دروس في علوم القرآن الكريم ..
الدرس الأول (تمهيد) يتضمن الإشارة الى تعريف العلم، وتاريخ وعوامل نشوء هذا العلم وتطوره.1 - تعريف: "علوم القرآن" منذ أن بزغ فجر الإسلام مقترناً بنزول الوحي الإلهي، وتوالت آيات الله لتشكل فيما بعد كتاب الله الذي يحمل في طياته معالم الدين الجديد بمختلف أبعاده العقائدية والتربوية والعبادية وغيرها، أدرك المسلمون أهمية الكتاب العزيز - القرآن الكريم - وعظمته، ولم يقتصر اهتمامهم على استيعاب معانيه والتمعن في آياته وتفسيرها، بل اهتموا بجوانب أخرى ترتبط به مثل تاريخ نزوله، وترتيبه، واختلاف القراءات، والإعجاز، والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك... وقد عُرفت هذه البحوث - فيما بعد - باستثناء تفسير معانيه الذي صار علماً بنفسه، بـ"علوم القرآن". ف-"علوم القرآن" العلم الذي يحتوي على ما يرتبط بالقرآن الكريم من بحوث - سوى التفسير - مثل تأريخ نزوله، وترتيبه، واختلاف القراءات، والناسخ والمنسوخ، ووجه الإعجاز فيه، وغير ذلك. وقد اتضح أن العلوم التي تعرّض لها القرآن الكريم مثل الفقه والتربية والعقائد وغيرها لا ترتبط بهذا العلم. 2 - تاريخ "علوم القرآن" لاشك أنّ بدايات العديد من بحوث هذا العلم تمتد الى عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) مثل الناسخ والمنسوخ، واختلاف القراءات والوحي وغير ذلك، وقد تزايد اهتمام المسلمين بهذه البحوث بعد انقطاع الوحي عقيب وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) حيث أصبح القرآن الكريم أحد الثقلين اللذين خلّفها (صلى الله عليه وآله وسلّم) للأمة. ولكن المؤسف انّا لا نملك أثراً عن طبيعة تلك الدراسات في ذلك العصر; لأنّها كانت عبارة عن نقل الحديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) فمن الطبيعي أن تتأثر بقرار المنع الصادر من الشيخين على رواية حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وكتابته، بل وإحراق الموجود منه(1)، وقد تأخر السماح بتدوين السُنّة الى نهاية القرن الأول الهجري، قيل: في زمن عمر بن عبدالعزيز (ت 99 - 101) فقد كتب الى عامله في المدينة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم "انظر ما كان من حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء"(2). وعلى كل حال، فيبدو أن أوّل من دوّن في علوم القرآن الإمام علي (عليه السلام) فقد أثبت له الشريف المرتضى كتاب "المحكم والمتشابه في القرآن"(3)، كما نسب له سعد بن عبدالله الأشعري كتاب "ناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه"(4)، وذكر الحافظ ابن عقدة الكوفي انّ للإمام ستين نوعاً من أنواع علوم القرآن(5). ومن بعده ألّف يحيى بن يعمر (ت 89هـ) أحد تلاميذ أبي الأسود الدؤلي كتابه "القراءة" في قرية واسط، وضم الاختلاف الذي لوحظ في نُسَخ القرآن المشهورة(6). وفي القرن الثاني صنّف الحسن بن أبي الحسن يسار البصري (ت 115هـ) كتابه في "عدد آي القرآن". وعبدالله بن عامر اليحصبي (ت 118هـ) كتابه في اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق و"المقطوع والموصول". وشيبة بن نصاح المدني (ت 135هـ) كتاب "الوقوف"، وأبان بن تغلب (ت 141هـ) - تلميذ الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) - صنّف كتاباً في القراءات، وله كتاب "معاني القرآن". ومحمد بن السائب الكلبي (ت 146هـ) أوّل من صنّف في "أحكام القرآن" ومقاتل بن سليمان المفسّر (ت 150هـ) له كتاب "الآيات المتشابهات". وأبو عمرو بن العلاء زبان بن عمّار التميمي (ت 154هـ) ألّف كتاب "الوقف والابتداء"، وله كتاب "القراءات". وحمزة بن حبيب الزيّات (ت 156هـ) - صاحب الإمام الصادق (عليه السلام) - له كتاب في القراءة، وتوالى تأليف كتب اخرى في فترات لاحقة. وفي عصور متأخرة أُلّفت كتب جامعة لعلوم القرآن، منها كتاب "البرهان في علوم القرآن" لبدر الدين محمد بن عبدالله الزركشي (ت 794هـ)، ومنها كتاب "الإتقان في علوم القرآن" لجلال الدين السيوطي (ت 911هـ). وأما اصطلاح "علوم القرآن" فربما يرجع إلى القرن السادس حيث ألّف ابن الجوزي (ت 597) كتابين أحدهما بعنوان: "فنون الأفنان في علوم القرآن" والثاني بعنوان: "المجتبى في علوم تتعلق بالقرآن". لكن حكى محمد بن عبد العظيم الزرقاني انّه ظفر في دار الكتاب المصريّة بكتاب لعلي بن إبراهيم بن سعيد الشهير بالحوفي (ت 330هـ) اسمه "البرهان في علوم القرآن" يقع في ثلاثين مجلّداً الموجود منه خمسة عشر مجلّداً، إلاّ أنّ الزرقاني تحدث عن هذا الكتاب بقوله: (... كأنّ هذا التأليف تفسير من التفاسير عرض فيه صاحبه لأنواع من علوم القرآن عند المناسبات...)(7). |
الدرس الثاني
الدرس الثاني 3 - عوامل نشوء هذا العلمنستطيع أن نلخّص العوامل التي أوجبت نشوء هذا العلم وتطوُّر البحث في ذلك بما يلي: - 1- فضل القرآن وقدسيته في نفوس المسلمين، فهو الثقل الأكبر والكتاب الذي أوصى به النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلّم) أمّته، فضلاً عن النصوص الكثيرة الواردة في ضرورة تقديسه وتنزيهه عن كل ما لا يليق بشأنه، وكذلك الحث الأكيد على قراءته وفهمه والتدبّر فيه وحفظه. 2- عمق القرآن الكريم وتنوع أبحاثه، ممّا أوجب اهتمام العلماء بدراسته دراسة معمّقة ومفصّلة سواء ما يرتبط بألفاظه وأسلوبه أم ما يرتبط بمدلولاته ومضمونه (ظاهره أنيق وباطنه عميق) - كما جاء في الحديث -. 3- كونه معجزة الإسلام الخالدة ممّا أوجب اعتزاز المسلمين به وانشدادهم نحوه، وبالمقابل صار هدفاً لشبهات أعداء الإسلام الذين يرومون الطعن بالإسلام، هذا الصراع حوله أوجب أن يكون محطّ أنظار العلماء والباحثين وتوجّههم إليه مما ساهم في توسّع الأبحاث المرتبطة به كالتفسير وعلوم القرآن. 4 - تضمّنه لأهم معالم الدين الإسلامي وأُسسه وتشريعاته، فهو يتحدث عن اصول العقيدة التي نادى بها الإسلام، كما يتضمّن معالم الأطروحة الإسلامية لرقي الإنسان وتهذيب نفسه وإصلاح مجتمعه، بالإضافة الى جملة وافية من التشريعات الإسلامية المتنوعة.. الى غير ذلك من المواضيع الهامة التي تهم المسلم. فهو كتاب حيوي مقدس لدى المسلمين، ولذلك ورد الحث على قراءته والتدبر فيه، بل اعتبره الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) الثقل الأكبر الذي خلّفه ويطالب به أمّته، كما جاء في حديث الثقلين. 5- عدم اشتماله على أسماء أو مواقف محدّدة صريحة، ولذلك ورد عن الإمام علي (عليه السلام): "هذا القرآن إنّما هو خط مستور بين الدفتين لا ينطق بلسان ولابدّ له من ترجمان، وإنّما ينطق عنه الرجال"(1). وفي وصيته لابن عباس لمّا بعثه للاحتجاج على الخوارج: "لا تخاصمهم بالقرآن، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه، تقول ويقولون"(2). هذه الميزة في القرآن جعلته في مأمن من كيد السلطات الجائرة المتعاقبة، فلم يقفوا أمام اندفاع المسلمين نحوه والباحثين به، ولم يواجهوه بما واجهوا به أهل البيت(عليهم السلام) - الثقل الآخر - وشيعتهم من العنف والقسوة. خصائص القرآن الخاصة الأولى: الشمولية عندما نتحدث عن شمولية القرآن لا نعني انّه فهرسة للعلوم المختلفة، وإلاّ لأوجب ذلك إماتة روح الإبداع في الإنسان في هذه الحياة الدنيا التي ابتنت على الكدح وبذل الجهد والإبداع. بل نقصد أنّه يتناول كل جوانب الحياة التي تحيط بالفرد والمجتمع، ولا يقتصر دوره على جانب معيَّن منها فهو كتاب شامل في تعاليمه ومحتواه أو فلنقل ليعزز جهود الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلّم) في أدائه لهذا الدور، بتوجيه الأمّة وارشادهم الى ما يضمن لهم السعادة في الدنيا والآخرة. ولذلك فمن الطبيعي أن يشتمل على مختلف الأمور التي تكون فاعلة في إصلاح الأفراد والمجتمع، ولم يقتصر على جانب واحد منها.﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾(3) فالقرآن قد احتوى على كل ما يهم المسلم بإطاره العام وهو: 1- أصول العقيدة الإسلامية من التوحيد والنبوة والمعاد والإمامة والولاية، وغيرها من المسائل الاعتقادية الأخرى، كالقضاء والقدر والعرش وغير ذلك... 2- الجانب التربوي وما يرتبط به من سمو الاخلاق وتهذيب النفوس. 3- مجموعة من الأحكام الشرعية والقوانين التي تنظم سلوك المسلم وعلاقاته كفرد، والمسلمين كمجتمع، كما أشار الى اتّباع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وولاة الأمر الذين يحدّدون باقي التفاصيل. وهذا هو مانعنيه من شمولية القرآن. إضافةً لذلك نرى أنّ القرآن قد تصدّى لمهمة أخرى وهي جذب الناس وترغيبهم فيما يصلحهم، ولم يقتصر دوره على سرد مقوّمات الإصلاح ضمن مواد قانونية جافة ومحدودة التأثير بل تضمن أرقى الأساليب البلاغية وأكثرها تأثيراً في النفس، ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾(4). 1- نهج البلاغة، الخطبة: 125. 2- نهج البلاغة، الخطبة: 316. 3- سورة الإسراء: 9. 4- سورة الحشر: 21. |
الدرس الثالث
الدرس الثالث الخاصة الثانية: إعجاز القرآنعندما نتحدّث عن انتساب أثر أو كتاب لشخص نعتمد على الدلائل التي تشهد لهذا الانتساب، وكذلك القرآن الكريم نعتمد في نسبته لله تعالى على مجموعة من الأدلة والقرائن، وتعتبر أكثرها شواهد على إعجازه، نذكر منها: 1- انسجام مضمونه ورسالته مع صراط الله القويم المنسجم مع كماله المطلق، فعندما نراجع القرآن الكريم نجده يصب في هذا الاتجاه، فهو بين تمجيد وتوحيد لله تعالى واستعراض صفات كماله، ومنّه، ولطفه بعباده، وبين دعوة الناس بمختلف أساليب الترغيب والترهيب الى صلاح أنفسهم ومجتمعاتهم، وبين رسم الخطوط التشريعية العريضة وأحياناً التفصيلية - لحكمة أو ظرف خاص - المنسجمة مع الفطرة والطبيعة البشرية لتعين الإنسان في مواجهة الظروف التي يواجهها خلال مسيرة حياته. فكلّ إنسان لو تأمل وسرحت مخيلته فتصور أنّ الله تعالى بعث رسولاً للبشر فماذا ينتظر من هذا الرسول؟ هل يتوقع من هذا المبعوث الإلهي مفهوماً أو ارشاداً أو مشروعاً يصطدم بتعاليم القرآن؟ حبذا لو تفرغ أحدنا - في سبيل عقيدته - وتأمل مع نفسه قليلاً حول النهج القرآني، ألا يجده دليلاً كافياً على انتساب هذا الكتاب الكريم لله الحكيم العليم الرؤوف الرحيم؟ ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ﴾(1)، هب انّ صياغة هذا الدليل قد لا تكون صياغةً جدلية تسكت الخصم المجادل لكنّا في عقيدتنا لا نتقيّد بأدلة مجالس الجدال والمخاصمة - رغم أهميتها - فما أكثر الخيارات المصيرية التي نختارها اعتماداً على قناعاتنا الخاصة المدعومة بالوجدان أو الفطرة أو الحدس الدقيق أو ما شئت فقل. 2- قمة البلاغة باعتراف العرب المعاندين له رغم إبداعهم في هذا الجانب، وتأكيداً لصحة هذه الدلالة نلاحظ أنّ التحدي القرآني كان في مكة حيث كان المسلمون أقلية مضطهدة وكان هناك قلق كبير ينتاب كبار قريش من دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فلو كان بإمكانهم التحدي لواجهوا نداء القرآن ﴿فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾(2). و﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ﴾(3). وروى المؤرخون أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما اُنزل عليه ﴿حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ﴾(4) قام إلى المسجد يقرؤها والوليد بن المغيرة قريب منه فلما فطن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم، فقال: والله، لقد سمعتُ من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة، وإن اعلاه لمثر (لمثمر) وإن اسفله لمُغدق وإنه ليعلو وما يعلى (عليه)(5). وقد أشار الكتّاب والباحثون الى جوانب متعددة في الفصاحة والبلاغة تميّز بها القرآن نشير الى بعضها: أ: الإيقاع الموسيقي المتميز المتعدد الأنواع والمتناسق مع الجو -كما عن الموسيقار المعروف محمد حسن الشجاعي- أو الموسيقى الباطنية كما يقول الأستاذ مصطفى محمود. ب: انّه بيان على قدر الحاجة، يقول ابن عطية: (لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة في أن يوجد أحسن منها لم توجد). ج: انّه لا يخلق عن كثرة الرد وطول التكرار...، كما أشار إليه كلام الإمام علي (عليه السلام). د: الروحانية العالية فيه، هذه الروحانية التي تنفذ الى عمق سريرة الإنسان وتهزّ وجدانه(6)، حتّى ان كثيراً من اسرى الحضارة المادية المعاصرة آمنوا بالاسلام تأثّراً بهذه الروحانية. 3- عدم تطور أسلوبه خلال 24عاماً، هي فترة نزوله، وهو أمر لا ينسجم مع طبيعة الإنسان التكاملية، ولذا نلاحظ الفارق الشاسع في المستوى الفني للشعراء والأدباء عندما نقارن بين بداية نتاجهم الأدبي ومرحلة تكاملهم، بينما لا نجد هذا التكامل في القرآن فلا نجد تطوراً في السور المدنية عن المكية من ناحية الأسلوب والفصاحة والبلاغة. ويمكن أن نضيف الى هذه النقطة أنّا لا نجد في القرآن تذبذباً في الأسلوب ولا ضعفاً في بعض سوره وآياته، مكيّة كانت أم مدنية، وهذا أيضاً مخالف للطبيعة البشرية المتأثرة بعوامل عديدة تنعكس على نتاجها، خاصة الحس الأدبي والبلاغي المرهف الذي يتأثر بأدنى سبب. 4- من المعروف أنّ سمات ودلائل النبوغ تظهر لدى الشخص في سني حياته الأولى وبدايات الشباب، فلو كان القرآن من إنشاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لظهرت عليه دلائل هذا النبوغ في بدايات حياته واهتم به قومه وتحدّث به العرب لاهتمامهم بهذه الظاهرة، خاصة ان سوق عكاظ كان في مكة مأوى الحجيج، ولاكتسب (صلى الله عليه وآله وسلّم) مكانةً مرموقةً بين قومه وافتخر به أهله وعشيرته، وانهالت عليه الهدايا والعطاءات، خصوصاً مع ما عرف عن كفيله أبي طالب من الفقر والضيق المادّي. ولعل الآية الكريمة تشير الى ذلك بقولها: ﴿قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾(7). 1- سورة يونس: 37. 2- سورة هود: 13. 3- سورة يونس: 38. 4- سورة غافر: 1 - 3. 5- يراجع مجمع البيان: 10 854. 6- يراجع تلخيص التمهيد: 2 26 ومابعدها. 7- سورة يونس: 16. |
الدرس الرابع
الدرس الرابع 5- تنوع أساليب القرآن الكريم وبلوغه القمة في كل منها حيث نجد قمة البلاغة في السور ذوات الآيات القصار كما نجدها في ذوات الآيات الطوال، كذلك تشترك كل الآيات - بمضامينها المتنوعة - في الإبداع، سواء منها آيات الوعد والوعيد أم القصص أم التشريع أم مكارم الأخلاق أم العقائد وغيرها، بينما المعهود في الأدباء والبلغاء..أولاً: أن يكون لإبداعهم مذاق واحد. فلكل شخص أسلوبه المتميز به، حتى ان النقّاد والباحثين يعتمدون على هذه النقطة في نسبة القصائد والنتاجات الأدبية لأصحابها الحقيقيين. وثانياً: ان كلاّ منهم يحلّق في مساحة خاصّة، فقد قالوا في شعر امرىء القيس: "يحسن عند الطرب وذكر النساء وصفة الخيل"، وشعر النابغة "عند الخوف" وشعر الأعشى "عند الطلب ووصف الخمر"، وشعر زهير "عند الرغبة والرجاء"(1)، فكل شاعر يحسن كلامه في مجال فإنّه يضعف في غير ذلك، أمّا القرآن فإنّه بلغ الذروة بأساليبه المختلفة وفي مساحات شتّى. وهذا مما ينفي كونه إبداعاً بشرياً. 6- عدم الاضطراب في المحتوى، وتظهر أهمية هذه النقطة مع ملاحظة ما يلي.. أ: تشعب المواضيع والعلوم التي يتعرّض لها، حيث يشتمل على منظومة من العقائد والحِكَم ومكارم الأخلاق والقوانين، ويتضمّن القصص التاريخية وبعض الظواهر الكونية.. وغير ذلك. ب: نزول كثير من الآيات أو أكثرها من دون تهيئة مسبقة، أو تبعاً لحدث طارئ أو سفر أو حرب أو نحو ذلك مما لا يسمح بالتمعّن ومراجعة النص السابق تجنّباً للوقوع في التناقض. ج: تكرر الحديث عن نفس المواضيع التي سبق التعرض لها في فترات زمنية متباعدة مما يجعله معرضاً للاضطراب والتناقض - لو كان نتاجاً بشرياً - وعدم الاقتصار في الحديث عن الموضوع مرة واحدة. د: صدوره من غير متعلم، إذ لم يعرف عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) اهتمامه بالدراسة والتعلم، فكيف يمكنه إبداع القرآن وما تضمّنه من علوم وتعاليم وغيرها، فهو يتحدّث عن السماء والأرض والتوحيد والأخلاق والتشريع والتاريخ وغير ذلك، والى هذا تشير الآية الكريمة: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾(2). بعد ملاحظة هذه النقاط الأربع يتضح الوجه في كون عدم الاختلاف والاضطراب في القرآن دليلاً على ارتباطه بالله تعالى ومن أدلة إعجازه، كما أشارت إليه الآية الكريمة: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾(3). والبعض ممن لم ينتبه لهذه الخصوصيات الأربع لم يتفهم وجه كونه دليلاً على الإعجاز، قال محمد عبدالعظيم الزرقاني: "ويلاحظ كذلك ان الاشتمال على الحِكَم البالغة، وعدم الاختلاف والتناقض بين معانيه لا يصلح واحد منها أن يكون وجهاً من وجوه الإعجاز، لأنّهما لا يخرجان عن حدود الطاقة بل كثيراً ما نجد كلام الناس مشتملاً على حِكَم وسليماً من التناقض والاختلاف"(4). وما أدري كيف يفهم الزرقاني معنى هذه الآية الصريحة في جعل عدم الاختلاف في القرآن دليلاً على أنّه من الله تعالى لا من البشر، ويبدو أنّه أخذ عدم الاختلاف مجرداً عن الخصوصيات التي ذكرناها فلذلك لم يستوضح دلالته على الإعجاز. ومن كلام للإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: "وذكر أنّ الكتاب يصدق بعضه بعضاً، وأنّه لا اختلاف فيه فقال سبحانه: ﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً﴾ "(5). 7 - إخباره بالمغيبات، ويتضح وجه دلالة هذا الشاهد على الإعجاز من خلال ملاحظة ما يلي: أ: إنّ المتميّزين بالإخبار عن بعض الأمور الغيبية والعلوم الغريبة من الكهان ونحوهم كانوا بعدد الأصابع ومعروفين على مستوى الجزيرة العربية يراجعهم العرب ويحكّمونهم أحياناً في أمورهم، ولم يعرف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) انّه كان يرتاد أماكنهم ويختلط بهم، ولو كان قد استقى علومه الغيبية من أحد هؤلاء لفضحه هو ومن يختص بذلك الشخص. خصوصاً انّهم كانوا بعيدين عن مكّة بحيث يُقصَدون بعناء، فليس من المعقول أن يرتاد على أحدهم شخص من أسرة معروفة متميّزة في مكة ويلازمه فترة طويلة من دون أن يعرف بذلك أحد حتى أقاربه وأهله، خاصةً أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان في كفالة عمه شيخ الأباطح أبي طالب الذي سببت دعوته له ولبني هاشم إحراجاً عظيماً، خسروا بسببها زعامتهم في قريش وعُزِلوا عن المجتمع المكّي وحوربوا على جميع الأصعدة، فلو كانوا قد اكتشفوا دجلاً منه من خلال ارتباطه بالكُهّان ونحوهم لنبذوه ولم يتحملوا المحنة العصيبة بسببه. وقد تنبّه الكاتب الإنجليزي (هـ. ج. ويلز) لذلك حيث قال: "إنّ من أرفع الأدلة على صدق محمد كون أهله وأقرب الناس إليه يؤمنون به، فقد كانوا مطلعين على أسراره، ولو شكوا في صدقه لما آمنوا به". ب: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يحتجّ بتحقق إخباراته الغيبية لاثبات صدق دعواه الرسالة الالهية، فلم تجرّ إليه نفعاً ولم تدعم سلطانه حين تحققها، بل ان بعضها تحقق بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلّم)، مما يكشف يقيناً ان الإخبار بها لم يكن لمطامع دنيوية - كما يفعل الكهنة والمرتبطون بعالم الجن ونحوهم - مثل إخباره بغلبة الروم في المستقبل - في بضع سنين - واقتران ذلك بغلبة المسلمين ونصرهم، الأمر الذي لم يكن يخطر في بال أحد آنذاك، قال سبحانه وتعالى: ﴿ألم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(6)، فترى لسان الآية لسان الواثق المتيقّن الذي لا يقبل أي شك أو ترديد. وبالفعل تحققت كل هذه النبوءات - غَلَبت الروم، في أقل من عشر سنوات، مقرونة بفرح المؤمنين بنصر الله في بدر الكبرى - ولم يُعَرف ان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) استثمر ذلك في مخاصمة المشركين وتقوية حجّته. ومن آيات الغيب هذه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا﴾(7)، حيث روى جمع من المؤرخين والمفسرين - من الفريقين - نزول هذه الآية المكية في بني أمية(8)، حيث رآهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ينزون على منبره فاغتمّ لذلك فنزلت الآية الكريمة في مكة، فصدّقها الزمن بعد حين. أترى مثل هذه الإخبارات الغيبية تتناسب مع إخبارات الكهنة ومن شابههم؟! وهناك العديد من إخبارات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) - غير القرآنية - كانت من هذا القبيل حيث لم يستثمرها وإنّما شهد الزمن بصدقها فيما بعد، كإخباره بأنّ عماراً تقتله الفئة الباغية وانّ آخر شرابه ضياح من لبن، وكان هذا الحديث من الحقائق الثابتة تاريخياً حيث بلغ حداً من الانتشار بين المسلمين بحيث أحرج معاوية عند مقتل عمّار واضطرب جيش أهل الشام وكاد الأمر ينقلب عليه لولا حيلة صاحبه عمرو بن العاص حينما خدع رعاة أهل الشام بقوله: "إنما قتل عمّاراً من جاء به" محمّلاً الإمام علياً (عليه السلام) مسؤولية مقتله(9). عوداً على الموضوع نقول: بملاحظة هاتين النقطتين يتضح كيف تكون تلك الإخبارات الغيبية شاهدة على إعجاز القرآن وارتباطه بالله تعالى. 1- التفسير الكبير: 2 116. 2- سورة العنكبوت: 48. 3- سورة النساء: 82. 4- مناهل العرفان، ج: 2 443. 5- نهج البلاغة،الخطبة: 18/61 تحقيق صبحي الصالح. 6- سورة الروم: 1 - 6. 7- سورة الإسراء: 60. 8- حكاه في الدر المنثور عن ابن جرير عن سهل بن سعد، وأيضاً عن ابن أبي حاتم عن ابن عمر، وأيضاً عن ابن ابي حاتم عن يعلى بن مرة، وأيضاً عن ابن مردويه عن الحسين بن علي، وأيضاً عن البيهقي في الدلائل وابن عساكر عن سعيد بن المسيب، وعن آخرين. ان المقصود من الشجرة الملعونة هم بنو أمية. 9- يراجع تأريخ الامم والملوك للطبري:3/27 و 29، وغيره. |
الدرس الخامس
الدرس الخامس 8 - اشتمال القرآن الكريم على أسماء وحوادث قديمة لم يعرفها المجتمع آنذاك، وبعضها لم تتعرض له الكتب القديمة مثل قضية صالح وبلقيس وسد مأرب ونحو ذلك، بل حتى بعض ما تحدثت عنه المصادر الأخرى تناولها القرآن بدقة ومعقولية، وبعضها أكدتها البحوث والتحريات الحديثة. وقد ذكر المؤرخون ميل النصراني (عداس) غلام صفوان بن أمية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عندما أخبره (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن النبي يونس بن متى ومسقط رأسه نينوى، حيث فوجىء عداس بهذه المعلومات اليسيرة من عربي يعيش في مكة(1)، فكيف بالعدد الهائل من المعلومات التي تضمنها القرآن الكريم بمجموع آياته؟! 9- اشتماله على منظومة عقائدية دقيقة ومنسجمة مع العقل والبرهان، خاصةً مسألة التوحيد وبحوثها التي هي أهم قضية عقائدية شغلت فكر الانسان واهتمامه، فقد طرحها الإسلام من خلال القرآن والسنّة بشكل دقيق سليم من كل إشكال وتهافت حتى انبهر بها العلماء في العصور المختلفة بهذا الطرح القرآني الدقيق، مع ان ذلك مما لا تستوعبه العقول والأذهان العادية للبشر، ولذلك نجد أن عدم استيعاب هذه الفكرة كانت مشكلة البشرية ومازالت، بمن فيهم اتباع الأديان السماوية التي حملت نفس الفكرة حيث ضلّوا عنها بعد رحيل أنبيائهم، وسيطرت عليهم أفكار منحرفة، مثل فكرة الشريك وفكرة التجسيم وغير ذلك. فكيف يتصور أنّ انساناً يعيش في تلك العصور المظلمة وفي ذلك المجتمع الجاهلي المتوحش يتعامل بهذه الدقة مع هذه القضية الحساسة التي شغلت الفلاسفة والعلماء في كل عصر، فترى القرآن الكريم تحدّث كثيراً عن موضوع التوحيد وصفات الباري سبحانه بدقة متناهية من دون أن يحيد عن الصراط المستقيم. 10- التشريع الشامل لمختلف جوانب الحياة، وشؤون الأفراد والمجتمع من الطقوس العبادية، والتشريعات في مجال العلاقات العامة والخاصّة، وتهذيب النفس، وغير ذلك، حيث لا يعقل أن يبتكر كلَّ ذلك شخص قبل أربعة عشر قرناً ينتمي الى مجتمع يتجذر التخلف في أعماقه. وقد تنبّه الكثير من الباحثين الغربيين وغيرهم إلى هذه النقطة بالذات فصارت من أهم ما يجذب المثقفين للإسلام في هذا العصر. وتبقى على العلماء مسؤولية التمعن في مصادر التشريع الإسلامي لإبراز هذا الجانب المشرق من الإسلام، وطرح الحلول السليمة الكفيلة بحلّ المشاكل المعقّدة التي تواجهها المجتمعات، من خلال فهم دقيق وواع لمصادر التشريع وحدوده، وعرض ذلك في اطروحة وصياغة قانونية حديثة. 11- وهناك شواهد أخرى على ارتباط القرآن بالله تعالى نذكر منها.. أ: مجموعة آيات العتاب التي يلوح من بعضها الشدة التي كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) في غنى عنها - لو كانت من إنشائه - علماً أنّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يستثمره لإثبات صحة دعواه حتى تفسّر على أنّها مقصودة له، نخص بالذكر الآيات المدنية المذكورة التي نزلت في أوج قوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) حيث لم يكن في حاجة لمثل هذه الأساليب لتدعيم سلطته. ب: اختلاف مضمون القرآن وطبيعة سلوك النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) المختلفين تماماً عن مضمون كلام أصحاب العلوم الغريبة وسلوكهم. ج: ما عُرف عنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) من أنّه الصادق الأمين قبل دعوته، ولذلك صدّقه أقاربه والمحيطون به وتحمّلوا الشدائد في سبيل ذلك. د: بعض المواقف الحازمة التي تكشف عن الارتباط بالله تعالى مثل موضوع قبلة المسلمين وتبدلها من بيت المقدس الى الكعبة، ففي مكة وبداية الدعوة حيث كان يفترض - من منظور مصلحي - جذب القرشيين الى الإسلام جُعلت القبلة الى بيت المقدس مما أثار غيظ المكيين حيث طعنهم في أقدس رمز عندهم، والذي كان أهم مصدر لوضعهم المعنوي والمادي المتميّز، بالإضافة الى أنّه كان خلاف رغبته (صلى الله عليه وآله وسلّم) - كما دلّت عليه الآية الكريمة فيما بعد -. وفي المدينة حيث كان يفترض - كذلك - جذب أهل الكتاب وضرب مصالح أهل مكة أُرجعت القبلة الى الكعبة ممّا يكشف عن أنّ أمر التشريع المذكور لا يخضع للرغبة البشرية، وإنما هو تابع للإرادة الإلهية رعايةً لمصالح لا يعرفها غيره تعالى. هـ: كشف العديد من الآيات القرآنية عن حقائق علمية أثبتها العلم الحديث، وهو ما يعبّر عنه بالاعجاز العلمي(2). ونؤكد هنا على أهمية الاعتدال والموضوعية وعدم تحميل الآيات القرآنية خلاف ظاهرها لمجرد تطبيقها على مقولة أو نظرية علمية حديثة. لأن القرآن كتاب هداية وليس كتاباً جامعاً للنظريات العلمية التي هي شؤون بشرية. 12- ونضيف الى الدلائل على صحة انتساب القرآن والرسالة الغراء لله سبحانه موقف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته(عليهم السلام) الصلب وتفانيهم في سبيل هذا الدين العظيم مع علمه (صلى الله عليه وآله وسلّم) بمصير أهل بيته المفجع - كما دلّت عليه نصوص كثيرة ذكرها أيضاً من لم يكن من اتباع أهل البيت(عليهم السلام)(3) - فلو لم يكن محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) مرسلاً ومرتبطاً بالله لم يكن إقدامه على ما سيؤول إلى مقتل أسرته وذرّيته معقولاً. ولا يحتمل في حقّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يكون على وهم وقناعة خاطئة، لأنّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يكن يعتمد على النظريات المجرّدة القابلة للخطأ، بل يعتمد على مشاهدة الواقع العيني. ونظير موقفه (صلى الله عليه وآله وسلّم) موقف أهل بيته(عليهم السلام) - خاصةً الإمام علي (عليه السلام) - في استقامتهم ومعاناتهم في سبيل الرسالة الإسلامية حيث بذلوا كل غال ونفيس. 1- يراجع الكامل في التاريخ: 2 92. 2- يُراجع ماكتبه مصطفى محمود في هذا المجال، وغيره. 3- الأمالي للشيخ الطوسي: 315، مناقب آل أبي طالب 3:213، بحار الأنوار 45:227 و231. |
• الدرس السادس
الخاصة الثالثة: خلود القرآن
ان خلود القرآن بمعنى أنّه نزل ليبقى أي ليكون مناراً ومرجعاً للأجيال المتعاقبة، ولا يختص بجيل نزوله أو بفترة معينة. وهناك عدة أمور تشهد بذلك.. 1- طبيعة آياته ومحتوياته، فهو بين آيات مرتبطة بالعقائد الصحيحة وبين دعوة الى مكارم الأخلاق وبين تشريعات في مختلف المجالات منسجمةً مع الفطرة الإنسانية وصالحةً لترتيب شؤون الإنسان وتنظيم علاقاته مع الآخرين. نعم هناك مجموعة من الاعتراضات والتساؤلات حول بعض التشريعات القرآنية والإسلامية بشكل عام ومدى انسجامها مع تطور المجتمعات، وقد تصدى العلماء للإجابة عليها وتوضيح انسجام تلك التشريعات مع تطور الإنسان، ولسنا بصدد استيعابها هنا، لأنّ مجالها كتب العقائد وفلسفة التشريع، لكن يكفينا هنا أن نشير الى الإعجاب المتزايد بالقرآن الكريم والتشريع الإسلامي من قِبَل مجموعة كبيرة من المثقفين الغربيين، فهذا الألماني المعروف (غوته) يشيد بالقرآن ويضيف: انّي اعتقد ان هذا الكتاب سيترك في القريب العاجل أثره المنجي والعميق في كل جوانب الحياة ويكون بالنتيجة محط أنظار العالم. ويقول (جول لابوم) - في مقدمة فهرسة القرآن -: القرآن حي الى الأبد، وكل واحد من الناس يستفيد منه بمقدار إدراكه واستيعابه. ويقول (بايلر) المستشرق المعروف - بعد أن أشاد بالقرآن - في القرآن مواعظ ظاهرة وسيكون في القريب العاجل بلا معارض الى الأبد، وكل شخص يتبع القرآن جيداً ستكون حياته مطمئنة وممتازة ومثالية(1). 2- وما يشهد بخلود القرآن ما دل ان شريعة الإسلام آخر الشرائع وان حلال محمد حلال الى يوم القيامة وحرامه حرام الى يوم القيامة، ونحو ذلك، حيث من الواضح ان القرآن الكريم هو الثقل الأكبر الذي تضمن كثيراً من أصول الإسلام وتعاليمه وتشريعاته، فمن دوام الإسلام وخلوده نعرف دوام القرآن وخلوده. 3- ومما يشهد - اسلامياً - بخلود القرآن النصوص الكثيرة في السُنّة التي تأمر المسلمين - بأجيالهم المتعاقبة - بالأخذ بالقرآن والتأمّل فيه وعظمته ونحو ذلك، ويقف في مقدمتها حديث الثقلين المروي بطرق عديدة والمسلَّم عند جميع المسلمين، حيث تضمّن وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) للمسلمين بأجيالهم المتعاقبة بالتمسّك بالكتاب والعترة. وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: "سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول: إنّها ستكون فتن، قلت: وما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه خبر ما قبلكم وما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة رد، ولا تنقضي عجائبه.."(2). وفي حديث عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): "إنّ رجلاً سأل أبا عبدالله (عليه السلام) ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدراية إلاّ غضاضةً؟ فقال (عليه السلام): لأنّ الله لم ينزله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كل قوم غض الى يوم القيامة"(3). وفي حديث للإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة في ذم بعض الأزمنة: "يأتي على الناس زمان لا يبقى فيهم من القرآن إلاّ رسمه ومن الإسلام إلاّ اسمه"(4). فإنّ ذم هذا الزمان يعني أنّ القرآن اُنزل ليكون مصدر هداية لكل الأزمنة. ومن الشواهد على خلود القرآن ومرجعيته الدائمة للمسلمين ما ورد عن أهل البيت(عليهم السلام) من ضرورة عرض الروايات على القرآن وان ما خالف كتاب الله فهو زخرف أو باطل، وفي بعضها الأمر بأخذ النص الموافق للكتاب العزيز(5)، ما يؤكد دوام مرجعية القرآن وهدايته للأجيال المتعاقبة. الأسئلة 1 - عرّف "علوم القرآن". 2 - من هو أوّل من دوّن في علوم القرآن؟ 3 - اذكر العوامل الخمسة لنشوء وتطوّر هذا العلم. 4 - اذكر ستة من شواهد إعجاز القرآن الكريم. 5 - ما هي النقاط الأربعة التي توضّح كيف انّ عدم الاضطراب في القرآن دليل إعجازه؟ 6 - اذكر نقطتين تؤكدان ان إخبارات القرآن الغيبية تكشف عن أنّه كتاب إلهي. 1- يراجع كتاب تاريخ وعلوم قرآن: 186 و 189. 2- المختصر النافع: 17، وقريب منه ما في سنن الترمذي: 5 172. 3- عيون أخبار الرضا7: 239. 4- تصنيف نهج البلاغة: 213. 5- الكافي: 1/69. وسائل الشيعة: 18/76 وما بعدها. |
الدرس السابع
الدرس السابع الخاصة الرابعة: أممية القرآن لجميع الشعوب والأُمم وهذا البحث يرتبط الى حدٍّ كبير بأممية الإسلام، فإذا تم إثبات ذلك فنعطف على ذلك دور القرآن وأهميته في الإسلام باعتباره الثقل الأكبر، ليتضح حينئذ ان القرآن كتاب لهداية البشر ولا يختص بقوم أو اُمة معيّنة. أُممية الإسلام لاشك في أُممية الإسلام وتصدي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة(عليهم السلام) من بعده لهداية جميع البشر من دون خصوصية لقوم دون غيرهم، ونحاول هنا بحث الموضوع وتسليط الضوء على نقطتين: الأولى: في توجيه أممية الأديان. ونشير هنا الى زاويتين.. أ - نظرياً: نقول، لا مانع من شمولية الدين، لأنّ الدين يفترض اعتماده على ركنين أساسيين همااصول العقيدة والتشريع المرتبط بالممارسة أو السلوك. أمّا اصول العقيدة فهي حقيقة ثابتة لا تختلف باختلاف الشعوب، وأمّا الجانب التشريعي فيفترض في الدين اشتماله على تعاليم ارشادات أخلاقية سامية وتشريعات عملية عامة تساهم في إصلاح الفرد والمجتمع وسعادته في الدنيا والآخرة، فلا تختص بشعب دون آخر. ب - بحسب الواقع الموضوعي أيضاً لا موجب لاختصاص الدين بفئة أو شعب خاص، ويكفي شاهداً على إمكانية انتشار الدين الواحد بين الشعوب المختلفة هو انتشار الدين المسيحي والدين الإسلامي بين الأعداد الهائلة من الشعوب شرقاً وغرباً، رغم تباين الظروف وتنوع الثقافات. الثانية: هل الإسلام دين أممي؟ ونتحدث حول هذه النقطة في أمرين.. (الأمر الأول): الشبهات والاعتراضات الموجّهة على ذلك، وأهمّها ظواهر بعض الآيات، منها: 1) قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾(1). وجه الشبهة ان الآية فرضت أن لكل قوم هادياً، فكيف نفرض الرسول هادياً لجميع البشر؟ والجواب عنها من وجوه.. أ - إنّ هذا التفسير للآية الكريمة تفسير ساذج لا يلتئم مع افتراض انسجام الرد مع قولهم المردود، فإنّ هذا الرد - على هذا التفسير - لا ينسجم مع طبيعة طلبهم وموقفهم، فأيّ ارتباط بين طلبهم نزول الآية وبين هذا الردّ؟! ويمكن أن تستظهر من الآية وجوه أُخرى للتفسير. منها: ان المقصود بالهادي ليس هو شخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وإنّما القرآن الكريم أو نحوه من شواهد الرسالة، ويكون المعنى ان الله تعالى جعل لكل أمّة ما يناسبها من الآيات الهادية لهم، ويشهد لهذا المعنى تعدد نسبة الهداية للقرآن الكريم ونحوه مثل ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾(2)،﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾(3)،﴿إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(4)،﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ﴾(5) وغيرها... وهذا التفسير يوفّر الانسجام بين مقدّمة الآية وتكملتها، فإنّهم لما طلبوا الآية المعينة من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم)، توجّه الرد عليهم بأن الله ينزل مع كل رسول الآية التي تنسجم مع محيطه أو طبيعة رسالته. قال الزجاج: "طلبوا غير الآيات التي أتى بها فالتمسوا مثل آيات موسى وعيسى فأعلم الله أنّ لكل قوم هادياً"(6). ومنها: ما حكاه الرازي عن ابن عباس: وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يده على صدره فقال: "أنا المنذر" ثم أومأ الى منكب علي(رضي الله عنه)، وقال: "أنت الهادي، يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي"(7). وقريب منه ما رواه الحسكاني. وهذا قريب من الوجه السابق، ومرجعه ان الهادي هو الذي يربط الناس بالرسالة سواء كان الحجة الناطقة أم الصامتة كما قال (صلى الله عليه وآله وسلّم) "إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي". ب - ان هذا التفسير مبني على تفسير (القوم) بالذين تجمعهم قومية واحدة بالمفهوم المعاصر، وهو بعيد عن المعنى اللغوي، قال الخليل في كتاب العين: قومُ كلّ رجل شيعتهُ وعشيرتهُ، وقال في عشيرك: الذي يعاشرك، أمركما واحد.. وسميت عشيرة الرجل لمعاشرة بعضهم بعضاً(8). والاستعمال القرآني الشائع للقوم جاء بهذا المعنى ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(9)،﴿ (وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾(10)،﴿وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾(11)، والمقابلة بين القوم الظالمين ونحوهم والقوم المؤمنين التي يؤكدها القرآن خير شاهد على هذا المعنى باعتبار أن الايمان يجمع المؤمنين والكفر والفسق يجمع الآخرين، مع ان من الطرفين من تجمعهم قومية واحدة، وعلى هذا فالقوم في الآية هم المسلمون المهتدون به من أي عرق أو قومية كانوا وفي كل العصور، فيكون (القوم) بمعنى الأُمّة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾(12). ج - ان هذه الآية نزلت في المدينة - قيل بالإجماع - مما يؤكد ان (القوم) لا يقصد به قريش أو أهل مكة بالخصوص، كما ان ارادة خصوص العرب ترفضه الشواهد التاريخية التي تؤكد ان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يكن يتعامل بهذا المنظار، فلم يكن يفرّق بين الروم وعرب الشام، ولا الفرس وعرب العراق، بحيث لم يفهم أحد آنذاك تميّز العرب بالدعوة، خاصةً ان الأفكار القومية لم تكن معروفة آنذاك. د - إنّ وجود العديد من الصحابة غير العرب مثل سلمان الفارسي وبلال وصهيب وغيرهم ينفي هذا التمييز، خاصةً سلمان الذي كان مسيحياً موحّداً، فلو لم يكن الإسلام ديناً أُمميّاً لم يكن هناك موجب لاعتناقه له. هـ - إرسال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) الرسل الى الملوك غير العرب ينافي هذا الفهم - كما سيأتي الحديث عنه -. 1- سورة الرعد: 7. 2- سورة الإسراء: 9. 3- سورة سبأ: 6. 4- سورة الاحقاف:30. 5- سورة الجن: 1- -2. 6- مجمع البيان: 5/427. 7- التفسير الكبير: 10/14. 8- ترتيب كتاب العين: 545، 693. 9- سورة الصف: 7. 10- سورة البقرة: 264. 11- سورة المائدة: 108. 12- سورة الانبياء: 92. |
الدرس الثامن
الدرس الثامن 2) قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾(1). وقريب منها في سورة الشورى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾(2). وجه الشبهة ان هدف الوحي الى الرسول كان إنذار أهل مكة ومن حولها ممّن هو قريب منها. والجواب عنها من وجوه.. أ - ان هذا يبتني على تفسير الحول بالقرب، مع ان القرآن استخدمه بغير ذلك ففي سورة الأحقاف: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى﴾(3). قال الطبرسي: "معناه: ولقد أهلكنا يا أهل مكة ما حولكم، وهم قوم هود وكانوا باليمن وقوم صالح بالحجر وقوم لوط على طريقهم الى الشام"(4). وكذا في سورة العنكبوت: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾(5). ب - الملحوظ في الآية أنّها لم تعبر (مكة وما حولها) وهذا يكشف عن ان المنظار ليس هو البقعة وما يحيط بها جغرافياً، بل في كلتا الآيتين جاء التعبير ب- (أم القرى) وكأنّه لتأكيد مركزية مكة بالنسبة للبقاع الاخرى بسبب وجود الكعبة والبيت الحرام فيها، والعرب تسمي كل أمر جامع يُجتَمع عليه (أماً). ولذا ورد عن ابن عباس أن سبب تسمية مكة بذلك أنّ الأرضين دحيت من تحتها ومن حولها، وقال أبو بكر الأصم: (سمّيت بذلك لأنّها قبلة أهل الدنيا فصارت هي كالأصل وسائر البلاد و القرى تابعة لها)(6). فاختصاص هذا الاسم بمكة خير شاهد على عدم النظر إليها بما انّها بقعة معيّنة. ج - إنّ هذا التفسير يجعل الرسالة محدودة بحدود جغرافية ضيّقة، وهذا خلاف الضروري من سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم). والشواهد الأخرى التي سوف نذكرها. د - لو فرضنا ظهور الآيتين في البقعة الجغرافية فقد يكون من باب التأكيد نظير ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾(7) و﴿اخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾(8)، أو التدرج في الدعوة للاسلام باعتبار أنّهم كانوا المباشَرين آنذاك، ومن المعلوم ان القرآن ابتنى على ملاحظة المناسبات والتأكيد على ذكر الخصوصيات، نظير قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ﴾(9) على التفسير القائل انّهم أهل مكة - مع أنّ سورة الجمعة مدنية - فلم يستنكر ذلك أحد من المسلمين ولم يراوده تساؤل عن اختصاص الرسالة بأهل مكة. ومما يشهد بعدم ورود الآية الكريمة في مقام الحصر الحقيقي، قوله: ﴿وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ﴾(10) حيث لا إشكال في ان الهدف من إنزال القرآن ليس مجرد الإنذار ليوم الجمع.. هـ - إنّ قوله تعالى: ﴿...وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ...﴾ يشمل كل المنتسبين للأديان السماوية وهو لا يلتئم مع اختصاص الرسالة بأهل مكة ومن حولها، خصوصاً مع ندرة وجودهم في هذه المنطقة. الأمر الثاني: الأدلة والشواهد - القرآنية وغيرها - الدالة على أممية الإسلام. وهي كثيرة جداً، منها: 1- قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾(11). ونظيرها ما في سورتي التوبة والصف. 2- ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ﴾(12). ونظيرها كثير من الآيات التي تخاطب أهل الكتاب. 3- ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ﴾(13)﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾(14) ونحوهما كثير من الآيات التي تؤكد شمولية الرسالة الاسلامية. 4- ﴿بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾(15) ونحوها مما دل على تبشير غير العرب برسالته (صلى الله عليه وآله وسلّم). 5- ﴿وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾(16). حيث دلّت على شمول رسالته لغير العرب، وان اليهود كانوا يترقّبون بعثته. 6- ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾(17).﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾(18) ونحوهامن الآيات. 7- ﴿وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ﴾(19) وكذا غيرها من آيات المحاججة وتحدّي أهل الكتاب، مثل آية المباهلة. 8- تعامل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) مع أهل الكتاب ودعوته لهم باتباعه كما دعا المشركين الى ذلك. 9- موقف أهل الكتاب من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وتوجّسهم من دعوته، لعلمهم بأنّه يستهدفهم في دعوته. 10- إسلام العديد من الصحابة ممّن كانوا من أهل الكتاب ومن غير العرب كالنجاشي وبلال وسلمان وصهيب، وكذلك غيرهم من الأجيال اللاحقة. 11- رسائل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) الى ملوك فارس والروم والحبشة، ودعوتهم للإيمان برسالة الإسلام. 12- الإخبارات الغيبية للرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن دخول شعوب غير عربية في الإسلام. 13- موقف الأئمة(عليهم السلام) وعدم ردعهم عن قضية الفتوحات - رغم التحفظات على الواقع القائم وبعض الممارسات خلال الفتوحات -. 14- طبيعة التشريعات المرتبطة بالتعامل مع غير المسلمين، مثل أحكام الجزية ونحوها المعبّرة عن خطة المشرّع الإسلامي لجذب أهل الكتاب وغيرهم للإسلام. 1- سورة الأنعام: 92. 2- سورة الشورى: 7. 3- سورة الاحقاف: 27. 4- مجمع البيان: 9/138. 5- سورة العنكبوت: 67. 6- التفسير الكبير: 13/81. 7- سورة الشعراء: 214. 8- سورة الحجر: 88. 9- سورة الجمعة: 2. 10- سورة الشورى: 7. 11- سورة الفتح: 28. 12- سورة المائدة: 19. 13- سورة سبأ: 28. 14- سورة الأنبياء: 107. 15- سورة الصف: 6. 16- سورة البقرة: 89. 17- سورة آل عمران: 19. 18- سورة الأنعام: 125. 19- سورة آل عمران: 20. |
الدرس التاسع (حجّية الدلالة القرآنية)
الدرس التاسع (حجّية الدلالة القرآنية) نقصد من هذا البحث ان القرآن ليس مبهماً يتعذّر على الأمّة فهمه، وإنّما من حق العالم والمتخصص - وأحياناً الانسان العادي - أن يعتمد على ما يفهمه منه. ويندرج تحت هذا البحث مسألة حجية ظواهر القرآن التي يبحثها علماء أصول الفقه، حيث أكدوا أنّ ظهورات القرآن حجّة، فضلاً عمّا هو صريح فيه. ويمكن أن نستشهد لذلك بمجموعة من الشواهد من نفس القرآن ومن غيره، وهي.. 1- مجموعة من الآيات الكريمة الواضحة في دعوتها للتأمل والتمعن في القرآن الكريم. منها: قوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾(1). ومنها: قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾(2). ومنها: قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (3﴾. ومنها: قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾(4﴾. وهناك آيات أُخرى كثيرة تشهد ان إنزال القرآن لأجل أن يتفهّمه الناس ممّا يؤكد انّه قابل للفهم بالتأمّل والتدبّر. نعم قد يتوهّم البعض ان القرآن اشتمل على المحكم والمتشابه وان تمييز أحدهما عن الآخر غير ممكن لنا، وسوف يأتي البحث عن ذلك في باب المحكم والمتشابه إن شاء الله تعالى. 2- ورود النصوص الكثيرة التي تدعو المسلمين الى الرجوع للقرآن والالتزام والعمل به فيكشف هذا عن إمكانية فهمه من جانبهم - ولو من خلال علمائهم -. منها: حديث الثقلين: "إنّي تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما"(5). ومنها: قول الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: "جعله الله رياً لعطش العلماء وربيعاً لقلوب الفقهاء ومحاج لطرق الصلحاء ودواء ليس بعده داء ونوراً ليس بعده ظلمة.. وبرهاناً لمن تكلّم به وشاهداً لمن خاصم به وفلجاً لمن حاجّ به.. وعلماً لمن وعى وحديثاً لمن روى، وحكماً لمن قضى"(6). ومنها: قوله (عليه السلام) في نهج البلاغة أيضاً: "كتاب ربّكم فيكم مبيّناً حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه وخاصه وعامه مفسِّراً مجمله ومبيِّناً غوامضه.."، وهناك نصوص كثيرة جداً في السنّة تدعو الى العمل بالقرآن والرجوع إليه. ومنها: مجموعة من النصوص التي يُوجّه فيها أهل البيت(عليهم السلام) أصحابَهم الى القرآن، مثل ما رواه عبدالأعلى في حكم من عثر فقطع ظفره فجعل على اصبعه مرارة، فقال الامام الصادق (عليه السلام): "يُعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّوجل، قال الله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) امسح عليه"(7). فالقرآن إذن - كما يبدو من هذه النصوص وغيرها - ليس كتاب رموز وألغاز بحيث لا يحقّ للناس الرجوع إليه ولا يمكنهم فهمه، وإنّما هو كتاب هداية يفترض في المسلمين التمعن فيه والاهتداء بهديه. 1- سورة النساء: 82. 2- سورة محمد: 24. 3- سورة الأعراف: 204. 4- سورة النمل: 76. 5- صحيح الترمذي: 5/663. والصواعق المحرقة: 147 و 226. وأسد الغابة: 2/12. وتفسير ابن الأثير: 4/113. وغيرها. 6- الخطبة: 196. 7- وسائل الشيعة: 1 327. |
الدرس العاشر
الدرس العاشر نعم قد يبدو من بعض النصوص انّه لا يمكن الاعتماد على ما يفهمه الإنسان من القرآن إلاّ بعد الرجوع لأئمة أهل البيت(عليهم السلام) بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)..منها: صحيحة منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): إنّ الله أجلّ وأكرم من أن يعرف بخلقه.. الى أن قال: وقلت للناس: أليس تعلمون ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان الحجة من الله على خلقه؟ قالوا: بلى، قلت: فحين مضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) من كان الحجة على خلقه؟ قالوا: القرآن، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجىء والقدري والزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجالَ بخصومته، فعرفت ان القرآن لا يكون حجة إلاّ بقيّم، فما قال فيه من شيء كان حقّاً... الى أن قال: فأشهد أنّ علياً (عليه السلام) كان قيّم القرآن، وكانت طاعته مفترضة وكان الحجة على الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وانّ ما قاله في القرآن فهو حق، فقال: "رحمك الله"(1). ومنها: رواية عبيدة السلماني... فقام عبيدة وعلقمة والأسود وأناس معهم فقالوا: يا أمير المؤمنين فما تصنع بما قد خُبِّرنا به في المصحف؟ فقال: يُسأل عن ذلك آل محمد(2). وهناك مجموعة أخرى من النصوص المماثلة. ولكن التأمّل الدقيق في مجموع الروايات الواردة في الموضوع يوضّح انّه ليس المقصود عدم الاعتماد على كل ما يفهمه الإنسان من القرآن، وإنما ذلك في نمط من الآيات وفي مستوى معيّن من الفهم فحسب، وذلك ان آيات القرآن على ثلاثة أصناف.. الصنف الأول: هي الآيات الواضحة التي يفهم معناها - ولو فهماً بسيطاً - كل من كانت لديه معرفة باللغة العربية مثل كثير من الآيات المشتملة على تمجيد الله وحمده والثناء عليه، وكذا مجموعة من الآيات الآمرة بالمعروف والداعية الى الاتصاف بالصفات والخصال الحسنة، والآيات الناهية عن المنكر وتجنّب الظلم والفواحش وذم الخصال السيئة، وكثير من الآيات غيرها. الصنف الثاني: الآيات التي يفهم معناها العلماء والمتخصصون بالمعارف والعلوم الإسلامية، وهي الآيات التي تتطلب مستوى رفيعاً لمعرفة معناها، وأحيانا آية واحدة تحمل معنى سطحياً يفهمه الناس عامّة ومعنى أعمق لا يدركه إلاّ العلماء والمتخصصون مثل بعض الآيات التي تتحدث عن التوحيد وصفات الله، وبعض المفاهيم المذكورة في القرآن مثل الحكمة، وحبط العمل، والهداية، وغير ذلك. الصنف الثالث: وهي الآيات الغامضة والتي ترمز الى معان في غاية الدقة مثل القضاء والقدر، أو تشير الى الأمور الغيبية مثل عوالم ما بعد الموت أو آيات الأحكام القابلة للنسخ والتخصيص ونحو ذلك، وآيات أخرى كثيرة متعارضة - بظاهرها - فيما بينها، وكذلك المعاني العميقة والدقيقة لكثير من الآيات. أمّا الصنف الأول من الآيات وأحياناً الفهم البسيط لبعض الآيات الاخرى فلا يحتاج فيه للرجوع الى أحد حيث يفهمه الناس بشكل عام، كما تدل على ذلك مجموعة من النصوص المتقدم بعضها. بالإضافة الى سيرة المسلمين والمؤمنين على مرِّ العصور حيث كانوا يقرؤون القرآن بتمعن وخشوع ويذكّر بعضهم بعضاً بالآيات القرآنية، ومن دون ذلك يتحول القرآن الى كتاب ألغاز ورموز ويفقد فاعليته وتأثيره بين الناس، ويفقد ميزته البلاغية المعجزة. ولعل الى هذا المعنى يشير ابن خلدون بقوله: "إنّ القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه"(3). أمّا الصنف الثاني فإنّه في متناول العلماء والمتخصصين يغترفون منه ما يمكنهم استيعابه ويفهمون معاني أعمق وأدق مما يفهمه العامّة، ولذلك أمر الله سبحانه وتعالى بالتمعن في القرآن الكريم والاستفادة القصوى منه وعدم الاكتفاء بالفهم العابر الذي يتحقق لدى كل قارئ عربي. نعم نحن نعتقد ان من جملة ما يمنح العلماءَ قدرةً على سبر أغوار القرآن، ويقرّبهم من الفهم الصحيح للآيات القرآنية هو رجوعهم إلى أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته(عليهم السلام) والأنس بمنطقهم والتثقف بعلومهم، لأنّهم قرين القرآن وعديله كما ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلّم): "إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وانّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض"(4). وأمّا الصنف الثالث فهو الصنف الذي لابد فيه من مراجعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته(عليهم السلام)، فهم المطّلعون على أسرار كتاب الله العزيز والمحيطون بحدود التشريع حيث يعتبر هذا من جملة مزاياهم التي تميّزوا بها على غيرهم، ولذلك تضمنت كثير من النصوص التي تدعو الى الرجوع للأئمة(عليهم السلام) بيان انّهم الراسخون في العلم، وانّهم العارفون بالتأويل والناسخ والمنسوخ ونحو ذلك مما يدل على أن ضرورة الرجوع إليهم إنّما هو في هذا النمط الخاص من الآيات أو في نمط خاص من الفهم الأعمق للآيات الكريمة(5) فحسب. ويؤكد ما ذكرناه من النصوص.. منها: رواية زرارة عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قال:"تفسير القرآن على سبعة أوجه، منه ما كان ومنه ما لم يكن بعد، يعرفه الأئمة(عليهم السلام) "(6). ومنها: رواية إسماعيل بن جابر عن الصادق (عليه السلام)(7).. الى أن قال: ثم سألوه (عليه السلام) عن تفسير المحكم من كتاب الله، قال: "أمّا المحكم الذي لم ينسخه شيء فقوله عزّوجل: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات﴾(8) الآية، وانّما هلك الناس في المتشابه، لأنّهم لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته فوضعوا له تأويلاً من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء ونبذوا قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وراء ظهورهم..." الحديث(9). حيث يبدو من الحديث اختصاص الأوصياء بخصوص المتشابه الذي هلك به الناس، وان الناس في ذلك فقط نبذوا قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم). ومنها: ما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في احتجاجه على زنديق سأله عن آيات متشابهات من القرآن فأجابه - الى أن قال -: "ثم إنّ الله قسّم كلامه ثلاثة أقسام: فجعل قسماً منه يعرفه العالم والجاهل، وقسماً لا يعرفه إلاّ من صفا ذهنه ولطف حسّه وصح تمييزه ممن شرح الله صدره للإسلام، وقسماً لا يعلمه إلاّ الله وملائكته والراسخون في العلم..." إلخ(10). وقد اتضح من خلال ما تقدم أن ما سوى الصنف الثالث يمكن للعالم المتخصص البصير بلغة القرآن وأحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأهل البيت(عليهم السلام) أن يفهمه من القرآن الكريم ويستنير بهداه. وأمّا الصنف الثالث فبعضه مبيّن في النصوص الواردة عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأهل البيت(عليهم السلام)، لكن يجب توخي النصوص المعتبرة التي يمكن الاعتماد عليها. ولا يكفي مجرد ورود الرواية عنهم صلوات الله عليهم. الأسئلة 1- قوله تعالى: ﴿..إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ قد يدّعى أنّه لا ينسجم مع كون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) هادياً للبشرية جمعاء بل للعرب فقط، اذكر أربعة من الشواهد على ردّ هذا الادّعاء. 2- قوله تعالى: ﴿لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ قد يُفهم منه أنّه لا يلتئم مع ادّعاء أمميّة الإسلام، وانّه مختص بأهل مكة وما حولها، اذكر خمسة من الشواهد على إبطال هذه الشبهة. 3- اذكر الأنحاء الثلاثة من الآيات أو الفهم القرآني. 4- كيف نوفق بين دعوة القرآن والسّنّة إلى التدبر في الآيات وبين النصوص التي تؤكد أن القرآن لا يفهمه الاّ النبي أو الإمام؟ 1- وسائل الشيعة: 18 129، باب: 13 من أبواب صفات القاضي. 2- وسائل الشيعة: 18 137، باب: 13 من أبواب صفات القاضي. 3- المقدمة، ج: 4 792، طبع بيروت 1956. 4- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: 3 184، وأخرجه الذهبي واعترف كلاهما بصحته على شرط الشيخين. 5- يراجع وسائل الشيعة: 18، باب 13 من أبواب صفات القاضي 129. 6- وسائل الشيعة: 18 145. 7- في مقدمة الحديث بأنّ الله بعث محمّداً... فجعله - يعني القرآن - النبي علماً باقياً في أوصيائه فتركهم الناس. 8- سورة آل عمران: 7. 9- وسائل الشيعة: 18 147. 10- وسائل الشيعة: 18 143. |
