصدر بهذه الجمل، مثل: ï´؟كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُï´¾3، ï´؟وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ...ï´¾4،ï´؟وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم...ï´¾5، ï´؟وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِï´¾6، وما أشبه من غير فرق بين أن يكون للتكليف أو للوضع، مثل: ï´؟يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ...ï´¾،7 إلى غيرها. واختصاص الخطاب بالمشافهين، أو الحاضرين دون الغائبين والقادمين، لقبح خطاب غير الحاضر أو المعدوم، إنّما يتمّ إذا لم يكن التشريع للجميع، كما يفهم كلّ أصحاب الأديان والقوانين، فإنّها على نحوالقضايا الحقيقيّة. نعم، إذا كان على نحو القضايا الخارجيّة مثل "جهّزوا جيش أسامة"،8 لم يشمل حتّى غير المعنيّين، فكيف بغيرهم؟ الثاني: ويدلّ عليها من السنَّة الشريفة: 1- الحديث النبويّ المشهور: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة"9. وهويدلُّ على أنَّ الحكم الشرعيّ لا يختصُّ بفرد خاصّ، بل يعمُّ الجميع، بعد معرفة أنَّ المراد بالجماعة هوالعموم، لا جماعة خاصَّة. 2- صحيحة زرارة عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام: "حلال محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرام محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم حرام أبداً -------------------------------------------------------------------------------- 177 -------------------------------------------------------------------------------- إلى يوم القيامة"10. بعد وضوح أنَّ المراد "من الحلال والحرام" هو الأحكام والتشريعات الإلهيّة، دلَّ الحديث على أنَّ الحكم الشرعيّ لا يختصُّ بزمان ولا بشخص أو طائفة، بل يشمل الجميع، فيشترك جميع المكلَّفين في الحكم في مختلف الأعصار. الثالث: الأدلَّة الأوَّليَّة: إنَّ الأدلَّة الّتي تبيّن الحكم تكون على قسمين: 1- الإنشاء العامّ بنحو القضيّة الحقيقيّة، كقوله تعالى: ï´؟...وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً...ï´¾11، هذا القسم بظهوره يشمل الجميع, لأنَّ مفاده تحقُّق الحكم في فرض تحقُّق الموضوع، بلا فرق بين الحاضر والغائب. 2- الخطابات الشفاهيّة: مثل قوله تعالى: ï´؟...وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ...ï´¾ وغيره، هذا القسم بالأسلوب الأوَّليّ، منصرف إلى الحاضرين، ولكن قُرّر في أصول الفقه عدم اختصاصه بالحضور، كما قال المحقّق صاحب الكفاية: "ضرورة وضوح عدم اختصاص الحكم في مثل ï´؟يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ...ï´¾، ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ...ï´¾، بمن حضر مجلس الخطاب، بلا شبهة ولا ارتياب، ويشهد لما ذكرناه صحَّة النداء بالأدوات مع إرادة العموم من العامّ الواقع تلوها بلا عناية"12. الرابع: بناء العقلاء: إنّه بناء كافّة العقلاء، في جميع الأمصار والأدوار، هذا بالإضافة إلى الارتكاز والسيرة. -------------------------------------------------------------------------------- 178 -------------------------------------------------------------------------------- وعليه فلا خصوصيّة للرجل أو المرأة، والصبيّ أو الصبيّة، سواء أكان الخطاب ونحوه للأوّل أم للثاني، مع حفظ القيود والشروط في الموضوع، وبالعكس، ولذا لوسأل زرارة أو أمّ فلان، الإمام الصادق عليه السلام أنّ ثوبه أو ثوبها أصابه بول؟ فقال: اغسله في الماء الجاري مرّة، لم يشكّ في أنّه لا خصوصيّة لمن يسأل، كما لا يشكّ في أنّه لا خصوصيّة لأهل المدينة محلّ السؤال، أو للنهر الّذي أشارإليه الإمام عليه السلام مثلاً بقوله: اغسله فيه. ولذا لم يشكّ الفقهاء قديماً وحديثاً ـ باستثناء المستند ـ في أنّ قوله عليه السلام: "انظروا إلى من معكم من الصبيان"13، يشمل البنات أيضاً. حدود توسعة الاشتراك في التكليف يمكن توسعة الخطاب الموجَّه للرجل، في ضوء القاعدة، للمرأة أيضاً، كما في قوله تعالى: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ...ï´¾، فيكون الخطاب شاملاً للرجل والمرأة معاً، ويكون الخطاب كأنَّه: يا أيّها الذين آمنوا واللواتي آمنَّ. وممَّا يراد بالقاعدة اشتراك الكفَّار مع المؤمنين في التكاليف الإنشائيَّة والفعليَّة، بمعنى أنَّه كما يكون المسلم مبعوثاً إلى مثل الصلاة، كذلك يتوجَّه البعث إلى الكافر أيضاً من دون فرق، وكما يكون المسلم مزجوراً عن مثل شرب الخمر، كذلك يتوجَّه الزجر إلى الكافر أيضاً بنفس ذلك الخطاب.14 على تفصيل في محلّه. ولكن يوجد رأي آخر يقول بعدم توجّه التكليف بالفروع إلى الكافي... -------------------------------------------------------------------------------- 179 -------------------------------------------------------------------------------- الأفكار الرئيسة - يُراد بقاعدة الاشتراك: أنَّ جميع المكلَّفين مشتركون في التكليف، وأنَّ الأحكام تشتمل على الحاضر منهم والغائب والعالم والجاهل أجمع. - استدلّ على القاعدة بروايات بعضها صحيح، استفيد منها عموم الخطاب. - إنَّ الأدلَّة الأوَّليَّة إمَّا أن تكون على نحوالقضيَّة الحقيقيّة، وهذا النحويشمل جميع المكلَّفين، بلا فرق بين الحاضر والغائب، والعالم والجاهل، والرجل والمرأة، أوتكون على نحو الخطابات الشفاهيّة، وقد قرّر في محلّه من علم الأصول بأنَّها غير مختصَّة بالحاضرين، خصوصاً على القول بأنَّ الخطاب موجّه إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. - يمكن توسعة عمومات أدلّة القاعدة لتشمل غير المسلمين في العديد من الخطابات الشرعيّة. مطالعة تطبيقات في قاعدة الاشتراك 1- الحكم بوجوب قضاء الصلاة الواجبة الّتي فات وقتها، عمداً أوسهواً أوجهلاً، أوبسبب النوم المستوعب للوقت أوغير ذلك، لا يختصُّ بالسائل وحده، بل يشمل الجميع, لأجل قاعدة الاشتراك. 2- الماء الراكد القليل ينفعل بملاقاة النجاسة، وأمَّا إذا بلغ كرّاً فلا ينفعل، ودليل هذا الحكم هوجواب الإمام عليه السلام عن سؤال وُجّه إليه من أحد المكلّفين، في قضيَّة خاصَّة، وتسرية الحكم إلى كلِّ ماءٍ يحتاج إلى القاعدة. 3- سئل الإمام عليه السلام عن حكم رجل شرب الخمر وبصق فأصاب ثوب شخص، فأجاب الإمام عليه السلام: لا بأس، وهذا الحكم يمكن تعميمه على كلّ شخص، ابتلي بمثل ذلك, لقاعدة الاشتراك. 4- هل يجب على الوليّ (الولد الأكبر) قضاء صوم المرأة، متناسقاً لقضاء صوم الرجل، أم لا؟ قال المحقّق صاحب الجواهر رحمه الله: الأقوى هوثبوت القضاء وفاقاً لظاهر المعظم، بل نسب إلى الأصحاب, لقاعدة الاشتراك15. أسئلة وتمارين - ضع علامة صحّ أو خطأ في المكان المناسب: 1- يُراد بقاعدة الاشتراك أنَّ جميع المكلَّفين مشتركون في التكليف، وأنَّ الأحكام تشتمل على الحاضر منهم والعالم فقط. 2- يقصد بقاعدة الاشتراك أنَّ جميع المكلَّفين - بلا فرق بين الحاضر منهم والغائب، والعالم والجاهل - مشتركون في التكليف، وأنَّ الأحكام تشمل جميعهم دون فرق. 3- لا يمكن توسعة عمومات أدلّة القاعدة لتشمل غير المسلمين، في العديد من الخطابات الشرعيّة. 4- يمكن التمسُّك (للاستدلال على القاعدة) باستصحاب بقاء الأحكام الثابتة لجماعة المسلمين في صدر الإسلام، في جميع الأزمنة المتأخِّرة عنه حتّى قيام الساعة. 5- يُراد من الاشتراك اتّحاد جميع المكلَّفين في الأحكام، بأيّ صفة كانوا، وعلى أيّ حال من الأحوال. - عالج الأسئلة الآتية: 1- كيف يمكن الاستدلال على قاعدة الاشتراك بوساطة الأدلَّة الأوَّليَّة للأحكام؟ 2- هل يصلح أصل الاستصحاب لإثبات اشتراك جميع المكلَّفين في الأحكام؟ وكيف؟ 3- هل هناك روايات صحيحة تدلُّ على اعتبار قاعدة الاشتراك؟ وما هي؟ 4- كيف نجمع بين مفاد أدلّة قاعدة الاشتراك، وبين تخصيص الكثير من الأحكام بالرجال دون النساء، أوالعكس مثلاً؟ 5- هل يصحّ القول باشتراك الكفّار مع المسلمين في الخطابات؟ علّل، وأوضح ذلك. 6- ألا يقتضي الاشتراك في التكاليف عدم تمييز المرأة من الرجل، في حصّتها من التركة؟ كيف توجّه هذا الأمر؟ هوامش 1- اللنكراني، فاضل: القواعدالفقهية، تقديم محمّد جواد فاضل اللنكرني، ط1، قم المقدّسة، مطبعة مهر، 1416هـ.ق، ج1، ص295. 2- الخوئي، مصباح الأصول، م.س، ج2،ص257. 3- البقرة: 183. 4- البقرة: 43. 5- الأنفال: 41. 6- آل عمران: 97. 7- النساء: 11. 8- المجلسي، بحارالأنوار، م.س، ج30، ص432. 9- الإحسائي، عوالي اللآلي،م.س، ج1، ص99؛ المجلسي، بحارالأنوار، م.س، ج2، ص272. 10- الكليني، الكافي، ج1، كتاب فضل العلم، باب التقليد،ح19، ص47. 11- آل عمران: 97. 12- الخراساني، كفايةالأصول، م.س، ج1، ص358. 13- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج11، باب17 من أبواب أقسام الحج،ح3- 5. 14- اللنكراني، القواعد الفقهيّة، م.س، ج1، ص325. 15- النجفي، جواهرالكلام، م.س، ج17، ص45. يتبع |
الدرس الرابع عشر: قاعدة الإقرار
أهداف الدرس - التعرّف على معنى قاعدة الإقرار وأدلّتها. - القدرة على الاستدلال على حجّيّة القاعدة. - التدرّب على تطبيق القاعدة في مواردها. -------------------------------------------------------------------------------- 185 -------------------------------------------------------------------------------- المقدّمة حدّدت الشريعة المقدّسة مجموعة من الحقوق الّتي تنفذ بإقرار المكلّف على نفسه، واعتبرت إقراره جائزاً، بل حجّة يترتّب عليه الأثر، إن كان لصالح الآخر، كما هوالغالب، وقد اعتمد الفقهاء عليها في العديد من الأبواب الفقهيّة، قال العلّامة الحلِّيّ في صيغته: "هي اللفظ المتضمّن للإخبار عن حقّ واجب، كقوله لك عليّ، أوعندي، أوفي ذمّتي، أو ما أشبهه، ويصحّ الإقرار بغير العربيّة اضطراراً واختياراً. وإطلاق الإقرار بالموزون ينصرف إلى ميزان البلد، وكذا المكيل، وكذا إطلاق الذهب أو الفضة، ينصرف إلى النقد الغالب في بلد الإقرار"1. بيان المراد من القاعدة المقصود من القاعدة أنّ كلّ عاقل إذا اعترف بشيء هو في غير صالحه، كان ملزَماً باعترافه، فلو اعترف قائلاً بأنّ الدار الّتي أسكن فيها ليست هي لي، بل لزيد، أُخذ باعترافه وكان ملزماً به. وهكذا لو قال: إنّي لم أدفع المهر -------------------------------------------------------------------------------- 187 -------------------------------------------------------------------------------- لزوجتي، وهو بعدُ في ذمّتي، كان ذلك منه اعترافاً على نفسه، وكان ملزماً به. أمّا إذا قال: الدار الّتي يسكن فيها زيد هي ليست له، بل قد غصبها منّي، لم يكن ذلك منه مقبولاً، بل احتيج في تصديقه إلى إثبات بالبيّنة, لأنّه ليس اعترافاً على نفسه، بل هوادّعاء في صالح نفسه ونفعها، والادّعاء المقبول هو ما كان في ضرر المدّعي، لا ما كان في صالحه. توضيح مفردات القاعدة: "على": ومنه يتّضح أنّ كلمة "على" المذكورة في لسان القاعدة يُراد بها الإشارة إلى حيثيّة كون الادّعاء في ضرر المدّعي، فهوعليه وليس له. "جائز": المقصود من كلمة "جائز" الواردة في لسانالقاعدة، هو الجواز بمعنى النفوذ والإلزام، وليس بمعنى الإباحة أو الجواز، في مقابل الحرام، فمعنى الإقرار على النفس جائز يراد به أنّ الإقرار على النفس نافذ وماض وتكون ملزمة به. "الإقرار": والإقرار لغةً وعرفاً، عبارة عن جعل الشيء ذا قرار وثبات، فمتى أقرَّه على شغله: أي جعله ثابتاً في ذلك الشغل. والمراد من الإقرار هنا (في الفقه) هواعتراف المقرّ بما في ذمّته من الدَين أوالحقّ أوالضمان وغيرها، والإقرار هوأقوى الطرق لإثبات الحكم على المكلَّف، أونفيه عنه، وهومقدّم على الطرق الأُخرى، ولا شكّ في نفوذ الإقرار وترتُّب الأثر عليه. وعليه فإذا اعترف المكلَّف بشيء وأقرّه على نفسه يثبت ما اعترف به قطعاً، كما إذا أقرَّ شخصٌ بكونه مديناً لشخص آخر كان ذلك الإقرار حجَّة قطعيّة، ويثبت عليه الدَين بإقراره، فيُلزم بإعادته إلى المالك الحقيقيّ، ويترتّب على هذا الإقرار أنَّ الإنكار بعده يسمع، فلوأقرّ بأنَّه مديون، لزمه ولوادَّعى بعد ذلك -------------------------------------------------------------------------------- 188 -------------------------------------------------------------------------------- الإيفاء، طُولِب بالبيِّنة.2 ومن المعلوم أنَّ مورد الإقرار إنَّما هو في الأمور الّتي تكون ضرريَّة وكلفة بالنسبة إلى المقرّ نفسِه - كما هوحاله عند الإقرار بالدين -، فعليه لا يكون الاعتراف بالأمر الّذي ينتفع به المقرّ نفعاً دنيويّاً ونحوه حجَّة له، بل لا يطلق الإقرار على ذلك الاعتراف بحسب الاصطلاح. بيان مدرك القاعدة الأصل في شرعيَّة الإقرار، بعد الإجماع من المسلمين أو الضرورة، السنَّة المقطوع بها من طرق المسلمين، وقد خصّص الحرّ العامليّ في الوسائل كتاباً خاصّاً جمع فيه الروايات الخاصّة بالإقرار3. وقد تحقَّق التسالم عند الفقهاء بالنسبة إلى نفوذ الإقرار ولا إشكال فيه ولا خلاف، فالأمر متسالم عليه عندهم. قال الشيخ الأنصاريّ في مقدمة رسالته الّتي ألّفها في القاعدة المذكورة: "اشتهر على ألسنة الفقهاء، من زمان الشيخ قدس سره إلى زماننا، قضية كليّة يذكرونها في مقام الاستدلال بها، على ما يتفرّع عليها كأنّها بنفسها دليل معتبر أو مضمون دليل معتبر، وهي أنّ من ملك شيئاً ملك الإقرار به ..."4. ومع هذا، يُستدلّ على حجّيَّة القاعدة بالأدلَّة الآتية: الأوّل: الكتاب: يمكن الاستدلال على القاعدة بقوله تعالى: ï´؟كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْï´¾5. فهي تدلّ على أنّ الإنسان يجب أن يشهد بالحقّ ولوكان ذلك في غير صالح نفسه. -------------------------------------------------------------------------------- 189 -------------------------------------------------------------------------------- وغاية ما يقتضيه هذا أنّ ما ثبت كونهحقّاً تلزم الشهادة به، وبالالتزام العرفيّ تدلّ على وجوب قبوله، ولا تدلّ على أنّه لوشهد شخص على نفسه بشيء، واحتملنا كونه مشتبهاً، يلزم قبول ذلك أيضاً. وبكلمة أخرى: هي تدلّ على أنّ الحقّ إذا شهد به يلزم قبوله، وهذا أمر مسلّم به، غير قابل للشك وإلّا لم يكن الحق حقّاً، ولا تدلّ على أنّ كلّ ما شهد به، ما دام هوعلى النفس، يلزم قبوله حتّى ولو لم يحرز كونه حقّاً. الثاني: الروايات: وهي الواردة في مختلف الأبواب وتبلغ درجة التواتر. منها: صحيحة عبد الله بن مغيرة، عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام: "في رجلين كان معهما درهمان، فقال أحدهما: الدرهمان لي، وقال الآخر: هما بيني وبينك، قال: فقال أبوعبد الله عليه السلام: أمَّا الذي قال هما بيني وبينك فقد أقرّ بأنَّ أحد الدرهمين ليس له فيه شيء، وأنَّه لصاحبه ويقسّم الثاني بينهما نصفين"6. دلَّت على نفوذ الإقرار ومؤاخذة المقرّ على ما أقرّ به. ومنها: النبويّ المشهور بين الفريقين وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إقرار العقلاء على أنفسهم جائز"7. ولا إشكال في دلالة الحديث، واعتماد الفقهاء عليه، حتّى في إطلاقه على اسم القاعدة، ولكنّ المشكلة في السند، فهوكما قال صاحب الوسائل: "رواه جملة من علمائنا في كتبهم الاستدلاليّة من دون أن يعرف له مستند غير ذلك"8. نعم، رواه الأحسائيّ في كتابه عوالي اللئالي، ناسباً إيّاه إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم9، والكتاب المذكور ليس مورداً للاعتماد. وأمّا شهرة العمل به - -------------------------------------------------------------------------------- 190 -------------------------------------------------------------------------------- على تقدير كونه حديثاً- فهي لوتمّت كبرى وصغرى فلا يمكن التعويل عليها في المقام, لاحتمال أنّ استنادهم إليه ليس لثبوت حجّيّته لديهم كحديث, بل لأنّ مضمونه مضمون عقلائيّ لا يحتاج إلى رواية. ومنها: خبر جرَّاح المدائنيّ عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا أقبل شهادة الفاسق إلاَّ على نفسه"10، وهذا الخبر يدلُّ على نفوذ الإقرار على النفس، وإن كان فاسقاً. وبالمجموع دلّت هذه الروايات - بعد إلغاء الخصوصيّة عن المورد - على كون الإقرار طريقاً لإثبات متعلّق الإقرار على المقرّ. خلاصة الكلام: إنّ الروايات الصادرة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام في الموارد الخاصّة الدالّة على نفوذ إقرار كلّ عاقل على نفسه، كثيرة جدّاً، ومن راجع كتب الحديث من الفريقين- باب القصاص، وباب الحدود، وباب الديَات، وباب الغصب، وباب الإقرار، وباب القضاء منها ـ وأمعن النظر، لا يتأمّل في أنّ ذكر الموارد لأجل تطبيق الكبرى الكلّيّة عليها، أو لأجل الجواب عن القضايا الشخصيّة، وإلّا فلا خصوصيّة لها، بل الحكم عام، أي مفاد تلك الأخبار نفوذ إقرار كلّ عاقل على نفسه في أيّ مورد كان، ويكون حكماً كليّاً لإقرارات جميع العقلاء في جميع الموارد. الثالث: السِّيرة: استقرَّت السِّيرة العقلائيَّة منذ بداية التاريخ، وفي جميع الملل والأديان، على نفوذ إقرار كلِّ عاقل على نفسه، فإنَّ معظم المعاملات عند العقلاء يبتنى على أساس الإقرار، ويترتَّب عليه الأثر، وهو طريق مثبت لما أقرَّ به عندهم جميعاً ولم ينكره أحدٌ. -------------------------------------------------------------------------------- 191 -------------------------------------------------------------------------------- هل يختصّ الإقرار بالبالغ؟ لا ريب في صحَّة إقرار البالغ، وأمَّا بالنسبة إلى إقرار الصبيّ فإنَّ أدلَّة الإقرار لا تشمل إقرار الصبيّ قطع, ولا أقلّ من أنَّها منصرفة من الصبيان، فلا شكَّ في أنَّ ما دلّت عليه الأدلّة هوالبالغ، وأنّ المراد من قولهم: "إقرار العقلاء" هم البالغون دون غيرهم. فلا ينفع ذلك في إقرار الصبيّ فيما له أن يفعله11, وذلك للفرق الواضح بين المقامين. استثناءات من قاعدة قبول الإقرار تقدّم أنّ قاعدة إقرار العقلاء على أنفسهم جائز هي من القواعد الّتي انعقدت عليها سيرة العقلاء، بيد أنّه يُستثنى من ذلك بعض الموارد، كموارد الاتّهام، كما لو فرض أنّ شخصاً أقرّ بكونه سارقاً، واحتملنا أنّ غرضه من وراء ذلك قطع يده، ومن ثمّ إعفاؤه من الخدمة العسكريّة، فإنّ الإقرار في مثل ذلك لا يكون نافذ, لأنّ مدرك حجّيّته على ما تقدّم هوالسيرة العقلائيّة، وهي خاصّة بموارد عدم الاتّهام. الفرق بين قاعدة الإقرار وقاعدة من ملك شيئاً ملك الإقرار به أوضحنا المراد من قاعدة الإقرار، وأمّا قاعدة: "من ملك شيئاً ملك الإقرار به" فالمقصود منها أنّ كلّ من كان من حقّه القيام بتصرّف معيّن، فمتى ما أخبر عن تحقّق ذلك التصرّف قُبِلَ إخبارُه من دون مطالبة بإثبات ذلك، فلوأخبر الزوج الّذي من حقّه طلاق زوجته متى ما شاء: إنّي طلّقت زوجتي، قُبِلَ منه الإخبار المذكور، وحكم بتحقّق طلاق الزوجة بدون أن يُطالب بإثبات ما أخبر عنه من خلال البيّنة. وهكذا الحال لوأوكلنا تصرّفاً معيّناً إلى شخص فقلنا لأحد أصدقائنا: أنت -------------------------------------------------------------------------------- 192 -------------------------------------------------------------------------------- وكيلي في شراء الدار الفلانية، فجاء بعد مدّة مخبراً بأنّي اشتريتها بسعر كذا، قُبل منه ذلك بدون أن يطالَب بالإثبات. ومن هذا يتّضح أنّ المقصود من جملة: "ملك شيئاً" السلطنة على التصرّف المعيّن. كما وأنّ المقصود من جملة: "ملك الإقرار به" نفوذ الإخبار عن تحقّق ذلك التصرّف المعيّن بلا مطالبة بالحجّة على تحقّقه. واتّضح أيضاً من خلال كلّ ما ذكرناه أنّ معنى كلمة الإقرار في القاعدة الأولى والقاعدة الثانية متغاير، ففي القاعدة الأولى يُراد منها الاعتراف في غير صالح النفس، بينما في القاعدة الثانية يُراد منها الإخبار عن تحقّق التصرّف المعيّن. من خلال ما ذكرناه في معنى القاعدتين يتّضح أنّ القاعدتينلا ترجعان إلى قاعدة واحدة، بل لكلّ واحدة معنى يغاير المعنى المقصود من الثانية12. ومع هذا يمكن القول: إنّ القاعدتين متغايرتان مفهوماً، بيد أنّهما قد تلتقيان مورداً. فإذا أخبر شخص بأنّي قد أوقفت داري على الفقراء، أوأوصيت بها إليهم، قُبل منه، وكان ذلك مورداً لكلتا القاعدتين. الفرق بين البيّنة والإقرار الفرق بين البيِّنة والإقرار، أنَّ البيِّنة جعلها الشارع طريقاً نزّل مؤدَّاها منزلة الواقع، فإذا شهدت البيِّنة بطهارة ماء كان نجساً صار الماء بمنزلة ما لوطهَّرته بنفسك، فتشربه وتتوضَّأ به، أمَّا الإقرار فلا نظر في أدلَّة اعتباره إلى الواقع، بل غايته أنَّ المقرَّ يُلزم بإقراره، أمَّا غير المقرّ فلا يُلزم به. فلوأقرّ زيد بزوجيّة هند له وأنكرت هي، فإنَّه يُلزم بآثار الزوجيَّة من مهر نفقة وغيرهما، ولا تُلزم هي بشيء من آثار زوجيّته، أمَّا لو أقام البيِّنة عليها، أوحكم الحاكم، فإنَّها تُلزم بجميع الآثار، ولا يبقى أيّ أثر لإنكارها.13 -------------------------------------------------------------------------------- 193 -------------------------------------------------------------------------------- الأفكار الرئيسة - يراد بقاعدة الإقرار: إلزام الشخص بما يعترف به في ذمّته من الدَّين والحقّ والضمان وغيرها، وترتّب الأثر عليه. - يعتبر الإقرار من أقوى الطرق في إثبات الحكم على المكلَّف، ومورد القاعدة إنَّما هوالأمور التي تكون ضرريَّة وكلفة بالنسبة إلى المقرّ دون ما ينتفع به. - أهمّ ما يمكن الاستدلال به على اعتبار القاعدة هو: 1- الروايات الكاشفة عن السنَّة المقطوع بها. 2- السِّيرة العقلائيَّة. 3- التسالم عند الفقهاء بالنسبة إلى نفوذ الإقرار، بل هومن مرتكزات المتشرّعة. 4- يوجد فرق واضح بين قاعدة الإقرار وبين قاعدة من ملك شيئاً ملك الإقرار به. مطالعة تطبيقات في قاعدة الإقرار 1- لا يختصّ الإقرار باللفظ، فيصحّ بالإشارة المعلومة، والإشارة المفهمة بالنسبة إلى الأخرس. 2- إنَّ الإقرار يصدق إقراراً على نفسه، لا على غيره، وأمَّا ما يدَّعيه في حقِّ الآخرين فهومجرّد دعوى، ولا يسمَّى إقراراً. 3- لوأقرَّ الميّت في وصيّته بأنَّ جميع أمواله لزيد، نفذ إقراره في حصّته وهي (الثلث)، أمَّا إذا زاد على ذلك، فلا ينفذ بها إقراره، إلاَّ إذا صدَّقه الورثة. 4- إذا أقرّ بدَين مشترك عليه وعلى غيره، ينفذ إقراره على نفسه فقط دون غيره. 5- إذا أقرّ بالزنا بالمرأة الفلانيَّة، يترتّب على إقراره حدّ الزنا، الجَلد مع عدم الإحصان، والرّجم معه، لكنَّه لا يترتَّب على المرأة شيءٌ من جهة هذا الإقرار أصلاً. 6- لوأقرّ ببنوَّة شخصٍ، يترتَّب على إقراره وجوب الإنفاق ـ على تقديره ـ ، كما أنَّه يرثُ الشخص من المقرّ بمقتضى إقراره14. أسئلة وتمارين - ضع علامة صحّ أو خطأ في المكان المناسب: 1- يُراد من قاعدة "إقرار العقلاء على أنفسهم جائز" أنّ كلّ عاقل غير متّهم، إذا اعترف بشيء هو في غير صالحه، كان ملزماً باعترافه. 2- شخص أقرّ على نفسه بإشارة تفهم ذلك فيترتّب الأثر على إقراره. 3- إذا أقرَّ المكلَّف بولد أو أخ أو أخت، فينفذ إقراره مع احتمال صدقه فيما عليه من وجوب الإنفاق أو حرمة النكاح أو المشاركة في الإرث ونحوه. 4- إذا أقرّ شخص بأن لزيد دَيْناً على فلان، فلا يقبل إقراره. 5- إنَّ الإقرار يصدق إقراراً على النفس وعلى الغير. 6- لا يختصّ الإقرار باللفظ، فيصحّ بالإشارة المعلومة، والإشارة المفهمة بالنسبة إلى الأخرس فقط. - عالج الأسئلة الآتية: 1- إذا أقرّ شخص بكون شيء معيّن بيده ملكاً لزيد، ثمّ عقّبه بكونه ملكاً لعمرو، فما هو الموقف في الحالة المذكورة؟ 2- إذا كان شخص يسكن داراً وادّعاها شخصان، فتارة يكذّبهما ويقول: هي لي، وأخرى يصدّق أحدهما، وثالثة يقول: ليست هي لي من دون أن يقول هي لهما، ورابعة يقول: هي لهما، فما هوالموقف في الحالات المذكورة؟ 3- إذا قال شخص: داري بعتها لزيد بألف دينار مثلاً، وقال زيد: نعم، يستحقّ عليّ الشخص المذكور ألف دينار مقابل الدار صدّقا في ذلك، ولكن هل يُحتاج، في تصديقهما، إلى بيّنة أو يمين، ولماذا؟ 4- إذا رأينا رجلاً وامرأة في خلوة وادّعيا الزوجيّة بينهما فهل يصدّقان، ولماذا؟ 5- إذا قال شخص: هذا الكتاب الذي بيدي هو لزيد، وقال زيد: ليس هو لي، فما هو الحكم في هذه الحالة؟ 6- إذا أقرَّ المكلَّف بأنَّه شريك مع زيد في متجره الّذي يديره هو، وأنَّ لزيد ثلث الأسهم من رأس المال، فهل يُلزم بهذا الإقرار؟ ولماذا؟ هوامش 1- الحلّي، نجم الدين جعفر بن الحسن: شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، تعليق السيد صادق الشيرازي، ط2، طهران، انتشارات استقلال؛ مطبعة أمير، 1409هـ.ق، ج3، ص690. 2- كاشف الغطاء، محمّد حسين: تحريرالمجلَّة،لاط، النجف الأشرف، المطبعة الحيدرية، 1359هـ.ق، ج1،ص51. 3- انظر: العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج23، كتاب الإقرار. 4- الرسالة الملحقة في آخر كتاب المكاسب للشيخ الأنصاريّ قدس سره. 5- النساء: 135. 6- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج13، باب9 من كتاب الصلح، ح1، ص169. 7- م.ن، ج16، باب3 من كتاب الإقرار، ح1، ص11. 8- العاملي، وسائل الشيعة، ج16، باب3 من أبواب الإقرار،ح2. 9- الإحسائي، ابن أبي جمهور: عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، تقديم السيد شهاب الدين النجفي المرعشي، تحقيق الحاج آقا مجتبى العراقي، ط1، قم المقدّسة، مطبعة سيّد الشهداء عليه السلام، 1403هـ.ق/ 1983م، ج3، ص223. 10- الكليني، الكافي،م.س، ج7،باب مايراد من الشهود،ح5، ص395؛ العاملي، وسائل الشيعة،م.س، ج16، باب6 من كتاب الإقرار،ح1، ص112. 11- الأنصاري، المكاسب، م.س، الخيارات، ص368. 12- الإيرواني، محمّد باقر: دروس تمهيديّة في القواعد الفقهيّة، ج2، ص173. 13- الإيرواني، محمّد باقر: دروس تمهيديّة في القواعد الفقهيّة، ج2، ص173. 14- اللنكراني، القواعد الفقهيَّة، م.س، ج1، قاعدة الإقرار، ص73. يتبع |
الدرس الخامس عشر: قاعدة القرعة
أهداف الدرس - التعرّف إلى معنى قاعدة القرعة وأدلّتها. - القدرة على الاستدلال على حجّيّة القاعدة. - التدرّب على تطبيق القاعدة في مواردها. -------------------------------------------------------------------------------- 199 -------------------------------------------------------------------------------- المقدّمة قاعدة القرعة من القواعد المعمول بها في كثير من أبواب الفقه، عند اشتباه حال الموضوعات، وعدم معرفتها على ما هي عليه، وهي برغم شدّة ابتلاء الفقيه بها لم تنقّح في كلماتهم حقّ التنقيح، ولم يُبحث عنها بحثاً وافياً بها، ولذا يُرى في العمل بها تشويشٌ واضطرابٌ ظاهرٌ، فيُعمَل بها في موارد، وتُترك في موارد أخرى مشابهة لها ظاهراً، من دون أن يبيّنوا لهذه التفرقة دليلاً يُعتمد عليه1. ولكن لعلّ ذلك لعدم الحاجة إليه, لوجود أدلّة أخرى مثبتة، ولأنّ القرعة آخر الأدلّة. بيان المراد من القاعدة يقصد بالقاعدة المذكورة أنّ الواقع، إذا أشكل في مورد ولم يمكن تشخيصه من خلال أمارة أو أصل، فيمكن المصير في تعيينه إلى الاقتراع، وذلك بكتابة قطع متعدّدة وسحب واحدة منها. فيكون المراد من القرعة هنا، هوالاقتراع لتعيين المطلوب في الأمور الشرعيّة المشتبهة، فإذا اشتبه الأمر ولم يكن أيّ طريق إلى كشفه فيتوسّل بالقرعة ويتعيّن بها المطلوب. وقد تسالم الفقهاء على كون القرعة طريقاً لحلّ المشكل الفقهيّ (الشبهة)، وعليه قالوا: "القرعة لكلّ أمر مشكل". -------------------------------------------------------------------------------- 201 -------------------------------------------------------------------------------- بيان مدرك القاعدة يمكن الاستدلال على حجّيّة القرعة بعدّة أدلّة من الكتاب والسنّة، إضافة إلى السيرة: الأوّل: من الكتاب: قوله تعالى: ï´؟وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَï´¾2، بتقريب أنّ يونس لمّا خرج من قومه غاضباً عليهم، ركب سفينة لم تتمكّن من مواصلة سيرها، إمّا لاعتراض الحوت لها وعدم اندفاعه إلّا بإلقاء واحد له ليلقمه, أو لزيادة وزنها الذي يحتاج معه إلى إلقاء واحد من الركاب، وبالتالي تمّ الاتّفاق على الاقتراع لتعيين ذلك الشخص، وخرجت القرعة باسم يونس، ووافق على نتيجة القرعة، فإنّ ذكرها في القرآن الكريم واشتراك النبي يونس عليه السلام بها وقبوله لنتيجتها يدلّ على حجّيّة القرعة، وإلّا لَمَا اشترك يونس عليه السلام الّذي هومعصوم في ذلك. وقوله تعالى: ï´؟وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَï´¾3، وهي واردة في قصّة ولادة مريم عليها السلام، وما رامته أمّها امرأة عمران، حيث إنّها بعد ما وضعتها أنثى لفّتها في خرقة وأتت بها إلى المعبد ليتكفلّها عبّاد بني إسرائيل، وقد مات أبوها من قبل، فقالت دونكم النذيرة4، فتنافس فيها الأحبار, لأنّها كانت بنت إمامهم عمران، فوقع التشاحّ بينهم فيمن يكفل مريم حتّى قد بلغ حدّ الخصومة ï´؟إِذْ يَخْتَصِمُونَï´¾، فما وجدوا طريقاً لرفع التنازع إلّا القرعة، فتقارعوا بينهم، فألقوا أقلامهم الّتي كانوا يكتبون بها التوراة في الماء، وقيل: ألقوا قداحهم للاقتراع، جعلوا عليها -------------------------------------------------------------------------------- 202 -------------------------------------------------------------------------------- علامات يعرفون بها من يكفل مريم، فارتزّ5 قلم زكريّا ثمّ ارتفع فوق الماء، ورسبت أقلامهم، وقيل ثبت قلم زكريّا وقام طرفه فوق الماء كأنّه في الطين، وجرت أقلامهم مع جريان الماء، فوقعت القرعة على زكريّا - وقد كانوا تسعة وعشرين رجلاً - فكفلها زكريّا، وكان خير كفيل لها وقد كان بينهما قرابة, لأنّ خالة أمّ مريم كانت عنده. هذا، ولكنّ في الآية نفسها إبهام, فإنّ كون جملة ï´؟إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْï´¾ بمعنى الاقتراع غير واضح، إلّا أنّ بعض القرائن الداخليّة والخارجيّة رافعة للإبهام عنها، كقوله تعالى: ï´؟أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَï´¾، وقوله: ï´؟إِذْ يَخْتَصِمُونَï´¾، وغير واحدة من الروايات الواردة في تفسير الآية الّتي تأتي الإشارة إليها. وبالنتيجة، في الآية دلالة على أنّ القرعة كانت مشروعة لرفع النزاع والخصومة في الأمم السالفة، ويمكن إثباتها في هذه الأمّة أيضاً بضميمة استصحاب الشرايع السابقة، مضافاً إلى أنّ نقله في القرآن من دون إنكار، دليل على ثبوتها في هذه الشريعة أيضاً، وإلّا لوجب التنبيه على بطلانها في هذه الشريعة. الثاني: من السنّة: الرواية الأولى: صحيحة محمّد بن حكيم: "سألت أبا الحسن عليه السلام عن شيء؟ فقال لي: كلّ مجهول ففيه القرعة. قلت له: إنّ القرعة تخطئ وتصيب؟ قال: كلّ ما حكم الله به فليس بمخطئ"6. ووجه الاستدلال بالرواية، لناحية عدم تخصيص الحكم هنا بالمنازعة ونحوها، بل عنوانه "كلّ مجهول". وأما إبهام كلمة "شيء" واحتمال كون السؤال عن شيء خاصّ متنازع فيه، فالحقّ أنّه لا يضرّ بإطلاق قوله: "كلّ مجهول ففيه القرعة", لأنّ ورود السؤال في مورد -------------------------------------------------------------------------------- 203 -------------------------------------------------------------------------------- خاصّ لا يضرّ بعموم الحكم إذا كان اللفظ عامّاً. وأمّا قوله: "كلّما حكم الله به فليس بمخطىء"، فقد ذكر فيه احتمالان: أحدهما: أن يكون المراد خروج سهم المحقّ واقعاً، فهوردع لقول السائل إنّ القرعة تخطىء وتصيب، وإثبات لعدم خطئها، وهذا المعنى بعيد عن ظاهر الرواية. ثانيهما: وهو الأنسب بظاهرها أن يكون المراد عدم الخطأ في الحكم بحجّيّة القرعة، فإنّه لو لم يكن هناك مصلحة في العمل بالقرعة والحكم بحجّيتها، لما حكم به الله، فالمعنى أنّ خطأ القرعة عن الواقع، أحياناً، لا يمنع من كون نفس الحكم بحجّيّتها صواباً ومشتملاً على المصلحة، فحكم الله ليس بخطأ. والذي يؤيّد هذا المعنى بل يدلّ عليه أنّ قوله: "كلّ ما حكم الله به" بمعنى نفس الحكم، فعدم الخطأ فيه لا في متعلّقه الّذي هو القرعة. هذا، مضافاً إلى أنّ العلم بوقوع الخطأ في كثير من الأمارات الشرعيّة، مع أنّها ممّا حكم الله به، يمنع من حمل الحديث على هذا المعنى، لوفرض ظهوره فيه بادئ الأمر. الرواية الثانية: صحيحة إبراهيم بن عمر، عن أبي عبد الله عليه السلام: "رجل قال: أوّل مملوك أملكه فهوحرّ فورث ثلاثة؟ قال: يقرع بينهم، فمن أصابته القرعة أُعتق. قال: والقرعة سنّة"7، فإنّ ذيلها "والقرعة سنّة" يمكن أن يُستفاد منه حجّيّة القرعة في جميع الموارد. وهذا الحديث، وإن كان وارداً في مورد خاصّ، ولكنّ قوله: "القرعة سنّة" يدلّ إجمالاً على عموم الحكم، وعدم اختصاصه بالمقام. الرواية الثالثة: ما رواه الصدوق بإسناده عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً عليه السلام إلى اليمن، -------------------------------------------------------------------------------- 204 -------------------------------------------------------------------------------- فقال له، حين قدم: حدّثني بأعجب ما ورد عليك، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتاني قوم قد تبايعوا جارية، فوطئها جميعهم في طهر واحد، فولدت غلاماً، فاحتجّوا فيه، كلّهم يدّعيه، فأسهمت بينهم فجعلته للذي خرج سهمه وضمنته نصيبهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ليس من قوم تقارعوا ثمّ فوّضوا أمرهم إلى الله إلّا خرج سهم المحقّ"8. ورواه في التهذيب والاستبصار، عن عاصم بن حميد، عن بعض أصحابنا، عن أبي جعفر عليه السلام، إلّا أنّه قال: "ليس من قوم تنازعوا ثم فوّضوا..."، ولعلّه الأصحّ, فإنّ التفويض إلى الله إنّما يكون بعد التنازع وقبل القرعة كما في هذه النسخة، لا بعد القرعة، كما في نسخة الفقيه. وعلى كلّ حال، هذه الرواية عامّة في جميع موارد التنازع والمشكلات، وموردها يكون من الأمور المشكلة الّتي لها واقع مجهول يراد كشفه، كما أنّ ظاهر الفقرة الواردة في ذيلها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كون القرعة - مع شروطها، ومع التفويض إلى الله - كاشفة عن ذلك الواقع المجهول، وعلى هذا تكون منسلكة في سلك الأمارات، لوكان خروج سهم المحقّ غالبيّاً، ولوكان دائميّاً كانت القرعة أعلى من الأمارات المعمولة، وهذه الرواية المصحّحة المرويّة عن الكتب الأربعة من أحسن ما ورد في هذا الباب9. هذا وهناك روايات خاصّة مبثوثة في مختلف أبواب الفقه تؤيّد عموم القاعدة وعدم اختصاصها بمورد معيّن، وإن لم يكن فيها تصريح بالعموم، ولكن ورودها وانبثاثها في تلك الأبواب المختلفة من المؤيّدات القويّة على المقصود، وقد أعرضنا عن ذكرها اختصاراً.10 -------------------------------------------------------------------------------- 205 -------------------------------------------------------------------------------- الثالث: السيرة العقلائيّة: إنّ العقلاء يعملون بالقرعة عند تمشكل الأمر، فلو زاد عدد الطلّاب عن الحدّ المقرّر للقبول في المدرسة، أو زاد عدد من تقدّم بطلب الحجّ عن الحدّ المقرّر، أُقرع بينهم. والسيرة المذكورة حيث لا يحتمل حدوثها جديداً ولم يرد عنها ردع، تكون حجّة, لإمضائها. اختصاص القرعة بالشبهات الموضوعيّة المستفاد من مجموع الأدلّة والروايات الواردة في مورد القرعة اختصاصها في الشبهة الموضوعيّة الّتي تكون مقرونة بالعلم الإجماليّ، كالشبهة الواقعة في قطيع الغنم ومثلها، ولا أقلّ من أنّ القدر المتيقّن في التمسّك بها هوتعيين الموضوع. كما قال الشهيد الأوّل قدس سره: "ولا تُستعمل (القرعة) في العبادات في غير ما ذكرنا، ولا في الفتاوى والأحكام المشتبهة إجماعاً"11. عموم القرعة لما لا تعيّن له واقعاً إنّ الشيء المجهول هنا يُتصوّر على نحوين: الأوّل: أن يكون متعيّناً واقعاً ومبهماً ظاهراً، كمن أعتق عبداً معيّناً من عبيده، ثمّ اشتبه عليه بعد ذلك. والثاني: أن لا يكون له تعيّن حتّى واقعاً، كما لوأعتق، من البداية، عبداً غير معيّن من عبيده، ثمّ أراد الاقتراع لترجيح أحدهم. والقدر المتيقّن من أدلّة حجّيّة القرعة هوالأوّل. أمّا إذا كان الشيء مبهماً واقعاً أيضاً فقد قيل بعدم شمولها له. وقرّب ذلك الشيخ العراقيّ بالقصور في المقتضي, وأنّ عنوان "المجهول" الوارد في أدلّة حجّيّة القرعة لا يصدق عرفاً إلّا على ما هومتعيّن واقعاً، وقد اشتبه وخفي ظاهراً12. -------------------------------------------------------------------------------- 206 -------------------------------------------------------------------------------- عموم القرعة لغير باب التنازع المورد الّذي يراد فيه الرجوع إلى القرعة تارة يكون مشتملاً على التنازع ويحتاج في رفعه إلى القضاء، وأخرى لا يكون كذلك. فإذا اختلف شخصان في طفلٍ، كلٌّ منهما يدّعي أنّه ولده، كان مثالاً للأوّل. أمّا إذا فرض أنّ كلّ واحد منهما يقول: لا أدري هو ولدي أو لا، مع فرض علمهما بأنّه لا يعدوهما وهوابن لأحدهما جزماً، كان ذلك مثالاً للثاني. والقدر المتيقّن من دليل حجّيّة القرعة هو المورد الأوّل، الّذي فيه نزاع وخصومة وقد وقع الاختلاف في شموله للثاني. والمناسب الحكم بالشمول, فإنّ صحيحة إبراهيم المتقدّمة ناظرة للمورد الثاني، وقد حكم الإمام عليه السلام فيه بالقرعة، بل وقوله عليه السلام في ذيلها: "القرعة سنّة" يدلّ على حجّيّة القرعة فيما شابه المورد المذكور، ممّا ليس فيه نزاع، ولا يختصّ به13. هذا، مضافاً إلى عموم السيرة العقلائيّة وعدم اختصاصها بحالة النزاع. -------------------------------------------------------------------------------- 207 -------------------------------------------------------------------------------- الأفكار الرئيسة - يُقصد بالقاعدة المذكورة أنّ الواقع، إذا أشكل في مورد ولم يمكن تشخيصه من خلال أمارة أو أصل، فيمكن المصير في تعيينه إلى الاقتراع. - يمكن الاستدلال على حجّيّة القرعة من الكتاب، كقوله تعالى: ï´؟وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَï´¾. - ومن السنّة، كصحيحة محمّد بن حكيم: "سألت أبا الحسن عليه السلام عن شيء؟ فقال لي: كلّ مجهول ففيه القرعة. قلت له: إنّ القرعة تخطئ وتصيب. قال: كلّ ما حكم الله به فليس بمخطئ". - إنّ العقلاء يعملون بالقرعة عند تمشكل الأمر عليهم في العديد من الموارد. - المستفاد من مجموع الأدلّة والروايات الواردة في مورد القرعة اختصاصها في الشبهة الموضوعيّة الّتي تكون مقرونة بالعلم الإجماليّ. - القدر المتيقّن من أدلة حجّيّة القرعة، ما إذا كان الشيء متعيّناً واقعاً وطرأ عليه الإبهام ظاهراً. أمّا إذا كان الشيء مبهماً واقعاً أيضاً، فقد قيل بعدم شمولها له. - القدر المتيقّن من دليل حجّيّة القرعة هو المورد الّذي يكون مشتملاً على التنازع ويحتاج في رفعه إلى القضاء، والمناسب الحكم بالشمول، حتّى بدون النزاع والخصومة؛ لقوله عليه السلام في ذيل الرواية: "القرعة سنّة" يدلّ على حجّيّة القرعة فيما شابه المورد المذكور ممّا ليس فيه نزاع. مطالعة كيفيّة إجراء القرعة المعلوم أنّ القرعة كانت متداولة بين العقلاء من قديم الزمان، ولم تكن مقيّدة بكيفيّة خاصّة عندهم. بل كانت كيفيّتها جعل علامات لكلّ واحد من أطراف الدعوى أوذوي الحقوق المتزاحمة أوغيرها، ممّا كان طرفاً للاحتمال، ثمّ الرجوع إلى ما يخرج صدفة من بينها، بحيث لا يحتمل فيه إعمال نظر خاصّ، بل كان استخراج واحد معيّن من بين أطراف الاحتمال، مستنداً إلى مجرّد الصدفة والاتّفاق، كي يكون حاسماً للنزاع والتشاحّ. ومن الواضح أنّ هذا المقصود يؤدّى بكيفيّات عديدة لا تحصى، فلا فرق فيها عندهم بين "الرقاع" و"السهام" و"الحصى" وغيرها، ولا خصوصيّة في شيء منها بعد اشتراكها جميعاً في أداء ذاك المقصود. ومن هنا اختلفت عادة الأقوام في اقتراعاتهم، فكلٌّ يختار نوعاً أو أنواعاً منها، من غير أن يكون نافياً للطرق الأُخرى، ولكنّ الكتابة والرقاع أكثر تداولاً اليوم؛ لسهولتها وإمكان الوصول إليها في جلّ موارد الحاجة، مع بعدها عن احتمال إعمال الميول والأهواء الخاصّة. وقد تُستخرج الرقاع بيد صبيّ، أو بسبب آلة مخصوصة؛ ليكون أبعد من سوء الظن، وأقرب إلى العدالة في استخراجها. هذا ما عند العقلاء. أمّا الروايات الواردة في هذه القاعدة فهي مختلفة: أكثرها مطلقة خالية من تعيين كيفيّة خاصّة للاقتراع، وهي دليل على إيكال الأمر إلى ما كان متداولاً بين العقلاء، وإلى العرف، وإمضاء طريقتهم في ذلك. ولكن ورد في غير واحد منها طرق خاصّة للقرعة من دون نصّ على حصرها فيه على الظاهر. أسئلة وتمارين - ضع علامة صحّ أو خطأ في المكان المناسب: 1- يُقصد بالقاعدة المذكورة أنّ الواقع، إذا أشكل في مورد، وأمكن تشخيصه من خلال أمارة أو أصل، فيمكن المصير في تعيينه إلى الاقتراع أيضاً. 2- إذا علم المكلّف بنجاسة أحد إناءَيْن، فيُستعان بالقرعة لتشخيصه. 3- المستفاد من مجموع الأدلّة والروايات الواردة في مورد القرعة، اختصاصها في موارد الشبهة الموضوعيّة دون الحكميّة. 4- القدر المتيقّن من أدلّة حجّيّة القرعة، ما إذا كان الشيء متعيّناً واقعاً، وطرأ عليه الإبهام ظاهراً. 5- القدر المتيقّن من أدلّة حجّيّة القرعة، ما إذا كان الشيء متعيّناً واقعاً ومبهماً واقعاً أيضاً فقد قيل بعدم شمولها له. 6- المستفاد من دليل حجّيّة القرعة هوشموله لموردي التنازع والخصومة أو عدمهما. - عالج الأسئلة الآتية: 1- إذا لم يكن للمرأة زوج، ووطئها إثنان بالشبهة، فبمن يُلحق الولد؟ 2- في الفرض السابق إذا كان الوطء بالزنا (والعياذ بالله) فبمن يُلحق؟ 3- لوعلم المكلّف بأنّه نذر شيئاً ولا يدري ما هو، فما هوحكمه؟ 4- إذا شككنا في حرمة التدخين، فلماذا لا نرجع إلى القرعة لتشخيص الحكم؟ 5- إذا أعتق المكلّف عبداً متعيّناً واقعاً من عبيده، ثمّ اشتبه عليه ذلك (أيّهم ظاهراً) فما العمل؟ 6- لو أعتق عبداً غير معيَّن من البداية (لا تعيّنَ واقعيّاً له) ثمّ أراد تعيّنه، فما الحكم؟ هوامش 1- القواعد الفقهية، مكارم الشيرازي، 18، ص 323. 2- سورة الصافّات، الآيات: 140-142. 3- سورة آل عمران، الآية: 44. 4- التي نُذرت. 5- ارتزّ: ثبت. 6- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، باب 13 من أبواب كيفية الحكم، ح 11. 7- م.ن، ح2. 8- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج 18، باب 13، الحكم بالقرعة في القضايا المشكلة، ح5. 9- الشيرازي، القواعدالفقهية، م.س، ج1، ص330. 10- انظر: م.ن، ص337. حيث أورد هذه الروايات بالتفصيل. 11- العاملي، محمّد بن مكي(الشهيد الأوّل): القواعد والفوائد، تحقيق السيّد عبدالهادي الحكيم، لاط، قم المقدّسة، منشورات مكتبةالمفيد، لات، ج2 ص 23. 12- البروجردي، محمّد تقي: نهاية الأفكار(تقرير بحث آية الله العظمى الشيخ ضياء الدين العراقي)، ج4، ص 104. 13- الإيرواني، دروس تمهيدية في القواعدالفقهية، م.س، ج2، ص21. يتبع |
الدرس السادس عشر: قاعدة الإسلام يجُبُّ ما قبله
أهداف الدرس - التعرّف على معنى قاعدة "الإسلام يجُبُّ ما قبله" وأدلّتها. - القدرة على الاستدلال على حجّيّة القاعدة. - التدرّب على تطبيق القاعدة في مواردها. -------------------------------------------------------------------------------- 213 -------------------------------------------------------------------------------- المقدّمة هذه القاعدة من القواعد الّتي تعبّر عن فعل الحكيم بداية الدعوة الإسلاميّة، والّتي تأتي في مقام الامتنان والترغيب في الدخول في الإسلام، فهي بمنزلة العفوالعامّ المفتوح من قبل المشرّع الإسلاميّ عن الكثير من التكاليف الّتي تركها الكافر حال كفره، فلا يلزمه بالتكاليف إلّا من حين إسلامه. بيان المراد من القاعدة لا ريب أنّ لفظ "الإسلام" جاء في عنوان القاعدة بمعناه المعروف المبيّن في النصوص، وهوالإقرار بالشهادتين، وليس بمعنى الإيمان مطلقاً، بل بمعناه المصطلح في القرآن والأحاديث، وهوعقد القلب والخضوع الباطنيّ، كما ورد في الحديث "الإيمان ما وقر في القلوب"1، وعليه، فبمجرّد الإقرار بالشهادتين تجري قاعدة الجبّ، ولكنّه بشرط أن لا يعلم أنّه لأجل الحيلة والخدعة وغيرها من الدواعي المنافية لقصد الجدّ في الإقرار. أمّا لفظ "الجبّ" بفتح الجيم، فهو، في اللغة، بمعنى القطع، جببته أي قطعته، كما ورد في معاجم اللغة العربية. فكأنّ الإسلام يقطع ويقلع ويرفع ما كان أحاط -------------------------------------------------------------------------------- 215 -------------------------------------------------------------------------------- بالكافر، ولصق به من الأوزار والآثار والتكليفيّة. فإنّ الإسلام يُسقط الآثار الّتي تترتّب على الأفعال والأقوال الّتي تصدر من الكافر في حال كفره، فيما لودخل الإسلام، بمعنى أنّ الأثر الّذي يترتّب على فعله أوقوله لوكان مسلماً يسقط عنه لودخل الإسلام، وتسقط ما هو مطلوب منه أو مطالب به من الأحكام الوجوبية والتحريمية، فلوكان قد زنى، أو شرب الخمر، أو سرق، أو سبّ الله والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم... إلخ ـ حال كفره ـ ثمّ دخل في الإسلام فإنّه لا يؤاخذ على تلك الأفعال الصادرة عنه، فلا يخضع للحدود الإسلاميّة كالجلد أو قطع اليد، أو القتل، ونحو ذلك. نعم، لا تلغي القاعدة ما يتعلّق بحقوق الآخرين، فيجب عليه ردّ ما سرقه، أو ضمانه. ماذا تشمل قاعدة الجَبّ؟ إنّ الإسلام يجُبُّ ما قبله للكافر، بمعنى أنّ الكافر لوأسلم وكانت ذمّته مشغولة بشيء، من طرف ما ارتكبه في حال الكفر، وكان اشتغال ذمّته من ناحية الإسلام، لا من ناحية كفره، فإسلامه موجب لسقوط ما في ذمّته. وبناءً على هذا فإنّ جميع العبادات الّتي فاتت منه في حال كفره وشركه من الصلاة والزكاة والخمس والصيام، حتّى الحجّ فيما إذا كان مستطيعاً حال كفره واستقرّ عليه ولم يؤدّه، فصار غير مستطيع، وبعد ذلك أسلم، فإذا أسلم يسقط جميع ذلك عنه بسبب جَبِّ الإسلام ما قبله. -------------------------------------------------------------------------------- 216 -------------------------------------------------------------------------------- فظهر أنّه بناءً على ما ذكرنا في معنى الحديث أنّ ما هو من حقوق الله تعالى مطلقاً - سواء أكان بدنيّاً فقط كالصلاة، أم ماليّاً فقط كالزكاة، أم كان مركّباً منهما كالحجّ، وليس للمخلوقين مدخل وحقّ فيه، إذا لم يكن معتقداً به، في حال الكفر، بل اعتقاده به يكون من ناحية إسلامه وبعده - فكلّها تسقط بالإسلام، ولا يكون عليه شيء، ولا قضاء فيما فيه القضاء على المسلم حال إسلامه, لِجَبِّ الإسلام ما قبله. وأمّا في غير العبادات - كالديون والحقوق المتعلّقة بذمّة الكافر ونحوها... كما لوكان ديَة قتل الخطأ، أو الجرح والجناية على أعضاء الغير، ولو كان عن عمد، فيما إذا رضي المجنيّ عليه بالدية ثابتاً في دينه السابق قبل أن يسلم - فشمول الحديث لمثل هذا المورد مشكل جدّ, لما ذكرنا في استظهار المراد من الحديث أنّه عبارة عن أنّ ما صدر عنه من قول أو فعل أوكان له عقيدة، كلّ ذلك إن كان قبل أن يسلم وكان من أحكام الإسلام - ترتّب ضرر أو مشقّة أو عقوبة على ذلك القول أو على ذلك الفعل أوعلى تلك العقيدة - فالإسلام يرفع ذلك الأثر والضرر. والمفروض أنّ في المورد ليس من هذا القبيل، بل كان هذا الأثر والضرر يترتّب على قوله أوفعله حتّى في دينه، وما احتملناه ووجّهنا به الجَبَّ في نظيره في العبادات، لا يخلو من نظر وإشكال، كما هو غير خفيّ على الناقد البصير. وينبغي أنّ نشير، هنا، إلى أنّ الكافر إذا أتلف شيئاً في دار الإسلام كان ضامناً له، اتّفاقاً، سواء أسلم أم لم يسلم، وإذا أتلف في دار الحرب لا يضمن إذا أسلم، قال الشيخ: لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله. والأقرب الضمان, لعموم قاعدة اليد، فإنّ مدركها بناء العقلاء، وهم يرون أن علّة الضمان الإتلاف بدون أن يكون للمكان أو الدِّين دخل في ذلك، ولأنّ قاعدة الجبّ تنفي الأحكام التكليفيّة لا الوضعيّة. بيان مدرك القاعدة الأوّل: حديث الجبّ: رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "الإسلام يجبّ ما قبله"،2 و"التوبة تجبّ ما قبلها".3وقد اختلفت كلمات الأعلام في تقييمه، قبولاً ورفضاً، فقال الميرزا القمّيّ: "ولا يجب القضاء على الكافر الأصليّ إذا أسلم, لأنّ -------------------------------------------------------------------------------- 217 -------------------------------------------------------------------------------- الإسلام يجبّ، ولعلّه من المتواترات4". و"ولا وجه للقدح في السند والدلالة، إذ هو متلقّى بالقبول، بل أدّعي تواتره"5، وقال: "ويظهر من بعض الأصحاب تواتره، رواه الخاصّة والعامّة"6. وناقش الأعلام7 في وجودالرواية في مصادر الإماميّة، فقال السيّد الخوئيّ قدس سره: "ورواية حديث الجبّ لم ترومن طرقنا"8، وقال أيضاً عن الحديث: "غير صالح لأن يُستند إليه, لعدم روايته من طرقنا، لا في كتب الحديث، ولا في الكتب الاستدلاليّة للفقهاء المتقدّمين، كالشيخ ومن سبقه ومن لحقه، ما عدا ابن أبي جمهور الأحسائي في غوالي اللئالي9، الّذي لا يخفى ما في المُؤلَّف والمُؤلِّف، حتّى طعن فيه من ليس من شأنه الطعن، كصاحب الحدائق، ودعوى الإنجبار موهونة جدّاً، بل غير قابلة للتصديق، إذ كيف يحتمل استناد المشهور إلى رواية لم يذكروها في كتبهم الروائيّة ولا الاستدلاليّة؟"10. وذكر مثل هذه العبارة في كتاب الصلاة أيضاً11. وقال قدس سره - أيضاً - في كتاب الصوم: "ولكنّها بعد الفحص التامّ والتتبّع -------------------------------------------------------------------------------- 218 -------------------------------------------------------------------------------- الكامل غير موجودة في كتب أحاديثنا جزماً، ولا مأثورة عن أحد من المعصومين عليهم السلام قطعاً، وإنّما هي مرويّة بغير طرقنا عن عليّ عليه السلام تارة، وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أخرى، نعم، رويت في بعض كتبنا مرسلة، كمجمع البحرين وغوالي اللآلي عنه صلى الله عليه وآله وسلم، ومجرّد كونها مشهورة في كتب المتأخّرين لا يستوجب اعتبارها بعد خلوكتب السابقين عنها"12. وقد وردت الرواية في مصادر السنّة بالصيغ الآتية: - قال محيي الدين النوويّ: "هذا حديث صحيح، رواه مسلم في صحيحه من رواية عمرو بن العاص، أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الإسلام يهدم ما قبله"، هذا لفظ رواية مسلم، ذكره في أوائل الكتب، في كتاب الإيمان في رواية غيره: "يجبّ ما قبله"، بضم الجيم وبعدها الباء موحّدة، من الجبّ، وهوالقطع13. - قال الشوكاني: "الحديث أخرجه أيضاً الطبراني، والبيهقي من حديثه، وابن سعد من حديث جبير بن مطعم، وأخرج مسلم في صحيحه معناه، من حديث عمروأيضاً بلفظ: "أما علمت أنّ الإسلام يهدم ما قبله، وأنّ الهجرة تهدم ما قبلها، وأنّ الحج يهدم ما قبله؟". وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث عبد الله بن مسعود قال: "قلنا: يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل"14. النتيجة: إذا اتّضح حال الحديث من حيث السند، وأنّه حتّى عند السنّة الذين رووه خبر آحاد، لا يفيد القطع، يتّضح مراد الميرزا القميّ القائل بتواتره، فلعلّه يقصد بذلك معنى مسامحي، هو شهرته وتداوله في كتب الفقهاء. والله العالم. الثاني: روايتا الصوم: عن عيص بن القاسم، قال: "سألت أبا عبد الله عليه السلام -------------------------------------------------------------------------------- 219 -------------------------------------------------------------------------------- عن قوم أسلموا في شهر رمضان وقد مضى منه أيّام، هل عليهم أن يصوموا ما مضى منه أويومهم الّذي أسلموا فيه؟ فقال: ليس عليهم قضاء ولا يومهم الّذي أسلموا فيه، إلّا أن يكونوا أسلموا قبل طلوع الفجر"15. وعن الحلبيّ، عن أبي عبد الله عليه السلام: "أنّه سئل عن رجل أسلم في النصف من شهر رمضان ما عليه من صيامه؟ قال: ليس عليه إلّا ما أسلم فيه"16. وفيه: أنّهما واردان في خصوص الصوم، فالانتقال منه إلى غيره يشاركه في العلّة الظنّيّة قياس لا نقول به، فلا يصحّ جعلهما دليلاً على قاعدة الجبّ بصورة عامّة، بل يقتصر على موردهما أعني الصوم. هل ترفع القاعدة العقاب الأخرويّ؟ يوجد قولان في المسألة: الأوّل: رفع العذاب الأخرويّ: ما ذهب إليه الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ بقوله: "أمّا بالنسبة إلى العقاب الأخرويّ والدنيويّ، فهوممّا لا شكّ في شمول الجبّ له، بل هذا هوالقدر المتيقّن من الحديث والآية، فإذا أسلم الكافرُ رُفع عنه العقاب من ناحية أعماله في حال كفره، وكذا الحدود والتعزيرات كلّها، بل الظاهرأنّ الآية 38 من سورة الأنفال: ï´؟قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَï´¾ مختصّة به، وكذلك قياسه على التوبة والحجّ والهجرة في بعض الروايات أيضاً من هذا الباب، فعلى هذا ترتفع آثار الفسق عن الكافر بعد إيمانه، ولا يُضرب حدّاً ولا تعزيراً17. الثاني: عدم رفع العذاب الأخرويّ: ولا يخفى أنّ المرفوع بهذه القاعدة إنّما هوالأحكام والآثار الظاهريّة من الإعادة والقضاء والديات والقِصاص والحدود -------------------------------------------------------------------------------- 220 -------------------------------------------------------------------------------- وساير الجرائم والمؤاخذات الدنيويّة، لا رفع العقاب والعذاب الأخرويّ. وذلك لأنّ الملاك في رفع العقاب والعذاب الأخرويّ هو الإيمان والتوبة، وهما أمران قلبيّان باطنيّان، كما قال تعالى: ï´؟قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَاï´¾18، وما ورد في الحديث: "الإيمان ما وقر في القلوب وصدّقته الأعمال"19. ويشهد لذلك ما ورد من التقابل بين الإسلام والتوبة في بعض الطرق المرويّ من حديث الجبّ، مثل ما رواه الشيخ الطوسي مرسلاّ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: وفي بعضها: "التوبة تجبّ ما قبلها"20، فالرافع للذنوب والمعاصي هوالتوبة والإيمان الحقيقيّ. وعليه، فبمجرّد الإقرار بالشهادتين لساناً تجري هذه القاعدة وتترتّب أحكامها، ولولم يكن الإقرار عن إيمان قلبي وتوبة عمّا سلف. وأمّا قوله تعالى: ï´؟قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَï´¾. فإنّ الانتهاء ظاهر في التوبة، لا مجرّد الإقرار بالشهادتين والإسلام ظاهراً. وأمّا ما دلّ بظاهره على غفران ما سلف في الجاهليّة بالإسلام، فلا بدّ من حمله على إرادة الإسلام الباطنيّ الملازم للإيمان والتوبة. وإلّا فلا إشكال في أنّ الّذي يرفع بالإسلام بما أنّه إسلام - أي الإقرار باللسان، كما فسّر في النصوص المتضافرة بهذا المعنى وجعل قبال الإيمان - هو الآثار الوضعية الظاهريّة كما قلنا، بلا فرق في ذلك بين حقوق الله وبين حقوق الناس. فالمرفوع المقطوع منهما، بحديث الجبّ، إنّما هوالآثار والأحكام الظاهرية الوضعيّة والتكليفية، كما سبقت الإشارة إليها آنفاً. نعم، إذا كان مقروناً بالإيمان والتوبة عمّا سلف، يترتّب عليه آثار التوبة والإيمان، من رفع العذاب الأخرويّ، وإلّا فإنّما يرفع الآثار الظاهرية فقط21. -------------------------------------------------------------------------------- 221 -------------------------------------------------------------------------------- الأفكار الرئيسة - المراد من القاعدة أنّ الإسلام يُسقط الآثار الّتي تترتّب على الأفعال والأقوال الّتي تصدر عن الكافر في حال كفره، فيما لودخل الإسلام. - معنى إسقاط الآثار أنّ الأثر الذي يترتّب على فعله أوقوله لوكان مسلماً يسقط عنه لودخل الإسلام. - ظهر من القاعدة أنّه بناءً على ما ذكرنا في معنى الحديث أنّ ما هومن حقوق الله تعالى مطلقاً سواء أكان بدنيّاً فقط، أم ماليّاً فقط، أوكان مركّباً منهما، يسقط عن الكافر لو أسلم. في غير العبادات كالديون والحقوق ونحوها...، كما لو كان عليه دية قتل الخطأ، أوالجرح والجناية على أعضاء الغير ولوكان عن عمد، ثابتاً في دِينه السابق قبل أن يسلم، فشمول الحديث لمثل هذا المورد مشكل جدّاً. - مستند القاعدة حديث الجبّ، إلّا أنّ الحديث لم يُرْوَ من طرقنا كما صرّح الأعلام في كتب الحديث، ما عدا ابن أبي جمهور الأحسائي في عوالي االلئالي، ولهذا فالحديث غير صالح لأن يُستند إليه؛ لعدم روايته من طرقنا. - كثيراً ما تشكّل سيرة المتشرّعة... الحلقة الوسيطة بين الإجماع والدليل الشرعيّ...، إنّ الإجماع المذكور يكشف عن رواية - حديث الجَبّ- غير مكتوبة، ولكنّها معاشة سلوكاً وارتكازاً بين عموم المتشرّعة. مطالعة حكم سقوط قضاء الصلاة لا ريب في سقوط القضاء عن الكافر الأصليّ لو أسلم، ولكنّهم اختلفوا في مدرك هذا الحكم، فنرى بعضهم قد استدلّ بالإجماع المحقّق والمحكيّ، وبعضهم بحديث الجبّ والهدم، والضرورة، وبعضهم بقوله تعالى: ï´؟قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِï´¾22. وقال المقدّس النراقيّ: "ما فات عن الكافر الأصليّ فلا يجب عليه قضاؤه بالإجماع المحقّق، والمحكيّ مستفيضاً، وهو الدليل عليه دون الأصل وحديثِ الجبّ"23 وقال الميرزا القميّ: "لا يجب القضاء على الكافر الأصليّ إذا أسلم, لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله، ولعلّه من المتواترات، وللإجماع، بل قيل: إنّه ضروري"24. حكم وجوب الغسل: لوكان الكافر مجنباً ثمّ دخل الإسلام فهل يجب عليه أن يغتسل؟ والجواب: لا يرتفع الغسل بالإسلام، ولذلك يجب عليه أن يغتسل منها، قال في الجواهر: "بلا خلاف أجده فيه، ويصحّ منه لموافقته للشرائط جميعها، إذ الظاهر أنّ المراد بكونه يجبّ ما قبله إنّما هوبالنسبة للخطابات التكليفية البحتة، لا فيما كان الخطاب فيها وضعياً، كما فيما نحن فيه، فإنّ كونه جنباً يحصل بأسبابه، فيلحقه الوصف وإن أسلم"25. وقوله عليه السلام: "إذا التقى الختانان وجب المهر والعدّة والغسل"26، وقوله تعالى: ï´؟...وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ...ï´¾27 مطلقان، يدلاّن على حكم شرعيّ وضعيّ، أعني حدوث الجنابة، الّتي يترتّب عليها الحكم التكليفيّ، وهو وجوب الغسل، على من أجنب. حكم زنا الكافر بالمسلمة اذا اسلم إذا زنا الكافر بمسلمة ثمّ أسلم فهنا حالتان: الأولى: أن يسلم بعد ثبوت الزنا عند الحاكم، فلا يسقط القتل عنه؛ لإطلاق صحيحة حنان بن سدير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "سألته عن يهوديّ فجر بمسلمة قال: يقتل"28. الثانية: أن يسلم قبل ثبوت الزنا عند الحاكم، فقد يقال بسقوط الحدّ عنه؛ لرواية جعفر ابن رزق الله، قال: "قدم إلى المتوكّل رجل نصرانيّ فجر بامرأة مسلمة، وأراد أن يقيم عليه الحدّ فأسلم، فقال يحيى بن أكثم: قد هدم إيمانه شركه وفعله، وقال بعضهم: يضرب ثلاثة حدود، وقال بعضهم: يفعل به كذا وكذا، فأمر المتوكّل بالكتاب إلى أبي الحسن الثالث عليه السلام، وسؤاله عن ذلك، فلمّا قدم الكتاب، كتب أبوالحسن عليه السلام: يضرب حتّى يموت، فأنكر يحيى بن أكثم وأنكر فقهاء العسكر ذلك، وقالوا: يا أمير المؤمنين سله عن هذا، فإنّه شيء لم ينطق به كتاب، ولم تجئ به السنّة، فكتب: إنّ فقهاء المسلمين قد أنكروا هذا، وقالوا: لم تجئ به سنّة ولم ينطق به كتاب، فبيّن لنا بِمَ أوجبت عليه الضرب حتّى يموت؟ فكتب عليه السلام: بسم الله الرحمن الرحيم ï´؟فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَï´¾. قال: فأمر به المتوكّل فضرب حتّى مات"29. أسئلة وتمارين - ضع علامة صحّ أو خطأ في المكان المناسب: 1- ظهر من القاعدة أنّ ما هومن حقوق الله تعالى مطلقاً - سواء أكان بدنيّاً فقط، أم ماليّاً فقط، أوكان مركّباً منهما - يسقط عن الكافر لو أسلم. 2- المراد من القاعدة أنّ الإسلام يُسقط الآثار الّتي تترتّب على الأفعال والأقوال في العبادات، وحقوق الله، الّتي تصدر عن الكافر في حال كفره، فيما لودخل الإسلام. 3- المستفاد من القاعدة أنّ الإسلام يُسقط الآثار التي تترتّب على الأفعال والأقوال في العبادات وحقوق الله، وجميع المعاملات الّتي تصدر عن الكافر في حال كفره، فيما لودخل الإسلام. 4- لوكان الكافر مجنباً ثمّ دخل الإسلام فلا يرتفع الغسل بالإسلام، ولذلك يجب عليه أن يغتسل منها. 5- إذا أسلم الكافر رُفع عنه العقاب الأخرويّ من ناحية أعماله في حال كفره، وكذا الحدود والتعزيرات كلّها. 6- لو سرق الكافر، أو سبّ الله والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ... إلخ ـ حال كفره ـ ثمّ دخل الإسلام فإنّه لا يؤاخذه على تلك الأفعال الصادرة عنه، فلا يخضع للأحكام والحدود الإسلاميّة. - عالج الأسئلة الآتية: 1- هل يجب الحجّ على من كان مستطيعاً أيَّام كفره ثمَّ أسلم وأصبح غير مستطيع؟ 2- لو زنى بامرأة حال كفره فحرمت ابنتها وأمَّها فهل ترتفع بإسلامه؟ ومن أوقب غلاماً حال كفره فحرم نكاح أمّه وأخته فهل ترتفع بإسلامه؟ 3- إذا كان قد عقد النكاح في زمن الكفر، ولم يكن قد وقع بصيغته الّتي هي في الإسلام، فهل يحتاج إلى إعادة عقد النكاح بعد إسلامه؟ 4- إذا كان في ذمّته دَين وحقوق للآخرين ثمّ أسلم فهل يرتفع الدَين؟ وإذا كان الجواب سلبياً، لماذا؟. 5- إذا طلّق زوجته وهوعلى مذهب الكفر دون مراعاة شروط الطلاق الواجبة في الإسلام، فهل يستطيع إعادة زوجته دون العقد؟ 6- إذا أسلم في النصف الثاني من شهر رمضان، فما هوحكم ما فاته من الصوم؟ هوامش 1- الكليني، الكافي، م.س، ج2،باب أنّ الإيمان يشرك الإسلام ولا عكس، ح3، ص26. 2- النوري، حسين: مستدرك الوسائل، ط2، بيروت، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لتحقيق التراث، 1408هـ.ق/ 1988م، ج7، باب15، من أسلم في شهر رمضان لم يجب عليه قضاء...،ص448،ح1-2. 3- م.ن، ج 12، باب 85، وجوب التوبة من جميع الذنوب،ح12، ص129. 4- القمّي، أبو القاسم: غنائم الأيام في مسائل الحلال والحرام، تحقيق عباس تبريزيان؛ وآخرون، ط1، قم المقدّسة، مركزالنشرالتابع لمكتب الإعلام الإسلامي، 1417هـ.ق/ 1375هـ.ش، ج3،ص339. 5- م. ن، ج4، ص 52. 6- م. ن، ج5، ص368. 7- ولكن يتّضح لكلّ من سبر كتب الفقه من زمان الشيخ إلى زمان المتأخّرين، يكاد يطمئنّ في استناد الفقهاء إليه في مقام الفتوى، ما يورث كون الحديث صادراً عنهم، متلقّى بالقبول، وقد عاشه المتشرّعة سلوكاً وتطبيقاً، وهذا ما يفسّر قيام الإجماع على مفاد قاعدة الجبّ، فإنّ الإجماع من أهل النظر والفتوى من فقهاء عصر الغيبة المتقدّمين يكشف عن ارتكاز ووضوح في الرؤية، متلقّى من الطبقات السابقة على أولئك الفقهاء المتقدّمين، بالرغم من عدم وجود مستند لفظيّ مشخّص بأيديهم، قال السيّد الشهيد الصدر رحمه الله: "وكثيراً ما تشكّل سيرة المتشرّعة.....الحلقة الوسيطة بين الإجماع والدليل الشرعيّ... إنّ الإجماع المذكور يكشف عن رواية غير مكتوبة، ولكنّها معاشة سلوكاً وارتكازاً بين عموم المتشرّعة"، "فإذا أمكن أن نستكشف بقرائن مختلفة أنّ سيرة المتشرّعة المعاصرين للأئمّة والمخالطين لهم واقتناعاتهم ومرتكزاتهم، كانت منعقدة على الالتزام بحكم معيّن، كفى ذلك في إثبات هذا الحكم". 8- الخوئي، شرح العروة الوثقى(تقرير بحث السيد الخوئي)، كتاب الحج، ج1، ص263. 9- الإحسائي، عوالي اللئالي، م.س، ج2، ص54. 10- الخوئي، شرح العروة الوثقى(كتاب الزكاة)،ج1، ص133. 11- الخوئي، شرح العروة الوثقى(كتاب الصلاة)،ج5، ق1، ص113. 12- الخوئي،شرح العروة الوثقى(كتاب الصوم)،ج2، ص156. 13- النووي، محيي الدين: المجموع، لاط، لام، دار الفكر، لات، ج7، باب ما يجبّ الحجّ على بائع مسلم...، ص18. 14- الشوكاني، محمّد بن علي بن محمّد: نيل الأوطار، لاط، بيروت، دار الجيل، 1973م، ج1، ص379. 15- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج10، الباب22 من أبواب أحكام شهر رمضان،ح1. 16- م.ن، ح2. 17- الشيرازي، القواعدالفقهية، ج2، ص179. 18- الحجرات: 14. 19- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج50، ص208. 20- الخلاف: ج 5، ص 469. 21- المازندراني، علي اكبر سيفي: مباني الفقه الفعّال في القواعد الفقهية الأساسية، ط1، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين في الحوزة العلمية بقم المقدّسة، 1428هـ.ق، ج2، ص300. 22- الأنفال: 38. 23- النراقي، : مستند الشيعة، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياءالتراث، ط1، قم المقدّسة، مطبعة ستاره، 1416هـ.ق، ج7، ص269. 24- القمّي، غنائم الأيّام، م.س، ج3، ص339. 25- النجفي، جواهر الكلام، م.س، ج3، ص40. 26- العاملي، وسائل الشيعة، م.س،ج2، الباب54 من أبواب المهور،ح1. 27- المائدة: 6 . 28- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج28، الباب36 من أبواب حدّ الزنا، ح1. 29- م.ن، ح2. يتبع |
الدرس السابع عشر: قاعدة السلطنة
أهداف الدرس - التعرّف على معنى قاعدة السلطنة وأدلّتها. - القدرة على الاستدلال على حجّيّة القاعدة. - التدرّب على تطبيق القاعدة في مواردها. -------------------------------------------------------------------------------- 227 -------------------------------------------------------------------------------- المقدّمة منحت الشريعة الإسلاميّة الإنسان مجموعة مهمّة من الحقوق الّتي تنظّم علاقات الناس بعضهم ببعض، فأعطتهم حقّ التملّك، وحقّ السلطنة على الأموال والممتلكات، الّذي يترتّب عليه جواز سائر التصرّفات المحلّلة في كلّ ما يملكه. ويظهر للمتتبّع لكلمات الفقهاء وجود اتّفاق بينهم على العمل بقاعدة السلطنة، والإفتاء في ضوئها. وقد استدلّوا بها في موارد متعدّدة، فذكرها العلماء في مصنّفاتهم1، كالخلاف، والسرائر، وجامع المقاصد، ومفتاح الكرامة، وجواهر الكلام، وغيرها. بيان المراد من القاعدة المراد من السلطنة ـ هنا ـ هوتسلّط المالك على ماله بنحوكامل شامل، فله أن يتصرّف كيف يشاء، بالنسبة إلى أنحاء التصرّفات المحلّلة ضمن الحدود الشرعيّة، فله الحقّ في بيعه وإهدائه وإيجاره وأكله وغير ذلك من التصرّفات الّتي لم يثبت من الشريعة ردع عنها. فكلّما شكّ في جواز التصرّف والتسلّط يتمسّك -------------------------------------------------------------------------------- 229 -------------------------------------------------------------------------------- بالقاعدة ويثبت الجواز، قال المحقّق صاحب الجواهر رحمه الله: "قاعدة سلطان المالك - وتسلّط الناس على أموالهم - أصل لا يخرج عنه في محلّ الشكّ"2. فالمالك سلطان في ماله، له الحقّ التامّ في مطلق التصرّفات، ولا أحد يمنعه عنه، أويقف بوجهه في تحديد هذا السلطان، ولا أحد يشاركه فيه، بدون إذنه، بحيث لوكُفّن الميّتُ بكفنٍ مغصوبٍ فالشارعُ يعطي الصلاحيةَ للمالك - والحالُ هذهِ - في نبش الأرض وأخذ قماشه، ولا يجب عليه قبول القيمة. وليس المقصود منها أنّ المالك لشيءٍ لا يحقّ لغيره التصرّف فيه بدون رضاه وطيب نفسه، فإنّ ذلك ليس تمام المقصود من قاعدة السلطنة، بل المقصود منها أوسع من ذلك، وهوأنّ المالك لشيءٍ له حقّ التصرّف فيه بأيّ شكل شاء، ولازم ذلك أنّ الغير لا يحقّ له التصرّف فيه بدون رضاه. بيان مدرك القاعدة أوّلاً: من الكتاب: استدلّ على حجّيّة القاعدة بآيات ادّعي دلالتها على المطلوب، منها: قوله تعالى: ï´؟لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًاï´¾،3 وقوله تعالى: ï´؟وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَï´¾4. فالمستفاد من الآيتين عدم جواز أكل أموال الناس إلّا من خلال طرق خاصّة مشروعة، تبنى على رضا الطرفين، وجعل حرمته كحرمة قتل الأنفس، وكأنّ هذا القول يتوافق مع الحديث المعروف: "حرمة مال المسلم كحرمة دمه"5، وكأنّه -------------------------------------------------------------------------------- 230 -------------------------------------------------------------------------------- يريد القول: إنّ عدم جواز أكل أموال الناس وحرمته متفرّع عن كونهم مسلّطين عليها. مراده أنّ تصرّف الغير بإذن المالك هو إعمال للسلطنة بالإذن. وفيه أنّه لا ريب في دلالة الآيتين الكريمتين على حرمة مال المسلم، وهذا المعنى يختلف عمّا يُراد إثباته في قاعدة السلطنة، فقاعدة احترام مال المسلم، وقاعدة السلطنة مستقلّتان عند العقلاء وفي الشريعة - دليلاً وملاكاً6 - فإنّ قاعدة السلطنة قاعدة عقلائيّة هي من أحكام المالكيّة عند العقلاء، فالمالك للشيء مسلّط عليه بأنحاء التسلّط عندهم، وقد أمضاها الشارع وأنفذها بقوله في النبوي المشهور: "الناس مسلّطون على أموالهم"، وقاعدة حرمة المال عبارة عن كونه في حريم المملوكيّة ومحترماً، لا يجوز لأحد التصرّف فيه بلا إذن من مالكه، ومع الإتلاف كان ضامناً. وهذا غير سلطنة المالك على ماله وجواز دفع الغير عن التصرّف فيه، وهذه أيضاً قاعدة عقلائيّة أمضاها الشارع، والدليل عليها روايات كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "فإنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقونه فيسألكم عن أعمالكم، ألا هل بلّغت؟"7، فينبغي عدم الخلط بينهما. ثانياً: أدلّة القاعدة من السنّة: يمكن الاستدلال على القاعدة بعدّة طوائف من الروايات: الطائفة الأولى: ما دلّ على أنّ لصاحب المال الحقّ بالتصرّف بماله ما شاء، منها: - ما عن سماعة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: "الرجل يكون له الولد أيسعه أن -------------------------------------------------------------------------------- 231 -------------------------------------------------------------------------------- يجعل ماله لقرابته؟ قال: هوماله يصنع ما شاء به إلى أن يأتيه الموت"8، وعنه أيضاً قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن عطيّة الوالد لولده؟ فقال: "أمّا إذا كان صحيحاً فهوماله يصنع به ما شاء، وأمّا في مرضه فلا"9. - ما عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام مثله، وزاد: "إنّ لصاحب المال أن يعمل بماله ما شاء ما دام حيّاً إن شاء وهبه، وإن شاء تصدّق به، وإن شاء تركه إلى أن يأتيه الموت، فإن أوصى به فليس له إلّا الثلث، إلّا أنّ الفضل في أن لا يضيّع من يعوله ولا يضرّ بورثته"10. وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة من الروايات أنّها تصرّح بسلطنة صاحب المال على ماله، فيتصرّف فيه كيف شاء، وأنّ كون الشيء (ماله) يكون علّة تامّة في جواز تصرّفاته، ولكنّها ضعيفة سنداً. الطائفة الثانية: النبويّ المشهور: "الناس مسلّطون على أموالهم"11، فهذا النبويّ هومدلول القاعدة بتمامه وكماله، والقاعدةمتّخذة منه، فلا كلام ولا إشكال في تماميّة الدلالة وعموميّتها، كما قال الشيخ الأنصاري رحمه الله: وأمّا قوله عليه السلام: "الناس مسلّطون على أموالهم"، كان عمومه باعتبار أنواع السلطنة، فهوإنّما يجدي فيما إذا شكّ في أنّ هذا النوع من السلطنة ثابت للمالك وماضٍ شرعاً في حقّه أم لا؟12. والإشكال إنّما هوفي السند, لأنّ النبويّ مرسل، أضف إلى ذلك أنّه لم يذكر في مصادر الحديث عند الإمامية، فعليه لا يصلح أن يكون هذا النبويّ بعنوانه دليلاً في المقام، ولكنّ الّذي يسهِّل الخطب أنّ مدلوله يُستفاد من الروايات الواردة في -------------------------------------------------------------------------------- 232 -------------------------------------------------------------------------------- أبواب المعاملات. منها: ما رواه الحسن بن علي بن شعبة، عن الصادق عليه السلام، سؤالاً عن معائش الناس، في حديث طويل الذيل: "وكلّ شيء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات، فهذا كلّه حلال بيعه وشراؤه وإمساكه واستعماله وهبته. - إلى أن قال عند بيان وجوه الحلال -: ما يجوز للإنسان إنفاق ماله وإخراجه بجهة الحلال في وجوهه، وما يجوز فيه التصرّف والتقلّب من وجوه الفريضة والنافلة"،13 يدلّ هذا الحديث على قاعدة سلطنة المالك بالنسبة إلى ماله، دلالة تامّة كاملة. ولكنّه بما أنّ الحديث مرسل لا يمكن المساعدة عليه تجاه الاستدلال، فلا يُستفاد منه هناك إلّا التأييد للمطلوب. ومنها صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: "سأله رجل من أهل النيل عن أرض اشتراها بفم النيل، وأهل الأرض يقولون: هي أرضهم، وأهل الأسنان يقولون: هي من أرضنا، فقال: "لا تشترها إلا برضا أهلها"14. دلّت على عدم جواز الاشتراء بدون ارتضاء المالك، وهذا هومعنى سلطنة المالك على ماله، وكيف كان الأمر فالروايات الدالّة على مدلول القاعدة كثيرة جدًّا، ولا يسعنا المجال لذكرها. الاستدلال بالسيرة المدرك المهمّ لهذه القاعدة سيرة المتشرّعة، وسيرة العقلاء: 1- سيرة المتشرّعة: إنّ بناء المتديّنين والمتشرّعين، بل أهلٍ التقوى، قائم على أنّ لكلّ مالك أن يتصرّف في ملكه بما شاء، ممّا يكشف إنّا15 عن تلقّي ذلك من الشارع، ولا يحتمل -------------------------------------------------------------------------------- 233 -------------------------------------------------------------------------------- أن يكون هذا السلوك ناشئاً من غفلتهم عن الاستعلام عن حكمه الشرعيّ، وخصوصاً مع ملاحظة حجم السيرة وشمولها وامتدادها. وعلى هذا الأساس يُفسَّر الإجماعُ القائمُ على ذلك، بتقريب أنّه يكشف عن الارتكاز المتشرّعي المتلقّى من المعصوم المعاش سلوكاً، لا رواية مكتوبة. 2- سيرة العقلاء: فقد استقرّت السيرة عند العقلاء بأنّ صاحب المال مسلّط على ماله تمام التسلّط، ولا تحديد ولا ردع إلّا في مورد الضرر والحرمة، وعليه أفتى الفقهاء بأنّ التمليك بدون إذن المالك باطل، فإنّ بناءهم في كلّ عصر ومصر قائم على أساس أنّ المالك له كلّ حقوق التصرّف في ماله، يتصرّف فيه كيف يشاء، من نقل وهبة ووصيّة وإعارة...إلخ، وليس لأحد أن يزاحمه في ذلك، ولا أن يمنعه عنه، والشارع قد أمضى هذه السيرة، ويكفي للقطع به سكوته، إمّا على أساس العقل16، حيث إنّ سكوته وعدم نهيه - مع افتراض عصمته - يكشف إنّاً عن كونها مرضيّة لديه, وإمّا على أساس الظهور الحاليّ المستكشف من كونه شارعاً ومسئولاً عن تبليغ الشريعة, فسكوته - مع افتراض مخالفتها للدين - خلاف ظاهر حاله، مع أنّه لم يصل إلينا ولو برواية ضعيفة تدلّ على نهي الشارع عنها، بل وصل إلينا - ولوبروايات ضعيفة - ما يعزّز الحجّيّة ويؤيّدها. وهذا ما ذكره الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ قاعدة السلطنة قاعدة عقلائيّة هي من أحكام المالكيّة عند العقلاء، فإنّ المالك للشيء مسلّط عليه بأنحاء التسلّط عندهم، وقد أمضاها الشارع وأنفذها بقوله في النبويّ المشهور: الناس مسلّطون على أموالهم"17. -------------------------------------------------------------------------------- 234 -------------------------------------------------------------------------------- حدود قاعدة السلطنة لم تمضِ الشريعة الإسلاميّة قاعدة السلطنة على إطلاقها، بل وضعت بعض الضوابط، فأخرجت عدّة عناوين بنحوالتخصيص أوالتخصّص، نذكر منها: - موارد التبذير والإسراف، فمن حقّ كلّ إنسان التصرّف في أمواله، ما دام لم يصل تصرّفه حدّ الإسراف والتبذير، وإلّا منع, لقوله تعالى: ï´؟وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا *إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِï´¾18، ومثل هذه الموارد خارجة من القاعدة بالتخصيص. - موارد الضرائب المالية، فليس من حقّ المالك التصرّف في الأموال التي تتعلّق بها ضريبة الزكاة أو الخمس قبل إخراج الضريبة. ومثل هذا راجع إمّا إلى تخصيص القاعدة، بمعنى أنّ المالك للأموال المتعلّق بها الضريبة هومالك لها جميعاً، ولكنّه ممنوع من التصرّف فيها قبل إخراج الضريبة، أو إلى التخصّص، بمعنى أنّ المالك للأموال المتعلّق بها الضريبة ليس هومالكاً لمجموعها بل هو مالك لما عدا مقدار الضريبة، فمقدار ذلك يكون ملكاً لأصحابه، وحيث إنّه مشاع فيكون المالك ممنوعاً من التصرّف باعتبار أنّ المال المشترك لا يجوز التصرّف فيه إلّا بموافقة جميع الملّاك. - موارد صرف المال في المجال المحرّم، فليس من حقّ المالك الشراء بأمواله خمراً، أو إقراضه أو بيعه بشكل ربويّ مثلاً، فإنّ قاعدة السلطنة قد طرأ عليها التخصيص في المجالات المذكورة. - مورد مرض الموت، فإنّ المشهور اختار أنّ المالك إذا مرض بمرض الموت -------------------------------------------------------------------------------- 235 -------------------------------------------------------------------------------- فليس من حقّه إهداء أمواله أوبيعها بأقلّ من ثمن المثل، إلا إذا كان ذلك التصرّف في حدود ثلث ما يملكه. - التصرّف بعد الموت بمقدار ما زاد على الثلث، فإنّ من حقّ كلّ إنسان ـ ما دام حيّاً - أن يهب جميع أمواله أويوقفها أو...، وأمّا بعد موته فله الحقّ في ذلك بمقدار الثلث، دون ما زاد إلّا مع إجازة الورثة. وهذا في روحه يرجع إلى التخصّص دون التخصيص، بمعنى أنّ الشخص بعد وفاته لا يكون مالكاً لأمواله إلّا بمقدار الثلث، لا أنّه مالك لجميعها، ويمنع من التصرّف بما زاد على الثلث. التسلّط على النفس هل الإنسان مسلّط على نفسه وأعضائه كما هومسلّط على أمواله؟ كلّا، لعدم ثبوت دليل على السلطنة المذكورة. بل يمكن أن يُقال بدلالة الدليل على العدم. والوجه في ذلك: أمّا بالنسبة إلى نفي السلطنة على النفس فلقوله تعالى: ï´؟وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِï´¾19، حيث تدلّ على أنّ الإنسان ليس له سلطنة على نفسه بإلقائها في التهلكة من خلال الانتحار ونحوه. التسلّط على الأعضاء: وأمّا بالنسبة إلى التبرّع بأعضاء الحي إلى آخَر- كالتبرّع بالكلية أو العين ونحوهما - ففي المسألة تفصيل كثير، يمكن إجماله بالآتي: أوّلاً: الاستدل على نفي السلطنة على الأعضاء، وحرمة قطع الأعضاء ونقلها إلى الآخر، بمجموعة من الأدلّة، منها: -------------------------------------------------------------------------------- 236 -------------------------------------------------------------------------------- - التمسّك بالسيرة العقلائيّة الجارية على تجنُّب كلّ ما يوجب الضرر، وحيث إنّه لم يردع عنها شرعاً فتكون ممضاة. - التمسّك بحديث نفي الضرر، حيث ورد في الحديث الشريف: "لا ضرر ولا ضرار"20، وحيث إنّ إرادة النهي عن الإضرار من الفقرة الثانية "ولا ضرار" أمر قريب جدّاً فيلزم الحكم بحرمة الإضرار. - التمسّك بما دلّ على حرمة الجناية على النفس وظلمها، بتقريب أنّ قطع مثل اليد أوالرجل ونحو ذلك ظلم لها، فيحرم, لقوله تعالى: ï´؟وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَï´¾21. - التمسّك ببعض الروايات الدالّة على أنّ علّة تحريم بعض المحرّمات إضرارها ببدن الإنسان، من قبيل رواية المفضّل بن عمر: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: لِمَ حرّم الله تعالى الخمر والميتة ولحم الخنزير؟ قال: إنّ الله تبارك وتعالى... علم ما يضرّهم فنهاهُم عنه وحرّمه عليهم..."22، بتقريب أنّ علّة تحريم المحرّمات، إذا كان هو إضرارها بالنفس، فيلزم حرمة كلّ ما يوجب الضرر بالنفس، كقطع اليد أوالرجل، وإلّا لما صلح أن يكون علّة لتحريم المحرّمات. ثانياً: الاستدل على جواز التبرّع بالأعضاء إلى الآخرين على تفصيل بين الموارد: وخلاصة الكلام باختصار هي: أمّا حكم أصل القطع: فلقائل أن يقول بحرمة قطع الحيّ بعض أعضاء بدنه للغير، فإنّه إضرار بالنفس والبدن، والإضرار حرام في الشريعة، سواء بنفسه أم -------------------------------------------------------------------------------- 237 -------------------------------------------------------------------------------- بغيره، وسواء انجرّ إلى تلف النفس أم لم ينجرّ، ووجوب حفظ النفس المحترمة كفاية إنّما هو بالطرق المتعارفة، لا بقطع أعضاء بدن المكلّفين وزرعها في بدن المضطرّ، فإنّ هذا النحو من الحفظ لم يذكره الفقهاء، فضلاً عن عدم وروده في الكتاب والسنّة. ولبيان الحكم بشكل أوضح ينبغي التفصيل بين أنواع الإضرار: فالإضرار بالنفس على ثلاثة أوجه: الأوّل: إلقاء النفس إلى التهلكة بأيّ وجه كان، وهذا حرام منصوص لا إشكال فيه. بل لا يجوز مساعدة المحتاج في هذا المورد بلا إشكال، حتّى إذا فرضنا علم المساعد بموته بعد دقائق، فإنّه لا يجوز إتلاف نفسه في هذه الدقائق اليسيرة. الثاني: إتلاف الأعضاء المهمّة كقطع اليد أو الرجل واللسان، أو قلع العين، ونظائر ذلك ممّا يعلم بعدم رضا الشارع به، ومثله التسبيب لابتلاء النفس بالأمراض الخطيرة، كالسلّ والسرطان والإيدز وأمثالها، ودليل الحرمة هنا هو العلم المذكور، سواء أوجد دليل لفظي عليها أم لا. وهذه الحرمة في بعض الموارد كقلع عين واحدة لزرعها في رأس عالم جليل ذي مكانة دينية أعمى مثلاً مبنيّة على الاحتياط23 . وفصّل آخرون في المسألة فذهبوا إلى عدم جواز التبرّع بالأعضاء التي يوجب نقلها نقص الإنسان و تشوّهه...، كالعين واليد والرجل وما شاكل ذلك، ولا فرق فيه بين الحيّ والميّت، فلا تكون وصيّة الشخص نافذة بالتبرّع بها بعد موته, لأنّه من الوصيّة في الحرام، و لا فرق في حرمة التشويه بين تشويه الإنسان نفسه أو غيره، فإنّ الإنسان لا يملك أعضاءه التي تتوقّف حياته عليها، كالرأس -------------------------------------------------------------------------------- 238 -------------------------------------------------------------------------------- والقلب ونحوهما، أو ما يكون نقلها موجباً لتشوّهه في الخلقة والهندام، كالعين واليد والرجل، وأمّا غيرها من الأعضاء فيجوز له نقلها إلى غيره تبرّعاً أو بإزاء مال، كالكلية والدم و الجلد و ما شاكل ذلك، هذا شريطة أن لا يؤدّي إلى الضرر المعتدّ به، و إلّا لم يجز أيضاً24. الثالث: الإضرار بأدون من الوجهين المذكورين، وهذا غير محرّم, لعدم الدليل عليه، فإنّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" لا يدلّ على حرمة الإضرار بالنفس ظاهراً، والرجوع إلى أصالة البراءة بل إلى بناء العقلاء على تسلّط الناس على أموالهم وأنفسهم يعطي الجواز، وترى العقلاء يقدمون على بعض الإضرار بمشي زائد أو أكل زائد أو عمل شاق، ولا يذمّ أحد أحداً على ذلك. أضف إلى ذلك أنّ مساعدة الغير في هذا المورد راجحة ولا إشكال فيها، وإذا توقّفت حياة أحد عليها تجب"25. -------------------------------------------------------------------------------- 239 -------------------------------------------------------------------------------- الأفكار الرئيسة - المراد من السلطنة - هنا - هو تسلّط المالك على ماله بنحوكامل شامل، فله أن يتصرّف كيف يشاء، وليس له أيّ مانع بالنسبة إلى أنحاء التصرّفات المحلّلة ضمن الحدود الشرعيّة. - المالك سلطان في ماله، له الحقّ التامّ في مطلق التصرّفات، ولا أحد يمنعه عنه، أو يقف بوجهه في تحديد هذا السلطان، ولا أحد يشاركه فيه، بدون إذنه. - أهمّ أدلّة القاعدة من الروايات النبويّ المشهور: "الناس مسلّطون على أموالهم"، فهذا النبويّ دليل القاعدة بتمامه وكماله، والقاعدة متّخذة منه، فلا كلام ولا إشكال في تماميّة الدلالة وعموميّتها. - المدرك الأهمّ للقاعدة هو سيرة العقلاء، وسيرة المتشرّعة، فإنّ بناء العقلاء في كلّ عصر ومصر قائم على أساس أنّ المالك له كلّ حقوق التصرّف في ماله، يتصرّف فيه كيف يشاء، من نقل وهبة ووصيّة وإعارة...الخ، والشارع قد أمضى هذه السيرة. - وأمّا سيرة المتشرّعة فإنّ بناء المتديّنين والمتشرّعة، بل أهل التقوى قائم على أنّ لكلّ مالك أنّ يتصرّف في ملكه بما شاء، مّما يكشف إنًّا عن تلقّي ذلك من الشارع، وخصوصاً مع ملاحظة حجم السيرة وشمولها وامتدادها. - لم تمضِ الشريعة الإسلاميّة القاعدة على إطلاقها، بل أجرت عليها بعض القيود وأخرجت عدّة أفراد بنحو التخصيص أو التخصّص، كموارد التبذير والإسراف، وموارد الضرائب الماليّة، كالزكاة أو الخمس. ومنعت صرف المال في المجال المحرّم... - لا دليل على التسلّط على النفس والأعضاء، بل يمكن أن يقال بدلالة الدليل على العدم مع وجود استثناء... مطالعة صفات المالك وهي على أنحاء 1- الصغر والسفه: فقد منع الشارع المالك الصغير والسفيه من التصرّف في جميع ماله، وألغى سلطنته عليه، حتّى يتحقّق فيه أمران: البلوغ، والرشد، وقد تصدّى الأعلام لبيان الحدود الزمنيّة وغيرها الّتي بها يتحقّق الأمران، في المرأة والرجل، يُرجع في معرفة ذلك إلى كتب الفقه الاستدلاليّ. والمراد بالرشد القدرة العرفيّة على إدارة أمواله وإصلاحها، فلو بلغ سفيهاً استمرّ الحجر عليه، وكذا لو عرض عليه السفه، فالشارع إنّما يعطي السلطنة لمن يكون حكيماً في تصرّفه المالي، فلا يرضى بتضييع المال في غير محلّه، وإن كان صادراً عن مالكه. وتُمنح السلطنة في مال الصغير بعد سلبها منه للأب والجدّ من جهة الأب، فيشتركان فيها، فإن اتّفقا على أمر نفذ، وإن تعارضا قُدّم عقد السابق، على تفصيل في محلّه. ولو بلغ سفيهاً بقيت سلطنتهما عليه, عملاً بالاستصحاب، ولوعرض عليه السفه بعد أن كان بالغاً رشيداً سقطت سلطنته، وأعطيت للحاكم الشرعيّ خصوصاً دون الأب والجدّ. 2- الجنون: يكون سبباً في إسقاط سلطنة المالك وإلغائها حتّى يفيق ويكمل عقله. والسلطنة في ماله للأب والجدّ، على النحوالمتقدّم في الصغير. 3- السفه: يكون سبباً في سلبِ الشارعِ سلطنةَ المالكِ بشروط: - أن تكون ديونه ثابتة عند الحاكم. - أن تكون أمواله قاصرة عن ديونه. - أن تكون ديونه حالّة، فلا تسقط سلطنته على ماله لأجل الديون المؤجّلة، وإن لم يفِ ماله لوحلّت، ولوكان بعضها حالًّا وبعضها مؤجّلاً فإنْ قصر ماله عن الحالة يحجر عليه، وإلّا فلا. 4- مطالبة الغرماء الحجر: 5- الاحتكار: يجوز للحاكم الشرعيّ إجبار المحتكر (في بعض الموادّ) على البيع، وإسقاط سلطنته عن الامتناع منه، ولكنّ الخلاف بينهم في التسعير عليه وعدمه. ويصحّ إدخال هذا العنوان تحت عنوان الإضرار بالمجتمع الإسلاميّ. أسئلة وتمارين - ضع علامة صحّ أو خطأ في المكان المناسب: 1- المالك سلطان في ماله، له الحقّ التامّ في مطلق التصرّفات، ولا أحد يمنعه عنه، أو يقف بوجهه في تحديد هذا السلطان، ولا أحد يشاركه فيه، بدون إذنه. 2- يُستفاد من أدلّة القاعدة إمكانية التسلّط على النفس والأعضاء إضافة إلى الملك. 3- إذا شكّ المكلّف في حليّة لحم الأرنب الّذي يملكه، فيمكنه التمسُّك بقاعدة السلطنة لإثبات جواز أكله مع الإغماض عن سائر الأدلّة والأصول العمليّة. 4- المشهور أنّ المالك، إذا مرض بمرض الموت، فليس من حقّه إهداء أمواله أو بيعها بأقلّ من ثمن المثل، إلّا إذا كان ذلك التصرّف في حدود ثلث ما يملكه. 5- المراد من السلطنة هنا هوتسلّط المالك على ماله بنحوكامل شامل، فله أن يتصرّف كيف يشاء، وليس له أيّ مانع بالنسبة إلى أنحاء التصرّفات المحلّلة ضمن الحدود الشرعيّة. 6- لو سرق الكافر، أو سبّ الله والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم... إلخ ـ حال كفره ـ ثمّ دخل الإسلام فإنّه لا يؤاخذ على تلك الأفعال الصادرة عنه، فلا يخضع للأحكام والحدود الإسلاميّة. - عالج الأسئلة الآتية: 1- هل يمكن التمسّك بقاعدة السلطنة لإثبات جواز شراء الإنسان بأمواله الأدخنة مع ثبوت ضررها؟ ومن ثمّ جواز التدخين بها؟ 2- كيف توفّق بين قاعدة السلطنة على المال، وبين منع الشريعة للمكلّف من التصرّف في ماله أو صرفه في موارد محدّدة، كموارد التبذير والإسراف، وموارد الضرائب الماليّة، كالزكاة أوالخمس، وصرف المال في المحرّم. 3-من حقّ الإنسان أن يتناول الأطعمة المباحة، هل بإمكانه إسقاط الحقّ المذكور بقاعدة السلطنة؟ 4- من حقّ الرجل الزواج بالثانية. هل بإمكانه إسقاط الحقّ المذكور؟ وإذا لم يمكنه ذلك، فما هوالطريق لتوصّل الزوجة الأولى إلى عدم تزوّج زوجها بزوجةٍ ثانية؟ 5- هل يمكن التمسّك بقاعدة السلطنة لإثبات جواز طلاق الزوجة نفسها، إذا اشترط لها الزوج ذلك في العقد؟ وما هي الطريقة الشرعيّة للتوصُّل إلى ذلك إذا لم يمكن التمسُّك بقاعدة السلطنة؟ 6- شخص بلغ سفيهاً فمن حقّه الحصول على ماله, لأنّه أصبح مسلّطاً عليه. هوامش 1- الشيرازي، القواعدالفقهية، م.س، ج2، ص14. 2- النجفي، جواهرالكلام، م.س، ج27، ص138. 3- النساء:29. 4- البقرة: 188. 5- الشيرازي، القواعدالفقهية، م.س، ج2، ص14. 6- الملاك: ما في الفعل من مصلحة أو مفسدة. 7- العاملي، وسائل الشيعة، م.س،ج29، الباب1 من أبواب القصاص في النفس،ح3. 8- م.ن، ج19، الباب17 من أبواب أحكام الوصايا،ح1. 9- م.ن،ح 11. 10- م.ن،ح2. 11- المجلسي، بحارالأنوار، م.س، ج2، ح7، ص272. 12- الأنصاري، المكاسب (البيع)، م.س، ص83. 13- العاملي، وسائل الشيعة،ج12، باب2 م نأبواب ما يكتسب به،ح1، ص 55-57. 14- م.ن، باب1 من أبواب عقد البيع وشروطه، ح3، ص249. 15- الإنّ: هو كشف المعلول عن علّته. 16- الأساس العقليّ يقوم إمّا على كون المعصوم مكلّفاً، وإمّا على كونه شارعاً هادفاً، هدفه تبليغ الأحكام بشكلها السليم. فلو كان ما يفعله العقلاء منكراً لنهاهم المعصوم عنه، ولمّا لم ينههم يكشف ذلك عن كونه صحيحاً غير منكر. ولو كان ما يفعله العقلاء ناشئاً عن الجهل لكان الواجب على المعصوم أن يعلّمهم, لأنّ تكليفه تعليم الجاهل. وهذا على أساس كون المعصوم مكلّفاً، ولو فرضناه شارعاً هادفاً، وقد سكت، فهذا يكشف عن كون الفعل لا يتنافى مع هدف الشارع. 17- روح الله الموسوي الخميني، بدائع الدررفي قاعدة نفي الضرر، م.س، ص127. 18- الإسراء: 26 ـ 27. 19- البقرة: 195. 20- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج18، باب12 من أبواب إحياء الموات، ح3. 21- النحل: 118. 22- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج24، باب1 من أبواب الأطعمة المحرّمة، ح1. 23- المحسني، محمّد آصف، الفقه والمسائل الطبيّة، ص 217. 24- الفيّاض، إسحاق، المسائل المستحدثة, ص: 181. ويراجع السيستاني، علي، الاستفتاءات (309)، ص85. 25- المحسني، محمّد آصف، الفقه والمسائل الطبيّة، ص 217. يتبع |
الدرس الثامن عشر: قاعدة الغرور
أهداف الدرس - التعرّف على معنى قاعدة الغرور وأدلّتها. - القدرة على الاستدلال على حجّيّة القاعدة. - التدرّب على تطبيق القاعدة في مواردها. -------------------------------------------------------------------------------- 247 -------------------------------------------------------------------------------- المقدّمة حفظت التشريعات الإسلامية جميع الحقوق المتعلّقة بأفراد المجتمع، ومنعت من الاعتداء عليها، أو اتّباع الأساليب غير الشرعيّة في الحصول عليها، وألزمت المعتدي على حقوق الآخرين وأموالهم أو المسيطر عليها بالخداع والغرور بالضمان، وكذا لو صدر عن أحد فعل يوجب الضرر على آخر بانخداعه فيه، فله أن يرجع على من خدعه وغرّه، ويكون استقرار الضمان على الغارّ. بيان المراد من القاعدة يقصد بالغرور الخديعة، يقال: غرّه غروراً، بمعنى خدعة خديعة. وينبغي عدم الخلط بين الغرور والغرر، فالأوّل يراد به الخديعة، بينما الثاني يراد به كلّ جهالة تشتمل عليها المعاملة. والمقصود من القاعدة على هذا: هو تضرّر المشتري لوقوعه في خداع من قبل البائع، فإذا انخدع المشتري وأصبح متضرّراً فوق المتعارف يكون هوالمغرور، والّذي تسبّب بالضرر هوالغارّ، وعندئذ يرجع المشتري (المغرور) إلى البائع (الغارّ) بتدارك الضرر، كما لو باع الغارّ مال الغير للمشتري الجاهل بدون إذن المالك يتحقّق الغرر الوارد عليه. أوكما إذا قدّم الطعام المغصوب لغيره ضَمِنَ -------------------------------------------------------------------------------- 249 -------------------------------------------------------------------------------- ذلك الغير الآكل قيمة الطعام لصاحبه, لقاعدة على اليد أو الإتلاف، ولكنّه بدوره يرجع على الغاصب الغار, لقاعدة الغرور. خلاصة الكلام أنّ حجر الأساس لتحقّق كيان الغرر هوعلم المغرِّر، وجهل المغرور، كما قال السيّد الخوئيّ قدس سره: "إنّ الغرر إنّما يتقوّم بأمرين: أحدهما علم الغارّ بالعيب، وثانيهما جهل المغرور به، ومع انتفاء أحدهما ينتفي الغرور"1. بيان مدرك القاعدة تحقّق التسالم على مدلول القاعدة في الجملة، كما قال الشيخ الأنصاريّ رحمه الله: بأنّ للمشتري المتضرّر الرجوع على المالك, لقاعدة الغرور المتّفق عليها ظاهراً2. وقال العلّامة الأصفهانيّ رحمه الله: "واستناد الأصحاب إلى قاعدة الغرور معروف مشهور"3 . هذا ويستدلّ لإثبات القاعدة بعدّة روايات، منها: الأولى: النبويّ المشهور: "المغرور يرجع على من غرّه". وقد نُسب هذا الحديث في لسان كثير من الفقهاء إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، كما في جواهر الكلام، ومستمسك السيّد الحكيم، وغيرهما4. ودلالة هذه الجملة على المقصود في المقام - أي رجوع المغرور إلى الغارّ فيما تضرّر من ناحية تغريره إيّاه - واضحة لا تحتاج إلى شرح وإيضاح, إذ لا معنى لرجوع المغرور إلى الغارّ في المتفاهم العرفيّ إلّا هذا المعنى، أي يكون له أخذ ما تضرّر من الغارّ. والعمدة إثبات سندها، وقد ادّعى بعضهم عدم وجودها -------------------------------------------------------------------------------- 250 -------------------------------------------------------------------------------- في كتب الحديث، وإن كان عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود، لكنّ صرف احتمال الوجود لا أثر له. بيد أنّه لا يوجد في معاجم الحديث عند السنّة فضلاً عن الشيعة رواية منسوبة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم باللفظ المذكور. ودعوى انجبار ضعف سند الرواية بعمل المشهور بها لا تنفع في المقام، بعد عدم ثبوت ما ذكر كرواية منقولة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّ الشهرة تجبر ما ثبت كونه رواية منقولة في كتب الحديث، دون ما لم تثبت روائيّته. نعم، نقل البيهقيّ في سننه عن الشافعيّ عن عليّ عليه السلام: "المغرور يرجع بالمهر على من غرّه"5. ولكنّه على تقدير تماميّة سنده لا ينفع في إثبات القاعدة، لاختصاصه بالمهر. الثانية: الاستدلال بصحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام: "امرأة شهد عندها شاهدان بأنّ زوجها مات، فتزوّجت ثمّ جاء زوجها الأوّل، قال: لها المهر بما استحلّ من فرجها الأخير، ويضرب الشاهدان بالحدّ، ويضمنان المهر بما غرّا الرجل، ثم تعتدّ وترجع إلى زوجها الأوّل"6. فإنّ الباء في جملة "بما غرّا الرجل" سببيّة، أي: يضمنان بسبب أنّهما غرّا الرجل، ويتمسّك بعموم التعليل، ويثبت بذلك أنّ مطلق الغرور يوجب الضمان. هذا ويمكن دعوى انعقاد سيرة العقلاء أيضاً على الحكم بضمان الغارّ، وحيث لم يردع عنها فتكون ممضاة. الثالثة: الروايات الواردة في مختلف الأبواب، منها: صحيحة محمّد بن قيس، عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل شهد عليه رجلان بأنّه سرق فقطع يده، حتّى إذا كان بعد ذلك جاء الشاهدان برجل -------------------------------------------------------------------------------- 251 -------------------------------------------------------------------------------- آخر فقالا: هذا السارق وليس الذي قطعت يده، إنّما شبّهنا ذلك بهذا، فقضى عليهما أن غرّمهما نصف الدية، ولم يجز شهادتهما على الآخر"7. ومنها: صحيحة جميل عن أبي عبد الله عليه السلام، في شاهد الزور، قال: "إن كان الشيء قائماً بعينه رُدّ على صاحبه، وإن لم يكن قائماً ضُمِنَ بقدر ما أتلف من مال الرجل"8، ووجه الاستدلال بالصحيحتين هو أنّ الّذي أصابه الضرر من الغير، له أن يتدارك ضرره بالرجوع إلى ذلك الغير، وبما أنّه لا خصوصيّة للمورد يُستفاد منهما العموم. والإشكال بأنّ تدارك الضرر إنّما هو بوساطة الإتلاف مندفع, وذلك لأنّ التدارك إذا كان على أساس الإتلاف، لكان الحاكم شريكاً في الأمر، وبما أنّ المستفاد من النصّين هوالرجوع على الشاهد فقد تمّت الدلالة على مفاد القاعدة. ولكنّ الأولى الاقتصار في مورد القاعدة على ما إذا علم الغارّ, لأنّه هوالمتيقّن. كما قال السيّد الحكيم رحمه الله: "لا دليل على قاعدة الغرور كلّيّة، وأنّه يمكن استفادتها في خصوص صورة علم الغارّ من نصوص تدليس الزوجة"9. الرابعة: الروايات العديدة الواردة في موارد خاصّة، الدالّة على رجوع المغرور إلى الغار في مقدار الضرر الّذي أوقعه فيه بوساطة تغريره له، كالروايات الواردة في تدليس الزوجة، الدالّة على