الدرس الحادي عشر (المحكم والمتشابه)
الدرس الحادي عشر (المحكم والمتشابه) تعرّض القرآن الكريم للمحكم والمتشابه من الآيات، وذكر أن هناك فارقاً هاماً بينهما حيث يحقّ للناس اتباع المحكم، بينما المتشابه لا يتبعه إلاّ المنحرفون لأجل أهدافهم المنحرفة بغية الفتنة.ومن هنا كان لزاماً علينا تمييز المحكم عن المتشابه لنكون على بصيرة في تعاملنا مع الآيات القرآنية الكريمة. المعنى اللغوي: ذكرت لمادة الإحكام عدة معان لغوية نذكر منها.. 1) الإتقان. 2) ان المحكم هو الذي لا اختلاف فيه ولا اضطراب. 3) المنع، والردّ عن الظلم، وعن الأصمعي: "أصل الحكومة ردّ الرجل عن الظلم"، قال: ومنه سمّيت حكمة اللجام لأنّها ترد الدابّة، وعن جرير: "أحكِموا سفهاءكم أي امنعوهم". كما ذُكرت لمادة المتشابه في اللغة عدة معان: 1) التشابه. قال ابن منظور: "فإنّ أهل اللغة قالوا معنى (متشابهاً) يشبه بعضه بعضاً في الجودة والحسن". 2) الالتباس بسبب قوة الشبه، قال في القاموس: تشابها واشتبها أشبه كل منهما الآخر حتى التبسا. وفي القرآن الكريم وقعا وصفين للقرآن وللآيات الكريمة في عدة آيات: 1- قوله تعالى: ﴿الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾(1). 2- قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾(2). 3- قوله تعالى: ﴿فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ﴾(3). 4- قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ﴾(4). ويتركّز البحث هنا عن الآية الرابعة ومن خلال ذلك يتضح معنى الآية الثالثة. ونشير - بايجاز - الى ما ذكره المفسّرون حول الإحكام والتشابه في الآيتين الاُوليين رغم أنّهما أجنبيتان عن بحثنا هنا. أمّا الآية الأولى فقد ذكر الشيخ الطوسي في تفسيرها أن الإحكام منعُ الفعل من الفساد، وحكي عن مجاهد أنّه قال (أُحكمت آياته) على وجه الجملة (ثمّ فُصّلت) أي تبيّنت بذكرها آية آية(5). واقتبس منه السيد الطباطبائي حيث قال: "المراد بالإحكام حال من حالات الكتاب كان عليها قبل النزول، وهي كونه واحداً لم يطرأ عليه التجزي والتبعيض بعد بتكثر الآيات، فهو اتقانه قبل وجود التبعض، فهذا الإحكام وصف لتمام الكتاب، بخلاف وصف الإحكام والإتقان الذي لبعض آياته بالنسبة الى بعض آخر - يشير(قدس سره) للآية الرابعة - من جهة امتناعها عن التشابه في المراد"(6). والذي نرجّحه - والله العالِم - أن وصف الآيات بالإحكام باعتبار مضمونها وأنه المنهج المستقيم والحقائق الثابتة المحكمة التي لا يشوبها الباطل، بعكس المناهج الجوفاء للمبادىء المنحرفة، كما في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ﴾(7). وعلى هذا التوجيه يتّضح الوجه في عطف التفصيل على الإحكام في الآية، باعتبار أن التفصيل في مرحلة بيان تلك المضامين المحكمة وهو متأخر عن طبيعة تلك المضامين. وأمّا الآية الثانية فقد قال فيها الشيخ الطوسي(قدس سره): متشابهاً في الحِكَم التي فيه من الحجج والمواعظ والأحكام التي يعمل عليها في الدين وصلاح التدبير يشبه بعضه بعضاً لا تناقض فيه(8). وقال السيد الطباطبائي(قدس سره) في تفسير التشابه في هذه الآية ب-"كون آياته ذات نسق واحد من حيث جزالة النظم واتقان الأسلوب وبيان الحقائق والحكم والهداية الى صريح الحق كما تدل عليه القيود المأخوذة في الآية، فهذا التشابه وصف لجميع الكتاب..."(9) هذا كلّه فيما يرتبط بالآيتين الأُوليين. 1- سورة هود: 1. 2- سورة الزمر: 23. 3- سورة محمد: 20. 4- سورة آل عمران: 7. 5- التبيان: 5 446. 6- الميزان: 3 20. 7- سورة ابراهيم: 24 - 26. 8- التبيان: 9 21. 9- الميزان: 3 21. |
الدرس الثاني عشر
الدرس الثاني عشروأمّا الآية الرابعة - وهي المقصودة بالبحث هنا - فقد اختلف المفسّرون في تفسير الإحكام والتشابه الواردين فيها اختلافاً شاسعاً. كما اختلفوا في سبب نزولها فقيل: أنّه عنى به وفد نجران لمّا حاججوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في أمر عيسى (عليه السلام) وسألوه فقالوا: أليس هو كلمة الله وروحاً منه، فقال: بلى، فقالوا: حسبنا، فأنزل الله ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ﴾ إلخ. وقيل: هم اليهود طلبوا علم أُكُل هذه الأمّة أي مقدار رزقها وحظها من الدنيا. وقيل هم المنافقون(1). وقيل غير ذلك... ونشير هنا الى أهم الآراء في تفسير الإحكام والتشابه فى هذه الآية: 1) إنّ المحكم هو المبين، والمتشابه هو المجمل. 2) انّ المحكم من القرآن الآيات الناسخة، والمتشابه الآيات المنسوخة. 3) إنّ المحكم ما يكون هناك دليل على معناه سواء كان ذلك الدليل واضحاً أم خفياً، والمتشابه ما لا يكون هناك دليل عليه يمكن الرجوع إليه ليدل عليه، مثل وقت قيام الساعة. ونسب الزرقاني هذا الرأي لمن سمّاهم أهل السنّة(2). 4) انّ المحكم ما يراد منه ظاهره، والمتشابه ما يراد منه خلاف ظاهره. 5) إنّ المراد بالمتشابه كون الآية بحيث لا يتعين مرادها لفهم السامع بمجرد استماعها، بل يتردد بين معنى ومعنى حتى يرجع الى محكمات الكتاب فتُعيّن هي معناها وتبيّنها بياناً، فتصير الآية المتشابهة عند ذلك محكمة بواسطة الآية المحكمة، والآية المحكمة محكمة بنفسها. وهذا الرأي اختاره السيد الطباطبائي، وذكر(قدس سره) ان سبب وصف المحكمات بأنّها أم الكتاب - والأم بحسب أصل معناه ما يرجع إليه الشيء - ليس إلاّ أنّ الآيات المتشابهة ترجع إليها. فالبعض من الكتاب - وهي المتشابهة - ترجع الى بعض آخر - وهي المحكمات - قال: "ومن هنا يظهر أنّ الإضافة في قوله: أم الكتاب ليست لامية كقولنا: أم الأطفال، بل هي بمعنى (من) كقولنا: نساء القوم، وقدماء الفقهاء ونحو ذلك، فالكتاب يشتمل على آيات هي أم آيات أخر، وفي إفراد كلمة الأم من غير جمع دلالة على كون المحكمات غير مختلفة في أنفسها، بل هي متفقة مؤتلفة"(3). ونحن عندما نتمعّن في الآية الكريمة نلاحظ ما يلي: 1- إنّها قسّمت الآيات الى قسمين، ويبدو منها أن القسمين متباينان وغير متداخلين، فلكل منهما وصف خاص وأتباع معيّنون، حيث انّ المحكمات أمّ الكتاب، بينما المتشابهات ليست كذلك، كما أنّها تتميز ثانياً بأنّ تأويلها مختص بالله تعالى أو بما يشمل الراسخين في العلم. وثالثاً أن أتباعها الذين في قلوبهم زيغ، بخلاف المحكمات. 2- وصف المحكمات بأنّها أم الكتاب، قال الرازي في توجيه ذلك: الأُم في حقيقة اللغة الأصل الذي يكون منه الشيء، فلما كانت المحكمات مفهومة بذواتها، والمتشابهات انّما تصير مفهومة بإعانة المحكمات، لاجرم صارت المحكمات كالأُم للمتشابهات(4). وعلى هذا - الذي بنى عليه كثير من العلماء - تكون الآيات المحكمات مرجعاً لفهم الآيات المتشابهة، وأنّها ليست أجنبية عنها. 3- ان الآية الكريمة فرضت إمكانية اتباع الآيات المتشابهة، ومعنى هذا ان الآيات المتشابهة ليست بالضرورة تكون مبهمة يمتنع اتباعها، كالحروف المقطعة ونحوها - على فرض ابهامها المطلق - بل ربّما يُفهم من الآية ان هناك ظهوراً للآيات المتشابهة في معنى ما، وأنّها ليست موجبة للحيرة المطلقة والإبهام وإلاّ لم يصلح ولم يصدق الاتباع لها. 4- يبدو من الآية الكريمة ان أتباع المتشابه هم أهل الزيغ والمنحرفون، ولا يشمل كل من أخطأ في فهم القرآن، بل ربّما يفهم منها ان هدف المنحرفين من اتّباع المتشابه هو الفتنة من خلال التفسير الكيفي الموافق لأهوائهم. ومن مجموع هذه الملاحظات وبعض الشواهد الأخرى يمكن أن نفهم المقصود من المحكم والمتشابه في الآية الكريمة... بأنّ هناك مجموعة من الآيات تنافي بظاهرها بعض المفاهيم أو الأحكام الإسلامية التي دلّت عليها الشواهد والأدلة المعتبرة - سواء كان القرآن الكريم نفسه أم السنّة أم حكم العقل اليقيني - فتوجب وقوع الإنسان في الالتباس وسوء الفهم - كما تدل عليه لفظة المتشابه -، مما يفتح المجال للمنحرفين كي يبثوا سمومهم ويثيروا الشبهات حول القرآن الكريم أو الإسلام أو بعض التعاليم الصحيحة، وهذه هي الآيات المتشابهة التي أمر الله سبحانه المسلمين أن يتعاملوا معها بتعقل ورويّة، فلا هم ينزلقون في منزلق المنحرفين ولا هم يرفضون انتسابها للقرآن مثلاً، بل يؤمنون بها إجمالاً موكلين تحديد معانيها التفصيلية لله سبحانه ولو من خلال من خصّهم بتعليمها. ورغم وجود هذه المجموعة من الآيات فإنّه لا يؤثر على دور القرآن الرئيسي وأهميّته باعتباره كتاب هداية ومناراً، لأنّ المحكمات من الآيات متكفلة للقيام بهذا الدور ووافية به، وكأنّ التعبير بأمّ الكتاب يشير الى ذلك. والله سبحانه العالم. وعندما نرجع الى السنّة نجد مجموعة من النصوص تشير الى المحكم والمتشابه بما ينسجم مع هذا المعنى، منها: 1- ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم): "وإنّ القرآن لم ينزل ليكذّب بعضه بعضاً، ولكن نزل يصدّق بعضه بعضاً، فما عرفتم فاعملوا به، وما تشابه عليكم فآمنوا به"(5). 2- وعن الإمام الصادق (عليه السلام): "المحكم ما يعمل به والمتشابه ما اشتبه على جاهله"(6). 3- وعن الإمام الرضا (عليه السلام): "من ردّ متشابه القرآن الى محكمه هُدي الى صراط مستقيم - ثم قال - إنّ في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن فردّوا متشابهها الى محكمها ولا تتبعوا متشابهها فتضلوا"(7). وقد يتساءل المرء عن الحكمة من وجود المتشابه في القرآن، وللاجابة على ذلك نشير الى أمرين قد تكمن فيهما حكمة وجود المتشابه: الأول: تأكيد حالة التعبّد والخضوع العملي لله تعالى، لأن الحياة مليئة بالفتن والاختبارات المتنوّعة، كما شاء الله لها ذلك ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾(8) وما لم تتأكد قضية التعبّد في نفس المؤمن يضعف ارتباطه الروحي بالله تعالى ولا يلبث أن يزيغ متأثراً بالمنحرفين من أصحاب المواهب القادرين على التأثير في مستمعيهم وأتباعهم. الثاني: توجيه المسلم الى التمسّك بالمنهج الإلهي للطاعة، والحجج الذين اختارهم الله تعالى ليكونوا سبلاً الى هدايته، بدلاً من التخبّط يميناً وشمالاً تبعاً لاحتمالات واستحسانات تفتقر الى الحجة والبرهان، كما يحدث ذلك بتأثير الغرور النفسي الذي يصدّ الانسان عن الاعتراف بالجهل والعجز. والله العالم. 1- يراجع مجمع البيان:2 701. 2- يراجع مناهل العرفان: 2 291. 3- راجع الميزان: 3 20. 4- تفسير الرازي: 7 173. 5- الدر المنثور: 2 8. 6- تفسير العياشي: 1 162. 7- عيون أخبار الرضا: 1 290. 8- سورة العنكبوت: 1 - 2. المكتبة المقروءة » علوم القرآن » دروس منهجية في علوم القرآن • الدرس الثاني عشر - عدد القراءات: 227 - نشر في: 12-مايو-2007م الدرس الثاني عشر وأمّا الآية الرابعة - وهي المقصودة بالبحث هنا - فقد اختلف المفسّرون في تفسير الإحكام والتشابه الواردين فيها اختلافاً شاسعاً. كما اختلفوا في سبب نزولها فقيل: أنّه عنى به وفد نجران لمّا حاججوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في أمر عيسى (عليه السلام) وسألوه فقالوا: أليس هو كلمة الله وروحاً منه، فقال: بلى، فقالوا: حسبنا، فأنزل الله ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ﴾ إلخ. وقيل: هم اليهود طلبوا علم أُكُل هذه الأمّة أي مقدار رزقها وحظها من الدنيا. وقيل هم المنافقون(1). وقيل غير ذلك... ونشير هنا الى أهم الآراء في تفسير الإحكام والتشابه فى هذه الآية: 1) إنّ المحكم هو المبين، والمتشابه هو المجمل. 2) انّ المحكم من القرآن الآيات الناسخة، والمتشابه الآيات المنسوخة. 3) إنّ المحكم ما يكون هناك دليل على معناه سواء كان ذلك الدليل واضحاً أم خفياً، والمتشابه ما لا يكون هناك دليل عليه يمكن الرجوع إليه ليدل عليه، مثل وقت قيام الساعة. ونسب الزرقاني هذا الرأي لمن سمّاهم أهل السنّة(2). 4) انّ المحكم ما يراد منه ظاهره، والمتشابه ما يراد منه خلاف ظاهره. 5) إنّ المراد بالمتشابه كون الآية بحيث لا يتعين مرادها لفهم السامع بمجرد استماعها، بل يتردد بين معنى ومعنى حتى يرجع الى محكمات الكتاب فتُعيّن هي معناها وتبيّنها بياناً، فتصير الآية المتشابهة عند ذلك محكمة بواسطة الآية المحكمة، والآية المحكمة محكمة بنفسها. وهذا الرأي اختاره السيد الطباطبائي، وذكر(قدس سره) ان سبب وصف المحكمات بأنّها أم الكتاب - والأم بحسب أصل معناه ما يرجع إليه الشيء - ليس إلاّ أنّ الآيات المتشابهة ترجع إليها. فالبعض من الكتاب - وهي المتشابهة - ترجع الى بعض آخر - وهي المحكمات - قال: "ومن هنا يظهر أنّ الإضافة في قوله: أم الكتاب ليست لامية كقولنا: أم الأطفال، بل هي بمعنى (من) كقولنا: نساء القوم، وقدماء الفقهاء ونحو ذلك، فالكتاب يشتمل على آيات هي أم آيات أخر، وفي إفراد كلمة الأم من غير جمع دلالة على كون المحكمات غير مختلفة في أنفسها، بل هي متفقة مؤتلفة"(3). ونحن عندما نتمعّن في الآية الكريمة نلاحظ ما يلي: 1- إنّها قسّمت الآيات الى قسمين، ويبدو منها أن القسمين متباينان وغير متداخلين، فلكل منهما وصف خاص وأتباع معيّنون، حيث انّ المحكمات أمّ الكتاب، بينما المتشابهات ليست كذلك، كما أنّها تتميز ثانياً بأنّ تأويلها مختص بالله تعالى أو بما يشمل الراسخين في العلم. وثالثاً أن أتباعها الذين في قلوبهم زيغ، بخلاف المحكمات. 2- وصف المحكمات بأنّها أم الكتاب، قال الرازي في توجيه ذلك: الأُم في حقيقة اللغة الأصل الذي يكون منه الشيء، فلما كانت المحكمات مفهومة بذواتها، والمتشابهات انّما تصير مفهومة بإعانة المحكمات، لاجرم صارت المحكمات كالأُم للمتشابهات(4). وعلى هذا - الذي بنى عليه كثير من العلماء - تكون الآيات المحكمات مرجعاً لفهم الآيات المتشابهة، وأنّها ليست أجنبية عنها. 3- ان الآية الكريمة فرضت إمكانية اتباع الآيات المتشابهة، ومعنى هذا ان الآيات المتشابهة ليست بالضرورة تكون مبهمة يمتنع اتباعها، كالحروف المقطعة ونحوها - على فرض ابهامها المطلق - بل ربّما يُفهم من الآية ان هناك ظهوراً للآيات المتشابهة في معنى ما، وأنّها ليست موجبة للحيرة المطلقة والإبهام وإلاّ لم يصلح ولم يصدق الاتباع لها. 4- يبدو من الآية الكريمة ان أتباع المتشابه هم أهل الزيغ والمنحرفون، ولا يشمل كل من أخطأ في فهم القرآن، بل ربّما يفهم منها ان هدف المنحرفين من اتّباع المتشابه هو الفتنة من خلال التفسير الكيفي الموافق لأهوائهم. ومن مجموع هذه الملاحظات وبعض الشواهد الأخرى يمكن أن نفهم المقصود من المحكم والمتشابه في الآية الكريمة... بأنّ هناك مجموعة من الآيات تنافي بظاهرها بعض المفاهيم أو الأحكام الإسلامية التي دلّت عليها الشواهد والأدلة المعتبرة - سواء كان القرآن الكريم نفسه أم السنّة أم حكم العقل اليقيني - فتوجب وقوع الإنسان في الالتباس وسوء الفهم - كما تدل عليه لفظة المتشابه -، مما يفتح المجال للمنحرفين كي يبثوا سمومهم ويثيروا الشبهات حول القرآن الكريم أو الإسلام أو بعض التعاليم الصحيحة، وهذه هي الآيات المتشابهة التي أمر الله سبحانه المسلمين أن يتعاملوا معها بتعقل ورويّة، فلا هم ينزلقون في منزلق المنحرفين ولا هم يرفضون انتسابها للقرآن مثلاً، بل يؤمنون بها إجمالاً موكلين تحديد معانيها التفصيلية لله سبحانه ولو من خلال من خصّهم بتعليمها. ورغم وجود هذه المجموعة من الآيات فإنّه لا يؤثر على دور القرآن الرئيسي وأهميّته باعتباره كتاب هداية ومناراً، لأنّ المحكمات من الآيات متكفلة للقيام بهذا الدور ووافية به، وكأنّ التعبير بأمّ الكتاب يشير الى ذلك. والله سبحانه العالم. وعندما نرجع الى السنّة نجد مجموعة من النصوص تشير الى المحكم والمتشابه بما ينسجم مع هذا المعنى، منها: 1- ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم): "وإنّ القرآن لم ينزل ليكذّب بعضه بعضاً، ولكن نزل يصدّق بعضه بعضاً، فما عرفتم فاعملوا به، وما تشابه عليكم فآمنوا به"(5). 2- وعن الإمام الصادق (عليه السلام): "المحكم ما يعمل به والمتشابه ما اشتبه على جاهله"(6). 3- وعن الإمام الرضا (عليه السلام): "من ردّ متشابه القرآن الى محكمه هُدي الى صراط مستقيم - ثم قال - إنّ في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن فردّوا متشابهها الى محكمها ولا تتبعوا متشابهها فتضلوا"(7). وقد يتساءل المرء عن الحكمة من وجود المتشابه في القرآن، وللاجابة على ذلك نشير الى أمرين قد تكمن فيهما حكمة وجود المتشابه: الأول: تأكيد حالة التعبّد والخضوع العملي لله تعالى، لأن الحياة مليئة بالفتن والاختبارات المتنوّعة، كما شاء الله لها ذلك ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾(8) وما لم تتأكد قضية التعبّد في نفس المؤمن يضعف ارتباطه الروحي بالله تعالى ولا يلبث أن يزيغ متأثراً بالمنحرفين من أصحاب المواهب القادرين على التأثير في مستمعيهم وأتباعهم. الثاني: توجيه المسلم الى التمسّك بالمنهج الإلهي للطاعة، والحجج الذين اختارهم الله تعالى ليكونوا سبلاً الى هدايته، بدلاً من التخبّط يميناً وشمالاً تبعاً لاحتمالات واستحسانات تفتقر الى الحجة والبرهان، كما يحدث ذلك بتأثير الغرور النفسي الذي يصدّ الانسان عن الاعتراف بالجهل والعجز. والله العالم. 1- يراجع مجمع البيان:2 701. 2- يراجع مناهل العرفان: 2 291. 3- راجع الميزان: 3 20. 4- تفسير الرازي: 7 173. 5- الدر المنثور: 2 8. 6- تفسير العياشي: 1 162. 7- عيون أخبار الرضا: 1 290. 8- سورة العنكبوت: 1 - 2. |
بوركت أياديكم أخي الكريم
جعل الله القرآن شفيعكم بمحمدٍ وآله تم دمج المواضيع في موضوع واحد وهذا لتسهل المتابعة من الأعضاء وايضاً لايمكن نشر اكثر من موضوعين في اليوم ودي وتقديري |
شكرا اختي تحياتي لكي
|
الدرس الثالث عشر (النسخ في القرآن)
الدرس الثالث عشر (النسخ في القرآن) النسخ في اللغة يستعمل في عدة معان، منها..1) الإزالة(1)، مثل: ﴿فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾(2). 2) نقل الشيء وتحويله مع بقائه، فعن السجستاني: النسخ ان تحوّل ما في الخلية من العسل و النحل في أخرى(3). وأما في الاصطلاح فـ "هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدسة بارتفاع أمده وزمانه، سواء أكان ذلك الأمر المرتفع من الأحكام التكليفية أم الوضعية، وسواء أكان من المناصب الإلهية أم غيرها من الامور التي ترجع الى الله تعالى بما أنه شارع"(4). ومن خلال هذا التعريف يتضح أن النسخ في القرآن بل في الشريعة بشكل عام لا يستند الى انكشاف أمر مجهول لله سبحانه وتعالى، بل يرجع الى مجرد نقض دلالة الدليل السابق أو ظهور حالة في الدوام. وهذا نظير معنى البداء الذي ورد في العديد من النصوص حيث لا يراد منه أنّه ينكشف لله تعالى وجه الصلاح والفساد في الشيء، لأنّ الله سبحانه عالم بالخفيات وبحقائق الأمور كلّها ولا تخفى عليه خافية، بل المراد به "ظهور أمر أو أجل كان محتماً عنده تعالى من الأزل وخافياً على الناس ثم بدا لهم أي ظهرت لهم الحقيقة"(5). والفرق بين النسخ والبداء المذكور هو ان النسخ يكون في الأحكام أو في آيات القرآن، بينما البداء في التكوينيات أو غيرها من الأمور الاعتبارية غير الفقهية. والفرق بين النسخ والتخصيص: ان النسخ تخصيص أزماني، والثاني تخصيص أفرادي. وعلى كل حال فقد أكدت المصادر الإسلامية، ومنها القرآن الكريم نفسه تحقق النسخ في القرآن قال تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(6). هذا، وقد ذكروا للنسخ في القرآن ثلاثة أقسام.. الأول: نسخ الحكم والتلاوة بمعنى أن تنزل آية بمضمون ينافي مضمون آية أخرى فتحذف الآية الأولى وينتهي أمد مضمونها. وقد أثبت كثير من أبناء العامة أو أكثرهم هذا القسم معتمدين على أحاديث تضمنتها كتبهم المعتمدة.. منها: ما أسندوا الى عائشة أنّها قالت: "كان فيما أُنزل من القرآن "عشر رضعات معلومات يحرّمن" ثم نسخن "بخمس معلومات" قالت: وتوفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وهن فيما يقرأ من القرآن"(7). ونلاحظ ان مضمون هذه الرواية - الصحيحة عندهم - غريب جداً، حيث يفترض بقاء الآية المزعومة الى ما بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) فنتسائل: انّها كيف اختفت؟ ومن أخفاها بعده(8)؟ وقد ادّعى الزرقاني إجماع القائلين بالنسخ على وقوع هذا القسم، ويقصد بهم خصوص (أهل السنّة). متجاهلاً تماماً آراء العلماء من شيعة أهل البيت(عليهم السلام) حيث أنكروا هذا النوع من النسخ، ووافقهم في ذلك بعض العامة كالسرخسي والجزيري(9). 1- مجمع البحرين: 2 302. 2- سورة الحج: 52. 3- معجم مقاييس اللغة: 5 425. 4- البيان في تفسير القرآن: 296. 5- تلخيص التمهيد: 1 414. ولمزيد من الإطلاع حول البداء يراجع البيان في تفسير القرآن من صفحة 407. 6- سورة البقرة: 106. 7- صحيح مسلم بشرح النووي: 10 29. وقد حكي عن السرخسي ان الشافعي صحح الحديث المذكور. وقد حاول النووي توجيهه بأن بعض الناس كانوا يقرؤونها جهلاً بالنسخ. 8- ما أدري كم كان حجم التهم على شيعة آل البيت(عليهم السلام)، لو كانت أمثال هذه الرواية في مصادرهم حتى إذا لم تكن ذات قيمة علمية! 9- يراجع اصول السرخسي:2 78. والفقه على المذاهب الأربعة: 3 25 |
الدرس الرابع عشر الثاني: نسخ التلاوة دون الحكمبمعنى أن ترفع تلاوة آية من القرآن الكريم سواء لم تكن من آيات التشريع أم كانت، لكن حكمها يبقى غير منسوخ. وقد التزم بوقوع هذا القسم عدد كبير أو العدد الأكبر من علماء العامّة حتى السرخسي وابن حزم. واعتبروا من ضمنها ما ورد من النصوص التي تضمنتها كتبهم المعتبرة.. منها: ما صحّت روايته عندهم عن عمر بن الخطاب انّه قال: كان فيما أُنزل من القرآن (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة)(1). وفي لفظ أبي داوود: ".. وأيم الله لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله عزّ وجلّ لكتبتها"، ونظير ذلك فى موطأ مالك. ومنها: ما رووه عن أبي موسى الأشعري من قوله: ".. وإنا كنّا نقرأ سورة كنّا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فاُنسيتُها غير أني قد حفظتُ منها "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً* ولايملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب" وكنّا نقرأ سورة كنّا نشبهها باحدى المسبحات فاُنسيتُها غير أني حفظتُ منها "يا أيّها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون فتُكتَبُ شهادةً في أعناقكم فتُسألون عنها يوم القيام"(2). وكذلك رواية اُبي بن كعب: "أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال له: إن الله أمرني أن أقرأ عليك، فقرأ عليه (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب) فقرأ فيها: إن ذات الدين عند الله الحنيفية المسلمة لا اليهودية ولا النصرانية. من يعمل خيراً فلن يكفره. وقرأ عليه "ولو أن لابن آدم وادياً من مال لابتغى إليه ثانياً، ولو كان له ثانياً لابتغى إليه ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب، ويتوب الله على من تاب"(3). ومنها: ما رووا أن أبابكر كان يقرأ (لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم) وروى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب انّه قال: ثم إنّا كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله (أن لا ترغبوا عن آبائكم) أو (انّ كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم)(4). ومنها: ما رووا أن أنس بن مالك كان يقول: قرأنا في القرآن (بلّغوا عنّا قومنا انّا لقينا ربّنا فرضي عنا وأرضانا)(5). ومنها: ما رووه عن عبدالله بن عمر: لا يقولن أحدكم أخذت القرآن كله، ما يدريه ما كله؟ قد ذهب منه قرآن كثير ولكن ليقل: قد أخذت منه ما ظهر(6). هذا وقد رووا عن عائشة قولها: قد نزلت آية الرجم والرضاعة، فكانتا في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) تشاغلنا بموته فدخل داجن فأكلها(7). وقد رووا روايات أخرى كثيرة تؤكد الحذف والزيادة بالنسبة للقرآن الذي كان في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) ولكنّهم سمّوه نسخاً لا تحريفاً! وقد رفض علماء الشيعة - كما سنلاحظ - هذين النوعين، فعن الشيخ المفيد "والنسخ عندي في القرآن انّما هو نسخ متضمَّنِه من الأحكام، وليس هو رفع أعيان المُنزل منه، كما ذهب إليه كثير من أهل الخلاف... وهذا مذهب الشيعة وجماعة من أصحاب الحديث وأكثر المحكِّمة والزيدية، ويخالف فيه المعتزلة وجماعة من المجبِّرة، ويزعمون أن النسخ قد وقع في أعيان الآي كما وقع في القرآن"(8). الثالث: نسخ الحكم دون التلاوة وهذا هو المعروف بين العلماء والمفسرين قيل: "واتفق الجميع على جوازه امكاناً وعلى تحققه بالفعل أيضاً"(9). وقد شهد القرآن الكريم نفسه بوقوع هذا القسم. كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾(10). حيث لم يعمل بها سوى الإمام علي (عليه السلام) - كما روى أصحاب الحديث في قضية معروفة - فنسخت بآية أخرى بعدها ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(11). وفي هذا القسم تبقى الآية ثابتة في القرآن، لكن حكمها أو مفادها ينسخ ولا يستمر. والقسم الثالث من النسخ - وربّما يعم الحديث غيره عند من لا يخصّص النسخ بهذا القسم - أربع صور: 1- أن ينسخ مفاد آية بمفاد آية أخرى لاحقة في نزولها، بحيث تكون الآية الثانية ناظرة للأولى، كآية الصدقة عند مناجاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وهذه الصورة لاشك في وقوعها، كما شهد به القرآن الكريم نفسه. 2- أن ينسخ مفاد آية بمفاد آية أخرى لاحقة، من دون أن تكون الآية اللاحقة ناظرة للسابقة، بل من خلال المنافاة بينهما يحكم بالنسخ، وقد اختلف العلماء في هذا القسم، ويبدو من السيد الخوئي(قدس سره) انكاره، لأنّه لا دليل على كون الآية اللاحقة ناسخة للآية السابقة، فربّما يكون فهم التنافي بينهما نتيجة عدم التدبر في معنى الآيتين. 3- أن ينسخ مفاد الآية بسنّة قطعية لاشك فيها، ومثّلوا له بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(12). فإنّها بظاهرها لا تتنافى مع آية العدة والمواريث إلاّ انّ السنّة المتضافرة وإجماع المسلمين أثبتا نسخها بآيات العدة والمواريث. وقد أنكر بعض العلماء المعاصرين هذا القسم من النسخ(13). 4- نسخ السنّة بالقرآن ومثلوا له بقوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ﴾(14). الناسخة للحكم السابق بالتوجه إلى بيت المقدس الذي كان ثابتاً بالسنّة. ومنها: تجويز إتيان النساء في ليالي شهر رمضان، فقد روي انّه كان محرماً على المسلمين بمقتضى السنّة ثم نسخ بقوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ...﴾(15). 1- الجامع الصحيح: 4 258. وكذا أبو داوود في الحدود: 3 145، وابن ماجه في الحدود: 3/232، ومالك في الحدود: 548، وأحمد بن حنبل في مسنده: 5 183. 2- صحيح مسلم بشرح النووي: 7 140. 3- سنن الترمذي باب المناقب: 5 666 وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقد روي من غير هذا الوجه. 4- الجامع الصحيح: 4 258. وصحيح مسلم: 4 167، و 5 116. 5- يراجع أصول السرخسي: 2 78، والفقه على المذاهب الأربعة: 3 257. 6- الإتقان: 3 72. |
الدرس الخامس عشر (شبهات حول النسخ) أثيرت عدة شبهات حول النسخ، منها..1- انّه لو جاز على الله أن ينسخ حكماً لكان امّا لحكمة ظهرت له كانت خافية عليه أو لغير حكمة، وكلاهما محال، لأنّ لازم الأول نسبة الجهل له ولازم الثاني نسبة العبث إليه تعالى. الجواب: إنّ النسخ يرجع الى مقام الدلالة على الحكم، بمعنى انّ الله سبحانه عالم من أول الأمر أن أمد مصلحة الحكم محدودة بفترة معينة، لكن المصلحة لم تسمح بذكر هذا التحديد من أول الأمر فشُرّع الحكم الأول دائماً بظاهر دليله، ولذا قال الأصوليون انّ النسخ تخصيص أزماني، فالحكم الناسخ يكشف ان تحديد الحكم الأول بهذا الزمان كان مقصوداً لله سبحانه من أول الأمر. 2- ان الآية الناسخة منافية للآية المنسوخة فوقوع النسخ يناقض مفاد الآية الكريمة: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾(1﴾. الجواب: ان الآية الناسخة حيث كانت تكشف عن انتهاء أمد حكم الآية الأولى فلا تكون منافية ومناقضة للأولى، بل هي قرينة على معناها الواقعي وموافقة لها، أو قرينة على أمد وفترة فاعلية الآية الأولى، فلا تكون مناقضة لها. الجري والانطباق من الأمور المهمة في القرآن الكريم أنّ مضمونه لا يختص بزمان دون زمان، ولا تختص آياته بأسباب النزول بل تجري باستمرار الزمان وتنطبق على كل الأجيال. روى العياشي عن عبد الرحيم القصير قال: كنتُ يوماً من الأيام عند أبي جعفر (عليه السلام) فقال: يا عبد الرحيم قلت: لبيك: قال: قول الله ﴿إنما أنت منذر ولكلّ قوم هاد﴾ إذ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): أنا المنذر وعلي الهاد ومَن الهاد اليوم؟ قال: فسكتّ طويلاً، ثم رفعتُ رأسي فقلتُ: جعلتُ فداك هي فيكم توارثونها رجل فرجل حتى انتهت إليك، فأنتَ - جعلت فداك - الهاد. قال: صدقتَ يا عبد الرحيم،إنّ القرآن حي لا يموت والآية حية لا تموت، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام ماتوا فمات القرآن، ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين. وقال عبد الرحيم: قال ابو عبد الله (عليه السلام): إنّ القرآن حيّ لم يمت، وإنه يجري كما يجري الليل والنهار، وكما تجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا(2). وفي الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) انّه قال لعمر بن يزيد لمّا سأله عن قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾(3﴾، "هذه نزلت في رحم آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقد تكون في قرابتك ثمّ قال: فلا تكونن ممن يقول للشيء: انّه في شيء واحد"(4). وفي تفسير فرات: "ولو ان الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء، ولكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السماوات والأرض ولكل قوم آية يتلوها هم منها من خير أو شر"(5). وهناك العديد من النصوص الأخرى التي تشير الى ذلك، ولكن لابد أن نشير الى أن هذه النصوص لا تعني عدم نزول بعض الآيات في شخص أو فئة خاصة، لتميزهم عن غيرهم ببعض المميزات مثل قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾(6)، وغير ذلك من الآيات الكريمة. ويفترض في المفسّر والباحث أن يكون دقيقاً في فهم الآيات والنصوص المفسّرة لها، فيميّز بين المعنى المقصود من الآية وبين التطبيقات التي تشير إليها بعض النصوص التفسيرية، فالأول لا يمكن التصرف فيه وتطبيقه على غيره، بينما الثاني مجرّد فرد ومصداق - مهما كان بارزاً ومتميزاً - لا تقتصر عليه الآية المفترضة. والله العالم. الأسئلة 1 - ما هو الوجه في وصف المحكمات بأنها اُمّ الكتاب؟ 2 - ما معنى المحكم والمتشابه في قوله تعالى: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾(7﴾؟ 3 - ما هي أقسام النسخ المدعى في القرآن الكريم، وما هو القسم الذي التزمه شيعة آل البيت(عليهم السلام)؟ 4 - اذكر الصور الأربع للقسم الثالث من النسخ. 5 - اذكر شبهة حول النسخ والجواب عنها. 1- سورة النساء: 82. 2- تفسير العياشي: 2 218 - 219. 3- سورة الرعد: 21. 4- الكافي: 2 156. 5- يراجع البيان: 31. 6- سورة الأحزاب: 21. 7- سورة آل عمران: 7. |
الدرس السادس عشر (الوحي) الوحي من الأمور التي دار حولها الجدل بين الباحثين، والبحث فيه متعدد الجوانب فيبحث مرةً في حقيقة الوحي وواقعه، وأخرى في أصل وجوده والأدلة على ذلك. وثالثة في أقسامه... الى غير ذلك..وسوف نتناول الموضوع ضمن نقاط: 1 - الوحي في اللغة اختلف علماء اللغة بين من اعتبر فيه الخفاء والسرعة، ومنهم من اعتبر واحداً منهما فحسب. قال الراغب: (أصل الوحي الإشارة السريعة، ولتضمّن السرعة، قيل: أمر وحيّ أي سريع، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وبإشارة بعض الجوارح وبالكتابة)(1). وقال أبو اسحاق: (أصل الوحي في اللغة كلها، إعلام في خفاء، ولذلك سمي الإلهام وحياً)(2). 2 - الوحي في القرآن عند مراجعة القرآن الكريم نلاحظ انّ الوحي قد استخدم في موارد عديدة، منها.. 1 - إيجاد الداعي في نفس الموحى إليه من دون أن ينتبه الشخص لمصدر الوحي، سواء كان من الله تعالى مثل قوله عزَّ وجلّ: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾(3﴾. أم من الشياطين كما في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾(4﴾. 2 - الإلهام الغريزي، فيكون أثره فِعْل ما تمليه الغريزة قال تعالى: ﴿وأوحى ربّك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون﴾(5﴾. ويمكن إدراج هذين المعنيين تحت عنوان واحد هو الشعور الباطني، والفرق الوحيد بينهما انّ الشعور الثاني من مقتضيات الفطرة الغريزية التي خُلق عليها الشخص بخلاف الشعور في المورد الأول. 3 - الخَلْق، قاله بعضهم في تفسير قوله تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا﴾(6﴾. بينما فسّره بعضهم بالوحي الى أهل السماء أي الملائكة. 4 - الإسرار، حكي في لسان العرب عن الأنباري في تفسير قوله تعالى: (يوحي بعضهم الى بعض زخرف القول غروراً). "معناه يُسّر بعضهم الى بعض، فهذا أصل الحرف ثمُ قُصِر الوحي للإلهام"(7). 5 - الإيماء، وقد فسّرت به الآية الكريمة المتحدّثة عن زكريّا ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾(8﴾. حيث أ نّ زكريّا (عليه السلام) لم ينطق ولم يتحدّث معهم، بل أشار إليهم وأومأ إليهم فعرفوا ما يريد. 6 - الإلهام مع شعور الشخص الملهَم بذلك سواء كان مصدر الإلهام هو الله تعالى، كما يلهِم سبحانه رسله مباشرةً بتعاليمه وإرشاداته وأحكامه أحياناً، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً﴾(9﴾، أم غيره مثل جبرئيل كما في قوله تعالى: ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾(10﴾ فإنّ مصدر الوحي في قوله (فيوحي) هو الرسول مثل ما يوحي جبرئيل للنبي. ويمكن أن يندرج تحت هذا النحو من الوحي كل الموارد التي استخدم فيها الوحي منسوباً للقرآن الكريم مثل ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ﴾(11﴾ فقد كان وحي القرآن عن طريق جبرئيل (عليه السلام) كما تدلّ عليه الآية الكريمة ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾(12﴾. حيث فُسّر الرّوح الأمين بجبرئيل (عليه السلام). والله العالم. 7 - مطلق التبليغ من الله تعالى للأنبياء ونحوهم الشامل للوحي بكل الأنحاء المختلفة، وذلك كما في الآيات التي تتحدّث عن الوحي للرّسل بشكل مطلق، مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم﴾(13﴾. حيث لا تتحدث الآية الكريمة عن أسلوب معيّن من الوحي بل الوحي فيها بمعنى عام ينطبق عليها كلّها. 1- المفردات: 515. وقد ذكر بعض اللغويين معاني اخرى للوحي لا يهمنا البحث فيها. 2- لسان العرب: 15 381. 3- سورة القصص: 7. 4- سورة الأنعام: 121. 5- سورة النحل: 68. 6- سورة فصلت: 12. 7- لسان العرب: 5 380، مادة وحي. 8- سورة مريم: 11. 9- سورة الشورى: 51. 10- سورة الشورى: 51. 11- سورة يوسف: 3. 12- سورة الشعراء: 193 - 194. 13- سورة النحل: 43. |
الدرس السابع عشر 3 - دور الوحي في مصير الإنسان تتضح مدى أهمية الوحي ودوره في حياة ومصير الإنسان بملاحظة نقطتين: النقطة الأولى: الإنسان اجتماعي بطبيعته من الواضح انّ الإنسان اجتماعي لا يروم بل لا يمكنه العيش وحيداً من دون انضمام للمجتمع. هنا يطرح تساؤل عن منشأ كون الإنسان اجتماعياً؟ يرى بعض الباحثين انّ الدافع الاجتماعي لدى الانسان ليس فطرياً بل فرضته عليه الضرورة والمصلحة الذاتية، ويفسّر هؤلاء تكوّن المجتمعات بأنّ الانسان يفكر في مصالحه الذاتية ويحاول استثمار كلّ شيء في سبيل تحقيق رغباته ومصالحه، وعندما أدرك أنّه لا يمكنه بمفرده توفير ذلك لنفسه وانّ تحقيق بعض هذه الرغبات والمصالح بل كثير منها مرهون بجهود الآخرين التي لا يمكن ضمانها إلاّ بالتعاون والتعايش معهم اضطرّ الى التعايش ولذلك تكوّنت المجتمعات. ويستشهد أصحاب هذا الرأي على ذلك بأنّ الإنسان حيث كان همّه هو تحقيق رغباته لذلك فهو لا يتوانى عن الاعتداء على الآخرين وتسخيرهم والتجاوز على حقوقهم في سبيل ذلك، وانّه لا يحفظ حقوق الآخرين إلاّ عندما يعجز عن حفظ حقوقه ومصالحه من دون ذلك(1). لكن الملاحظة التي نسجلها على هذه النظرية أن شعور الإنسان بالرغبة بل ضرورة الانخراط في المجتمع شعور فطري غريزي وليس بدافع المصلحة الذاتية، رغم إقرارنا بقضية اهتمام الإنسان وحرصه على مصلحته الشخصية. وخير شاهد على ذلك ما نجده من الأمراض والمشاكل النفسية التي تواجه ابناء المجتمعات الغربية رغم الرخاء المادي الذي يعيشونه وتوفّر مستلزمات الحياة المترفة للأفراد، كل ذلك بسبب تفكك البنية الاجتماعية وفتور العلاقات والروابط الأسرية والاجتماعية بينهم، فكيف سيكون الحال لو افترضنا انهيار المجتمع بكامله؟! ونلاحظ كذلك ان من أقسى الضغوط التي تمارسها السلطات ضد المعتقلين هو عزلهم في سجون انفرادية لكي لا تلبى هذه الحاجة الفطرية لديهم. إذن فالعيش ضمن المجتمع من أهمّ حاجات الإنسان ومتطلباته التي فُطر عليها. النقطة الثانية: تنوّع الآراء والحاجة الى القانون بعد أن يتعايش البشر ضمن المجتمع ويشعرون بارتباط مصالحهم ببعضهم وتشابكها وضرورة تماسك مجتمعهم الذي يعيشون فيه تبرز مشكلتان: الأولى: تنوّع الآراء المطروحة لحفظ الكيان الاجتماعي والمحافظة على حقوق أبناء المجتمع. الثانية: ظهور بعض العناصر المنحرفة التي لا تكتفي بحقّها وتحاول سلب حقوق الآخرين والاعتداء عليهم، واختلاق امتيازات غير مبرَّرة لأنفسها. هاتان المشكلتان تحتّمان إيجاد مرجعية تشرف على إدارة المجتمع وتشريع قوانين تحافظ على تماسك المجتمع وتحفظ حقوق الأفراد فيه ولو نسبياً وبأعلى نسبة ممكنة. وهذه هي الدولة - بمفاصلها واجهزتها المختلفة - في العصر الحديث. ولكن يطرح السؤال عن المصدر الذي تعتمده الدولة في تشريعاتها وخطواتها؟ قد نجد من يجيب على ذلك بأن العقل البشري يصلح أساساً ومرجعاً لتمييز الخير من الشر، والنافع من غير النافع، فهو المَعين الذي يوجّه الدولة في قراراتها المختلفة. بل يهدي المجتمع الى اختيار طبيعة النظام الأفضل الذي يناسبه. لكن نلاحظ في هذا الجواب ثغرتين: الأولى: ان من الخطأ أن ننظر الى الإنسان نظرةً تجزيئية، بل لابدّ من شمولية النظر إليه، فنلاحظه بكل قواه وشخصيته وكل المؤثرات في سلوكه، ومن الواضح انّ الانسان لا ينحصر تأثره بالعقل، ولا يقتصر في سلوكه على ما يرسمه له عقله. بل هناك الهوى والرغبات والغرائز النفسية المختلفة التي تؤثر في سلوكه ويختلف الأفراد فى مدى التأثر بكلٍّ منها شدّة وضعفاً، بحيث نجد العقل يضعف أمامها في كثير بل في أكثر الأحيان. فتنهار الحدود التي رسمها العقل وضوابطه التي حدّدت فاعلية كل منها. يكفينا أن نلقي نظرة على المجتمعات الغربية فبرغم توفر كل الوسائل الكفيلة بسعادتهم إلاّ انّ فاعلية قوى الشر والرذيلة أدّت الى سلبهم هذه السعادة، وزجّهم في متاهات لا نهاية لها، حيث ضعفت عندهم المثل الروحية وتبددت الأسرة وتفكّك المجتمع وانتشرت الفحشاء والمخدرات والجرائم المتنوّعة، وفقدت الحياة طعمها وحيوّيتها، فصارت عبئاً على كثير منهم فعمّهم اليأس والاحباط ولجأوا الى الخمور والمخدّرات وحتى الانتحار للتخلص منها، رغم التطور التكنولوجي والجوانب المشرقة الأخرى بالإضافة الى توفّر الوسائل المادية لديهم الكفيلة بحياة الرخاء والهناء. الثانية: انّه لو كانت مساحة الحياة محصورة في هذه الدنيا فلربّما أمكن ادعاء الرجوع للعقل، ولو باعتباره المرجعية الممكنة في هذه الحياة، إلاّ انّه حيث كنا نستقبل حياة أخرى بمعايير وقوانين تختلف عمّا في هذه الحياة، وبما ان الإنسان في هذه الحياة بعيد تماماً عن طبيعة ومتطلبات السعادة في ذلك العالم، ولا يعرف بالضبط ما ينفعه هناك وما لا ينفعه أو يضره فمن الطبيعي أن يتجه الإنسان لربّه ليمنّ عليه برسم الخطوط العريضة له، ومنحه الآلية التي تساعده في بلوغ السعادة والمقام الرفيع في الآخرة، وذلك من خلال الوحي الى الأنبياء ليُخرجوا الناس من الظلمات الى النور، وليوقظوا الناس في هذه الحياة، لأنّ "الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا" كما جاء في الحديث. قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾(2﴾. إذن للوحي دور حاسم في مصير الإنسان وتحديد ورسم الخطوط العريضة - على الأقل - في مسير حياته. وقد تنبّه الى أهمية الوحي - ولو ضمن تصوره - الفيلسوف الفرنسي المعروف جان جاك روسو، فقال: "... لاكتشاف أفضل أنواع قواعد المجتمع التي تتلاءم مع طبيعة الأمم، لابدّ من توفّر عقل ممتاز يرى جميع أهواء الناس ولا يعاني من أي هوى، ولا تكون له أيّة علاقة مع طبيعتنا، لكنّه يدركها حتى أعماقها وتكون سعادته مستقلة عنّا، ومع ذلك يريد الاهتمام بسعادتنا، وأخيراً كيف يستطيع هذا العقل - وهو يراعي مجداً بعيداً لنفسه في تقدّم العصور - العمل في قرن ليحصد ثماره في قرن آخر. وبعبارة أخرى لابدّ من آلهة، لتمنح القوانين للبشر... ولكن لا يحقّ لكلّ انسان أن يجعل الآلهة تتكلّم، ولا أن يكون مصدَّقاً عندما ينبىء الناس انّه ترجمانها فإنّ روح المشرّع العظيمة هي المعجزة التي يجب أن تثبت رسالته... انّ الشريعة اليهودية ما زالت باقية، وشريعة ابن إسماعيل "محمد" التي تحكم العالم منذ عشرة قرون ما برحت تنبىء حتى اليوم بعظمة الرجال الذين أملوها، وبينما لا ترى فيهم كبرياء الفلسفة أو روح التحيّز العمياء سوى دجالين حسني الحظ، فإنّ السياسة الحقيقية تُعجَب في مؤسساتهم بتلك العبقرية العظيمة والقوية التي تُشرف على منشآتهم الدائمة"(3). 4 - كيفية وحي القرآن بعد ملاحظة المعاني السّابقة للوحي والطرق المختلفة للإيحاء يبدو من بعض آيات القرآن والنصوص والأحداث التاريخيّة انّ القرآن الكريم أُنزل على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن طريق أحد الملائكة المقرّبين وانّه جبرئيل (عليه السلام)، قال تعالى: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ﴾(4﴾. ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾(5). وقال عزَّ من قال: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾(6). وقد نصّت بعض التفاسير على انّ المقصود من روح القدس هو جبرئيل (عليه السلام). لكن مجموعة من الباحثين(7) يرون انّ بعض القرآن قد أوحي الى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) بشكل مباشر من دون توسط جبرئيل، ويستشهدون ببعض النّصوص المروية، إلاّ انّ الملاحظ - بالإضافة إلى ضعف سند أكثرها - انّها ليست صريحة في وحي القرآن. فلا تصلح دليلاً واضحاً في مقابل هذه الآيات القرآنية الكريمة وغيرها، والله العالم. 1- يراجع كتاب (قرآن در إسلام): 128/132. 2- سورة الجمعة: 2. 3- سورة البقرة: 97. 4- سورة الشعراء: 192 - 195. 5- يراجع تلخيص التمهيد: 1 22. وكذا غيره. 6- سورة آل عمران: 108. 7- يراجع المذاهب الإسلامية الخمسة بحث الدكتور محمد وفاريشي: 256، مركز الغدير للدراسات الإسلامية. |
الدرس الثامن عشر 5 - تحديد المُنزل بالوحيمن الواضح انّ الذي أُنزل على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) هو القرآن الكريم بلفظه ومعناه، ويفترض أن لا يكون هناك ريب أو تردد في ذلك، ويكفي شاهداً على ذلك مجموعة من الآيات القرآنية مثل قوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾. ولكن نسب إلى الأحناف رأي غريب، وهو أن القرآن الكريم اسم للمعنى فقط وليس اسماً للنظم والمعنى معاً(2). ويبدو أنّهم اختلفوا على قولين: أولهما: ان جبريل انّما نزل بالمعاني خاصة، وانّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) علم تلك المعاني وعبّر عنها بلغة العرب. وثانيهما: انّ جبريل ألقى إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) المعنى، وانّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) عبّر بهذه الألفاظ بلغة العرب، وانّ أهل السماء يقرؤونه بالعربية، ثم نزل به جبرئيل كذلك بعد ذلك(3). ولكنّ تفاهة هذا الرأي وما تفرّع عليه تغني عن مناقشته. كيف! وقد قال تعالى - مخاطباً نبيّه - ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾(4). حيث يدل على أن آيات القرآن بألفاظ محدّدة مقروءة. وقد قيل ان أبا حنيفة رجع عمّا أوجب ذلك "وان القرآن الكريم عند الحنفية عموماً وأبي حنيفة خصوصاً اسم للنظم والمعنى جميعاً كما هو الشأن عند الأُمة كلها"(5). 6 - شبهات حول الوحي تعرّض الوحي - لكونه من الظواهر غير المألوفة للإنسان - إلى مجموعة من الشبهات والتساؤلات. وفي عصر النهضة المادية فى اوروبا واجه الباحثون الغربيون قضية الوحي بنظرة الريب بل الإنكار، ومن خلاله طعنوا في الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) ورسالة الإسلام. وهذا الموقف منهم لا ينطلق من موقف سلبي خاص تجاه الوحي، بل يرتبط بنظرتهم العامّة لما وراء الطبيعة حيث إنّ اكثرهم حصروا الوجود بعالم المادّة، فمن الطبيعي أن يتنكّروا لما وراءه، وهم على ثلاثة أصناف: الصنف الأول: المتطرفون الذين يتّهمون النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالافتراء بهدف تحقيق مكاسب ومصالح دنيوية، مثل السلطة والشهرة. الصنف الثاني: المعتدلون الذين يرون النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عبقرياً ذا شخصية نزيهة وطموحة، رام إنقاذ قومه من حالة الانحطاط والتخلّف التي كانوا غارقين فيها، من خلال أفكاره السامية التي كان يحملها، ونتيجة لإدراكه تخلّف قومه وعدم تفاعلهم مع أفكاره الإصلاحية قرّر الإيحاء لهم انّه مرتبط بالله تعالى وانّه مرسل من قبله بهذه الأفكار والمشاريع الإصلاحية حتى يكونوا أكثر استعداداً لتقبّل هذه الأفكار والدّفاع عنها. والبعض من هؤلاء الغربيين يتعاملون مع كل الأنبياء على أساس هذه الفكرة، ولا يخصّون نبيّ الإسلام بذلك. والحقيقة انّ هذه الأفكار والشبهات ليست مستحدثة وانّما اقترنت ببداية بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) ودعوته، فقد واجهه قومه بهذه التهم الباطلة ورفضوا ارتباطه بالله تعالى، ولذلك نجد القرآن الكريم يردّ عليهم بتأكيد هذا الارتباط في مواضع عديدة من زوايا مختلفة وبصيغ متنوّعة، فتارةً يتحدّى الإنس والجن من أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وأخرى يؤكد على ارتباط الرسول بالوحي وانّه لا يملك الخيارات، وأخرى يحاججهم بانتظام القرآن وعدم الاختلاف فيه.. وغير ذلك، مثل قوله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾(6). ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾(7). ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾(8). ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾(9). ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾(10). ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾(11). ويمكن مناقشة هؤلاء المنكرين بما يلي: أ: الوجوه المتقدمة التي تثبت إعجاز القرآن وانّه ليس من إنشاء البشر. ب: الأدلة والشواهد المثبتة لعالم الروح، وعدم حصر الوجود بالعالم المادّي. ج: استقامة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قبل البعثة وبعدها وتحمّله المشاق والمصاعب في سبيل نشر رسالة الإسلام، حتى أثر عنه قوله: "ما أُوذي نبيٌّ مثل ما أُذيت"(12)، إضافةً للأدلة الدالة على علمه بالمآسي التي تواجه أهل بيته، ممّا يكشف انّه لم يكن يقوم بدور مزيّف، بل هو مكلّف من ربّه بتبليغ الرسالة مهما كلّف الثمن، كسائر الأنبياء والرسل الذين تحمّلوا من قومهم ما تحمّلوا في سبيل أداء رسالتهم. 1- راجع البرهان للزركشي:1/229، والاتقان للسيوطي:1/108 - 157 ط، مطبعة أمير. 2- 3- 4- سورة القيامة: 16 - 18. 5- يراجع كتاب المذاهب الإسلامية الخمسة: 258. 6- سورة البقرة: 23. 7- سورة الإسراء: 88. 8- سورة النساء: 82. 9- سورة يونس: 37. 10- سورة الحاقة: 44 - 46. 11- سورة النجم: 3 - 5. 12- بحار الأنوار: 39 56. |