رجوع الزوج بالمهر على المدلّس، معلّلة بقوله عليه السلام: "لأنّه دلّسها" في خبر رفاعة: و"إنّ المهر على الّذي زوّجها وإنّما صار عليه المهر, لأنّه دلّسها"10، فجعل عليه السلام مناط الرجوع وعلّته تدليسه لها، -------------------------------------------------------------------------------- 252 -------------------------------------------------------------------------------- أي خداع الزوج بتدليسه إيّاها، وإراءَتها على خلاف الواقع، فمقتضى عموم التعليل رجوع كلّ من خدع وتضرّر إلى الّذي خدعه. بناء العقلاء: بمعنى أنّ العقلاء في معاملاتهم وسائر أعمالهم، إذا تضرّروا بوساطة تغرير الغير إيّاهم، يرجعون فيما تضرّروا فيه إلى الغارّ، ويأخذون منه مقدار الضرر الّذي صار سبباً لوقوع المغرور فيه، وسائر العقلاء لا يستنكرون هذا المعنى بل يغرّمون الغارّ. وهذا أمر دائر شايع بينهم، من دون نكير لأحد منهم، وعندي أنّ هذا الوجه أحسن الوجوه الّتي ذكروها في هذا الباب11. إن قلت: إنّ بناء العقلاء يحتاج، في حجّيّته، إلى الإمضاء، قلنا: أوّلاً: عدم الردع يكفي في الإمضاء، ولم يثبت ردع من طرف الشارع. وثانياً: اتّفاقهم على الاستدلال بهذه القاعدة في موارد متعدّدة من دون اعتراض من أحدهم على هذا الاستدلال، يكشف كشفاً قطعيّاً عن إمضاء الشارع لهذه الطريقة والبناء. اعتبار الجهل في صحّة التمسّك بالقاعدة لتوضيح المقام يوجد عدّة صور: الأولى: أن يكون الغارّ والمغرور عالمين بالغرر، ففي هذه الصورة لا يصدق عنوان الغرر، ولا تدخل هذه الصورة تحت عموم قاعدة الغرور، فلا غارّ ولا مغرور، ولا خدعة ولا غرور في البين, لأنّ جهل المغرور مأخوذ في حقيقة كونه مغروراً، وإلاّ يكون هوبنفسه مقدِماً على الضرر. الثانية: أن يكون المغرور جاهلاً بالضرر، والغارّ عالماً به، وهذه الصورة القدر المتيقّن من القاعدة، إذ يصدق فيها عنوان الغرور بشكل واضح وجليّ، ويقرّ به عموم الناس بلا أيّ شكّ أوتردّد. -------------------------------------------------------------------------------- 253 -------------------------------------------------------------------------------- الثالثة: أن يكون المغرور عالماً بالغرر، والغارّ جاهلاً به، فهذه الصورة خارجة من تحت القاعدة، لعدم صدق الغرور مع علم المغرور. الرابعة: أن يكون الغارّ والمغرور جاهلين: هنا يوجد قولان: الأوّل: عدم صدق عنوان الغرور, لأنّ الجاهل بضرر فعل، إذا أوقع شخصاً في ارتكاب ذلك الفعل، لا يصدق عليه عنوان (الغارّ)، خصوصاً إذا كان مشتبهاً، وتخيّل النفع في ذلك الفعل، ودعاه إليه باعتقاد أنّه نافع له، ثمّ ظهر أنّه يضرّه، كالطبيب الّذي يصف الدواء الفلانيّ له باعتقاد أنّه نافع له، ثمّ بعد استعماله تبيّن أنّه أضرّه، فمثل هذا لا يعدّ عند العرف تغريراً أوخدعاً لذلك الآخر المتضرّر. الثاني: صدق عنوان الغرور: بدعوى أنّ عناوين الأفعال ليست متقوّمة بقصد تلك العناوين، فمن قام أو قعد يصدق عليه عنوان القائم أو القاعد وإن لم يكن قاصداً لذلك على نحو اسم المصدر، بل كان غافلاً. وهكذا من قدّم طعام الغير إلى آخر فأكله أوتصرّف به، يصدق عليه عنوان الغارّ، ولو لم يكن ملتفتاً إلى أنّه طعام الغير، بل كان معتقداً أنّه طعام نفسه، وبما أنّ قصد عناوين الأفعال ليس معتبراً في صدق عنوان ذلك الفعل، فإذا ضرب أحداً يصدق عليه عنوان الضرب وإن لم يقصده، فالتغرير عبارة عن ترغيب شخص إلى فعل يترتّب عليه الضرر، وإن كان المرغّب جاهلاً بترتّب الضرر على ذلك الفعل، وإيقاعه في ذلك الفعل. نعم، العناوين القصديّة - في العبادات مثلاً - لا تحصل بدون قصد ذلك العنوان، فالتعظيم الّذي هو من العناوين القصديّة لا يحصل من صرف ذلك القيام والركوع والسجود، بدون قصد ذلك العنوان، ولكنّ التغرير وإيقاع الآخر بالغرور ليس من تلك العناوين القصديّة, كونه يتحقّق ويترتّب عليه الأثر بمجرّد وقوعه. -------------------------------------------------------------------------------- 254 -------------------------------------------------------------------------------- ومع هذا، إنّ الدعوى المذكورة خلاف ما نشعر به عرفاً من صدق عنوان الغرور بعلم الغارّ وجهل المغرور، خاصّة وأنّ المتديّن يحتاط عادة قبل التصرّف في ملك الغير، ولا يقدم على أيّ فعل دون التحقّق. -------------------------------------------------------------------------------- 255 -------------------------------------------------------------------------------- الأفكار الرئيسة - المقصود من القاعدة هو تضرّر المشتري على أساس خداع البائع، فإذا انخدع المشتري وأصبح متضرّراً يكون هوالمغرور، والّذي تسبّب بالضرر هو الغارّ، وعندئذٍ يرجع المشتري المغرور إلى البائع الغارّ بتدارك الضرر. - إنّ الغرر يتقوّم بأمرين: أحدهما علم الغارّ بالعيب، وثانيهما جهل المغرور به، ومع انتفاء أحدهما ينتفي الغرور. - لقد تحقّق التسالم على مدلول القاعدة في الجملة. - يُتمسّك، لإثبات القاعدة، بالحديث المشهور: "المغرور يرجع على من غرّه". وقد نسب على لسان كثير من الفقهاء إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كما في جواهر الكلام، والمستمسك وغيرهما. - إنّ العقلاء في معاملاتهم وسائر أعمالهم إذا تضرّروا بوساطة تغرير الغير إيّاهم، يرجعون فيما تضرّروا فيه إلى الغارّ، ويأخذون منه مقدار الضرر الّذي صار سبباً لوقوع المغرور فيه، وسائر العقلاء لا يستنكرون هذا المعنى، بل يغرّمون الغارّ. مطالعة قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع معنى القاعدة هو قولهم: كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع، فإذا حكم العقل بوجوب شيء - مثلاً- حكماً قطعياً مستقلّاً، لا بدّ من حكم الشرع به أيض, لعدم الانفكاك بين الحكمين...، ولا يخفى أنّ هذه القاعدة ذكرت في علم الكلام لإثبات عدالة الله، وذكرت في علم الأصول في بحث الملازمات، وبما أنّه يثبت بها الحكم الشرعي يصلح ذكرها في عداد القواعد الفقهية، وقد تحقّق التسالم بين الأصوليين على مدلول القاعدة. هذا إضافة إلى أنّ الشارع من العقلاء، فإذا كان الحكم ثابتاً عندهم قطعاً كان ذلك الحكم كذلك عند الشارع, لأنّه أعقل العقلاء وأفضلهم. قال الشهيد الصدر رحمه الله: "المشهور بين علمائنا الملازمة بين الحكم العملي العقلي والحكم الشرعي"12. والصحيح أنّ الملازمة ثابتة إذا كان الحكم قطعياً بمستوى الضروريات كحسن العدل وقبح الظلم وما شاكلهما. وأمّا الإشكال بأنّ العقل ضعيف ودين الله لا يصاب بالعقول وارد على القسم الداني من الحكم العقلي، وهو الحكم الظنّي كالقياس والاستحسان وغيرهما. والمراد من حكم العقل هنا هو كشفه عن الحكم الشرعي لا إنشاء الحكم، كما قال الشهيد الصدر رحمه الله: "ودور العقل بالنسبة إليه دور المدرك لا دور المنشئ والحاكم"13. أسئلة وتمارين - ضع علامة صحّ أو خطأ في المكان المناسب: 1- يتقوّم الغرر بأمرين: أحدهما جهل الغارّ بالعيب، وثانيهما جهل المغرور به، ومع انتفاء أحدهما ينتفي الغرور. 2- العقلاء، في معاملاتهم وسائر أعمالهم، إذا تضرّروا بوساطة تغرير الغير إيّاهم، يرجعون فيماتضرّروا فيه إلى الغارّ ويغرّمونه. 3- إذا قدّم الغاصب مال المالك إليه (للمالك) بعنوان الضيافة، وكان المالك جاهلاً بكونه له، لا يجب على الغاصب الضمان لعدم صدق الغرور. 4- إذا كان المغرور جاهلاً بالضرر، والغارّ عالماً به، فتطبّق القاعدة، بل هوالقدر المتيقّن منها. 5- إذا قدّم شخص طعاماً لآخر كضيافة ليأكله، ثمَّ ظهر أنَّه لغيره، فللغير أن يطالبه بقيمة الطعام, للقاعدة، ويرجع بما دفعه على من غرَّه. 6- إذا باع الصغير بضاعة غيره لآخر، وفجأة ظهر المالك الحقيقيّ، فيجب ردّ البضاعة إلى المالك وتغريم الصغير. - عالج الأسئلة الآتية: 1- شخص قدّم طعاماً للغير باعتقاد أنّه له، ثمّ اتضح أنّه لغيره، فهل يكونان ضامنين؟ ولماذا؟ 2- إذا قال شخص لآخر: توجد في معرض الكتاب كتب تباع بسعر زهيد، فسافر إليه فلم يجد الأمر كما أخبر، فهل يمكن تغريمه أجور السفر؟ 3- شخص أراد الزواج ومدح له ثانٍ أخلاق امرأة معيّنة، فلمّا تزوّجها ظهر له سوء أخلاقها، فهل يكون المادح غارّاً ويلزمه ضمان المهر؟ 4- إذا دخل شخص داره ووجد فيها طعاماً فأكله باعتقاد أنَّه له، ثمّ اتّضح أنَّه لغيره، فهل يكون ضامناً؟ 5- إذا رأى شخص سيّارة في الموضع الّذي يضع فيه سيّارته واعتقد أنّها سيّارته لشدّة شبهها بها، فلمّا ركبها اتّضح أنّها سيّارة الغير، فهل يكون ضامناً لأجرة التصرّف فيها، وضمان العيب لوفرض طروُّه عليها؟ 6- لو باع مرابحة فبان رأس ماله أقلّ، كان المشتري بالخيار بين ردّه، وأخذه بالثمن. السؤال: هل يصحّ جعل قاعدة الغرور مستنداً لهذا الخيار؟ هوامش 1- الخوئي، أبو القاسم: مصباح الفقاهة، تحقيق جواد القيّومي الأصفهاني، ط1، قم المقدّسة، المطبعة العلمية, مطبعة الداوري، لات، ج3، ص759. 2- الأنصاري، المكاسب(البيع)، م.س،ص147. 3- الأصفهاني: حاشيةالمكاسب، تحقيق الشيخ عبّاس محمّد السبّاع القطيفي، ط1، قم المقدّسة، نشر أنوار الهدى, المطبعة العلمية،1418 هـ.ق، ج1، ص192. 4- النجفي، جواهرالكلام، م.س، ج37، ص145, الحكيم، مستمسك العروة الوثقى، م.س، ج14, ص350. 5- البيهقي، السنن الكبرى، م.س، ج7، باب من قال يرجع المغرور بالمهر على من غرّه، ص219. 6- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج18، باب14 من أبواب الشهادات، ح2. 7- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج18، باب14 من كتاب الشهادات، ح1، ص243. 8- م.ن، باب11 من كتاب الشهادات، ح2، ص239. 9- الحكيم، محسن: نهج الفقاهة، لاط، قم المقدّسة، انتشارات 22 بهمن، لات، ص273. 10- الكليني، الكافي، ج5، باب المدالسة في النكاح وما ترد منه المرأة، ح9، ص407, وانظر: لبقيّة الروايات: العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج14، أبواب العيوب والتدليس، باب2، ح4, ح7، ص597, الطوسي، محمّد بن الحسن: تهذيب الأحكام، ج7، باب التدليس في النكاح، ص432، ح1, ح34. 11- البجنوردي، القواعدالفقهية، م.س، ج1، ص722. 12- على تفضيل في محلّه. 13- الصدر، دروس في علم الأصول (الحلقةالثالثة – القسم الأوّل)، م.س، ص428. يتبع |
الدرس التاسع عشر: قاعدة الإتلاف
أهداف الدرس - التعرّف على معنى قاعدة الإتلاف وأدلّتها. - القدرة على الاستدلال على حجّيّة القاعدة. - التدرّب على تطبيق القاعدة في مواردها. -------------------------------------------------------------------------------- 261 -------------------------------------------------------------------------------- المقدّمة إنّ من جملة القواعد الفقهيّة المشهورة الّتي تمسّك بها الفقهاء في موارد الضمان هي قاعدة: "من أتلف مال الغير بلا إذن منه فهو له ضامن". وتعتبر قاعدة الإتلاف في باب الضمانات، ولزوم تدارك الخسارة (الضمان القهريّ) من البحوث المهمّة - ولاسيّما في عصرنا الحاضر, لضمان الحقوق الفرديّة والاجتماعيّة، وتحقيق العدالة الاجتماعية -، وهي من أهمّ القواعد في هذا المجال، لو لم نقل إنّها الأهمّ على الإطلاق، وإنّ الأمر متسالم عليه عند الفريقين، بل إنّ هذه القاعدة من ضروريّات الفقه، ولا خلاف ولا إشكال في مدلولها. بيان المراد من القاعدة المراد من الإتلاف ـ هنا ـ هو استهلاك مال مسلم بدون الإذن والرضا، وهو أعمّ من أن يكون عن عمد أوعن خطأ، ويكون مفادها هوالضمان على من يتلف مال الغير، كما اشتهر على ألسن المتقدّمين والمتأخّرين قولهم: "من أتلف مال الغير فهوله ضامن"، فإذا تحقّق إتلاف مال الغير بدون إذنه ورضاه، وبدون قصد الإحسان إليه، يكون المتلف ضامناً حتّى يؤدّي ما أتلفه إلى مالكه قيمة أو مثلاً. ولا يخفى أنّه قد يعبّر عن هذه القاعدة (الإتلاف) بقاعدة من أتلف. -------------------------------------------------------------------------------- 263 -------------------------------------------------------------------------------- ما المراد بالإتلاف؟ الإتلاف قد يكون بالمباشرة وقد يكون بالتسبيب: الأوّل: عبارة عن الفعل الّذي يصدر عن الإنسان مباشرة، ويؤدّي إلى إتلاف مال الغير، مثل أن يأكل ماله الّذي من المأكولات، أو يشرب ماله الّذي من المشروبات، أو يحرق أثوابه، وأمثال ذلك ممّا يوجب أويسبِّب فناء مال الغير عن نفسه، بدون توسيط فاعل إراديّ أوغير إرادي آخر. وهذا القسم من الإتلاف موجب للضمان قطع, لما سيأتي من الأدلّة، وعليه الاتّفاق من المسلمين قاطبة، بل عليه اتّفاق جميع عقلاء العالم من المسلمين وغير المسلمين من ذوي الأديان، بل ومن غير ذوي الأديان. الثاني: عبارة عن كلّ فعل صار سبباً لوقوع التلف، ولم يكن علّة تامّة للتلف، أو لم يكن الجزء الأخير من العلّة التامّة، بل يكون بحيث لولم يصدر عنه هذا الفعل لم يقع التلف، كما لوحفر بئراً مكشوفة في الطريق، فوقع فيها شيء وتلف، فهوالسبب. ولهذا عرّفوا السبب بأنّه ما لا يلزم من وجوده الوجود، وإلّا فهو العلّة التامّة أو الجزء الأخير منها، ولكن يلزم من عدمه العدم. فعلى هذا المعنى للتسبيب، أي ما يلزم من عدمه عدم التلف أيضاً، يمكن القول إنّه موجب للضمان، وقد ادّعى في الجواهر1 نفي الخلاف فيه، وتدلّ عليه مجموعة من الأخبار كما سيأتي. -------------------------------------------------------------------------------- 264 -------------------------------------------------------------------------------- بيان مدرك القاعدة 1- الآيات: استدلّ بقوله تعالى: ï´؟فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْï´¾،2 بتقريب أنّ إتلاف مال الغير أومنافعه أوحقوقه بغير إذنه من مصاديق التعدّي، وحينئذ يجوز (بناءً على دلالة الآية) تضمين المتعدّي، والضمان يشكّل المدلول الالتزامي للآية، لولم نقل أنّه مدلولها المطابقي الصريح. وقد تمسّك بعض الفقهاء (كالشيخ الطوسيّ وابن ادريس) بالآية، مضافاً إلى إثبات أصل قاعدة الإتلاف, لإثبات نوعيّة الضمان من المثليّ والقيميّ، فقال الشيخ الطوسيّ: "الأموال على ضربين: حيوان وغير حيوان، فأمّا غير الحيوان فعلى ضربين: ما له مثل وما لا مثل له...، فإذا غصب غاصب من هذا شيئاً، فان كان قائماً ردّه، وإن كان تالفاً فعليه مثله, لقوله تعالى: ï´؟...فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْï´¾. ويمكن المناقشة في هذا الاستدلال بأمور: الأوّل: إنّ الاعتداء هو الإتلاف عمداً، ولا يشمل فرض الخطأ والنسيان، أضف إلى أنّ المدّعى في مفاد القاعدة هوضمان المتلف سواء أكان الإتلاف عن عمد واختيار، أم كان عن غفلة وإكراه، في حين أنّ المأخوذ في الآية عنوان ï´؟العدوانï´¾، وهوصادق في حال العمد والاختيار، دون ما كان عن غفلة أوإكراه، وعليه فالدليل في الموردين أخصّ من المدّعى. الثاني: إنّ مورد الآية المباركة في جواز التعدّي على العدوفي الحرب إذا تعدّى، ولا ربط له بباب الضمان، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره (مستشكلاً على الاستدلال بالآية لإثبات الضمان): "لكن يردّ عليه أنّه لا شبهة في دخول الاعتداء بالحرب في الآية، لولم نقل باختصاصها به, لأجل كونها في سياق آيات الجهاد، كقوله تعالى: ï´؟وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ -------------------------------------------------------------------------------- 265 -------------------------------------------------------------------------------- ï´؟فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ...ï´¾3، فقوله تعالى: ï´؟فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ...ï´¾4 تفريع على ذلك، فهوإمّا مختصّ بالحرب فلا دلالة فيه على الضمان المطلوب، أوكبرى كلّيّة، فلا محالة يكون الاعتداء بالحرب داخلاً فيها، ولا يمكن إخراج المورد عنها وتخصيصها بمورد الماليّات"5. 2- الروايات، منها: صحيحة أبي ولاّد في اكترائه البغل من الكوفة إلى قصر أبي هبيرة وتخلّفه عنه، فذهب من الكوفة إلى النيل وبغداد ذهاباً وإياباً، قال: فأخبرت أبا عبد الله عليه السلام، فقال: "أرى له عليك مثل كراء البغل ذاهباً من الكوفة إلى النيل، ومثل كراء البغل من النيل إلى بغداد، ومثل كراء البغل من بغداد إلى الكوفة وتوفّيه إياه"6، دلّت على أنّه من أتلف مال الغير (المالأوالمنفعة) يكون ضامناً، ويجب عليه الوفاء بالمثل أو القيمة. ومنها: صحيحة الحلبيّ عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "سألته عن الشيء يوضع على الطريق فتمرّ الدابّة فتنفر بصاحبها فتعقره؟ فقال: كلّ شيء يضرُّ بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه"، فُيستفاد من عموم هذه الصحيحة أنّ كلّ من يوجب تلف مال المسلم، يكون ضامناً لما يتلفه. ومنها: صحيح زرارة عنه عليه السلام أيضاً، قلت له: "رجل حفر بئراً في غير ملكه، فمرّ عليها رجل فوقع فيها؟ فقال عليه السلام: عليه الضمان لأنّ كلّ من حفر في غير ملكه كان عليه الضمان"7 -------------------------------------------------------------------------------- 266 -------------------------------------------------------------------------------- ومنها: موثّقة سماعة8، ومدلولها نفس مدلول صحيح أبي ولاّد المتقدّم. قال العلّامة الأصفهانيّ رحمه الله: الظاهر أنّه (إتلاف) مأخوذ من الموارد الخاصّة المحكوم عليها بالضمان، كما في الرهن والمضاربة والوديعة والعارية والإجارة، فإنّه حكم فيها بالضمان مع التعدّي والتفريط، وكذا في غيرها كقوله: "من أضرّ..." إلخ. والظاهر بل المقطوع أنّه لا خصوصية لتلك الموارد على كثرتها وتشتّتها، ولذا جعلوا الإتلاف سبباً للضمان كلّيّة"9. 3- السيرة العقلائيّة: من جملة ما استدلّ به الفقهاء على هذه القاعدة السيرة العقلائيّة، حيث إنّ العقلاء يعتبرون من أتلف مال غيره ضامناً، ولم يكتفِ الشارع بعدم الردع عن تلك السيرة، بل إنّ هناك ما يدلّ على إمضائه لها في النصوص.كما قال الإمام الخمينيّ قدس سره: "فالظاهر أنّ قاعدة الإتلاف بنطاق أوسع من مفهوم الإتلاف أمر عقلائيّ، فلوأتلف مال الغير، أو أفسده، أو أكله، أو عيّبه، أو أفسده على صاحب المال، ولو لم يفسده في نفسه - كمن سلّم مال الغير إلى غاصب لا يمكن أخذه منه، أوإخراج الطير من قفصه، إلى غير ذلك من التضييع والإفساد - فهوضامن عند العقلاء، يرجع بعضهم إلى بعض في الضمان"10. فإذاً، السيرة العقلائيّة تدلّ على الضمان، إلّا أنّها غير قابلة للتمسّك بها على سعته وعمومه, وذلك لكونها دليلاً لبّيّاً لا إطلاق له حتّى يُتمسّك به. الضمان على السبب أو المباشر هل يُشترط في تحقّق الإتلاف مباشرة المتلف، أم لا؟ من المعلوم أنّ الإتلاف بالمباشرة كأكل ما يؤكل وشرب ما يشرب من مال الغير ممّا لا شكّ في كونه -------------------------------------------------------------------------------- 267 -------------------------------------------------------------------------------- موجباً للضمان، وأمّا إذا كان العمل سبباً لتلف مال الغير كحفر البئر في الطريق الموجب لعقر الدابّة فهل يوجب الضمان أيضاً أم لا؟ التحقيق: أنّ السبب إذا كان على نهج يستند التلف إليه عرفاً بدون وساطة فاعل عاقل في البين موجب للضمان قطعاً، وذلك - مضافاً إلى تسالم الفقهاء - لأنّ الحكم منصوص في الروايات كصحيحة الحلبيّ المتقدّمة. وكذا لو وضع سكّيناً بيد مجنون فجرح أو قتل، أو فتح باب الحبس على سبع فافترس إنساناً أوحيواناً، أو ألقى حيّة على نائم أو من ليس بنائم ولكن لا يقدر على التحرّز عنهابقتلها، أوفراره عنها، فلدغته، وأمثال ذلك من النظائر الكثيرة. ففي جميع هذه الموارد يكون الضامن هوالسبب لا المباشر، وذلك فيما لو لم يكن المباشر فاعلاًعاقلاً بل يصدر عنه الفعل بدون ترو وتفكّر في عواقبه، لعدم قدرته على التروّي والتفكّر، وإن شئت عبّر عن هذا بأنّ السبب أقوى من المباشر، ولعدم إمكان كون الضمان على المباشر - في مثل الحيوان - لعدم العهدة في الحيوان أي السبع أو الحيّة المباشرين للإتلاف، حتّى يكون الضمان عليهما. هل يشترط في الضمان البلوغ والعقل؟ هل ضمان المتلف مشروط بالبلوغ والعقل؟ أو أنّه يشمل المجنون والصبيّ أيضاً؟ تارة يفرض أنّ الشخص الّذي يتلف مال غيره وهو بالغ عالم بأنّه مال غيره. وفي مثله لا إشكال في الضمان. وأخرى يفترض جهله أو عدم بلوغه، وفي مثله لا بدّ من الحكم بالضمان, لأنّ الضمان حكم وضعيّ، ولا مانع من شموله للجاهل أو غير البالغ، وإنّما الّذي لا يشملهما هو الحكم التكليفيّ بالخصوص. وعليه فوجوب الردّ - كحكم تكليفيّ - لا يشمل غير البالغ بخلاف الضمان -------------------------------------------------------------------------------- 268 -------------------------------------------------------------------------------- لوتحقّق التلف عنده، فإنّه لا محذور في شموله له، غايته يكون المكلّف بالدفع من أموال الصبيّ وهو وليّه. وهكذا الحال في من وضع يده على مال الغير، وهو يتصوّر أنّه ملكه فإنّه ضامن له. هنا نقول: إنّه لوكان الدليل الدالّ على القاعدة هوالإجماع أو الضرورة أو السيرة العقلائيّة فلا يمكن التمسّك بها في حالات الشكّ, إذ ينبغي الاقتصار على القدر المتيقّن منه، وهوالبالغ العاقل. ولكن حيث إنّ عمدة الدليل هي الروايات فإنّه يمكن التمسّك بإطلاقها ليشمل ضمان المجنون والصغير، وهذا ما فعله الفقهاء في المقام، حيث لم يشترطوا في الأحكام الوضعية شرط البلوغ والعقل والعلم. ولهذا أفتى غيرُ فقيه عن سؤال في ضمان ما أتلفه الصبيّ والمجنون أنّه عليهما أوعلى الولي؟ فقالوا بأنّه عليهما الضمان، ولمّا كان الضمان من الأحكام الوضعيّة ولا يشترط فيها ما يشترط في الأحكام التكليفيّة فلا حاجة لإطالة البحث في ذلك بعد وضوحه. -------------------------------------------------------------------------------- 269 -------------------------------------------------------------------------------- الأفكار الرئيسة - إذا تحقّق إتلاف مال الغير بدون إذنه ورضاه وبدون قصد الإحسان إليه يكون المتلف هوالضامن حتّى يؤدّي ما أتلفه إلى مالكه قيمةً أومثلاً. - اتّفق الفقهاء على مدلول القاعدة، والأمر متسالم عليه عند الفريقين. - استُدلّ على حجيّة القاعدة بالآيات والروايات وسيرة العقلاء. - الإتلاف قد يكون بالمباشرة وقد يكون بالتسبيب: - الأوّل: كأن يأكل ماله الّذي من المأكولات، أو يحرق أثوابه، وأمثال ذلك مّما يوجب أو يسبّب فناء مال الغير عن نفسه، بدون توسيط فاعل إرادي أو غير إراديّ آخر. وهذا القسم يقيناً من الإتلاف الموجب للضمان، وعليه الاتّفاق من المسلمين قاطبة، بل عليه اتّفاق جميع العقلاء. - والثاني: عبارة عن كلّ فعل صار سبباً لوقوع التلف، ولم يكن علّة تامّة للتلف أو الجزء الأخير من العلّة التامّة، بل يكون بحيث لو لم يصدر عنه هذا الفعل لم يقع التلف، وهذا القسم الثاني موجب للضمان. - عرّفوا السبب بأنّه ما لا يلزم من وجوده الوجود، وإلّا فهوالعلّة التامّة أو الجزء الأخير منها، ولكن يلزم من عدمه العدم. فعلى هذا المعنى للتسبيب فلو حفر بئراً مكشوفة في الطريق فوقع فيها شيء وتلف، فهو السبب. - القدر المتّفق عليه في ضمان المتلف البالغ العاقل، ويشمل المجنون والصبيّ أيض, لأنّ الضمان حكم وضعيّ، ولا مانع من شموله للجاهل أوغير البالغ، وإنّما الذي لا يشملهما هوالحكم التكليفيّ بالخصوص. مطالعة قاعدة الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي معنى القاعدة هوأنّ الشيء الذي تعلّق به المنع الشرعي (كشرب الخمر) يستحيل أن يتعلّق به الأمر (الأمر بالشرب)، ويكون حاله حال الممتنع العقلي، الذي لا يمكن أن يقع متعلّق الأمر كالأمر بالطيران بدون الوسيلة. ويمكن الاستدلال على اعتبار القاعدة بأمور: - تحقّق التسالم بين الفقهاء على مدلول القاعدة ولا خلاف، ولا إشكال فيه بينهم، بل الأمر عندهم من المسلّمات في مختلف المجالات. - التكليف بما لا يطاق: من المعلوم أن الفعل المنهيّ عنه إذا وقع متعلّقاً للأمر لا يتمكّن المكلّف من الامتثال، فيكون من التكليف بما لا يطاق, لاستحالة الجمع بين الضدّين. - اشتراط القدرة: لا ريب أنّ القدرة من الشروط الأصلية للتكليف الشرعي، فلا يصحّ التكليف للعاجز (فاقد القدرة). والمقصود من القدرة هنا هي القدرة الشرعية، بمعنى عدم المانع الشرعي تجاه العمل، وعليه لوكان هناك مانع شرعيّ لم تتواجد القدرة على التكليف، وهذا هو معنى قولهم إنّ الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي، وذلك لعدم التمكّن من إتيان العمل المشروع - في صورة وجود المانع الشرعي - شرعاً وعقلاً. أسئلة وتمارين - ضع علامة صحّ أو خطأ في المكان المناسب: 1- إذا تحقّق إتلاف مال الغير بدون إذنه ورضاه لكن لا عن قصد، يكون المتلف هوالضامن حتّى يؤدّي ما أتلفه إلى مالكه قيمةً أومثلاً. 2- لا فرق في وجوب الضمان على المتلف بين البالغ العاقل، والمجنون والصبيّ. 3- يشترط في تحقّق الإتلاف والضمان مباشرة المتلف، ولا يكفي أن يكون مسبّباً لذلك. 4- إذا سلّم مال الغير إلى غاصب لا يمكن أخذه منه، يصدق أنّه متلف له ويجب عليه الضمان عند العقلاء. 5- المراد من الإتلاف الموجب للضمان ـ هنا ـ هواستهلاك مال مسلم بدون الإذن والرضا، في حال العمد دون الخطأ. 6- لا فرق في وجوب الضمان على المتلف فيما إذا كان الإتلاف عن عمد واختيار، أو كان عن غفلة وإكراه. - عالج الأسئلة الآتية: 1- ما الفرق بين إيقاع الآخر بالإتلاف بالسبب المباشر وغير المباشر المعبّر عنه بالتسبيب؟ 2- لوحفر شخص خندقاً مكشوفاً في الطريق فوقعت فيه سيّارة وتضرّرت، فهل يجب الضمان؟ ولماذا؟ 3- كيف نوجّه الاستدلال على القاعدة بقوله تعالى: ï´؟...فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ...ï´¾؟ 4- كيف يستدلّ بصحيحة أبي ولّاد في إكراء البغال على حجّيّة القاعدة؟ 5- بأيّ توجيه نسوِّغ ضمان الصبي غير البالغ، وضمان المجنون، فيما لو أوقعا الضرر على غيرهما، مع أنّهما غير مكلّفين، بحسب حديث الرفع؟ 6- لو وضع سكّين بيد مجنون فجرح شخصاً غير بالغ نتيجة اعتدائه عليه، فمن يكون ضامناً؟ ولماذا؟ هوامش 1- النجفي، جواهرالكلام، م.س، ج37، ص46. 2- البقرة: 194. 3- البقرة: 191. 4- البقرة: 194 5- الخميني، روح الله: كتاب البيع، تحقيق ونشر مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، ط1، طهران، 1421هـ.ق، ج1،ص481. 6- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج17، باب7 من كتاب الغصب،ح1، ص313. 7- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج19، باب 8أبواب موجبات الضمان،ح1، ص179. 8- م.ن،ح3، ص180. 9- الأصفهاني، حاشية المكاسب، م.س، ص87. 10- الخميني، كتاب البيع، م.س، ج2، ص458. يتبع |
الدرس العشرون: قاعدة: المسلمون عند شروطهم
أهداف الدرس - التعرّف على معنى قاعدة: المسلمون عند شروطهم وأدلّتها. - القدرة على الاستدلال على حجّيّة القاعدة. - التدرّب على تطبيق القاعدة في مواردها. -------------------------------------------------------------------------------- 275 -------------------------------------------------------------------------------- المقدّمة هذه القاعدة من القواعد المعروفة الّتي تطابقت آراء الفقهاء على الأخذ بها، في مقام استنباطهم للأحكام الشرعية. ومفادها أنّ المسلم ملزم شرعاً بكلّ ما ألزم به نفسه للآخرين، والتزمه لهم، والإنصاف أنّ القاعدة في كمال الاعتبار والوثوق بصدورها عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام. بيان المراد من القاعدة معنى القاعدة هولزوم الوفاء بالشرط، فالقاعدة تتكوّن من شطرين: الشطر الأوّل: تسلّط المؤمنين على الاشتراط، فيتسلّط المتعاملان على جعل الالتزام والتعهّدات الّتي نسمّيها بالشروط. والشطر الثاني: وجوب العمل بمقتضى الشرط، فيجب على المتعاملين العمل بما تعهّدا به من الشروط السائغة. فيجب على كلّ مسلم إذا التزم لشخصٍ بأمرٍ له الوفاءُ له بذلك الأمر، وذلك من جهة وضوح أنّ هذه الكبرى الكلّيّة الصادرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم في مقام إنشاء الحكم، لا الإخبار عن أمر خارجيّ، فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "المسلمون عند شروطهم" أي: جميع المسلمين, لأنّ الجمع المعرّف باللّام يفيد العموم، فهو صلى الله عليه وآله وسلم يحكم على جميع المسلمين بلزوم الثبوت عند جميع شروطهم. والمراد من الثبوت والاستقرار -------------------------------------------------------------------------------- 277 -------------------------------------------------------------------------------- عند الشرط هوترتيب الأثر على شرطه الّذي شرط، وعدم الفرار عن العمل على طبق التزامه. وقد ورد في اللغة أنّ الشرط هوالإلزام والالتزام1. وبهذا المعنى يصحّ أن يُطلق على جميع الأحكام الإلزاميّة من قبل الله على العباد أنّها شروط من قبل الله تعالى، أي: الزامات من قبله تعالى عليهم. وبناءً على ما ذكرنا يكون معنى "المسلمون عند شروطهم" هو وجوب الوفاء على كلّ مسلم بما التزم لغيره، لا بما ألزم غيره به, لأنّه لا معنى لأن يكون ثابتاً عند إلزامه غيره بأمر، ولو لم يكن استثناء في البين لكان وجوب الوفاء عامّاً بالنسبة إلى جميع التزاماته، ولكن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "المسلمون عند شروطهم، إلّا كلّ شرط خالف كتاب الله"، كما سيأتي في موارد الاستثناءات. بيان مدرك القاعدة 1ـ الكتاب العزيز: استُدلّ على القاعدة بقوله تعالى: ï´؟وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَï´¾، بتقريب أنّ الآية بصدد بيان صفات المؤمنين اللّازمة والواجبة عليهم، فذكرت الصلاة، والإعراض عن اللّغو، وأداء الزكاة، وحفظ الفروج، ورعاية العهد، ومن مصاديقه الشرط، فيتمّ المطلوب, إذ يصير معنى الآية: (يجب على المؤمنين رعاية شروطهم والتزاماتهم للآخرين). 2ـ الروايات: الأولى: عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سمعته يقول: "من اشترط شرطاً مخالفاً لكتاب الله فلا يجوز له، ولا يجوز على الّذي اشترط عليه، والمسلمون عند شروطهم ممّا وافق كتاب الله عزّ وجلّ"2. وقد -------------------------------------------------------------------------------- 278 -------------------------------------------------------------------------------- أطلق الشيخ الأنصاريّ3 عليها الصحيحة، بالرغم من وجود سهل في سندها، على تفصيل في سهل. الثانية: صحيحة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "المسلمون عند شروطهم إلّا كلّ شرط خالف كتاب الله عزّ وجلّ فلا يجوز"4، صرّحت على مدلول القاعدة وعلى نوعيّة الاشتراط. الثالثة: موثّق إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبيه عليه السلام: "إنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام كان يقول: "من شرط لامرأته شرطاً فليفِ لها به, فإنّ المسلمين عند شروطهم، إلّا شرطاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً"5. الرابعة: عن محمّد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام "أنّه قضى في رجل تزوّج امرأة وأصدقته هي واشترطت عليه أنّ بيدها الجماع والطلاق؟ قال: خالفت السنّة، وولّيت حقًّا ليست بأهله، فقضى أنّ عليه الصداق، وبيده الجماع والطلاق، وذلك السنّة".6 ودلالة هذه الروايات على القاعدة تامّة، وكذلك غيرها من الأخبار حتّى بلغت حدّ الاستفاضة فيه، كما عن الجواهر7 والمكاسب8، فإنّ الأخبار في هذا المعنى مستفيضة، بل متواترة معنى. قال الشيخ الأنصاريّ رحمه الله: "والأصل فيه (الاشتراط) الأخبار العامّة المسوِّغة لاشتراط كلّ شرط إلّا ما استُثني، والأخبار الخاصّة الواردة في بعض أفراد المسألة، فمن الأولى الخبر المستفيض الّذي لا يبعد تواتره: إنّ المسلمين عند شروطهم"9. فالقاعدة متّخذة من النصوص بنفس الصياغة. -------------------------------------------------------------------------------- 279 -------------------------------------------------------------------------------- 3ـ إطلاقات العقود والتجارة: قال في الجواهر: "بل لعلّ إطلاق الأمر بالوفاء بالعقود، والتجارة عن تراض كاف"10. وتوضيح ذلك: إنّ الشروط الواقعة في ضمن العقود الصحيحة اللّازمة هي من توابع تلك العقود، وأدلّة وجوب الوفاء بالعقود تدلّ على وجوب الوفاء بالشروط المرتبطة بتلك العقود. ما المقصود من الشرط السائغ؟ إنّ الشرط الّذي يجب الوفاء به هوالشرط الذي تحقّقت فيه الأمور الآتية: الأوّل: أن يكون شرطاً مقدوراً عليه من قبل المشروط عليه، بمعنى أنّ إيجاده داخل تحت قدرته, لأنّ المشروط عليه، بالتزامه بذلك الشرط، يجعل عهدته مشغولة به، فلا بُدّ أن يكون مقدوراً له، وعليه فلوكانا عالمين بعدم التمكّن منه، إمّا لامتناعه ذاتاً، أولعدم تمكّن المشروط عليه منه، بطل. الثاني: أن لا يكون مخالفاً لحكم شرعيّ، وهو المعبّر عنه بمخالفة الكتاب أو السنّة، والمراد به مخالفة الجعل الإلهيّ، سواء أثبت بالكتاب أم بغيره. ويُقصدُ بذلك أن لا يكون مضمونه مخالفاً للحكم الشرعيّ، وأن لا يقتضي الشرط إلزاماً بترك واجب، أو فعل حرام، كما إذا اشترط أحدهما على الآخر أن يشتري منه العنب بشرط أن يعصره له خمراً، أو أن يترك الصلاة، أمّا الالتزام بفعل المكروه أو ترك المستحب، فلا مانع منه. والدليل على اعتبار هذا الشرط في الصحّة عدّة روايات، منها: صحيحة عبد الله ابن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سمعته يقول: "من اشترط شرطاً مخالفاً لكتاب الله فلا يجوز له، ولا يجوز على الّذي اشترط عليه، -------------------------------------------------------------------------------- 280 -------------------------------------------------------------------------------- والمسلمون عند شروطهم ممّا وافق كتاب الله عزّ وجلّ"11. الثالث: أن لا يكون الشرط منافياً لمقتضى العقد، وتتحقّق بأن يكون منافياً لما يراد إثباته من خلال العقد، كأن يشترط في عقد البيع أن لا يحصل تمليك العين، وفي عقد الزواج أن لا تحصل العلقة الزوجية، أو بشرط أن لا يستحقّ الثمن. ومن الشروط الجائزة عندنا أن يبيعه شيئاً، ويشترط في متن العقد أن يشتري منه شيئاً أو يبيعه شيئاً آخر، أويقرضه شيئاً، أو يستقرض منه...، هذه الشروط كلّها سائغة لا تخالف كتاب الله تعالى، فوجب جوازها ولزومها وصحّة العقد معها12. حكم الشرط الفاسد لا إشكال في أنّ الشرط الفاسد لا يجب الوفاء به ولا إلزام به شرعاً، وإنّما الكلام في الشرط الفاسد الّذي لم يقم دليل على فساد العقد أوصحّته معه، في أنّه هل يوجب فساد العقد أم لا؟، وإلّا فيتّبع الدليل، فليس كلامنا في بيع الخشب على أن يعمله صنماً، أو صليب, لأنّ هذا البيع باطل، سواء اشترط أم لم يشترط، ما دام عالماً بذلك، فليس فساد العقد ناشئاً من الشرط, وذلك لدلالة الأخبار الخاصّة على ذلك، كما عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة قال: كتبت إلى أبي عبد الله عليه السلام "أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن يتخذه برابط؟ فقال: لا بأس به. وعن رجل له خشب فباعه ممن يتّخذه صلباناً، قال لا"13. وعن عمروبن حريث، قال: "سألت أبا عبد الله عليه السلام: عن التوت أبيعه يصنع للصليب والصنم؟ قال: لا"14. -------------------------------------------------------------------------------- 281 -------------------------------------------------------------------------------- الأفكار الرئيسة - معنى القاعدة هولزوم الوفاء بالشرط بين المتعاقدين، فيجب على كلّ مسلم أن يكون ثابتاً عند التزاماته. - تتكوّن القاعدة من شطرين: الأوّل: تسلّط المؤمنين على الاشتراط فيتسلّط المتعاملان على جعل الالتزام والتعهّدات الّتي نسمّيها بالشروط. الثاني: وجوب العمل بمقتضى الشرط، فيجب على المتعاملَيْن العمل بما تعهّدا به. - استُدلّ للقاعدة بعدّة أدلّة، منها: قوله تعالى: ï´؟وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَï´¾، بتقريب أنّ معنى الآية: يجب على المؤمنين رعاية شروطهم والتزاماتهم. - ومن الروايات: ما عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سمعته يقول: "من اشترط شرطاً مخالفاً لكتاب الله فلا يجوز له، ولا يجوز على الذي اشترط عليه، والمسلمون عند شروطهم ممّا وافق كتاب الله عزّ وجلّ". - إنّ الشرط الّذي يجب الوفاء به هوالشرط الّذي يكون مقدوراً عليه من قبل المشروط عليه، ولا يكون مخالفاً لحكم شرعيّ، وهو المعبّر عنه بمخالفة الكتاب أو السنّة، ولا يكون الشرط منافياً لمقتضى العقد. - لا إشكال في أنّ الشرط الفاسد لا يجب الوفاء به ولا إلزام به شرعاً. مطالعة الفرق بين الشروط الابتدائيّة، وبين الشروط الواقعة في ضمن العقود إنّ إطلاق الشرط على مطلق الالتزام بشيء لشخص - سواء أكان في ضمن عقد أم كان التزاماً ابتدائيّاً غير مربوط بشيء - لا يخلومن نظر وتأمّل، بل الظاهر، حسب المتفاهم العرفيّ، هو أن يكون إلزامه أو التزامه بشيء في ضمن عقد ومعاملة أو أمر آخر، بمعنى أن يكون إلزامه غيره بشيء أو التزامه لغيره بشيء مربوطاً بأمر آخر، وليس معنى الشرط مطلق الإلزام والالتزام. فالشرط بالمعنى المصدريّ عبارة: عن جعل شيء مرتبطاً بأمر آخر - وبهذا المعنى يكون مبدأ للاشتقاقات منه، كالشارط والمشروط وأمثالهما من المشتقّات من هذه المادّة، وبمعنى الاسم المصدريّ عبارة: عن الشيء المرتبط بغيره. هذا هو المتفاهم العرفيّ، مضافاً إلى أنّه لو كان مطلق الإلزام والالتزام - ولوكانا ابتدائيّين غير مربوطين بشيء - يلزم تخصيص الأكثر في قوله صلى الله عليه وآله وسلم "المؤمنون عند شروطهم"، وهو مستهجن جدّاً. فلا بدّ من حمل الشروط في الحديث على الشروط الواقعة في ضمن العقود، كي لا يلزم تخصيص الأكثر المستهجن, لأنّ الشروط الابتدائيّة لا يجب الوفاء بها إجماعاً، فإنّ قلنا بأنّ الشرط أعمّ من الشروط الابتدائيّة وغيرها، فيكون استعماله في الحديث عنائياً مجازيّاً، وهوخلاف ظاهر هذا الكلام. وعلى كلّ حال لا شبهة في أنّ المتفاهم العرفيّ من لفظ الشرط بالمعنى المصدريّ هو إلزام المشروط عليه، أو الالتزام للمشروط له بأمر في ضمن عقد أو عهد أو أمر آخر، فالإلزامات أو الالتزامات الابتدائيّة لا يُطلق عليها الشرط إلّا بالعناية، ولا يجب الوفاء بها إجماعاً. أسئلة وتمارين - ضع علامة صحّ أو خطأ في المكان المناسب: 1- إنّ الشرط الّذي يجب الوفاء به هوالشرط الّذي يكون مقدوراً عليه من قبل المشروط عليه. 2- لا فرق في الشرط الّذي يجب الوفاء به بين الشرط الّذي يكون مخالفاً لحكم شرعيّ، أو الشرط المنافي لمقتضى العقد. 3- المتفاهم العرفيّ من لفظ الشرط هو إلزام المشروط عليه أو الالتزام للمشروط له بأمر في ضمن عقد أو عهد أو أمر آخر. 4- إذا باع شخص شيئاً لآخر، واشترط في متن العقد أن يشتري منه (الآخر)، شيئاً أو يبيعه شيئاً آخر، أو يقرضه شيئاً، فهذا الشرط جائز يجب الوفاء به. 5- لا إشكال في أنّ الشرط الفاسد لا يجب الوفاء به ولا إلزام به شرعاً. 6- لا فرق في وجوب الوفاء بالشرط بين أن يكون للكبير أو للصغير. - عالج الأسئلة الآتية: 1- ما هوالمقصود بقاعدة: "المسلمون عند شروطهم"؟ وما معنى "المسلمون عند شروطهم" في الاستدلال؟ 2- كيف نستدلّ على القاعدة بقوله تعالى: ï´؟وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَï´¾؟ 3- ما الفرق بين الشرط المخالف لكتاب الله والشرط الموافق له؟ وأعطِ مثالاً واضحاً في عقد النكاح أوغيره على الشرط المخالف لكتاب الله. 4- ما الفرق بين الشروط الابتدائيّة والشروط الواقعة في ضمن العقد؟ 5- رجل باع عقاراً واشترط على المشتري أن يجعله وقفاً، فهل يصحّ هذا الشرط؟ ولماذا؟ 6- إذا باعه واشترط الخيار لنفسه لمدّة سنة كاملة، فهل يجوز هذا الشرط؟ وهل يجب على المشتري الالتزام به؟ هوامش 1- الفيروزآبادي، محمّد بن يعقوب: القاموس المحيط، ج2، مادّة "شرط"، ص542. 2- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج12، باب6 من أبواب الخيار، ح1. 3- الأنصاري، المكاسب، م.س، ج6، ص22. 4- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج12، باب6 من أبواب الخيار،ح1. 5- م.ن، ح2. 6- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج15، باب29 من أبواب المهور، ح1. 7- النجفي، جواهرالكلام، م.س، ج23، ص199. 8- الأنصاري، المكاسب، م.س، ج6، ص2. 9- م.ن، الخيارات، ص228. 10- النجفي، جواهرالكلام، م.س، ج23، ص199. 11- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج12، ص353. 12- الحلي، الحسن بن يوسف بن المطهّر: تذكرة الفقهاء، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياءالتراث، ط1، قم المقدّسة، مطبعة ستاره، 1420هـ.ق، ج10، ص250. 13- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج17، باب41 من أبواب مايكتسب به، تحريم بيع الخشب ليعمل صليباً،ح1. 14- م.ن، باب تحريم معونة الظالمين،ح2. يتبع |