الدرس التاسع عشر الصنف الثالث: الكتّاب والباحثون المعترفون بعالم الروح الذين فسّروا الوحي تفسيراً يختلف عمّا تقدم تفسيره، فقد قالوا: الوحي عبارة عن إلهامات روحية تنبعث من داخل الوجود، أي الروح الواعية هي التي تعطينا تلكم الإلهامات الطيبة الفجائية في ظروف حرجة، وهي التي تنفث في روح الأنبياء ما يعتبرونه وحياً من الله، وقد تظهر نفس تلك الروح المتقبّعة وراء جسمهم، متجسّدة خارجاً فيحسبونها من ملائكة الله، هبطت عليهم من السماء، وما هي إلاّ تجلّي شخصيتهم الباطنية، فتعلّمهم ما لم يكونوا يعلمونه من قبل وتهديهم الى خير الطرق لهداية أنفسهم وترقية أمّتهم، وليس بنزول ملك من السماء ليلقي عليهم كلاماً من عند الله(1)..ويبدو انّ الذي دعا هؤلاء - رغم اعترافهم بعالم ما وراء الطبيعة - الى هذا التفسير للوحي، هو ما وجدوه من مناقضة بعض محتويات الكتب المقدّسة للأديان الاخرى - وبالذات التوراة والإنجيل - لحكم العقل ولمكتشفات العلم الحديث، فبرّروا هذا التناقض بأنّه ناشىء من اختلاط هذه الإيحاءات النفسية على الرسول، بسبب ضعف في شخصيته الروحية، وعدم بلوغه المستوى الرفيع من السمو والشفافية لإدراك كل الواقعيات على ما هي عليه(2). والجواب على هذا الادعاء: أولاً: انّه كيف ينسجم السمو الروحي والعبقرية المفروضة للأنبياء - التي يعترفون بها - مع هذا الاختلاط الغريب عليهم بحيث لا يميزون بين الإيحاءات النفسية وتلقّي الوحي الالهي خاصة ما يكون توسط الملك الذي يشاهدونه؟! مع ان الإنسان العادي منزّه عن هذا الاضطراب، خصوصاً مع ملاحظة أن الوحي يلازم الأنبياء والرسل منذ بعثتهم الى وفاتهم، وليس حالة آنية طارئة، فكيف يتصوّر هذا الاختلاط عليهم طيلة هذه الفترة؟! ثانياً: انّا نلاحظ نمطاً من الآيات لا يعقل استنادها إلى سمو الشخصية الباطنية للأنبياء، مثل آيات العتاب للأنبياء، وكذا بعض آيات الأحكام التعبدية الصرفة التي لا ترتبط بالجانب الروحي، والآيات التي تشير الى جوانب من الحياة الأخروية، خاصةً المرتبطة بجهنّم وعذاب الفاسقين، وغيرها من الآيات التي لا ترتبط مضامينها بالسمو الروحي والشخصية الباطنية للإنسان. ثالثاً: انّ هذا التفسير للوحي نشأ من ملاحظة اضطراب كتب العهدين ونحوها ومناقضتها للعقل والعلم، وهذا لا ينطبق على القرآن الكريم، البعيد عن هذا التناقض والاضطراب. رابعاً: ان سلوك الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) يختلف تماماً عن سلوك الذين يفقدون التوازن الفكري بسبب اختلاط الايحاءات النفسية وعدم استيعابهم لمفردات العلوم الغريبة التي يهتمون بها، فقد كان (صلى الله عليه وآله وسلّم) معروفاً بشخصيته المتميّزة و مواقفه الصلبة وقراراته الصائبة في الظروف الحرجة التي واجهته خلال مسيرته الرسالية. وتنزّه عن الشطحات والاضطراب السلوكي الذي ينتاب بعض أصحاب الاتجاهات الروحية، كالصوفية وغيرهم. وقد اشارت بعض النصوص الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) إلى ذلك، ففي الحديث عن زرارة بن أعين أنّه قال لأبي عبدالله (عليه السلام): كيف لم يخَفْ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فيما يأتيه من قِبَل الله أن يكون مما ينزغ به الشيطان؟ فقال (عليه السلام): "إنّ الله إذا اتخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة والوقار فكان الذي يأتيه من قِبَل الله مثل الذي يراه بنفسه"(3). وفي نص آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث سئل: كيف علمت الرسلُ أنّها رسل؟ قال: "كُشف عنها الغطاء"(4). وفي الحديث عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): "إنّ الله وجد قلب محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) أفضل القلوب وأوعاها فاختاره لنبوّته"(5). ملاحظة هامة يشير هذا النص الأخير إلى دقة الاختيار الالهي لرسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلّم) في تحمّله لمسؤولية أداء رسالة الإسلام، وينطبق أيضاً على اختيار باقي الرسل الالهيين، فهم (صلوات الله عليهم) رغم الفتن والمآسي والاختبارات الصعبة التي واجهوها ورغم اختلاف العصور والظروف التي عاشوها استقاموا جميعاً ولم يضعف أي واحد منهم عن تحمل المسؤولية الثقيلة الملقاة على عاتقه، فكان ذلك تطبيقاً لقوله تعالى: ﴿اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾(6). |
الدرس العشرون 7 - شبهات حول وحي القرآن تضمنت بعض المصادر التاريخيّة انّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يكن متيقّناً من الوحي في بداية أمره، وكان متردّداً في ذلك، وانّ الذي أقنعه زوجته خديجة بدعم من ورقة بن نوفل، فقد روى البخاري عن عائشة أُم المؤمنين أنّها قالت: أول ما بُدئَ به رسول الله (ص) من الوحي الرؤيا الصالحة فى النوم، فكان لا يرى رُؤيا إلاّ جاءَت مثل فلقِ الصبح. ثمّ حُبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغارِ حراء فيتحنّث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهلهِ ويتزوّد لذلك، ثمّ يرجعُ الى خديجة فيتزودُ لمثلِها، حتّى جاءهُ الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه الملكُ فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطّني حتّى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. قلتُ: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطّني الثانية حتّى بلغ مني الجهد، ثمّ أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذنى فغطّني الثالثة، ثمّ أرسلني فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ فرجعَ بها رسولُ الله (ص) يرجُف فؤادهُ، فدخل على خديجة بنت خويلد رضى الله عنها فقال: زَمّلُوني زمّلوني. فزمّلوه حتى ذهب عنه الروعُ، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيتُ على نفسي. فقالت خديجة: كلاّ والله ما يُخزيك الله أبداً، إنّك لتصلُ الرحم، وتحملُ الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقرئ الضيف، وتعينُ على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتّى أتت به ورقةَ بن نوفلِ بن أسد بن عبد العزى - ابن عم خديجة - وكان امرءاً تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتبُ من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتبَ، وكان شيخاً كبيراً قد عميَ، فقالت له خديجة: يا ابن عمّ اسمع من ابن أخيكَ. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله (ص) خبر مارأى. فقال له ورقة: هذا الناموسُ الذى نزَّل الله على موسى، ياليتني فيها جذعاً، ليتنى أكون حيّاً إذ يخرجُكَ قومك، فقال رسول الله (ص) أوَ مُخرجي همْ؟ قال نعم، لم يأتِ رجل قطّ بمثلِ ما جئت به إلاّ عُودى، وان يدركني يومك أنصرُك نصراً مؤزراً. ثم لم ينشب ورقة أن توفّى، وفتر الوحي(1). وفي رواية انّ أبا بكر دخل على خديجة، فقالت: انطلق بمحمّد الى ورقة، فانطلقا فقصّا عليه...(2). لاحظ المضمون غير المعقول لهذه الرواية، إذ كيف يلتبس الأمر على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) حتّى يشك في نفسه، بحيث تطمئنه خديجة وتزيل روعه، ثمّ لا يطمئن هو بنبوّته إلاّ بالرجوع للنصراني ورقة بن نوفل! ومما يؤيّد الطعن في هذه القصة، أن المؤرخين لم يذكروا أن ورقة قد آمن كما آمن الإمام علي (عليه السلام) وخديجة رغم ما روي من امتداد عمره الى ما بعد البعثة وأنّه مرّ على بلال وهو يُعذب(3)، قال ابن حجر: وهذا.. يدلّ على أن ورقة عاش إلى أن دعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) الى الإسلام حتّى أسلم بلال(4). وربّما كانت هذه الرواية من الإسرائيليات التي ترمي الى الحط من مقام الرسول والطعن في رسالته، وتأكيد رجوعه لأهل الكتاب. بينما أكّدت النصوص المتقدمة الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) الوضوح والطمأنينة التي يعيشها الأنبياء عند الايحاء إليهم نافية ما تضمنته تلك الرواية المزعومة(5). 1- الجامع الصحيح: 1 ص 14 - 15. 2- الاتقان: 1 24. 3- الإصابة: 6 476. 4- المصدر. 5- تراجع النصوص في ص 84. |
الدرس الحادي والعشرون ونجد هنا من المناسب أن نتعرّض بإيجاز لبعض الآيات التي قد يوحي ظاهرها اضطراباً في موقف الرسول تجاه الوحي أو الرسالة:الآية الأولى: قوله تعالى: ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾(1). عن ابن عباس في رواية عطاء نزلت هذه الآية في وفد ثقيف، أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فسألوه شططاً، وقالوا متِّعنا باللاّت سنةً، حرِّم وادينا كما حرّمت مكّة شجرها وطيرها ووحشها، فأبى ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ولم يجبهم فكرّروا ذلك الالتماس وقالوا: انّا نحبّ أن تعرف العرب فضلنا عليهم، فإن كرهت ما نقول وخشيت أن تقول العرب: أعطيتهم ما لم تعطنا فقل: الله أمرني بذلك، فأمسك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عنهم وداخلهم الطمع، فصاح عليهم عمر وقال: أما ترون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قد أمسك عن الكلام كراهية لما تذكرونه؟ فأنزل الله هذه الآية(2). وقال الحسن: الكفّار أخذوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليلة بمكة قبل الهجرة وقالوا: كفّ يا محمد عن ذمّ آلهتنا وشتمها، فلو كان ذلك حقّاً كان فلان وفلان بهذا الأمر أحقّ منك، فوقع في قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يكفّ عن شتم آلهتهم. وعن سعيد بن جبير انّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان يستلم الحجر فتمنعه قريش ويقولون لا ندعك تستلم آلهتنا، فوقع في نفسه أن يفعل ذلك مع كراهية. فنزلت هذه الآية(3). وهناك روايات أخرى في سبب النزول. ولو أغمضنا النظر عن هذه الروايات المختلفة التي لم تثبت صحة واحدة منها بخصوصها. فالذي يلوح من الآية الكريمة انّه كان هناك طلب من الكفار من النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) على خلاف تعاليم الله سبحانه وتعالى، أمّا ما هو موقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالذات؟ وكيف تعامل مع هذا الطلب؟ فهو ما سوف نتحدّث عنه بإيجاز... وقبل ذلك نقول: إنّ هذه الآية الكريمة - على كل تقدير - لا ترتبط ببحثنا الحالي في الوحي حول مدى وضوح الوحي الإلهي في نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) - خلافاً لمن يتوهم ذلك - لأنّ الآية صريحة في أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) محافظ على وعيه تماماً وانّه يميّز الوحي الإلهي غاية ما هناك انّه كاد يميل باختياره الى الكفار ومداراتهم. إذن الآية الكريمة تؤكد وعي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) واختياره التام، لذلك رتّبت ثبوت العقاب الشديد عليه لو حصل منه الزيغ. وليس فيها أية إشارة الى عدم وضوح الرؤية عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ولا الى الهلوسة والاضطراب النفسي وأمثال ذلك مما يوجب الشك في الوحي إليه، بل الآية الكريمة - باعتبار آخر - تؤكد صدق انتساب ما يقوله النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) الى الوحي الإلهي، وانّه بمجرّد احتمال خطور (الزيغ) في نفسه نزل تحذيره والتلويح له بشدّة العذاب. فهذه الآية اجنبية تماماً عن آية سورة النجم واسطورة الغرانيق، التي تضمّنت الهلوسة أو فقد الوعي والاختيار أمام تسلّط الشيطان عليه - على اختلاف صيغ الرواية المزعومة - فلا يصح الاستدلال والاستشهاد بها على ما يرومه أعداء الإسلام. نعم الآية الكريمة ترتبط بموضوع عصمة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأنّه هل هو معصوم أو لا؟ وهل ما صدر منه وأوجب نزول هذه الآية مناف للعصمة أو لا؟ ونحن نشير هنا الى هذا الموضوع استطراداً فنقول: أولاً: لاشك أنّ الآية الكريمة نزّهت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن صدور الفرية منه والزيغ، فهي نصّت على أنّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم تصدر منه الفرية ولم يجبهم الى ما أرادوه منه. نعم من خلال الآية قد يطرح تساؤل عن معنى عصمة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وانّه هل العصمة تقتضي عدم صدور الفعل القبيح من المعصوم بقرار مستقل منه دائماً أو لا مانع من تدخّل التسديد الإلهي المباشر أحياناً، ومن ناحية أخرى ما هي طبيعة هذا التسديد الإلهي، هل هو إرادة إلهية مانعة من وقوع ما أراده النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أو ما خطر في باله، أو هو تسديد إلهي فطري للرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) مانع من التأثر بهذه المؤثرات التي ينهار أمامها غير المعصوم الفاقد للتسديد؟ وقد تصدت البحوث العقائدية للإجابة على هذه التساؤلات وتحديد الموقف الصحيح منها، فنوكل البحث اليها. وعلى كل تقدير، هذه الآية لا تخدش في مقام الرسول ومكانته عند ربه، التي تسمو به عن الإفتراء عليه كيف! وقد حذر القرآن من ذلك أشدّ التحذير، كما في قوله تعالى ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾(4). فكيف يلتئم هذا التحذير مع فرضية إقدامه على الافتراء؟! وكذلك مع حكمة الله ودقّة اختياره لرُسله من بين عباده ﴿اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾(5). ثانياً: يُفهم من الآية الكريمة نفسها أن استقامة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كانت باختياره وقراره الشخصي ولم يكن مجبراً عليها، وإلاّ لم يكن لتحذيره (صلى الله عليه وآله وسلّم) بقوله تعالى: ﴿إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾(6) معنى ومدلول، فما معنى أن يحذّر الله نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) من الافتراء والتقوّل ونحو ذلك ثم لمّا يعزم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) على ذلك يمنعه الله سبحانه من ارتكابه؟! ثالثاً: انّ نسبة التثبيت لله سبحانه لا تعني فقدان اختياره (صلى الله عليه وآله وسلّم) في ذلك، شأن كثير من الآيات التي تنسب أفعال الإنسان لله سبحانه مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾(7) فهو لا يعني انّ الرمي لم يكن فعلاً اختيارياً للرامي، وكذلك الآيات التي تتحدث عن الهدى والضلال مثل قوله تعالى: ﴿فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء﴾(8) فانّها لا تعني قسرهم على الضلال والهدى، لأن الإرادة الالهية في كل ذلك لم تكن هي العلّة التامة، ولا سالبة للاختيار. ومن خلال ما ذكرناه اتضح أن استقامة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كانت بقراره واختياره من دون أن يكون مجبوراً على ذلك، ولعلّ هذا التحذير مجرد تذكير للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) الذي كان يرغب في صيغة تخفّف من شدّة عنادهم، لما عرف عنه من الرأفة والرحمة وحرصه الشديد على إيمانهم، كما أشار إليه القرآن الكريم في مواضع متعددة، مثل قوله تعالى: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾(9)،﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ﴾(10)،﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾(11). ولا يعني هذا ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قد عزم على التلاعب بالوحي وتغييره. ولعلّ المقصود الحقيقي بالتحذير المذكور غير النبي، لبيان مدى خطورة الافتراء على الله تعالى. 1- سورة الإسراء: 73 - 75. 2- التفسير الكبير: 21 20. 3- يراجع التفسير الكبير: 21 20. 4- سورة الحاقة: 44 - 46. 5- سورة الأنعام: 124. 6- سورة الإسراء: 75. 7- سورة الأنفال: 17. 8- سورة إبراهيم: 4. 9- سورة فاطر: 8. 10- سورة الكهف: 6. 11- سورة الشعراء: 3. |
الدرس الثاني والعشرون الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(1).قال الزمخشري: والسبب في نزول هذه الآية انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما أعرض عنه قومه وشاقّوه وخالفه عشيرته ولم يشايعوه على ما جاء به تمنّى لفرط ضجره من إعراضهم ولحرصه وتهالكه على إسلامهم أن لا ينزل عليه ما ينفّرهم، لعلّه يتّخذ ذلك طريقاً الى استمالتهم واستنزالهم عن غيّهم وعنادهم، فاستمرّ به ما تمنّاه حتى نزلت عليه سورة النجم وهو في نادي قومه، وذلك التمني في نفسه، فأخذ يقرؤها فلمّا بلغ قوله (ومناة الثالثة الأخرى)(2) ألقى الشيطان في أمنيّته التي تمنّاها، أي: وسوس إليه بما شيّعها به، فسبق لسانه على سبيل السهو والغلط الى أن قال (تلك الغرانيق العلى وانّ شفاعتهن لترتجى)... إلخ(3). وقد روى هذه القصّة الطبري والبزّار والطبراني وابن مردويه وغيرهم. ولكن علماء الشيعة ومجموعة أخرى من علماء الجمهور رفضوا ذلك... قال الفخر الرازي في تفسيره بعد أن أشار إلى هذه الروايات: "هذا رواية عامّة المفسّرين الظاهريين، أمّا أهل التحقيق فقد قالوا هذه الرواية باطلة موضوعة واحتجوا عليه بالقرآن والسنّة والمعقول... إلخ"(4). ونحن عندما ندرس هذه الآيات الكريمة دراسةً موضوعية متأنية نجد مدلولها أجنبياً عن آيات سورة النجم وقضية الغرانيق المزعومة، وذلك أن اسطورة الغرانيق رويت بصيغتين مختلفتين في المضمون.. فمدلول الصيغة الأولى: انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) تعمّد تغيير الوحي والافتراء بهدف التقرب للمشركين واستمالتهم. وهو - كما تراه - خلاف ظهور الآيات الكريمة، وقد أوضحنا بطلانه. ومدلول الصيغة الثانية: انّ الشيطان خدعه أو تحدّث على لسانه. وقد يتوهم انسجام ذلك مع ظهور الآيات الكريمة، ولكن هذا غير صحيح بعد ملاحظة ما يلي: أولاً: انّا لا نجد الشيطان مسلّطاً على الإنسان العادي من الناس حتى غير المؤمن بحيث يؤثر على حواسّه، فكيف يفترض سيطرته على الأنبياء والرسل، مع انّهم من الناحية التكوينية العضوية كباقي الناس؟ ثانياً: انّ الآية تفرض الحالة دائمية تلاحق الأنبياء والمرسلين وانّها ليست نادرة، لذلك استخدمت صيغة الحصر، وليس من المعقول فرض هذه السيطرة الدائمة للشيطان على الأنبياء والرّسل. مع ملاحظة مسؤولياتهم الخطيرة ورعاية الله وتسديده لهم. ثالثاً: انّ التمنّي قد يُراد منه أحد معان. أ: طلب المستحيل أو شبهه. ب: التلاوة كما ورد فيه قول الشاعر: تمنّى كتاب الله آخر ليله *** تمنّي داوود الزّبور على رسل أي تلا كتاب الله مترسلاً فيه كما تلا داوود الزبور مترسّلاً فيه(5). ج: إرادة الشيء أو تشهّي حصول الأمر المرغوب فيه(6). أمّا المعنى الأول فهو غير معقول هنا، لذلك لم يذكره أحد. وأمّا المعنى الثاني فهو لا ينسجم مع الآية الكريمة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى..﴾(7) إذ من المعلوم ندرة الأنبياء والرّسل أصحاب الكتب التي يقرؤونها، بينما الآية تتحدث عنهم كلهم أو نسبة كبيرة منهم على الأقل. ويقوى الإشكال بالنسبة للأنبياء - غير الرسل - بناءً على الرأي القائل: انّ النبي غير الرسول. فلا يبقى إلاّ المعنى الثالث فيكون معنى الآية - والله العالِم - انّ الأنبياء والرسل حيث يرغبون ويحرصون على هداية الناس فيضع الشيطان العراقيل والمعوقات أمام مساعيهم الاصلاحية، ونتيجة لهذا الصراع بين الخير والشر، يفتتن كثير من الناس، ويزداد المؤمنون إيماناً، كما تحدثت بذلك آيات أخرى ﴿يضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾(8). رابعاً: إنّ هذا كلّه يبتني على فرضية صحة اسطورة الغرانيق إذ لا يحتمل أنّ هناك قضية أخرى أوجبت نزول هذه الآيات، بل الذين يذهبون الى هذا التفسير - المرفوض عندنا - يعتبرونها مشيرة الى قضية الغرانيق، ونحن قد أثبتنا فيما سبق ومن خلال عدة شواهد عدم صحة قضية الغرانيق وعدم انسجامها مع مدلول الآيات المتقدمة. وانّها اسطورة حاكتها أصابع الظالمين(9). هذا، ونلاحظ انّ مجموعة من علماء الجمهور رفضوا هذه الروايات، قال الرازي في معرض ردّه على هذه الروايات بالسنّة: وأمّا السنّة فهي ما روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة انّه سئل عن هذه القصّة؟ فقال: هذا وضع من الزنادقة، وصنّف فيه كتاباً. وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم أخذ يتكلّم انّ الرواة مطعون فيهم(10). الأسئلة 1 - اذكر خمسة معان للوحي. 2 - كيف تردّ الاستشهاد بالآية الكريمة ﴿وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً﴾ على صحة اسطورة الغرانيق؟ 3 - كيف تردّ الاستشهاد بآية التمني على صحة اسطورة الغرانيق؟ 4 - كيف تناقش الرأي القائل ان ادعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) الارتباط بالله بهدف تهيئة ارضية لدى قومه لقبول افكاره الاصلاحية؟ 5 - هل ان سعي الإنسان للانخراط في المجتمع لمجرّد توفير مصالحه الذاتية؟ 6 - ما هو سبب احتياج الإنسان للوحي الإلهي؟ 1- سورة الحج: 52 - 54. 2- سورة النجم: 20. 3- الكشّاف: 3 164. 4- التفسير الكبير: 23 50. 5- لسان العرب: 15 294. 6- يراجع المصدر. 7- سورة الحج: 52. 8- سورة البقرة: 26. 9- ولا غرابة في ذلك ما دام (خليفة المسلمين) يتطاول على النبي 9 ويزداد غيظاً عندما يسمع اسمه ينادى به في الأذان كلّ يوم خمس مرّات، ويعزم على دفنه والقضاء عليه، كما في المحاورة المعروفة بين المغيرة بن شعبة ومعاوية بن أبي سفيان. والخليفة الآخر - الوليد بن يزيد بن عبد الملك - يتطاول على كتاب الله عزّوجلّ ويجعله غرضاً ليرميه بالنشّاب وهو يقول: تهدّدني بجبار عنيد *** فها أنذاك جبّار عنيد إذا ما جئت ربّك يوم حشر *** فقل يارب مزّقني الوليد الى غير ذلك من الممارسات والمواقف المخزية، ولا نستغرب من (علماء) يلتزمون هذا الرأي مطاوعين لرغبات أولئك (الخلفاء) أو حجبتهم الغشاوة عن رؤية الحقيقة. 10- التفسير الكبير: 23 50. » البــاحــــث الـقــرآنــــي بـــحــــــث تصــفـــــح صفحـــــــة البـــــــدايـــــة حــــول الـــــمـــــوقـــــــع » المـكـتـبـــة المـقـــروءة كتب علوم القرآن كـتــب الـتـفـسـيـر دراسات وبحـوث » مـــســـــائــــــــل وردود أرسـل مسـألـتــك شبهات وإشكالات فـقـــــه الـقــــرآن تـاريــخ الـقـــرآن مـسـائــل لـغـويــة عـلــم الـتـجـويـــد مــتـــفــــرقــــــات » قــصـــص الـــقــــــرآن قصص نبي الإسلام قصص الأنــبــيــــاء قصص قرآنية عامة تــــاريــــخ الــــقـــــــــرآن » أعــــــلام الـــقــــــــرآن أعــلام المفسرين أعــلام الـقــــراء كــتــاب الوحــي الـشـخــصــيــات الفرق والمذاهب الـجـــمـــــــادات الحـيــــوانـــــات الــطــــــيـــــــور الـحــــشـــــــرات النــــبــــاتـــــــات مـــفـــــردات الــــقــــــرآن إعـــــراب الـــــــقـــــــرآن أســبــــــاب الــــنـــــــزول » عــلـــــوم الـــقـــــــرآن الـــــــــــوحـــــــــــي المـكــي والــمــدنــي نـــــزول الـــقـــــرآن الـــقـــــــــــــــراءات المحكـم والمتـشـابــه الناسـخ والمـنـسـوخ الآيــات المنـسـوخــة الإعجــاز الـقـرآنـــي الأمـثـال في الـقــرآن الأقسـام فـي القــرآن » القرآن وأهل البيت (ع) القرآن عند أهل البيت (ع) أهل البيت (ع) في القرآن مـا ورد في فـضـل الـســور الــــمـــــــقـــــــــــــــــالات آيــــة وتــفــــســــــيــــــــر عـلـــــــم الـتــجـــويــــــــد الـمـعــــرض الــقــــــرآني المـكـتـبـــة المسـمـوعــــة » الـتــلاوات الـقـرآنـيــــة الـــــــــــــــــــدورات تـــلاوات (خارجــي) تـــلاوات (أستوديو) المحاضـرات القرآنـيــــــة الـدروس القــرآنـــيــــــــة الابتـهالات والتـواشـيــــح الأدعـــــــــيــــــــــــــــــــة أذان الــــــــصـــــــــــــلاة » مشـاركــــات الـــــزوار تـلاوات قرآنـيــة أذان الـصــــــلاة المـكـتـبـــة المـرئــيــــة الـتـــلاوات الـقـرآنـيــــــة المحاضـرات القرآنـيــــــة الـدروس القــرآنـــيــــــــة » قــصـــص الـــقــــــرآن أصحــاب الـكـهـــف مـريـــم المـقــدســـة النــبــي أيــوب (ع) النــبـي إبراهيم (ع) النــبـي يوسف (ع) عداد الزوار 8448225 مواقع تابعة http://hodaalquran.com/imgs/sites.gif إصداراتنا المعروضة للبيع http://hodaalquran.com/banners/products.gif Copyright ® 2007 Al-Hoda Hawzah For Islamic Researches <IMG id=lightboxImage> http://hodaalquran.com/gallery/eff/images/loading.gif http://hodaalquran.com/gallery/eff/i...closelabel.gif |
الدرس الثالث والعشرون (القرآن والعلم) 1 - موقف القرآن من العلم.دعا القرآن في كثير من الآيات الى التزود بالعلم وأثنى على العلماء وذمّ الجهل والجاهلين، وهذا لاشك فيه لمن يلقي نظرةً - ولو سطحية - على الآيات القرآنية. لكن يبقى هناك تساؤل عن طبيعة العلم أو العلوم التي دعا إليها القرآن ومدح أصحابها وأثنى عليهم، فهل حث القرآن على كل العلوم، المادية وغيرها أو كان نظر القرآن الى خصوص بعض العلوم دون البعض الآخر؟ فبينما نجد بعض المفسرين والباحثين يحاولون اثبات دعوة القرآن إلى تعلّم كل العلوم النافعة، نرى آخرين يصرّون على أن نظر القرآن الى خصوص العلوم الإنسانية وما يرتبط بسعادة الإنسان في الدار الآخرة، مثل العقائد والفقه والتربية ونحوها... ولأجل أن يتضح الموقف القرآني من العلوم نقول: انّ ملاحظة الآيات التي تتحدث عن العلم والجهل وما يحكي عنهما من المفردات تشهد انّها تصب في اتّجاه استقامة الانسان وهدايته ووعيه لطبيعة الحياة الدنيا، فهي لا تعدو هذه الأمور و نحوها مما يرتبط ارتباطاً مباشراً بالعلوم والمعارف الدينية والتربوية، دون العلوم المادية ونحوها مما يحتاجها الانسان في حياته اليومية. فمن هذه الآيات قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾(1). ﴿قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾(2). ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا * وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾(3). وغيرها كثير من الآيات.. حيث نلاحظ ان هذه الآيات القرآنية الكريمة بعيدة عن ارادة العلوم المادية وما يشبهها مما هو ضمن اهتمام الإنسان ومرتبط بجهده واحتياجاته، وأمّا تفسير العلم في هذه الآيات بما يشمل كل العلوم النافعة فهو تفسير متكلّف فيه. نعم يكمن اهتمام القرآن بمختلف العلوم النافعة من خلال ما يلي: أ: اهتمام القرآن بعزة الإسلام والمسلمين، فتدخل ضمن هذه الزاوية كل العلوم التي تساهم في تقدم المجتمع واستقراره ورخائه الاقتصادي وكل ما يُنأى بالمسلمين عن الذل والدونية في مقابل الأُمم الاخرى. ب: دعوة القرآن لإحياء الأرض، او استثمارها - باعتبارها قد جُعلت وابيحت للانسان - والذي قد يفهم منه الكناية عن الحث على استكشاف أسرار وخزائن هذا الكون الذي يتوقف على نموّ العلوم المادية وتطورها. ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾(4). ج: دعوة القرآن المسلمين للدفاع عن انفسهم وعن دينهم والاستعداد التام لمواجهة خطط الأعداء وكيدهم.. فإنه يستبطن الدعوة للتزود بكل العلوم المساهمة في الوصول الى هذه الحالة بكل جوانبها العسكرية والاقتصادية وغيرهما.. ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾(5). 2 - العلوم التي كان القرآن عاملاً في ظهورها. هذه العلوم على صنفين. الصنف الأول: هي العلوم التي تضمنها القرآن الكريم سواء تلك التي كان هو مصدرها الأساس أم التي ساهم القرآن الكريم في تطويرها، مثل مباحث التوحيد والنبوة والمعاد والفقه والتربية الإسلامية والأخلاق ونحوها. الصنف الثاني: العلوم التي ساهم القرآن في تطوّرها واستمرارها من دون أن يتضمنها، مثل علوم النحو والبلاغة واللغة وفقه اللغة، حيث عكف المسلمون على دراسة اللغة العربية وأسرارها وأحكامها ليحافظوا على القرآن الكريم ويفهموا معانيه، فكان للقرآن الفضل في نشوء هذه العلوم وتطوّرها واهتمام المسلمين بها. بالإضافة إلى دوره في حفظ اللغة العربية من الذوبان والتهجين. 3 - العلوم الخاصة بالقرآن والباحثة عنه وهي مجموعة علوم القرآن التي ندرسها تحت عنوان "علوم القرآن" مثل مباحث علم التفسير، ونزول الآيات، والوحي، واعجاز القرآن، وغيرها من العلوم الباحثة عن القرآن الكريم نفسه، وخصائصه. 4 - العلوم الضرورية لفهم القرآن الكريم يحتاج الدارس للقرآن الكريم - بالإضافة لفهم اللغة العربية والإحاطة بها - الى مجموعة من العلوم التي تساهم في فهم الكتاب العزيز، وهي.. أ) علوم العربية المختلفة، مثل علم اللغة وفقه اللغة، وعلوم النحو والصرف والبلاغة. ب) العلوم العقلية المختلفة مثل المنطق والعقائد وبعض البحوث الفلسفية وغيرها. ج) مجموعة علوم القرآن مثل نزول الآيات وتاريخه ليمكنه تفسير آية بأخرى، وتمييز المدني من المكي مثلاً وأسباب النزول وغير ذلك. د) التزود بالعلوم التي تتحدث عنها بعض الآيات مباشرة مثل الفقه والعقائد وقصص الأنبياء وبعض أحداث التاريخ الإسلامي وغيرها. هـ) علما الدراية والرجال، لتمييز النصوص التفسيرية الصحيحة عن غيرها، وتقديم المتعارضات ونحو ذلك. هذا إذا كان هدف المفسّر التفسير المحيط والجامع لكل القرآن، أمّا اذا اقتصر على جوانب معيّنة منه أو آيات أو سور خاصّة منه فقد لا يحتاج الى بعض هذه العلوم المتقدمة. ويختلف ذلك بحسب طبيعة الجانب الذي يتناوله المفسّر ومتطلباته. ونضيف - إلى جانب التزودّ بالعلوم المتقدمة - شرطين رئيسيين يفترض توفرهما في المفسّر للقرآن الكريم وهما: الأول: أن يعي المفسّر تعاليم الإسلام من مصادرها الأصلية ولا يبتعد عن الذهنية الاسلامية الأصيلة، اذ لا يمكن التفكيك بين فهم الإسلام وفهم كتابه. ومن هنا نعرف عاملاً رئيسياً في أخطاء المستشرقين وغيرهم البعيدين عن فهم روح الإسلام الأصيل عند دراستهم وتفسيرهم للقرآن الكريم. الثاني: أن يكون المفسّر مسترشداً بالقرآن الكريم وتابعاً له من دون أن يجعل من نفسه متبوعاً وموجّها للنص القرآني، فيجتنب تفسيره على ضوء قناعته المسبقة وتوجهاته الذاتية البعيدة عن القرآن وباقيَ المصادر الإسلامية التي يفسّر بعضها البعض الآخر، ولذا نلاحظ أخطاء فظيعة وقع فيها أصحاب العقائد والنظريات المنحرفة والباطلة عندما صاروا يحمّلون القرآن أفكارهم الخاطئة محاولةً منهم في تفسير آياته بما ينسجم معها. 1- سورة الجمعة: 2. 2- سورة النحل: 27. 3- سورة طه: 114 - 115. 4- سورة الملك: 15. 5- سورة الأنفال: 60. |
الدرس الرابع والثلاثون أمّا التفسير المتداول المنسوب للقمي ففيه خلط واضطراب. وقد قيل انّه تلفيق من املاءاته على تلميذه أبي الفضل العباس بن محمد بن القاسم، وما رواه التلميذ نفسه بسنده الخاص عن أبي الجارود - زياد بن المنذر السرحوب (ت:150) - وعن مشايخه، بل ربّما يبدو ان صاحب التفسير المطبوع حالياً ليس هو أبا الفضل العباس، لأنّ التفسير يبتدئ بقوله "حدثني أبو الفضل العباس بن محمد بن القاسم بن حمزة بن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال حدثنا أبو الحسن علي بن إبراهيم...". فبالإضافة لعدم وجود ذكر للعباس بن محمد في الأصول الرجالية، لا يعرف الشخص الذي يحدّث عنه. وبعد هذا التوضيح نعرف انّه لا يمكن الاعتماد على هذا التفسير المطبوع(1). وانّ محتواه لا يعبّر عن رأي الشيعة الإمامية. وأمّا كتاب "بيان السعادة في مقامات العبادة" فمؤلفه قطب من أقطاب الصوفية، وهو سلطان محمد بن حيدر البيدختي الكنابادي، زعيم فرقة "نعمة اللهي" الملقب - في الطريقة - بسلطان علي شاه، كان من مواليد سنة (1215 هـ. ق) وقد فرغ من تأليفه عام (1311) وطبع الكتاب لأول مرة عام 1314. ونسخ الكتاب مبذولة يجدها الطالب في عامة المكتبات(2). لكن هذا المستشرق - الباحث الدقيق والأمين! - لأجل أن يعطي قيمة وأهمية لموضوع بحثه حول هذا الكتاب زعم ان تأليف الكتاب تم عام (311هـ = 923م) ليرجعه الى بدايات القرن الرابع الهجري، ولكي تنطلي لعبته هذه حرّف اسم المؤلف الى سلطان محمد بن حجر البجختي، حتى لا يفتضح بمراجعة كتب تراجم الرجال حول اسم المؤلف(3). مرحباً وعجباً لهذه الأمانة العلمية!! وليت الأمر اقتصر على هذا المستشرق، بينما نجد كاتباً (مسلماً) هو الشيخ خالد عبدالرحمن العكي - المدرّس بدائرة الافتاء العام بدمشق - يرتكب نفس الأخطاء الفضيعة تقليداً وتبعيةً لهذا المستشرق من دون بصيرة. فإنّه - بعد ان ينتقد الاتجاه الشيعي في التفسير - يذكر انّ اقدم تفسير شيعي هو تفسير جابر الجعفي المتوفى سنة 128، ثم يجيء تفسير "بيان السعادة في مقام العبادة" للسلطان محمد بن حجر البجختي وقد انتهى منه سنة 311، وتفسير القمي في القرن الرابع(4). ولا يهمّنا الآن التعقيب على باقي كلامه بعد أن عرفنا وزنه العلمي. ثم نختتم تعليقنا على ما نسبه هؤلاء الجهلة والحاقدون لشيعة أهل البيت(عليهم السلام) فنقول: بأنّهم مع اعترافهم بكون مؤلف الكتاب من الصوفية كيف يعتبرون رأيه معبِّراً عن رأي الشيعة، مع وضوح أن الذوق الصوفي لا يعبّر عن أصحاب المذهب الذي ينتمي إليه صاحبه الصوفي سواء كان سنياً أم شيعياً. وهذا أمر يعرفه الجميع، لا يجدر بمن يرى نفسه كاتباً أو باحثاً أن يفوته ذلك، لكنه التعصب الذي يعمي ويصم!(5). إذن عرفنا الرأي السائد بين علماء الشيعة في نفي التحريف عن القرآن زيادة ونقيصة على مرّ العصور المتتالية، لكن في عهد قريب التزم بعض المحدّثين بفكرة النقيصة في القرآن معتمدين على ظواهر بعض الأخبار المروية في المصادر الحديثية، والتي لم يعمل على طبقها جلّ علماء الشيعة خلال العصور المختلفة. ونلاحظ في طريقة هؤلاء - شأن غيرهم من أهل الحديث - إلغاءهم دور العقل وابتعادهم عن التحقيق والتنقيح في الأخبار، حتى ذكر بعضهم أنّ "ماتعارض فيه محض العقل والنقل من غير تأييد بالنقل فهذا لا نرجح فيه العقل بل نعمل بالنقل"(6). وجرى على هذا المنوال المحدث النوري الحسين بن محمد تقي (1254 - 1320هـ) حيث ألّف كتاباً لأِثبات التحريف - بمعنى نقص القرآن الموجود - سمّاه "فصل الخطاب في تحريف الكتاب". وقد واجهه العلماء المعاصرون له ومن بعده بالرفض والنكير، وألفوا كتباً في ردّ ما اعتمده من الأدلة على ذلك ومناقشتها. يحدث السيد هبة الدين الشهرستاني - حيث كان طالباً في الحوزة العلمية بسامراء في عهد مرجعية الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي - في رسالة بعثها تقريظاً لرسالة "البرهان" التي ألفها الميرزا مهدي البروجردي. في مدينة قم المشرفة (عام: 1373هـ. ق) يقول السيد الشهرستاني في رسالته: كم أنت شاكر مولاك إذ أولاك بنعمة هذا التأليف المنيف، لعصمة المصحف الشريف عن وصمة التحريف، تلك العقيدة الصحيحة التي أنست بها منذ الصغر أيام مكوثي في سامراء - مسقط رأسي - حيث تمركز العلم والدين تحت لواء الإمام الشيرازي الكبير، فكنت اراها تموج ثائرة على نزيلها المحدّث النوري بشأن تأليفه كتاب "فصل الخطاب" فلا ندخل مجلساً في الحوزة العلمية إلاّ ونسمع الضجة والعجة ضد الكتاب ومؤلفه وناشره يسلقونه بألسنة حداد...(7). وممن كتب في رد المحدث النوري معاصره الفقيه الشيخ محمود بن أبي القاسم الشهير بالمعرّب الطهراني (1313) في رسالة قيمة سماها "كشف الارتياب في عدم تحريف الكتاب" فرغ منها في (17 ج2 عام 1302) تقرب من اربعة آلاف بيت - من الشعر - في 300 صفحة مما ادى الى تراجع الشيخ النوري عن رأيه بعض الشيء، فقام بتأليف رسالة اخرى فارسية - فرغ منها في محرم 1303 - بصدد اجابة الشيخ الطهراني، وتوجيه ما يقصد من التحريف، وكان يقول: لا ارضى عن الذي يطالع (فصل الخطاب) أن يترك النظر في الرسالة الجوابية على (كشف الارتياب). وكان يوصي كل من كانت عنده نسخة من (فصل الخطاب) أن يضمّ إليه تلك الرسالة، فإنها بمنزلة المتمم لذلك الكتاب والكاشف عن مقصود مؤلفه(8). يقول الشيخ آغا بزرك الطهراني: سمعت شيخي النوري يقول: اني حاولت في هذا الكتاب اثبات ان الموجود بين الدفتين كذلك، باق على ما كان عليه في أول جمعه كذلك في عصر عثمان، ولم يطرأ عليه تغيير وتبديل كما وقع في سائر الكتب، فكان حريّاً بأن يسمى (فصل الخطاب في عدم تحريف الكتاب) فتسميته بهذا الاسم - اي فصل الخطاب في تحريف الكتاب - الذي يحمله الناس على خلاف مرادي، خطأ في التسمية ولكني لم أرد ما يحملونه عليه، بل مرادي اسقاط بعض الوحي المنزل الإلهي وإن شئت فسمّه "القول الفاصل في اسقاط بعض الوحي النازل"(9). على كل حال عمّت حالة الرفض - لرأي النوري - المراكز الشيعية في تلك الفترة وما بعدها الى يومنا هذا، كما اشرنا الى ذلك عند ذكر العلماء الأعلام الذين رفضوا فكرة التحريف بطبقاتهم المختلفة. فمن الظلم الفاحش نسبة التحريف لشيعة أهل البيت(عليهم السلام) مع هذا الموقف العام الرافض، بينما نجد أن كلمات وآراء غيرهم أقرب الى ادعاء التحريف، كما اوضحناه. محاولات يائسة لتحريف القرآن لقد استهدف أعداء الإسلام القرآن الكريم باساليب مختلفة، وبعد أن فشلت محاولاتهم في الطعن فيه والتقليل من شأنه لتشكيك المسلمين بكتابهم وابعادهم عنه، عمدوا الى التدخل المباشر في التلاعب بآيات القرآن الكريم وتحريفه، ففي أيلول عام 1960م أفادت انباء القاهرة ان (اسرائيل) قد قامت بطبع مائة ألف نسخة من القرآن الكريم، وقد ادخلت عليها التحريف، وذلك بإحداث اكثر من ألف خطأ مطبعي ولفظي متعمّد في طبعة محرّفة للقرآن، وقد تم توزيع هذه النسخ المحرّفة في جملة من البلدان الآسيوية والافريقية، كالمغرب وغانا وغينيا ومالي ودول أخرى، وقد اكتشفت سفارة الجمهورية العربية المتحدة في المغرب هذه المحاولة الأثيمة فأشعرت بذلك السلطات في القاهرة، وبعثت إليها ببعض النسخ المحرّفة. ومن جملة ما تضمنته هذه النسخ من فقرات التحريف: ألف: حذف الآيتين التاليتين من القرآن الكريم - حيث منع تدريسهما في مدارس العرب والمسلمين في الأرض المحتلة - ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(10). ب: حذف كلمة "غير" لينقلب المعنى عكسياً من قوله تعالى ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(11). ج: حذف كلمتي "ليست" من الآية الكريمة ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ﴾(12). د: ابدال عبارة (والله عزيزٌ حكيم) بعبارة "والله غفور رحيم" من قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(13)(14). وما زلنا بين حين وآخر نسمع عن طباعة جديدة محرّفة لكتاب الله الكريم وأساليب دنيئة اُخرى يروم من خلالها الأعداء إطفاء نور الله وتشويه معالم تنزيله ﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾(15). الأسئلة 1 - ما هي العلوم التي يحتاجها الدارس المتخصّص لفهم القرآن الكريم؟ 2 - اذكر ثلاثة آراء في توجيه معنى النزول الدفعي للقرآن. 3 - اذكر المعاني الأربعة للتحريف. 4 - اذكر شاهدين على ان المقصود من التحريف الوارد في بعض النصوص التحريف في المعنى. 5 - اذكر ثلاثة شواهد على ردّ ادعاء وجود اسماء بعض الأئمة ضمن النص القرآني. 6 - كيف تعالج ظاهر بعض النصوص التي يبدو منها وقوع التحريف في سورة الفاتحة والجمعة؟ 7 - ما هو موقف الرأي العام الشيعي من التحريف؟ 1- يراجع كليات في علم الرجال: 309 - 320 وصيانة القرآن من التحريف: 230 - 229. 2- صيانة القرآن من التحريف: 96. 3- من غير المعقول ان نفترض انها اخطاء تجمّعت صدفة من دون قصد، إذ كيف يسمح باحث لنفسه أن يجعل محور دراسته كتاباً لمؤلف ما من دون مراجعة كتب التراجم حولهما، ثم كيف يقع في هذين الالتباسين الواضحين، وكيف لا يميز باحث بين كتاب مؤلَّف في القرن الرابع عشر وطبيعة مؤلَّفات القرن الرابع؟!. 4- أصول التفسير وقواعده: 249 - 250 (ط بيروت) ويراجع أيضاً صيانة القرآن من التحريف: 93 - 100. 5-والمؤسف ان ذيول هذه الفكرة السخيفة ما تزال تلقي بظلالها على بعض الشخصيات في هذا العصر الذي انفتحت فيه الشعوب والثقافات على بعضها، حتى ان علال الفاسي - من الشخصيات المعاصرة في المغرب العربي - عندما زار إيران كان يهرع عند تجواله في مدينة (قم) الى ملاحظة نسخ القرآن الموجودة التي يراها، وعندما زار سماحة السيد محمد حسين الطباطبائي أخذ يلاحظ نسخ القرآن الموجودة في مكتبته، فقال له السيد: ايّها الاستاذ كأنّك تبحث عن (قرآن الشيعة)، لأنّي لاحظتك تفحص نسخ القرآن الموجودة أينما حللت. فقال الفاسي: أحسنت، بلى لعن الله الاستعمار الفرنسي والمستشرقين الغربيين حيث أشاعوا في شمال أفريقيا ان قرآن الشيعة يختلف عن قرآن أهل السنّة، وانا عندما حللت في ايران لاحظت عشرات النسخ من القرآن في طهران ومشهد وقم في المكتبات ومحلات بيع الكتب ودققت فيها فلم أجد أدنى تفاوت بينها مع باقي نسخ القرآن، والآن عرفت مدى فاعلية خطة هؤلاء - الغربيين - في التفريق بين المسلمين. (يراجع طبقات مفسرين شيعه 1/87 - 88). ويجدر بنا أن نتساءل هل ان هذه الخطة الاستعمارية جاءت من فراغ؟ أو ليس تعصب بعض المسلمين وافتراءاتهم خلقت الأرضية المناسبة لهم؟! وهل يليق (بالعلماء والمثقفين) - وهم على اعتاب القرن الحادي والعشرين - أن تنطلي عليهم هذه الخطة وما تحمله من فكرة سخيفة، وهم يشاهدون عشرات الملايين من شيعة أل البيت(عليهم السلام) منتشرين في البلاد التي يحكمها غير الشيعة، فكيف لم يستطع هؤلاء الحكام - بما يمتلكونه من إمكانيات - الكشف عن هذا القرآن المزعوم، خاصة ان شيعة أهل البيت(عليهم السلام) يقفون في مناطق عديدة من العالم في مواجهة قوى الكفر العالمي بقدراتها الهائلة وبمسعاها الحثيث في تمزيق شمل المسلمين وتشتيتهم؟!! والغريب انّه بينما يتهم شيعة أهل البيت(عليهم السلام) بهذه الفرية الباطلة نجد بعض بلاد المغرب العربي تلتزم مصحفاً على قراءة (ورش) يختلف جزئياً عن المصحف المنتشر بين المسلمين بقراءة عاصم، والذي منع تداوله في كثير من البلدان الإسلامية، ومع ذلك لا يُتّهمون بالتحريف واختلاق مصحف آخر، وما أدري كم كان حجم التُهم على اتباع أهل البيت(عليهم السلام) لو كان حكام دول المغرب العربي منتسبين إليهم؟! 6- الأنوار النعمانية: 3 133. 7- البرهان: 143 - 144. 8- صيانة القرآن من التحريف: 115 - 116. 9- الذريعة: 10 220 - 221، و 16 231 - 232، و 18 9. 10- سورة الممتحنة: 8 - 9. 11- سورة آل عمران: 85. 12- سورة البقرة: 113. 13- سورة المائدة: 38. 14- يراجع كتاب دراسات قرآنية: 174 - 175. 15- سورة الصف: 8. » البــاحــــث الـقــرآنــــي بـــحــــــث تصــفـــــح صفحـــــــة البـــــــدايـــــة حــــول الـــــمـــــوقـــــــع » المـكـتـبـــة المـقـــروءة كتب علوم القرآن كـتــب الـتـفـسـيـر دراسات وبحـوث » مـــســـــائــــــــل وردود أرسـل مسـألـتــك شبهات وإشكالات فـقـــــه الـقــــرآن تـاريــخ الـقـــرآن مـسـائــل لـغـويــة عـلــم الـتـجـويـــد مــتـــفــــرقــــــات » قــصـــص الـــقــــــرآن قصص نبي الإسلام قصص الأنــبــيــــاء قصص قرآنية عامة تــــاريــــخ الــــقـــــــــرآن » أعــــــلام الـــقــــــــرآن أعــلام المفسرين أعــلام الـقــــراء كــتــاب الوحــي الـشـخــصــيــات الفرق والمذاهب الـجـــمـــــــادات الحـيــــوانـــــات الــطــــــيـــــــور الـحــــشـــــــرات النــــبــــاتـــــــات مـــفـــــردات الــــقــــــرآن إعـــــراب الـــــــقـــــــرآن أســبــــــاب الــــنـــــــزول » عــلـــــوم الـــقـــــــرآن الـــــــــــوحـــــــــــي المـكــي والــمــدنــي نـــــزول الـــقـــــرآن الـــقـــــــــــــــراءات المحكـم والمتـشـابــه الناسـخ والمـنـسـوخ الآيــات المنـسـوخــة الإعجــاز الـقـرآنـــي الأمـثـال في الـقــرآن الأقسـام فـي القــرآن » القرآن وأهل البيت (ع) القرآن عند أهل البيت (ع) أهل البيت (ع) في القرآن مـا ورد في فـضـل الـســور الــــمـــــــقـــــــــــــــــالات آيــــة وتــفــــســــــيــــــــر عـلـــــــم الـتــجـــويــــــــد الـمـعــــرض الــقــــــرآني المـكـتـبـــة المسـمـوعــــة » الـتــلاوات الـقـرآنـيــــة الـــــــــــــــــــدورات تـــلاوات (خارجــي) تـــلاوات (أستوديو) المحاضـرات القرآنـيــــــة الـدروس القــرآنـــيــــــــة الابتـهالات والتـواشـيــــح الأدعـــــــــيــــــــــــــــــــة أذان الــــــــصـــــــــــــلاة » مشـاركــــات الـــــزوار تـلاوات قرآنـيــة أذان الـصــــــلاة المـكـتـبـــة المـرئــيــــة الـتـــلاوات الـقـرآنـيــــــة المحاضـرات القرآنـيــــــة الـدروس القــرآنـــيــــــــة » قــصـــص الـــقــــــرآن أصحــاب الـكـهـــف مـريـــم المـقــدســـة النــبــي أيــوب (ع) النــبـي إبراهيم (ع) النــبـي يوسف (ع) عداد الزوار 8448250 مواقع تابعة http://hodaalquran.com/imgs/sites.gif إصداراتنا المعروضة للبيع http://hodaalquran.com/banners/products.gif Copyright ® 2007 Al-Hoda Hawzah For Islamic Researches <IMG id=lightboxImage> http://hodaalquran.com/gallery/eff/images/loading.gif http://hodaalquran.com/gallery/eff/i...closelabel.gif |
الدرس الخامس والثلاثون (التفسير والمفسّرون) 1 - التفسير التفسير في اللغة: الإيضاح والإبانة. قال الفيروزآبادي: الفسر الابانة وكشف المغطى كالتفسير(1). وقال ابن منظور: "الفسر كشف المغطى، والتفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل"(2). وأمّا علم تفسير القرآن فقد عرّفه أبو حيان بأنه: "علم يبحث عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها واحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتمات لذلك"(3). وقد اهتمّ الباحثون في علوم القرآن، وكذلك المفسّرون في التفريق بين التفسير والتأويل. ويفترض الرجوع الى اللغة أولاً لمعرفة المعنى اللغوي للتأويل والمعنى الاصطلاحي لهم فيه، ثم بحث الفرق بينهما... فالتأويل في اللغة مأخوذ من الأوْل وهو الرجوع، قال في القاموس: آل إليه أوْلاً ومآلاً رجع... ثم قال: وأوّل الكلام تأويلاً وتأوّله تدبّره وقدّره وفسّره(4). فجعلُ التأويلِ بمعنى التفسير كأنه باعتبار أن المؤوِّل - اي المفسِّر - يُرجع اللفظ الى معناه. امّا في الاصطلاح فقد قيل ان ما هو المقصود عند السلف غير ما هو المقصود عند المتأخرين، قال محمد حسين الذهبي: التأويل عند السلف له معنيان: احدهما: تفسير الكلام وبيان معناه، سواء وافق ظاهره أم خالفه فيكون التأويل والتفسير - على هذا - مترادفين، وهذا ما عناه مجاهد من قوله: ان العلماء يعلمون تأويله، يعني القرآن، وما يعنيه ابن جرير الطبري بقوله في تفسيره: القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا، وبقوله: اختلف أهل التأويل في هذه الآية" ونحو ذلك، فإن مراده التفسير. ثانيهما: هو نفس المراد بالكلام فإن كان الكلام طلباً كان تأويله نفس الفعل المطلوب، وإن كان خبراً كان تأويله نفس الشيء المخبر به.. فإذا قيل طلعت الشمس فتأويل هذا هو نفس طلوعها. المعنى الثالث: التأويل عند المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمحدّثة والمتصوفة... هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح - أي الظاهر - الى المعنى المرجوح لدليل يقترن به(5). والصحيح ان التأويل لا يشترط فيه وجود الدليل او القرينة على المعنى المرجوح دائماً، ولذلك يطلق التأويل على التفسير بالباطن مع أنّه خال عن الدليل غالباً، اذن التأويل بهذا المعنى يطلق على حمل اللفظ على غير المعنى الظاهر فيه ولو من دون دلالة على ذلك، نعم ربما تكون هناك ادلة او قرائن خفية يعرفها العارف بالتأويل، يكون هذا هو المعنى الثالث للتأويل. المعنى الرابع: حكمة ومغزى بعض الأفعال مما يخفى على الناس عامة، كما في قضية الخضر (عليه السلام) مع النبي موسى (عليه السلام) ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾(6). وأمّا التفسير فقد شاع استعماله في كلمات العلماء والمفسرين في معنيين.. 1 - مطلق حمل اللفظ على المعنى، سواء كان ظاهراً فيه أم لم يكن، وسواء كانت هناك قرينة عليه أم لا. وبهذا المعنى يسمون حمل اللفظ على المعنى الباطن تفسيراً. فيقولون عنه: انه تفسير بالباطن. 2 - خصوص حمل اللفظ على المعنى الظاهر منه، - الذي قد يخفى على البعض - وان كان سبب هذا الظهور التأمل والتمعّن في نفس الكلام أو القرينة المحيطة بالكلام. فيكون التفسير - بهذا المعنى - في مقابل (التأويل) الذي هو حمل اللفظ على غير المعنى الظاهر، وهو اخصّ من التفسير بالمعنى الأول. 1- القاموس المحيط: 2 110. 2- لسان العرب: 6: 361. 3- مباحث في علوم القرآن: 324، تأليف مناع القطان. 4- القاموس: 3 331. 5- التفسير والمفسّرون: 1 17 - 18. 6- سورة الكهف: 82. |
الدرس السادس والثلاثون (الاتجاهات العامة في التفسير) اختلفت اتجاهات المفسّرين في تفاسيرهم من عدة اعتبارات، منها..1 - طبيعة المصدر الذي يعتمدونه في التفسير.. 2 - المنهج الذي ينتهجونه في التفسير. وسوف نتحدث عن كل واحد من هذين الاعتبارين واختلاف التفاسير بحسبها ضمن فصول.. (الفصل الأول) اختلاف التفاسير بحسب المصدر المعتمد في التفسير تختلف التفاسير بحسب طبيعة المصدر العام الذي تعتمده في تفسير آيات القرآن الكريم، ويمكن ان نلاحظ فيها هذه الأقسام: 1 - التفسير بالمأثور. 2 - التفسير بالرأي. 3 - التفسير الإشاري. 4 - تفسير القرآن بالقرآن. 1 - التفسير بالمأثور التفسير بالمأثور يراد منه تفسير القرآن اعتماداً على ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم)(1) أو الائمة (عليهم السلام) - عند شيعة أهل البيت(عليهم السلام) - أو الصحابة - لدى الجمهور -، ويعممه بعض مفسّريهم منهم الى المروي عن التابعين. أ: التفسير بالمأثور لدى الجمهور وتلاحظ فيه نقاط الضعف التالية: 1 - اعتمادهم على التفسير المروي عن الصحابة والتابعين مع وضوح أن قول الصحابة فضلاً عن التابعين يفقد الحجية والاعتبار، فهم كسائر المسلمين يحتمل قولهم وفهمهم للخطأ، ولذلك اختلفت مواقفهم و آراؤهم، بما في ذلك تفسير القرآن فكيف يمكننا الاعتماد على آرائهم وتفاسيرهم؟ وقد تنبّه لذلك الدكتور صبحي الصالح حيث قال: بيد أن اطلاق بعضهم أن تفسير الصحابة له حكم المرفوع اطلاق غير جيّد، لأن الصحابة اجتهدوا في تفسير القرآن، واختلفوا في بعض المسائل والفروع، كما رأينا بعضهم يروي الإسرائيليات عن أهل الكتاب(2). ويقوى الاشكال بالنسبة إلى التابعين فإنهم كثيراً مّا كانوا يعتمدون على اجتهادهم وفهمهم من دون الرجوع الى الرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم). قال محمد حسين الذهبي: وقد روت لنا كتب التفسير كثيراً من اقوال هؤلاء التابعين في التفسير قالوها بطريق الرأي والاجتهاد، ولم يصل الى علمهم شيء فيها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أو عن أحد من الصحابة(3). وحكي عن أبي حنيفة قوله: ما جاء عن الرسول (ص) فعلى العين والرأس، وما جاء عن الصحابي تخيّرنا منه، وأما ما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال"(4) وعُرف عنه انه يعتبر الحديث المروي عن التابعين - الذي يسمى الحديث المقطوع - ضعيفاً لا يحتجّ به(5). 2 - كثرة الوضع في التفسير بالمأثور يلاحظ ان التفسير بالمأثور تعرّض لمحنة الوضع والكذب من قبل الرواة على نطاق واسع، سواء في ذلك ما يروى كذباً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، ولذا نرى كثرة الأساطير والخرافات. وقد اعترف بهذا محمد حسين الذهبي وأحمد امين حيث قال: "ان القصاص والوضّاع زادوا في هذا النوع من التفسير كثيراً، ونسبوا الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما لم يقله، وليس أدل على هذا مما أخرجه الحاكم عن أنس انه قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن قوله تعالى: ﴿وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ﴾(6) قال القنطار ألف اوقية. وما أخرجه أحمد وابن ماجة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): القنطار اثنا عشر ألف اوقية"(7). ولذا نجد احمد بن حنبل - رغم ما عرف عنه من كثرة الروايات - يقول: "ثلاثة ليس لها أصل: التفسير والملاحم والمغازي"، قال أحمد أمين "وظاهر هذه الجملة ان الأحاديث التي وردت في التفسير لا أصل لها وليست بصحيحة، والظاهر - كما قال بعضهم - انه يريد الأحاديث المرفوعة الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في التفسير"(8). رغم ان البعض حاول أن يحمل كلامه على ان الغالب ليس لها اسانيد صحاح متصلة(9). ولم يختص الكذب والوضع على الأحاديث المنسوبة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بل نجده على نطاق واسع بالنسبة لأحاديث التفسير المنسوبة للصحابة، فهذا ابن عباس رغم العدد الهائل المروي عنه في التفسير فإنّ ابن الحكم يقول سمعت الشافعي يقول: لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلاّ شبيه بمائة حديث(10). ومما وضع على لسان ابن عباس روايات فضائل سور القرآن. فقد حكي عن المختصر للاصول: أنه قيل لأبي عصمة نوح بن ابي مريم من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة؟ فقال: رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن اسحاق فوضعتُ هذه الأحاديث حُسبةً". ونظير ذلك ما روي عن اُبيّ بن كعب في فضائل سور القرآن "قال الصاغاني: وضعه رجل من عبادان"(11). 1- جمع السيوطي كل الأحاديث المسندة - من طرق أهل السنة - الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في التفسير، راجع الاتقان 4/245 - 298 وسوف تلاحظ قلتها. 2- علوم الحديث ومصطلحه: 209، قد نسب ذلك الى الدكتور أحمد محمد شاكر في كتابه الباعث الحثيث: 50. 3- التفسير والمفسّرون: 1 100. 4- علوم الحديث ومصطلحه: 210. 5- يراجع المصدر نفسه. 6- سورة آل عمران: 14. 7- فجر الإسلام: 425. 8- ضحى الإسلام: 2 141. 9- راجع الاتقان: 2 178، ومقدمة في أصول التفسير: 95. 10- الاتقان: 2 189. 11- يراجع تذكرة الموضوعات: 82. |