المصادر والمراجع
القرآن الكريم (أ) 1- السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، الأشباه والنظائر في القواعد والفروع. 2- الطوسي، محمّد بن الحسن: الأمالي، تحقيق ونشر مؤسّسة البعثة، ط1، قم المقدّسة، دار الثقافة، 1414هـ.ق. 3- الخوئي، أبوالقاسم: أجود التقريرات، ط2، قم المقدّسة، مؤسّسة مطبوعات ديني, مطبعة أهل البيت عليهم السلام ، 1369هـ.ش. 4- الحلّي، محمّد بن الحسن بن يوسف بن المطهّر(ابن العلّامة)، إيضاح الفوائد، تعليق السيّد حسين الموسوي الكرماني, وآخرون، ط1، قم المقدّسة، 1387هـ.ش. (ب) 5- الهاشمي، محمود: بحوث في علم الأصول، ط3، إيران، مؤسّسة دائرة -------------------------------------------------------------------------------- 299 -------------------------------------------------------------------------------- معارف الفقه الإسلامي, مطبعة فروردين، 1418هـ.ق/ 1996م. 6- المجلسي، محمّد باقر: بحار الأنوار، تحقيق محمّد الباقر البهبودي، ط3، بيروت، دار إحياء التراث العربي،1403هـ.ق/ 1983م. 7- الخميني، روح الله: بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر، تحقيق ونشر مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، ط2، قم المقدّسة، مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي، 1414هـ.ق, ؟. 8- الآشتياني، محمّد حسن: بحر الفوائد في شرح الفرائد، لاط، لام، لان، لات. (ت) 9- السبحاني، جعفر: تذكرة الأعيان، ط1، قم المقدّسة، مؤسّسة الإمام الصادق عليه السلام، 1419هـ.ق. 10- النائيني، حسين: فوائد الأصول، تقرير الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني، تعليق الشيخ آغا ضياء الدين العراقي، لاط، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجامعة المدرّسين بقم المقدّسة، قم المقدّسة، 1404هـ.ق. 11- السيوطي، جلال الدين: تنوير الحوالك، تصحيح الشيخ محمّد عبد العزيز الخالدي، ط1، بيروت، منشورات محمّد علي بيضون, دار الكتب العلمية، 1418هـ.ق/ 1997م. 12- السيستاني، علي: تعليقة على العروة الوثقى، لاط، لام، لان، لات. 13- كاشف الغطاء، محمّد حسين: تحرير المجلَّة، لاط، النجف الأشرف، المطبعة الحيدرية، 1359هـ.ق. -------------------------------------------------------------------------------- 300 -------------------------------------------------------------------------------- 14- الحلّي، الحسن بن يوسف بن المطهّر: تذكرة الفقهاء، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، ط1، قم المقدّسة، مطبعة ستاره، 1420هـ.ق. (ج) 15- الكركي العاملي، علي بن الحسين(المحقق الثاني): جامع المقاصد في شرح القواعد،تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، ط1، قم المقدّسة، مطبعة المهدية، 1408هـ.ق. 16- الترمذي، محمّد بن عيسى بن سورة: الجامع الصحيح(سنن الترمذي)، تحقيق وتصحيح عبد الرحمن محمّد عثمان، ط2، بيروت، دار الفكر، 1403 هـ.ق/ 1983م. 17- النجفي، محمّد حسن: جواهر الكلام، تحقيق وتعليق محمود القوچاني، تصحيح السيّد إبراهيم الميانجي، ط2، طهران، دار الكتب الإسلامية, مطبعة آيدا، 1366هـ.ش. 18- الكركي، علي بن الحسين: جامع المقاصد، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، ط1، قم المقدّسة، المطبعة المهدوية، 1408هـ.ق. 19- النيسابوري، مسلم: الجامع الصحيح (صحيح مسلم)، لاط، بيروت، دار الفكر، لات. (ح) 20- البحراني، يوسف: الحدائق الناضرة، لاط، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة، لات. -------------------------------------------------------------------------------- 301 -------------------------------------------------------------------------------- 21- الأصفهاني: حاشية المكاسب، تحقيق الشيخ عبّاس محمّد آل سباع القطيفي، ط1، قم المقدّسة، نشر أنوار الهدى, المطبعة العلمية، 1418هـ.ق. (خ) 22- الطوسي، محمّد بن الحسن: الخلاف، تحقيق السيّد علي الخراساني, السيّد جواد الشهرستاني، الشيخ مهدي طه نجف، إشراف الشيخ مجتبى العراقي، لاط، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة، 1411هـ.ق. (د) 23- الإيرواني، محمّد باقر: دروس تمهيدية في القواعد الفقهية، ط1، قم المقدّسة، مؤسّسة الفقه, مطبعة باقري، 1417هـ.ق. 24- الصدر، محمّد باقر: دروس في علم الأصول(الحلقة الثالثة)، لاط، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1417هـ.ق.. 25- العاملي، محمّد بن مكي(الشهيد الأوّل): الدروس الشرعية، تحقيق ونشر مؤسّسة النشر الإسلامي، لاط، قم المقدّسة، لات. (ذ) 26- الطهراني، آغا بزرك: الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ط2، بيروت، دار الأضواء، لات (ر) 27- العاملي، محمّد بن جمال الدين مكّي(الشهيد الثاني): الروضة البهية في -------------------------------------------------------------------------------- 302 -------------------------------------------------------------------------------- شرح اللمعة الدمشقية، تحقيق السيّد محمّد كلانتر، ط2، قم المقدّسة، منشورات جامعة النجف الدينية، 1410هـ.ق. (س) 28- الحلّي، ابن إدريس: السرائر، تحقيق ونشر مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة، ط2، قم المقدّسة، 1410هـ.ق. 29-- البيهقي، أحمد بن الحسين: السنن الكبرى(سنن البيهقي)، لاط، لام، دار الفكر، لات. (ش) 30- الخوئي، أبو القاسم: شرح العروة الوثقى-التقليد-(موسوعة الإمام الخوئي قدس سره)، شرح الشيخ علي الغروي، ط2، قم المقدّسة، مؤسّسة إحياء آثار الإمام الخوئي{، 1426هـ.ق/ 2005م. 31- الصدر، محمّد باقر: شرح العروة الوثقى، لاط، النجف الأشرف، مطبعة الآداب، 1392هـ.ق/ 1972م. 32- شرح ابن أبي الحديد المعتزلي، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، لاط، لام، دار إحياء الكتب العربية, عيسى البابي الحلبي وشركاه، لات. 33- الحلّي، نجم الدين جعفر بن الحسن: شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، تعليق السيّد صادق الشيرازي، ط2، طهران، انتشارات استقلال, مطبعة أمير، 1409هـ.ق. (ع) 34- اليزدي، محمّد كاظم: العروة الوثقى، تحقيق ونشر مؤسّسة النشر -------------------------------------------------------------------------------- 303 -------------------------------------------------------------------------------- الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة، ط1، قم المقدّسة، 1417هـ.ق. 35- النراقي، أحمد: عوائد الأيام، تحقيق ونشر مكتب الإعلام الإسلامي، ط1، إيران، 1417هـ.ق/ 1375هـ.ش. 36- الحسيني المراغي، مير عبد الفتّاح: العناوين الفقهية، تحقيق ونشر مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة، ط1، قم المقدّسة، 1417هـ.ق. 37- اليزدي، محمّد كاظم: العروة الوثقى، تحقيق ونشر مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة، ط1، قم المقدّسة، 1417هـ.ق. 38- الإحسائي، ابن أبي جمهور: عوالي اللآلي، تقديم السيّد شهاب الدين النجفي المرعشي، تحقيق الحاج آقا مجتبى العراقي، ط1، قم المقدّسة، مطبعة سيد الشهداء عليه السلام، 1403هـ.ق/ 1983م. 39- الحسيني المراغي، مير عبد الفتّاح: العناوين، تحقيق ونشر مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة، ط1، قم المقدّسة، 1417هـ.ق. 40- النراقي، أحمد بن محمّد مهدي: عوائد الأيّام، تحقيق ونشر مكتب الإعلام الإسلامي، ط1، 1417هـ.ق/ 1375م، ص651. 41- العيني: عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري، لاط، بيروت، دار إحياء التراث العربي، لات،. -------------------------------------------------------------------------------- 304 -------------------------------------------------------------------------------- (غ) 42- العاملي، محمّد بن مكي(الشهيد الأوّل): غاية المراد في شرح نكت الإرشاد، تحقيق ونشر مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، ط1، قم المقدّسة، مكتب الإعلام الإسلامي، 1414هـ.ق. 43- القمّي، أبو القاسم: غنائم الأيام في مسائل الحلال والحرام، تحقيق عباس تبريزيان, وآخرون، ط1، قم المقدّسة، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، 1417هـ.ق/ 1375 هـ.ش،. 44- الحلبي، ابن زهرة: غنية النزوع، تحقيق الشيخ إبراهيم البهادري، إشراف جعفر السبحاني، ط1، قم المقدّسة، مؤسّسة الإمام الصادق عليه السلام, مطبعة اعتماد، 1417هـ.ق.. (ف) 45- الأنصاري، مرتضى: فرائد الأصول، إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم قدس سره، ط1، قم المقدّسة، مجمع الفكر الإسلامي, مطبعة باقري، 1419هـ.ق. 46- الهاشمي، محمود: مجلّة فقه أهل البيت، مجلة فصلية تخصّصيّة، تصدر عن مركز الغدير للدراسات، العدد 18-19. (ق) 47- العاملي، محمّد بن مكي(الشهيد الأوّل): القواعد والفوائد، تحقيق السيّد عبد الهادي الحكيم، لاط، قم المقدّسة، منشورات مكتبة المفيد، لات. -------------------------------------------------------------------------------- 305 -------------------------------------------------------------------------------- 48- البجنوردي، محمّد حسن: القواعد الفقهية، تحقيق مهدي المهريزي, محمّد حسين الدرايتي، ط1، قم المقدّسة، نشر الهادي، 1419هـ.ق/ 1377هـ.ش. 49- الشيرازي، ناصر مكارم: القواعد الفقهية، ط3، قم المقدّسة، مدرسة الامام أمير المؤمنين عليه السلام، 1411هـ.ق. 50- اللنكراني، فاضل: القواعد الفقهية، تقديم محمّد جواد فاضل اللنكراني، ط1، قم المقدّسة، مطبعة مهر، 1416هـ.ق. 51- انظر: الجزائري، محمّد جعفر: القواعد الفقهية والاجتهاد والتقليد(منتهى الدراية)، ط3، قم المقدّسة، مؤسّسة دار الكتاب، 1415ه.ق،. 52- الفيروزآبادي، محمّد بن يعقوب: القاموس المحيط. (ك) 53- المقداد، السيوري: كنز العرفان في فقه القرآن، علّق عليه الشيخ محمّد باقر(شريف زاده)، أشرف على تصحيحه وأخرج أحاديثه محمّد باقر البهبودي، لاط، طهران، المكتبة الرضوية, مطبعة حيدري، مقدّمة التحقيق، 1384هـ.ق/ 1343هـ. 54- التهانوي، محمّد أعلى بن علي: كشّاف اصطلاحات الفنون. 55- الكليني، محمّد بن يعقوب: الكافي،تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، ط5، طهران، دار الكتب الإسلامية, مطبعة حيدري، 1363هـ.ش. 56- النائيني، حسين: كتاب الصلاة، تقرير الشيخ محمّد علي الكاظمي، تحقيق ونشر مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة، ط1، قم المقدّسة، 1411هـ.ق،. -------------------------------------------------------------------------------- 306 -------------------------------------------------------------------------------- 57- الأنصاري، مرتضى: كتاب الطهارة، إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، ط3، قم المقدّسة، مجمع الفكر الإسلامي, مطبعة شريعت، 1426هـ.ق.. 58- الخميني، روح الله: كتاب البيع، تحقيق ونشر مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، ط1، طهران، 1421هـ.ق. (ل) 59- البروجردي، حسين: لمحات الأصول، تقرير الإمام روح الله الخميني قدس سره، تحقيق ونشر مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، ط1، قم المقدّسة، مطبعة مؤسّسة عروج، 1421هـ.ق/1379هـ.ش. 60- الإفريقي، ابن منظور: لسان العرب، لاط، لام، نشر أدب حوزة، 1405هـ.ق. (م) 61- ابن بابويه، محمّد بن علي: من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، ط2، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة، لات. 62- المصطفوي، محمّد كاظم: مئة قاعدة فقهية، ط3، قمّ المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة، 1417هـ.ق. 63- فتح الله، أحمد: معجم ألفاظ الفقه الجعفري، ط1، السعودية - الدمّام، مطابع المدوخل، 1415هـ.ق/ 1995م.. -------------------------------------------------------------------------------- 307 -------------------------------------------------------------------------------- 64- الطريحي، فخر الدين: مجمع البحرين، ط2، طهران، نشر مرتضوي, چاپخانهء طراوت، 1362هـ.ش. 65- الفيُّومي، مصباح المنير، لاط، لام، دار الفكر، لات. 66- العاملي، حسن بن زين الدين: معالم الدين وملاذ المجتهدين، تحقيق ونشر مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة، لاط، قم المقدّسة، لات.. 67- الخوئي، أبوالقاسم: محاضرات في أصول الفقه، تقرير الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض، تحقيق ونشر مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة، لاط، قم المقدّسة، لات. 68- الطوسي، محمّد بن الحسن: المبسوط، تصحيح وتعليق السيّد محمّد تقي الكشفي، لاط، طهران، المكتبة المرتضوية لإحياء آثار الجعفرية, المطبعة الحيدرية، 1387هـ.ش. 69- الحكيم، محسن: مستمسك العروة الوثقى، لاط، قم المقدّسة منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي قدس سره، 1404هـ.ق. 70- الشاطبي، إبراهيم بن موسى: الموافقات في أصول الشريعة. 71- الخوئي، أبو القاسم: مصباح الأصول، تقرير السيّد محمّد سرور الواعظ البهسودي، ط5، قم المقدّسة، المطبعة العلمية, مكتبة الداوري، 1417هـ.ق. 72- الخوئي، أبو القاسم: منهاج الصالحين، لاط، قم المقدّسة، مطبعة مهر، 1410هـ.ق. -------------------------------------------------------------------------------- 308 -------------------------------------------------------------------------------- 73- الحكيم، محمّد سعيد: منهاج الصالحين، ط1، بيروت، دار الصفوة، 1415هـ.ق/ 1994م،. 74- الخوئي، أبوالقاسم: معجم رجال الحديث، ط5، لام، لان، 1413هـ.ق/ 1992م. 75- النوري، حسين: مستدرك الوسائل، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، ط2، بيروت، 1408هـ.ق/ 1998م. 76- ابن حنبل، أحمد: مسند أحمد، لاط، بيروت، دار صادر، لات. 77- النيسابوري، أبوعبدالله (الحاكم النيسابوري): المستدرك على الصحيحين، إشراف يوسف عبد الرحمن المرعشلي، لاط، لام، لان، لات. 78- الخوئي، أبوالقاسم: مستند العروة الوثقى، ط2، قم المقدّسة، مؤسّسة إحياء آثار الأمام الخوئي قدس سره، 1426هـ.ق/ 2005م. 79- المازندراني، علي اكبر سيفي: مباني الفقه الفعّال في القواعد الفقهية الأساسية، ط1، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين في الحوزة العلمية بقم المقدّسة، 1428هـ.ق. 80- النراقي: مستند الشيعة، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، ط1، قم المقدّسة، مطبعة ستاره، 1416هـ.ق. 81- الخوئي، أبو القاسم: مباني تكملة المنهاج، ط2، قم المقدّسة، المطبعة العلمية، 1396هـ.ق،. 82- الخوئي، أبو القاسم: مصباح الفقاهة، تحقيق جواد القيومي الأصفهاني، ط1، قم المقدّسة، المطبعة العلمية, مطبعة الداوري، لات. -------------------------------------------------------------------------------- 309 -------------------------------------------------------------------------------- 83- النوري، حسين: مستدرك الوسائل، ط2، بيروت، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لتحقيق التراث، 1408هـ.ق/ 1988م. 84- البرقي، أحمد بن محمّد بن خالد: المحاسن، تصحيح وتعليق السيّد جلال الدين 84. الحسيني(المحدّث)، لاط، طهران، دار الكتب الإسلاميّة، 1370هـ.ق/ 1330هـ.ش. 85- النووي، محيي الدين: المجموع، لاط، لام، دار الفكر، لات. (ن) 86- هلاليان، سعيد: نظرة تحليلية إلى القواعد الفقهية، ط1، قم المقدّسة، مؤسّسة بوستان كتاب، 1431هـ.ق. 87- ابن الأثير، مجد الدين: النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق محمود محمّد الطناحي، ط4، قم المقدّسة، مؤسّسة إسماعيليان، 1364هـ.ش، ج5، مادّ ة "نقع". 88- البروجردي، محمّد تقي: نهاية الأفكار(تقرير بحث آية الله العظمى الشيخ ضياء الدين العراقي). 89- الشوكاني، محمّد بن علي بن محمّد: نيل الأوطار، لاط، بيروت، دار الجيل، 1973م.، 90- الحكيم، محسن: نهج الفقاهة، لاط، قم المقدّسة، انتشارات 22 بهمن، لات، 91- الحلّي، الحسن بن يوسف بن المطهّر: نهاية الأحكام، تحقيق السيّد مهدي الرجائي، ط2، قم المقدّسة، مؤسّسة اسماعيليان، 1410هـ.ق. -------------------------------------------------------------------------------- 310 -------------------------------------------------------------------------------- (و) 92- الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن: وسائل الشيعة، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، ط2، قم المقدّسة، مطبعة مهر، 1414هـ.ق، 351. |
الشبكة: أحد مواقع المجموعة الشيعية للإعلام الساعة الآن: 12:47 PM. بحسب توقيت النجف الأشرف |
Powered by vBulletin 3.8.14 by DRC © 2000 - 2024