الدرس السابع والثلاثون 3 - الإسرائيلياتوهي الآراء التي تسربت من اليهود والنصارى فاعتمدها بعض المسلمين في تفسير القرآن الكريم، وانّما سمّيت بالاسرائيليات تغليباً لجانب التأثير اليهودي على جانب التأثير النصراني "فان الجانب اليهودي هو الذي اشتهر امره فكثر النقل عنه، وذلك لكثرة اهله وظهور امرهم وشدة اختلاطهم بالمسلمين من مبدأ ظهور الإسلام الى أن بسط رواقه على كثير من بلاد العالم"(1). مبدأ ظهور الإسرائيليات الملاحظ أن دخول الاسرائيليات في التفسير بدأ منذ عهد الصحابة كما اعترف به عدد من المفسرين الباحثين. قال محمد حسين الذهبي: وسبق لنا القول بأن الرجوع الى أهل الكتاب كان مصدراً من مصادر التفسير عند الصحابة، فكان الصحابي اذا مرّ على قصة من قصص القرآن يجد من نفسه ميلاً الى أن يسأل عن بعض ما طواه القرآن ولم يتعرض له، فلا يجد من يجيبه على سؤاله سوى هؤلاء النفر الذين دخلوا الى الإسلام وحملوا الى أهله ما معهم من ثقافة دينية فألقوا إليهم من الأخبار والقصص الدينية(2). وقد أخذ هذا من ابن خلدون حيث اشار إليه في مقدمته(3). وقد ادعى محمد حسين الذهبي انّهم لم يقبلوا كل شيء منهم، بل حتى ما اخذوه منهم لم يعتمدوا عليه، اعتماداً على ما رووه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم): لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا (آمنا بالله وما انزل إلينا وما اُنزل إليكم) الآية(4). لكنه لم يدعم رأيه هذا بشواهد، بل الشواهد على خلافه حيث شحنت كتب التفاسير بكثير من الروايات التفسيرية المنسوبة للصحابة المليئة بالأفكار الإسرائيلية، ولو كان الصحابة قد تحرّجوا من أخذ هذه الأفكار الاسرائيلية لظهر اثر هذا التوقف على مَن بعدهم فلم يعتمدوا على قبول الاسرائيليات على هذا النطاق الواسع، على انّ مكانة كعب الأحبار وعبدالله بن سلام في روايات التفسير ظاهرة لكل من راجعها. وقد بلغ تغلغل الأفكار الاسرائيلية في روايات الحديث حتى دُعم ذلك بأحاديث نسبوها للرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم)، مثل ما رواه البخاري عنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) "بلّغوا عني ولو آية، وحدّثوا عن بني اسرائيل ولا حرج، من كذب عليّ فيلتبوّأ مقعده من النار"(5). ويبدو من بعض النصوص المروية في مصادر الجمهور أن قضية الأخذ من اهل الكتاب بدرت من بعض الصحابة في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) مما ادى الى غضب الرسول، فقد اخرج احمد وابن ابي شيبة والبزار من حديث جابر بن عبدالله: "ان عمر بن الخطاب اتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بكتاب اصابه من بعض اهل الكتاب فقرأه عليه، فغضب، فقال: "أمتهوّكون - اي أمتحيّرون - فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حياً ما وسعه إلاّ أن يتبعني"(6). ونلاحظ مدى تذمّر النبي وغضبه من مراجعة أهل الكتاب وسؤالهم، كما انّ النص يوحي ان عمر و ربما غيره من الصحابة أيضاً محتارون في الموقف بين ما يسمعونه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وما يسمعونه من أهل الكتاب المناقض لذلك. ومن ذلك ما روي أنه أُتي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بكتاب في كنف فقال: "كفى بقوم حمقاً أو ضلالة أن يرغبوا عمّا جاءهم به نبيّهم الى نبي غير نبيّهم أو كتاب غير كتابهم". فأنزل الله عزوجل ﴿أولَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ...﴾(7)(8). وقد رووا ان عبدالله بن عمرو بن العاص اصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب اليهود فكان يحدّث منهما(9). وهذا يكشف عن حالة سائدة ومقبولة بين الصحابة بحيث لم يتحرج عبدالله بن عمرو بن العاص من رواية هذا العدد الكبير من هذه الكتب اليهودية. وعندما نراجع التابعين في تفاسيرهم نجد أن الطامة اكبر وأن الخرق يتسع كثيراً. قال محمد حسين الذهبي: امّا التابعون فقد توسعوا في الأخذ عن اهل الكتاب فكثرت على عهدهم الروايات الاسرائيلية في التفسير... فحشوا التفسير بكثير من القصص المتناقض، ومن هؤلاء مقاتل بن سليمان المتوفي سنة (150هـ) الذي نسبه ابو حاتم الى انه استقى علومه بالقرآن من اليهود والنصارى وجعلها موافقة لما في كتبهم، بل ونجد بعض المفسرين في هذا العصر - عصر التابعين - يصل بهم الأمر الى أن يصلوا بين القرآن وما يتعلق بالاسلام في مستقبله، فيشرحوا القرآن بما يشبه التكهن عن المستقبل والتنبؤ بما يطويه الغيب، فهذا مقاتل بن سليمان...(10). وقد قدّمنا رأي ابن خلدون حول انتشار الاسرائيليات، وانه قد عدّ كعب الاحبار ووهب بن منبه وعبدالله بن سلام وامثالهم من التابعين أوائل من سرّب الاسرائيليات الى تفسير القرآن. ويبدو ان قوله "امثالهم" يشمل مثل عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريح التابعي. وقد طعن بعض الباحثين مثل احمد امين(11) ورشيد رضا في كعب الاحبار ووهب بن منبّه، قال رشيد رضا: - بعد أن اشار إلى طعن ابن تيمية فيهما - فكيف لو تبيّن له - ابن تيمية - ما تبيّن لنا من كذب كعب ووهب وعزوهما الى التوراة وغيرها من كتب الرسل ما ليس فيها شيء منه ولا حوّمت حوله(12). 1- التفسير والمفسّرون: 1 145. 2- التفسير والمفسّرون: 1 169. 3- راجع مناهل العرفان: 2 29. 4- كذا بلفظ البخاري في الجامع الصحيح: 4 374. لكن لا توجد آية قرآنية بهذا اللفظ. 5- الجامع الصحيح: 4 145، طبع دار الفكر، بيروت. 6- التفسير والمفسّرون: 1 172 - 173. 7- سورة العنكبوت: 51. 8- جامع بيان العلم وفضله: 2 50. 9- التفسير والمفسّرون: 1 175. 10- التفسير والمفسّرون: 1 176. 11- راجع فجر الإسلام: 198. 12- تفسير المنار: 1 9. » البــاحــــث الـقــرآنــــي بـــحــــــث تصــفـــــح صفحـــــــة البـــــــدايـــــة حــــول الـــــمـــــوقـــــــع » المـكـتـبـــة المـقـــروءة كتب علوم القرآن كـتــب الـتـفـسـيـر دراسات وبحـوث » مـــســـــائــــــــل وردود أرسـل مسـألـتــك شبهات وإشكالات فـقـــــه الـقــــرآن تـاريــخ الـقـــرآن مـسـائــل لـغـويــة عـلــم الـتـجـويـــد مــتـــفــــرقــــــات » قــصـــص الـــقــــــرآن قصص نبي الإسلام قصص الأنــبــيــــاء قصص قرآنية عامة تــــاريــــخ الــــقـــــــــرآن » أعــــــلام الـــقــــــــرآن أعــلام المفسرين أعــلام الـقــــراء كــتــاب الوحــي الـشـخــصــيــات الفرق والمذاهب الـجـــمـــــــادات الحـيــــوانـــــات الــطــــــيـــــــور الـحــــشـــــــرات النــــبــــاتـــــــات مـــفـــــردات الــــقــــــرآن إعـــــراب الـــــــقـــــــرآن أســبــــــاب الــــنـــــــزول » عــلـــــوم الـــقـــــــرآن الـــــــــــوحـــــــــــي المـكــي والــمــدنــي نـــــزول الـــقـــــرآن الـــقـــــــــــــــراءات المحكـم والمتـشـابــه الناسـخ والمـنـسـوخ الآيــات المنـسـوخــة الإعجــاز الـقـرآنـــي الأمـثـال في الـقــرآن الأقسـام فـي القــرآن » القرآن وأهل البيت (ع) القرآن عند أهل البيت (ع) أهل البيت (ع) في القرآن مـا ورد في فـضـل الـســور الــــمـــــــقـــــــــــــــــالات آيــــة وتــفــــســــــيــــــــر عـلـــــــم الـتــجـــويــــــــد الـمـعــــرض الــقــــــرآني المـكـتـبـــة المسـمـوعــــة » الـتــلاوات الـقـرآنـيــــة الـــــــــــــــــــدورات تـــلاوات (خارجــي) تـــلاوات (أستوديو) المحاضـرات القرآنـيــــــة الـدروس القــرآنـــيــــــــة الابتـهالات والتـواشـيــــح الأدعـــــــــيــــــــــــــــــــة أذان الــــــــصـــــــــــــلاة » مشـاركــــات الـــــزوار تـلاوات قرآنـيــة أذان الـصــــــلاة المـكـتـبـــة المـرئــيــــة الـتـــلاوات الـقـرآنـيــــــة المحاضـرات القرآنـيــــــة الـدروس القــرآنـــيــــــــة » قــصـــص الـــقــــــرآن أصحــاب الـكـهـــف مـريـــم المـقــدســـة النــبــي أيــوب (ع) النــبـي إبراهيم (ع) النــبـي يوسف (ع) عداد الزوار 8448278 مواقع تابعة http://hodaalquran.com/imgs/sites.gif إصداراتنا المعروضة للبيع http://hodaalquran.com/banners/products.gif Copyright ® 2007 Al-Hoda Hawzah For Islamic Researches <IMG id=lightboxImage> http://hodaalquran.com/gallery/eff/images/loading.gif http://hodaalquran.com/gallery/eff/i...closelabel.gif |
الدرس الثامن والثلاثون 4 - حذف الإسناد أو ضعفهويعتبر هذا سبباً رئيسياً لضعف التفسير بالمأثور، حيث اختلطت النصوص الصحيحة مع غيرها من الموضوعات. وقد حفلت كتب التفسير بالمأثور بروايات أشخاص مطعون فيهم، ومن شواهد ذلك انّ الضحاك الذي نقلت عنه اقوال ذكر انه رواها عن ابن عباس قد قال عنه نقّاد الرجال: انه لم يلق ابن عباس، وبذا تكون روايته غير مسلّحة، وقالوا: ان في جميع ما رواه نظراً. وانّ السدّي الكبير الذي روي له كثير قالوا فيه: انه ضعيف وشتام (ورمي بالتشيع) وان كان بعضهم يقول عنه: انه مستقيم الحديث صادق. وان محمد بن السائب الكلبي - وإن رضيه بعضهم - فقد قال بعض آخر: إنه ليس بثقة، ولا يكتب حديثه، كما اتهمه بعضهم بالوضع. قال محمد بن طاهر الهندي - بعد أن ذكر أن أشهر كتب التفسير كتابان: أحدهما للكلبي والآخر لمقاتل بن سليمان -: "وقد قال أحمد في تفسير الكلبي: من أوله الى آخره كذب لا يحل النظر فيه"(1). أما مقاتل بن سليمان - الذي قالوا عنه: ان الناس عيال عليه في التفسير - فقد ذكروا انه يروي عن مجاهد ولم يسمع منه شيئاً، ويروي عن الضحاك ولم يسمع منه شيئاً، لأن الضحاك قد مات قبل ان يولد مقاتل بأربع سنوات(2). ويحاول بعض الباحثين ادعاء انّ انتشار حذف الأسانيد حدث في التفاسير المؤلفة بعد عصر التابعين بفترة طويلة حتى قال محمد حسين الذهبي "... لم يعرف عن الصحابة انهم كانوا يُسألون عن الاسناد، لما عُرِفوا به جميعاً من العدالة والأمانة..." ثم جاء عصر التابعين، وفيه ظهر الوضع وفشا الكذب، فكانوا لا يقبلون حديثاً إلاّ إذا جاء بسنده وثبت لهم عدالة رواته،... ثم جاء بعد عصر التابعين مَن جمَع التفسير ودوّن ما تجمّع لديه من ذلك، فالّفت تفاسير تجمع اقوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في التفسير وأقوال الصحابة والتابعين مع ذكر الاسانيد كتفسير سفيان بن عيينه ووكيع بن الجراح وغيرهما ممن تقدم ذكرهم، ثم جاء بعد هؤلاء اقوام الّفوا في التفسير فاختصروا الاسانيد ونقلوا الأقوال غير معزوّة لقائليها...(3). ب: التفسير بالمأثور لدى الشيعة وتلاحظ فيه النقاط التالية: 1- قلّة التفاسير الجامعة المستوعبة لكل الكتاب العزيز. فنلاحظ ان تفسير فرات الكوفي وتفسير علي ابن ابراهيم وتفسير العياشي غير مستوعبة للآيات القرآنية. 2- فقدان النسخ الأصلية لبعض هذه التفاسير، مثل تفسير العياشي، حيث عمد بعض النساخ إلى حذف أسانيد الروايات، وقد انتشرت هذه النسخة وفقدت النسخة الأصلية المسندة، وبذلك فقد الكتاب كثيراً من قيمته العلمية. كما ان الجزء الثاني من هذا التفسير مفقود. وكذلك التفسير الموجود المنسوب إلى علي بن ابراهيم القمي فإن كثيراً من الباحثين يشكوّن في مطابقته للنسخة الأصلية للتفسير. 3- ضعف السند في الكثير من النصوص التفسيرية. 4- عدم وصول بعض التفاسير بطريق معتبر، فمثلاً نجد أنّ الرواية المحفوظة لتفسير علي بن ابراهيم القمي تنحصر بالعباس بن محمد الذي لم يُترجم في الكتب الرجالية. من أشهر التفاسير بالمأثور 1 - تفسير فرات بن ابراهيم بن فرات الكوفي(ت حوالى: 307). 2 - تفسير العياشي. لمحمد بن مسعود بن محمد بن عياش التميمي (عاش في اواخر القرن الثالث). 3 - جامع البيان في تفسير القرآن. لمحمد بن جرير الطبري (224 - 310). 4 - تفسير علي بن ابراهيم القمي (ت: 329). 5 - بحر العلوم. أبو الليث نصر بن محمد السمرقندي (ت: 373 - 375). 6 - الكشف والبيان عن تفسير القرآن، ابو اسحاق احمد بن ابراهيم الثعلبي (ت: 427). 7 - التبيان في تفسير القرآن. أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت: 460). 8 - معالم التنزيل. أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (ت: 510). 9 - مجمع البيان في تفسير القرآن. أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ت: 538). 10 - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز. أبو محمد بن عبدالحق بن غالب بن عطية (481 - 546). 11 - تفسير القرآن العظيم. اسماعيل بن عمرو بن كثير (ت: 774). 12 - الجواهر الحسان في تفسير القرآن. أبو زيد عبدالرحمن بن محمد الثعالبي (ت: 876). 13 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور. جلال الدين بن أبي بكر بن محمد السيوطي (849 - 911). 1- تذكرة الموضوعات: 82. 2- راجع التعريف بالقرآن والحديث، تأليف محمد الزفزاف: 170 - 171. 3- التفسير والمفسّرون: 1 202. |
الدرس التاسع والثلاثون (التفسير بالرأي) 2 - التفسير بالرأيوالمقصود منه هنا أن يعتمد الانسان في تفسير الآيات القرآنية على رأيه المجرّد من خلال قناعاته الشخصية المسبقة فيوجه أو يؤوّل الآيات القرآنية بما ينسجم معها. وقد تضمنت النصوص الكثيرة النهي ن هذا التفسير والتحذير منه. وهو غير التفسير الاعتباطي(1) الذي يسلكه بعض المفسّرين على طريقة القصاصين، لجذب العامة وخديعتهم. وقد يطلق التفسير بالرأي في كلمات بعض العلماء على كل جهد عقلي واجتهادي لتفسير الآيات القرآنية، وهو غير التفسير بالرأي المنهي عنه الذي أشرنا إليه. وعلى كل حال هناك ثلاثة اتجاهات رئيسية في التفسير - أشار إليها العلاّمة الطباطبائي - وهي: 1 - التفسير الذي يعتمد على قناعات الانسان وآرائه المسبقة، وهذا هو التفسير بالرأي المنهي عنه، ونلاحظ ان كثيراً من المفسّرين وقعوا في هذا المأزق حيث اقحموا قناعاتهم المسبقة في تفسير الآيات، وحمّلوا الآيات الكريمة آراءهم الخاصة وتوجّهاتهم. فالمعتزلي يفسّر الآية بما ينسجم مع منهجه الاعتزالي، والأشعري كذلك، والفيلسوف يجرّ الآيات الى دعم آرائه الفلسفية، والعرفاء والمتصوّفة حوّلوا القرآن الى رموز واشارات وفق أذواقهم وهكذا... حتى ان المنبهرين بالتطور الهائل للعلوم المادية جعلوا من القرآن كتاب فهرسة للإشارة للنظريات العلمية المختلفة... ففقدت تفاسيرهم روعة القرآن وحيويّته ودوره الفاعل في هداية الناس وارشادهم لمقتضيات الفطرة السليمة والمُثل العليا في الأخلاق والسلوك ورسم الخطوط التوجيهية العامة للبشرية مجتمعات وافراداً. 2 - تفسير الآيات من خلال الجمود على الروايات الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة المعصومين(عليهم السلام) - عند الشيعة - او الصحابة والتابعين - عند الجمهور-. وهذه هي الطريقة التي كانت متبعة لدى الطبقات الأولى من المفسّرين بشكل عام. ويلاحظ على هذه الاتجاه التفسيري انه يحدّد دور القرآن الكريم ويحصره في زوايا ضيّقة، فيفقد حيويّته وفاعليّته في حياة الأجيال المتعاقبة، خصوصاً عند الجمهور حيث لا تتجاوز الأحاديث النبوية في التفسير مائتين وخمسين حديثاً - مع ما في سند اكثرها من ضعف ومضمون بعضها من اضطراب وتهافت -. ورغم وجود أحاديث مروية عن الأئمة(عليهم السلام) اكثر من هذا الرقم بكثير لدى الشيعة الإمامية بحكم طول الفترة الزمنية التي عاشها الائمة(عليهم السلام) إلاّ ان الروايات المذكورة لا تفي بالكشف عن الدور الحقيقي للقرآن الكريم، وان التقيّد بموارد هذه النصوص يغيّب القرآن الكريم عن الواقع المعاصر ويحدّ من دوره وحيويته. على ان كثيراً من الآيات لم ترد في تفسيرها نصوص من طُرق الجمهور ولا من طُرق شيعة أهل البيت(عليهم السلام). 3 - تفسير القرآن بالاعتماد على التدبّر فيه، واستنطاق الآية الكريمة وملاحظة الآيات الأخرى المرتبطة بها، مع الرجوع للنصوص الواردة في المقام. ويتطلب هذا النحو من التفسير: أ: مستوى علمياً رفيعاً في العلوم المختلفة المرتبطة بالمواضيع التي يتناولها القرآن الكريم، بالإضافة الى دقّة المفسّر ووعيه الاجتماعي العام. ب: اصالة وعمق الثقافة الإسلامية للمفسِّر في مختلف الجوانب العقائدية والاجتماعية وغيرها، وإحاطته بالمصادر الاسلامية الأصيلة المتمثلة بالرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته الائمة المعصومين(عليهم السلام)، لأنّ القرآن الكريم وأهل البيت - كما جاء في حديث الثقلين المعروف - هما الثقلان اللذان خلفهما الرسول الكريم للأمة الاسلامية وانهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض. ج: الإحاطة والمراجعة الشاملة والدقيقة لكل ما يمكن أن يساهم في تفسير الآية، وعدم التسرع في التفسير، إلاّ بعد التثبت والوضوح التام، ومع عدمه فيُطرح الرأي كمجرد احتمال قابل للنقاش والدراسة من دون نسبته للقرآن. وهذا النمط من التفسير هو الذي ينسجم مع النصوص الكثيرة التي حثت على الرجوع للقرآن الكريم واستنطاقه، وانه لا يخلق على مرّ العصور والأيام... ففي كلام للإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: "وكتاب الله بين اظهركم ناطق لا يعيا لسانه وبيت لا تهدم اركانه وعزّ لا تهزم اعوانه"(2). وفي كلام آخر له (عليه السلام) أيضاً: "ثم انزل عليه الكتاب نوراً لا تطفا مصابيحه وسراجاً لا يخبو توقّده... فهو معدن الايمان وبحبوحته - أي وسطه - وبحر لا ينزفه المستنزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون - أي المستقون - ومناهل لا يغيضها الواردون... جعله الله رياً لعطش العلماء وربيعاً لقلوب الفقهاء... إلخ"(3). وهناك نصوص كثيرة عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته(عليهم السلام) تشير الى ذلك، هذا بالاضافة الى العديد من الآيات القرآنية الداعية للتدبر والتأمل في القرآن الكريم. ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾(4). ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾(5). ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾(6). 1- ومن المؤسف ان هذا (التفسير) - الذي يمكن اعتباره نوعاً من التقوّل والافتراء - كان له أصحابه الذين خدعوا الناس وأوهموهم، ومنهم مَن أخذ مساحة واسعة في الكتب التفسيرية أيضاً، فقد روي عن مالك بن أنس "انه بلغه ان مقاتلاً جاءه انسان فقال: ان انساناً جاءني فسألني عن لون كلب اصحاب الكهف، فلم أدرِ ما أقول، فقال له مقاتل: ألا قلتَ له أبقع، فلو قلتَه لم تجد أحداً يردّ عليك" (تهذيب التهذيب: 10 382). ويسلك هذا المنهج أصحاب الضلالات والبدع لأجل التأثير على اتباعهم واللبس عليهم. ونحن نعرض عن هذا النمط، لأنه ليس تفسيراً في الحقيقة بل هو مجرد أكاذيب وافتراءات. 2- تصنيف نهج البلاغة: 209. 3- تصنيف نهج البلاغة: 212. 4- سورة النساء: 82. 5- سورة ص: 29. 6- سورة محمّد: 24. |
الدرس الأربعون (التفسير الإشاري وتفسير القرآن بالقرآن) 3 - التفسير الإشاريوقد عرّفه الزرقاني بأنه تأويل القرآن بغير ظاهره لإشارة خفية تظهر لأرباب السلوك والتصوّف، ويمكن الجمع بينها وبين الظاهر المراد أيضاً(1). وقد تعرّض الذهبي الى نمط آخر من التفسير سماه التفسير الصوفي النظري، لكن قال: "ولم نسمع بأن أحداً ألف في التفسير الصوفي النظري كتاباً خاصاً يتبع القرآن آية آية، كما اُلّف مثل ذلك بالنسبة للتفسير الإشاري، وكل ما وجدناه من ذلك هو نصوص متفرقة اشتمل عليها التفسير المنسوب الى ابن عربي وكتاب الفتوحات المكية له وكتاب الفصوص له ايضاً، كما يوجد بعض من ذلك في كثير من كتب التفسير المختلفة المشارب"(2). ونحن سوف نتحدّث بإيجاز عن هذا التفسير، وعن التفسير بالباطن الذي يشترك معه في الخط العام، فنقول: قد دأب على هذا التفسير فريقان هما: أ: المتصوفة وأهل (العرفان) حيث ذكروا في تفاسيرهم معاني غريبة للقرآن الكريم، حيث اعتبروا الآيات القرآنية رموزاً مشيرة الى هذه المعاني الخفية. ب: بعض المفسّرين الآخرين الذين يعتمدون نصوصاً على اساس أنها تبيّن بواطن القرآن. وبما ان هذه المعاني المذكورة في هذا النوع من التفسير بعيدة عن ظهور الألفاظ القرآنية ودلالاتها العرفية فلذلك لا يمكن الاعتماد عليها إلاّ اذا توفرت مجموعة من الشروط، منها.. 1 - أن تكون منسوبة الى الراسخين في العلم كالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة(عليهم السلام). 2 - أن تكون أسانيدها صحيحة ومعتمدة. 3 - أن تكون دلالتها واضحة لا لبس فيها. فباجتماع هذه الشروط يمكن الاعتماد على هذه التفاسير، ومن دون ذلك لا يمكن الوثوق بها. |
الدرس الحادي والأربعون (مناهج التفسير) عندما نراجع كتب التفسير نجدها تسير على وفق التسلسل الذي جُمع عليه القرآن الكريم، فهي جميعاً تبدأ بسورة الفاتحة وتنتهي بسورة الناس. ويمكن ان نسمي هذا المنهج بالتفسير الترتيبي ويسميه البعض التفسير التجزيئي."وفي تأريخ متأخر من تأريخ علم التفسير اخذت تنمو بوادر منهج جديد في التفسير أو البحث القرآني يقوم على اساس محاولة استكشاف النظرية القرآنية في جميع المجالات العقيدية والفكرية والثقافية والتشريعية والسلوكية من خلال عرضها في مواضعها المختلفة من القرآن الكريم، فحين نريد ان نعرف رأي القرآن الكريم في الألوهية، يستعرض هذا المنهج الجديد الآيات التي جاءت تتحدث عن هذا الموضوع في مختلف المجالات وفي جميع المواضيع القرآنية سواء في ذلك ما يتعلق بأصل وجود الإله أو بصفاته وحدوده ومن خلال هذا العرض العام والمقارنة بين الآيات وحدودها يستكشف النظرية القرآنية في الإله"(1). ونظير هذا الموقف يتخذه في كل المفاهيم والنظريات أو بعض الظواهر القرآنية، ويسمى هذا بالتفسير الموضوعي. ولأجل أن نكون على بصيرة كافية في فهم التفسير الموضوعي نشير الى المعاني الثلاثة للموضوعية التي ذكرها الشهيد السيد محمد باقر الصدر(قدس سره) الذي اهتم كثيراً بالتفسير الموضوعي ودعا اليه بقوّة. فقد ذكر (قدس سره) ان الموضوعية تستعمل هنا في ثلاثة معان: 1- الموضوعية في مقابل الذاتية "والموضوعية بهذا المعنى عبارة عن الامانة والاستقامة في البحث"(2). 2- الموضوعية بمعنى ان يبدأ الباحث من (الموضوع) الذي هو الواقع، ويعود الى القرآن الكريم لمعرفة ما يطرحه القرآن تجاه هذا الواقع، فيركّز المفسّر نظره على موضوع من المواضيع ويستوعب ما اثارته ابحاث الانسان وما قدّمه الفكر الانساني من حلول وما طرحه التطبيق التاريخي من اسئلة ومن نقاط فراغ، ثم يأخذ النص القرآني... ويبدأ معه حواراً، فالمفسّر يسأل والقرآن يجيب، وهو يستهدف من ذلك ان يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح(3). وقد يسمى هذا بالمنهج التوحيدي باعتبار أنه يوحد بين التجربة البشرية والقرآن الكريم، لا بمعنى انه يحمّل التجربة البشرية على القرآن بل بمعنى انه يوحد بينهما في سياق واحد لكي يستخرج - نتيجة هذا السياق - المفهوم القرآني الذي يمكن أن يحدد موقف الإسلام تجاه هذه التجربة او المقولة الفكرية"(4). 3- الموضوعية بمعنى ما ينسب الى الموضوع الذي يختاره المفسّر ليجمع الآيات التي تشترك في التعرض لذلك الموضوع فيفسّرها ويحاول استنتاج نظرية قرآنية فيما يخص ذلك الموضوع "ويمكن أن يسمى مثل هذا المنهج منهجاً توحيدياً أيضاً باعتبار انه يوحّد بين هذه الآيات ضمن مركب نظري واحد"(5). وعندما نرجع الى هذه المعاني الثلاثة للموضوعية يتضح ان المعنى الأول خارج عن البحث، لأنها حالة مفروضة أو مطلوبة من كل باحث ولا تختص بمنهج دون منهج. وقد اعتمد الشيخ السبحاني المنهج الموضوعي بالمعنى الثالث من خلال عدة دراسات قرآنية له(6). بينما تبنى الشهيد الصدر(قدس سره) منهج التفسير الموضوعي - الموضوعية بالمعنى الثاني - اعتماداً على ثلاثة مرجحات رئيسية ذكرها لهذا المنهج على منهج التفسير الترتيبي - المعهود بين المفسرين -. ونوكل ملاحظة هذه المرجحات، وما يمكن أن يثار حولها من مناقشات الى فرصة أخرى ودراسة أعمق. 1- علوم القرآن للسيد محمد باقر الحكيم: 344. 2- المدرسة القرآنية، المحاضرة الثانية: 29. 3- المصدر. 4- يراجع المصدر: 28. 5- المصدر السابق. 6- طبعت في عشر أجزاء تحت عنوان مفاهيم القرآن، جزء منها فى صفات الله تعالى وجزء منها فى أهل البيت (عليهم السلام) وجزء منها في المؤمنين وغيرها. |
الدرس الثاني والأربعون (المفسّرون) طبقات المفسّرين قبل التعرض لطبقات المفسرين يمكننا اعتبار القرآن الكريم نفسه والرسول العظيم نفسه من المفسرين للقرآن، إذ وردت آيات عديدة تصلح ان تكون مفسِّرة لآيات قرآنية أخرى، لذلك انطلقت فكرة تفسير القرآن بالقرآن. وكذلك الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) حيث دلّت نصوص وروايات كثيرة انه كان يفسّر ما يحتاج الى التفسير من الآيات النازلة عليه، أو يبيّن المصاديق البارزة لمعاني بعض الآيات، مثل ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) متواتراً انه كان يشير الى بيت علي وفاطمة ويصرّح بأنّهم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً. وكذلك في تفسير آية التصدّق عندما تصدق الإمام (عليه السلام) بخاتمه، وكذلك آيات التصدق في سورة الإنسان وغير ذلك. ولا غرابة في ذلك، لأنّ الذي ينزّل القرآن عليه هداية للناس من الطبيعي أن يتصدى لتفسيره وبيان معانيه، وربما تكون في بعض الآيات الكريمة إشارة الى ذلك ﴿...وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(1). ولكن السؤال الذي يطرح هنا عن حدود التفسير الذي تصدّى له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) فهل شمل القرآن كله تفسيراً شاملاً لكل جوانب آياته او اقتصر على بعض الآيات وبما يتطلبه الظرف والموقف؟ ويوجد اتجاهان في الإجابة على هذا السؤال، حيث يرى بعض الباحثين ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يفسّر إلاّ بعض الآيات حسب ما اقتضته الظروف ويستشهدون على ذلك بأمرين.. أولهما: قلّة ما ورد عن الصحابة من التفسير بالمأثور، لذلك نجد الصحابة يحتارون في تفسير الآيات القرآنية مما يكشف عن قلّة ما تلقّوه من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) في التفسير. ثانيهما: بعض الروايات الدالة على ذلك، منها ما أخرجه البزار عن عائشة من انّ رسول الله ما كان يفسّر إلاّ آياً بعدد(2). بالاضافة الى شواهد اُخرى يستشهد بها أنصار هذا الرأي. بينما يرى الفريق الآخر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قد قام بعملية تفسير شاملة للقرآن، ويمكن الاستشهاد لهذا الفريق بدليلين: أحدهما: بعض الآيات الكريمة التي نسبت هذا الدور للرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلّم) مثل قوله تعالى ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾(3)، وقوله تعالى: ﴿...وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(4). ثانيهما: طبيعة دور القرآن ومكانته بين المسلمين، فمن الواضح ان القرآن الكريم ليس مجرد كتاب نُزّل ليتبرّك به المسلمون او يحفظوا ألفاظه ليقرؤوها في طقوس معينة، بل هو الكتاب الذي اُنزل لإخراجهم من الظلمات الى النور، فهو إمامهم وهاديهم الى سواء السبيل، ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾(5) وان الآيات القرآنية كانت تنزل لتوجيه المسلمين بالاتجاه الذي ترسمه، وتحدد المواقف في المناسبات التي تنزل فيها، فلا معنى لفرض جهل المسلمين بمعاني وتفسير الآيات القرآنية المتتالية مع شعورهم بضرورة اتّباع النهج المرسوم فيه والالتزام بمحتوياته وتعاليمه، وبما ان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) هو العارف بتفسيره فلابدّ أن يكون قد بيّنه لأصحابه على نطاق واسع شامل. وأما قلة المأثور عن الصحابة من التفسير بالمأثور فقد يرجع الى انعدام التدوين - ولو بسبب منعه بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) - من ناحية، وانشغال الصحابة بالحروب وابتعادهم عن الجوّ العلمي من ناحية ثانية. ونحن أمام هذين الاتجاهين المتباينين في تحديد دور الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) في تفسير القرآن الكريم - يمكن أن نخلص الى نتيجة تلتقي جزئياً مع كلا الاتجاهين، ولتوضيح ذلك نشير الى عدّة نقاط جديرة بالملاحظة وهي.. أ: ان القرآن الكريم دعا المسلمين الى التدبّر في آياته ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾(6). ب: انّ الناس - بمن فيهم الصحابة - يختلفون في قدراتهم الذهنية ومستوياتهم الثقافية والعلمية. ج: ما ورد ان للقرآن الكريم ظهراً وبطناً، وكذا ما ورد عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) في بيان عمق القرآن الكريم مثل قوله (صلى الله عليه وآله وسلّم): "ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة رد، ولا تنقضي عجائبه"(7). د: ان القرآن الكريم حمّل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) مسألة بيانه للناس، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(8). بعد ملاحظة هذه النقاط يمكننا أن نخلص الى أن مستوىً عاديّاً من الفهم لجلّ الآيات القرآنية كان منتشراً بين الصحابة أو كثير منهم، يستند بعضه الى بيان من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وبعضه الى الفهم الذاتي باعتبارهم اهل اللغة وضمن الوسط الذي نزل فيه القرآن الكريم. أما الفهم الدقيق لمعانيه العميقة - كما ورد في الحديث عنه (صلى الله عليه وآله وسلّم): "ظاهره انيق وباطنه عميق" - فلم يبيّنه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) على نطاق واسع وشامل، لعدم استيعاب المجتمع آنذاك لها، وعدم توفر الظرف المحيط به - خاصة مع ملاحظة ضعف المستوى الثقافي وانشغال المسلمين بالحروب والتحديات الأخرى - ولذا ورد أنه لا يشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة رد، ولا تنقضي عجائبه. نعم، هناك كثير من النصوص والشواهد الدالة على أنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) قد خصَّ علياً (عليه السلام) بهذا الفهم المتميّز، وان كانت آلية هذا التعليم غير معروفة، فهل كان بشكل تفصيلي او باعطائه مفاتيح الفهم الدقيق للآيات؟ هناك روايات مُختلفة المضمون، ليس هذا محل بحثها. 1- سورة النحل: 44. 2- التفسير والمفسّرون: 1 51. 3- سورة البقرة: 151. 4- سورة النحل: 44. 5- سورة الاسراء: 9. 6- سورة ص: 29. 7- الدارمي: 2 435، كتاب فضائل القرآن، يراجع أيضاً صحيح الترمذي: 11 30، والبحار: 9 7، عن تفسير العياشي. 8- سورة النحل: 44. |
الدرس الثالث والأربعون (طبقات المفسّرين لدى الجمهور - 1) الطبقة الأولى من المفسرين: الصحابةقال السيوطي في الإتقان: "اشتهر من الصحابة عشرة: الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس وابي بن كعب وزيد بن ثابت وابو موسى الاشعري وعبدالله بن الزبير، اما الخلفاء فأكثر من روي عنه منهم علي بن ابي طالب كرّم الله وجهه، والرواية عن الثلاثة قليلة جداً.. انتهى. قيل: وقد كثرت الروايات ايضاً عن ابن مسعود(1). اما الإمام علي (عليه السلام) فهو غني عن التعريف حتى عند غير شيعته، وقد رووا عنه قوله: "والله ما نزلت آية إلاّ وعلمت فيمَ أُنزلت وأين أُنزلت، انّ ربي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً سؤولاً"(2). واما ابن عباس فهو تلميذ الامام علي فلا غرابة في ضلوعه في التفسير. وقد حكي عنه قوله: "ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب"(3). إلاّ ان الروايات المروية في مصادر الجمهور عن ابن عباس وعن الإمام علي (عليه السلام) حيث كانت مرسلة أو ضعيفة الاسناد فلا يمكن الاعتماد عليها، وقد حكي عن الشافعي قوله: "لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلاّ شبيه بمائة حديث"(4). فإذا كان ما وصل عن الإمام علي وتلميذه ابن عباس - على كثرة ما يروى عنهما - بهذه الدرجة من الضعف وعدم الاعتماد، فكيف بباقي الصحابة، لذلك لا يمكن الاعتماد على ما يروى عن الصحابة إلاّ القليل جدّاً الذي وصل بطريق معتبر السالم من الاضطراب، والخالي من شواهد الوضع. وقد أشرنا الى ذلك عند التعرض للتفسير بالمأثور ونقاط الضعف فيه. الطبقة الثانية من المفسّرين: التابعون وقد قسّموهم الى ثلاث طبقات، طبقة أهل مكة، وطبقة أهل المدينة، وطبقة أهل العراق. 1 - طبقة أهل مكة واشهرهم مجاهد (ت: 100 - 103) قيل: فقد كان اوثق من روى عن ابن عباس، ولذا يعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري وغيرهما من اقطاب العلم وائمة الدين(5). وسعيد بن جبير (قتله الحجاج، عام: 94) وعكرمة مولى ابن عباس (ت: 105) وطاووس بن كيسان اليماني (ت: 106) وعطاء بن أبي رباح (ت: 114). 2 - طبقة أهل المدينة ومنهم أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي (ت:90)، روى عن أبي بن كعب. وعطية بن سعيد العوفي (ت: 111). ومحمد بن كعب القرظي (ت: 117) كان من بني قريظة، و زيد بن أسلم (ت: 136) قيل أخذ عنه مالك بن أنس. 3 - طبقة أهل العراق منهم.. مسروق بن الأجدع كان بالكوفة (قيل توفي سنة 63).والحسن البصري (قيل: توفي: 110) وقتادة بن دعامة (ت: 117) كان بالبصرة وعطاء بن أبي مسلم الخراساني (ت: 133) ومُرّة الهمذاني الكوفي. وقد اختلفوا في طريقتهم في التفسير، قال السيوطي: وغالب أقوالهم تلقّوها عن الصحابة(6). بينما خالف البعض في ذلك، قال الزرقاني: يلاحظ على ما روي عن التابعين اعتبارات مهمّة تثير الطعن فيه وتوجه النقد إليه: منها: انّهم لم يشاهدوا عهد النبوة ولم يتشرفوا بأنوار الرسول، فيغلب على الظن أنّ ما يروى عنهم في تفسير القرآن، إنّما هو من قبيل الرأي فليس له قوّة المرفوع - أي المسند - الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم). ومنها: انّه يندر فيه الإسناد الصحيح. ومنها: اشتماله على إسرائيليات(7). وقد تقدّم البحث عن مدى القيمة العلمية لما يُروى من التفسير عن الصحابة والتابعين عند الحديث عن التفسير بالمأثور. 1- مناهل العرفان: 2 18. 2- تاريخ مدينة دمشق 42398، وسائل الشيعة 161. 3- مناهل العرفان: 2 21. 4- الاتقان: 4 239. 5- مناهل العرفان: 2 22. 6- الإتقان: 4 242. 7- مناهل العرفان: 2 25. |
الدرس الرابع والأربعون (طبقات المفسّرين لدى الجمهور - 2) الطبقة الثالثة من المفسرينوهم تلاميذ الطبقة الثانية، مثل ربيع بن أنس وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم، وأبي صالح الكلبي - النسّابة والمفسر في القرن الثاني - وأمثالهم. وكانت طريقتهم في التفسير إمّا نسبة تفسير الآيات إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) أو الصحابة أو يذكرون معنى الآية من دون نسبته إلى أحد. ونلاحظ أنّ المفسرين المتأخرين يعاملون هذه الأقوال معاملة الروايات النبوية، ويعتبرونها روايات موقوفة(1). ويطلق على الطبقتين الثانية والثالثة من المفسّرين مصطلح قدماء المفسرين(2). الطبقة الرابعة من المفسرين وهم أول طبقة من المفسّرين الذين ألّفوا في التفسير. مثل شعبة بن الحجاج البصري - ينتمي للطبقة الثانية من التابعين (ت: سنة 160هـ ) وسفيان بن عيينة المكّي - من الطبقة الثانية من التابعين (ت: سنة 197هـ ) ووكيع بن الجراح الكوفي (ت: 197هـ). وعبد بن حميد - ينتمي للطبقة الثانية من التابعين عاش في القرن الثاني -. ومن هذه الطبقة ابن جرير الطبري، وهو محمد بن جرير بن يزيد الطبري صاحب التفسير المعروف - المتوفى سنة 310هـ. وطريقة هؤلاء في التفسير انّهم يوردون أقوال الصحابة والتابعين بصيغة روايات مسندة إليهم، ويتجنّبون الاستقلالية في التفسير، إلاّ انّ ابن جرير في تفسيره قد يرجح بين الآراء المختلفة. وهذه الطبقة هي أولى طبقات المتأخرين من المفسرين(3). الطبقة الخامسة من المفسرين قيل: وهم الذين حذفو أسانيد الروايات، واكتفوا بنسبة الآراء للأشخاص من دون إسناد، وقد اعتبر السيوطي وغيره ان الالتباس بين الصحيح وغيره قد بدأ من هؤلاء بسبب حذف الأسانيد، ولذا تعّرضت رواياتهم للطعن والتجريح. لكن الصحيح - كما قدّمنا - ان الاضطراب والدس والخرافات والإسرائيليات قد بدأت قبل هذه الطبقة، حيث نجد أن الروايات المسندة التي ذُكرت قبلهم مشتملة على هذه التناقضات والإسرائيليات والقصص الخرافية وغيرها. وقد حكي(4) عن أحمد بن حنبل - الذي هو قبل هذه الطبقة - قوله: "ثلاثة ليس لها أصل: التفسير والملاحم والمغازي". وأشار ابن خلدون الى ان العرب حيث لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وانّما غلبت عليهم البداوة والأمّية، فإذا رغبوا في معرفة ما ترغب فيه النفوس البشرية من أسباب التكوين وبدء الخليقة وأسرار الوجود كانوا يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدون منهم... وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبِّه وعبدالله بن سلام فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم، وتُلقيّت بالقبول، لما كان لهم من المكانة السامية، ولكن الراسخين في العلم قد تحرّوا الصحة وزيّفوا ما لم يتوافر أدلة على صحته(5). وهذا يؤكد أن اختلاط السقيم بالصحيح قد بدأ منذ عهد الصحابة. الطبقة السادسة من المفسّرين ومن بعدهم وهم المفسّرون الذين ظهروا بعد نضج العلوم المختلفة او انتشارها بين المسلمين، وتخصّص الكثير منهم فيها، فركّز كلُّ عالم متخصّص في فنّه على مجال اختصاصه في تفسيره. فالنحوي ركّز على أبحاث علم النحو مثل الزجاج (ت: 310هـ) وأبي الحسن الواحدي (ت: 468) وأبي حيان التوحيدي - اندلسي نحوي وقارئ ومفسّر (ت: 745). وعالم البلاغة ركّز على ابحاث الفصاحة والبلاغة مثل الزمخشري (ت: 538) في الكشاف. والمتكلم توسّع في أبحاث علم الكلام مثل فخر الدين الرازي (ت: 606) في تفسيره الكبير. والعارف ضمّن تفسيره مباحث العرفان مثل محيى الدين بن عربي - (ت: 638هـ). والأخباري اقتصر على الأخبار مثل أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي (ت: 426 - 427). والفقيه اهتمّ بالأبحاث الفقهية مثل محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي (ت: 668هـ ). وجمع بعض المفسرين في تفسيره بين علوم مختلفة مثل نظام الدين حسن القمي النيسابوري (ت: 728هـ) في تفسيره المسمّى تفسير النيسابوري. والشيخ إسماعيل حقّي (ت: 1137هـ) في تفسيره روح البيان. وشهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي (ت: 1270) في تفسيره روح المعاني. 1- الرواية الموقوفة: هي الرواية التي لم يذكر فيها اسم المروي عنه، فالمتأخرون من مفسري الجمهور يعتبرون أقوال هؤلاء منسوبة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أو الصحابة، وان لم يصرّحوا انفسهم بذلك. 2- راجع كتاب (قرآن در اسلام): 76. 3- يراجع كتاب (قرآن در إسلام): 77. 4- مناهل العرفان: 2 28. 5- راجع مناهل العرفان: 2 29. |
الدرس الخامس والأربعون (طبقات المفسرين من الشيعة الإمامية وطريقتهم) يختلف الاتجاه التفسيري عند الشيعة عن المنحى الذي عليه التفسير لدى الجمهور، إذ انّ شيعة أهل البيت(عليهم السلام) لا يرون موضوعية لأقوال الصحابة والتابعين ما دامت غير مسندة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وبالمقابل يعتمدون آراء ائمة أهل البيت(عليهم السلام) وتفاسيرهم، باعتبارهم الحجة وأحد الثقلين اللذين خلفهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فى أُمته. وعلى هذا الأساس يمكن أن نرتب طبقاتهم كما يلي.. الطبقة الأولى: الذين رووا روايات التفسير عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة(عليهم السلام) فأوْدعوها في أصولهم التي ألّفوها مشتتة ومتفرقة مثل أبي حمزة الثمالي، و زرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم الثقفي، ومعروف بن خربوذ، وجرير، وفرات بن إبراهيم الكوفي. وقد ألّف أبو حمزة الثمالي ثابت بن دينار كتاباً في التفسير، وذكر السيد الطباطبائي انّ طريقة ابي حمزة في التفسير هو النقل عمّن يروي عن المعصوم لا النقل مباشرة، ولذا عدّه من الطبقة الثانية(1)، وكذلك فرات الكوفي. الطبقة الثانية: وهم الذين لم يرووا عن المعصومين مباشرة، بل كانت رواياتهم عمّن روى عن المعصومين(عليهم السلام) مثل محمد بن مسعود الكوفي العياشي صاحب تفسير العياشي - عاش في النصف الثاني من القرن الثالث قيل توفي: 320 - ومن المؤسف ان أحد تلاميذه حذف أسانيد روايات استاذه الى المعصومين(عليهم السلام) لأجل الاختصار، وانتشرت هذه النسخة وتداولتها الأيدي حتى فقدت النسخة الأصلية المسندة، وبذلك فقد هذا الكتاب الكثير من قيمته العلمية. |
الدرس السادس والأربعون (استعراض خاطف لبعض التفاسير المعاصرة) 1: التفسير الكاشف تأليف محمد جواد مغنية (المتوفى 1399هـ) وهو سبعة أجزاء.وقد كتب التفسير بلغة حديثة ميّسرة خالية من الغموض - كما دأب المؤلف في باقي كتبه أيضاً - ويتضمن الإشارة الى بعض الأبحاث اللغوية والاعرابية أحياناً، ثم يدخل الى تفسير الآيات مباشرة، ويتطرق أحياناً الى المعاني والأبحاث التي يستوحيها من الآية فيبحثها ضمن عناوين مستقلة، ورغم بعض الملاحظات حول بعض الآراء الواردة فيه إلاّ انّه مفيد و جيّد وقد لخّص الشيخ مغنية اتجاهه في تفسيره ضمن نقاط: 1 - "نظرت الى القرآن على انّه في حقيقته وطبيعته كتاب دين وهداية واصلاح وتشريع يهدف قبل كل شيء الى أن يحيا الناس جميعاً حياة تقوم على أسس سليمة يسودها الأمن والعدل ويغمرها الخصب والرفاهية... ولا يعني هذا اني اغفلت الجهات النافعة التي تعرّض لها المفسّرون الكبار... بخاصة المشكلات الفلسفية مثل الجبر والاختيار والهدى والضلال، والإمامة، وعصمة الأنبياء والشفاعة والاحباط، ومرتكب الكبيرة وحساب القبر... وما الى ذلك(1). نظرت الى الإسرائيليات التي جاءت في بعض التفاسير على انّها خرافة وأساطير... وايضاً تجاهلت ما جاء من الروايات في أسباب التنزيل إلاّ قليلاً منها... وأيضاً لم أشغل نفسي والقارئ بذكر العلاقة والمناسبة بين الآيات واتصال بعضها ببعض"(2). 2 - اعتمدت - قبل كل شيء - في تفسير الآية وبيان المراد منها على حديث ثبت في سنّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم)... فإذا لم يكن حديث من السنّة اعتمدت ظاهر الآية وسياقها... وإذا وردت آية ثانية في معنى الأولى وكان أبين وأوضح ذكرتهما معاً لغاية التوضيح، لأنّ مصدر القرآن واحد... وإذا تعارض ظاهر اللفظ مع حكم العقل وبداهته أوّلت اللفظ بما يتفق مع العقل... وإذا تعارض ظاهر اللفظ مع إجماع المسلمين في كل عصر ومصر على مسألة فقهية حملت الظاهر على الإجماع..."(3). 2: الميزان في تفسير القرآن تأليف: السيد محمد حسين الطباطبائي (المتوفى 1402هـ) وهو تفسير كبير يقع في عشرين جزءاً. يمتاز هذا التفسير بالعمق والأبحاث الدقيقة ويأتي في مقدمة التفاسير الحديثة، وقد أشار المؤلف في مقدمة تفسيره الى منهجه وأهم ما يرتكز عليه تفسيره، وذلك: 1 - المعارف المتعلقة بأسماء الله سبحانه وصفاته. 2 - المعارف المتعلقة بأفعاله تعالى. 3 - المعارف المتعلقة بالوسائط الواقعة بينه وبين الإنسان كالحُجُب. واللوح والقلم والعرش والكرسي والبيت المعمور والسماء والأرض... إلخ. 4 - المعارف المتعلقة بالإنسان قبل الدنيا. 5 - المعارف المتعلقة بالإنسان في الدنيا كمعرفة تأريخ نوعه ومعرفة نفسه ومعرفة أصول اجتماعه ومعرفة النبوة و... إلخ. 6 - المعارف المتعلقة بالإنسان بعد الدنيا، وهو البرزخ والمعاد. 7 - المعارف المتعلقة بالأخلاق الإنسانية، ومن هذا الباب ما يتعلق بمقامات الأولياء في صراط العبودية من الإسلام والإيمان والإحسان... ثم وضعنا في ذيل البيانات متفرقات من أبحاث روائية نورد فيها ما تيسّر لنا إيراده من الروايات المنقولة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأئمة أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين... ثم وضعنا أبحاثاً مختلفة فلسفية وعلمية وتاريخية واجتماعية وأخلاقية... إلخ(4). ويلاحظ القارئ للميزان ثلاث نقاط هامة.. أ: انّ المؤلف لا يتعامل - بشكل عام - مع النصوص الواردة في بيان معاني الآيات على انّها روايات تفسيرية تحدد المعنى القرآني، بل يحملها على بيان مصاديق بارزة لمعاني الآيات فحسب، لأنّ القرآن يجري كما تجري الشمس والقمر - كما جاء في الحديث - وهذا ما يسميه المؤلف بالجري والانطباق. ب: النظرة الشاملة الى القرآن الكريم بكل آياته وسوره، ومحاولة إرجاع وربط بعضه ببعض، وهذا ما يسميه المؤلف بتفسير القرآن بالقرآن. ج: اهتمام المؤلف بمعالجة شبهات أعداء الإسلام والمنحرفين، فيذكر البراهين والأدلة المبطلة لها. هذا، ورغم عمق وأهمية الجهد المبذول في هذا التفسير من مؤلفه المعروف بدقّته وغزارة علمه إلاّ انّ الملاحظ تأثر المفسّر بقناعاته الفلسفية واتجاهه العرفاني، فتلوّن تفسيره بذلك، حتى انّ من الصعب فهم كثير من أبحاثه لمن لم يكن عنده اطلاع واسع بمدرسة صدر الدين الشيرازي الفلسفية - المعروفة بالحكمة المتعالية - والتي ينتمي إليها السيد الطباطبائي. تبقى ملاحظة أخيرة حول ضعف الأسلوب والتواء التعبير الذي كتب به التفسير المذكور، لأنّ اللغة العربية هي اللغة الثانية للمفسّر، وليست لغة الأم بالنسبة إليه. 3: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل تأليف لجنة بإشراف الشيخ ناصر مكارم الشيرازي. وهو من التفاسير الجيدة النافعة للشباب المثقف، وقد كتب بلغة واضحة وميسّرة، واشير في مقدمته الى خصائصه ومزاياه والمنهجية التي اتبعها المؤلفون فيه، من خلال النقاط التالية: 1 - لما كان القرآن "كتاب حياة" فانّا لم نركز - في التفسير - على المسائل الأدبية والعرفانية، بل بدلاً من ذلك عالجنا المسائل الحياتية المادية والمعنوية وخاصة المسائل الاجتماعية، وسعينا الى اشباعها بحثاً وتحليلاً، وخاصة ما يرتبط من قريب بحياة الفرد والمجتمع. 2 - في ذيل كل آية تناولنا تحت عنوان (وقفات) المسائل المطروحة في الآية بشكل مستقل كالربا والرق وحقوق المرأة وفلسفة الحج و... 3 - عزفنا عن تناول البحوث ذات الفائدة القليلة، وأعطينا الأهمية لمعاني الكلمات وأسباب النزول ما له تأثير في الفهم الدقيق لمعنى الآية. 4 - عرضنا التساؤلات والشبهات والاعتراضات المطروحة باختصار، مثل شبهة الآكل والمأكول والمعراج وتعدد الزوجات... كي لا تبقى أية علامة استفهام عند مطالعة تفسير الآيات. 5 - أعرضنا عن استعمال المصطلحات المعقدة التي تجعل الكتاب خاصاً بفئة خاصة من القرّاء(5). ورغم أهمية الجهد المبذول في هذا التفسير والعرض الجيد الواضح لمواضيعه، إلاّ انّه وبسبب كونه ترجمة لتفسير (نمونة) - المكتوب باللغة الفارسية - لم يخل من ضعف في لغته التي كتب بها، خاصة من خلال تسرّب كثير من المفردات غير الفصيحة فيه. الأسئلة 1 - اذكر المعاني الأربعة للتأويل. 2 - اذكر الملاحظات الأربع على منهج التفسير بالمأثور لدى الجمهور. 3 - اذكر الملاحظات الأربع على منهج التفسير بالمأثور لدى الشيعة. 4 - اذكر ثلاثة من اشهر التفاسير بالمأثور الشيعية وثلاثة من اشهر التفاسير بالمأثور لدى العامة. 5 - ما هي الاتجاهات الرئيسية في التفسير؟ 6 - ما هي المناهج الرئيسية في التفسير؟ 7 - ما هو دور الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) في عملية تفسير القرآن؟ 1- التفسير الكاشف: 1 13 - 14. 2- المصدر: 14 - 15. 3- المصدر السابق: 15 - 16. 4- الميزان: 1 13 - 14. 5- الأمثل: 1 12 - 13. |
الدرس السابع والأربعون (المكي والمدني) من الأبحاث المرتبطة بعلوم القرآن والتي اهتمَّ بها المفسّرون والباحثون البحث عن الآيات المكيّة والمدنية وتمييز كل منهما عن الأخرى، ودراسة خصائص كل من القسمين.معنى المكي والمدني: وقبل أن ندخل في صلب الموضوع لابدّ أن نحدد المقصود من المكي والمدني، حيث ذكرت ثلاثة معان لهما. أ: ان المقصود بالمكي ما نزل بمكة أو ضواحيها. وبالمدني ما نزل في المدينة أو ضواحيها. ب: ان المكي ما وقع خطاباً لأهل مكة، والمدني ما وقع خطاباً لأهل المدينة، قيل: وعليه يحمل قول من قال: "انّ ما صدر في القرآن بلفظ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) فهو مكي، وما صدر فيه بلفظ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فهو مدني"(1). ج: انّ المكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني |
الدرس الثامن والأربعون (شبهات المستشرقين حول المكي والمدني) لقد درس بعض المستشرقين ظاهرة المكي والمدني وفكرة وجود خصائص لكل منهما، فحاولوا استخلاص ميزات وخصائص لكل من المكي والمدني، ومن ثَمّ استنتجوا من ذلك انّ القرآن خضع لظروف بشرية متأثرة بالمحيط والمجتمع، وبالتالي فهو غير مرتبط بالله تعالى المنزّه عن التأثر بهذه المؤثرات.. فهو من تأليف (محمد) لا من وحي السماء.هذه هي الفكرة التي تدور حولها شبهاتهم هنا، وقبل أن نتطرّق الى هذه الشبهات ومناقشتها بشكل تفصيلي، لا بدّ أن ننبّه الى نقطة هامّة. وهي أنّا يجب أن نفرّق بين خضوع القرآن للظروف والحالة البشرية، وبين انسجامه مع الواقع الموضوعي وطبيعة التدرج الموضوعي للرسالة الاسلامية. ويتجلّى الفرق بينهما من خلال آثار وسمات كل من الحالتين، فمن آثار الحالة الأولى: أ: التذبذب في المستوى الفني. ب: المناقضة وعدم انسجام المفاهيم والمواقف والتشريعات. ج: التطوّر التدريجي سواء بالنسبة للأسلوب أم بالنسبة للمضمون بسبب تراكم الخبرات أو نحوها. د: انعكاس الحالات الإنسانية، |
الشبكة: أحد مواقع المجموعة الشيعية للإعلام الساعة الآن: 05:11 PM. بحسب توقيت النجف الأشرف |
Powered by vBulletin 3.8.14 by DRC © 2000 - 2024