![]() |
بيعة الإمام الرضا ( عليه السلام ) بولاية العهد وجَّه الخليفة المأمون العباسي دعوته إلى الإمام علي الرضا ( عليه السلام ) ، وطلب منه المسير من المدينة المنورة إلى خراسان ( مقر الخلافة ) ، فاستجاب الإمام ( عليه السلام ) لذلك مكرهاً . وقد كان في تصوّر المأمون أنَّ المَخْرجَ من الأزمة السياسية التي أحاطت به هو مخاطبة الإمام ( عليه السلام ) ، بقبول ولاية العهد والمشاركة في إدارة شؤون الدولة ، لكي يستطيع المأمون من ضَمِّ قوى المعارضة وجمع جِنَاحَي القوَّة العلوية والعباسية بيده . دعا المأمون الإمام ( عليه السلام ) ، وعرض عليه قبول ولاية العهد ، فامتنع الإمام ( عليه السلام ) ، فقال له قولاً شبيهاً بالتهديد . ثم قال له : إنّ عُمَر جعل الشورى في سِتة ، أحدهم جدّك ، وقال من خالف فاضربوا عنقه ، ولابُدَّ مِن قبول ذلك . فأجابه الإمام ( عليه السلام ) إلى ذلك ، على أن لا يأمر ولا ينهى ، ولا يولي ولا يَعزِل ، ولا يتكلَّم بين اثنين في حُكم ، ولا يغيِّر شيئاً هو قائمٌ على أصوله . والمتأمِّل للأوضاع السياسية المضطربة آنذاك يدرك أنَّ الإمام الرضا ( عليه السلام ) كان على علم بالخطة السياسية للمأمون ، وأنه لم يكن مطمئنّاً إليها ، لذلك ثبَّتَ ( عليه السلام ) شروطه التي أشرنا إليها . وبالإضافة إلى ذلك فإن الإمام ( عليه السلام ) كان على علم بما تَؤُولُ إليه الأمور . فقد روي أنَّه كان أحد خواص الإمام ( عليه السلام ) حاضراً مستبشراً في الاحتفال الذي أقامه المأمون بمناسبة قبول الإمام ( عليه السلام ) بولاية العهد . فنظر إليه الإمام ( عليه السلام ) وأومأَ قائلاً : ( أدنُ مِنِّي ) . فلما دنا منه همس ( عليه السلام ) في أذنه قائلاً : ( لا تشْغَل قلبَك بِهَذا الأمْرِ ، ولا تَسْتَبشِرْ لَهُ ، فَإنَّهُ شَيء لا يَتمُّ ) . وحينما قبل الإمام ( عليه السلام ) تلك الولاية الرمزية ، التي حَدَّدها هو بنفسه ، راح المأمون يعلن هذا النبأ في أنحاء الدولة الإسلامية ، وأبدل لبس السواد الذي هو شعار للعباسيين بلبس الثياب الخضر الذي هو شعار للعلويين ، وأعلن عن عَزمه على صرف مرتَّب سنوي بهذه المناسبة السعيدة . وعلى أثر ذلك توافَدَ الشعراء والخطباء والمتكلِّمون ، وبُذِلت الأموال والهدايا ، وكان إعلان البيعة في السادس من شهر رمضان 201 هـ ، كما ورد في إحدى الروايات . |
تكريم الإمام الرضا ( عليه السلام ) للضيوف وإحسانه للعبيد أما إكرامه للضيف ، فكان ( عليه السلام ) يكرم الضيوف ، ويغدق عليهم بنِعَمِه وإحسانه ، وكان يبادر بنفسه لخدمتهم . وقد استضافه شخص ، وكان الإمام يحدثه في بعض الليل فتغير السراج ، فبادر الضيف لإصلاحه فوثب الإمام ( عليه السلام ) وأصلحه بنفسه ، ثم قال لضيفه : إنَّا قومٌ لا نستخدم أضيافنا . وأما عتقه للعبيد وتحريرهم من العبودية ، فقد كان من أحَبِّ الأمور إلى الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، ويقول الرواة : أنه ( عليه السلام ) أعتق ألف مملوك . وأما الإحسان إليهم ، فقد كان الإمام ( عليه السلام ) كثير البر والإحسان إلى العبيد ، وقد روى عبد الله بن الصلت عن رجل من أهل ( بلخ ) قال : كنت مع الإمام الرضا ( عليه السلام ) في سفره إلى خُرَاسان ، فدعا يوماً بمائدة فجمع عليها مواليه – من السودان وغيرهم – فقلت : جعلت فداك ، لو عزلت لهؤلاء مائدة . فأنكر عليه ذلك وقال ( عليه السلام ) له : ( إن الربَّ تبارك وتعالى واحدٌ ، والأمُّ واحدة ، والجزاء بالأعمال ) . فكانت هذه هي سيرة أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فإنها كانت تهدف إلى إلغاء التمايز بالتقوى والعمل الصالح . |
تكملة الإمام الرضا ( عليه السلام ) لقصيدة دعبل الخزاعي دخل دعبل الخزاعي ( رحمه الله ) على الإمام الرضا ( عليه السلام ) بمرو ، فقال له : يا ابن رسول الله إني قد قلت فيك قصيدة ، وآليت على نفسي أن لا أنشدها أحداً قبلك . فقال ( عليه السلام ) : ( هاتها ) . فأنشده : مَدارسُ آياتٍ خَلَتْ عن تلاوة ومنزل وحيٍ مُقفِرُ العرصاتِ فلما بلغ إلى قوله : أَرى فَيئَهُم في غيرهم متقسِّماً وأيدِيهِمُ من فَيئِهِم صُفُراتِ بكى الإمام الرضا ( عليه السلام ) وقال له : ( صدقتَ يا خزاعي ) . فلما بلغ إلى قوله : إذا وَتَروا مَدُّوا إلى واتِرِيِهُمُ أَكُفّاً عن الأوتار منقبضاتِ جعل الإمام ( عليه السلام ) يُقَلِّبُ كفَّيه ويقول : ( أجل والله منقبضات ) . فلما بلغ إلى قوله : لقد خفتُ في الدنيا وأيام سَعيها وإنِّي لأرجُو الأمنَ بعد وفاتي قال الإمام ( عليه السلام ) : ( آمَنَك الله يوم الفزع الأكبر ) . فلما انتهى إلى قوله : وَقبرٌ بِبَغدادٍ لنفس زكيةٍ تَضَمَّنَهَا الرحمَنُ في الغرفاتِ قال له الإمام ( عليه السلام ) : ( أفلا أُلحِقُ لك بهذا الموضع بيتين بِهِمَا تمامُ قصيدتِكَ ) ؟ فقال دِعبل : بلى يا ابن رسول الله . فقال الإمام ( عليه السلام ) : وَقَبرٌ بِطُوسٍ يَا لَهَا مِن مُصِيبَةٍ توقّد بِالأحشَاءِ في الحُرُقَاتِ إِلى الحَشرِ حَتَّى يَبعثُ اللهُ قَائِماً يُفَرِّجُ عَنَّا الهَمَّ وَالكُرُبَاتِ فقال دعبل : يا ابن رسول الله ، هذا القبر الذي بطوس قبر من هو ؟!! فقال ( عليه السلام ) : ( قبري ، ولا تنقضي الأيام والليالي حتى يصير طوس مختلف شيعتي وزوّاري ، ألا فمن زارني في غربتي بطوس كان معي في درجتي يوم القيامة مغفوراً له ) . ثم نهض الإمام ( عليه السلام ) بعد فراغ دعبل من إنشاد القصيدة ، وأمره أن لا يبرح من موضعه ، ودخل الدار فأرسل له بيد الخادم صرَّة فيها مائة دينار . فقال دعبل : والله ما لهذا جئت ، ولا قلت هذه القصيدة طمعاً في شيء يصل إليَّ ، وردَّ الصرَّة . وسأل ثوباً من ثياب الإمام ( عليه السلام ) ليتبرَّك ويتشرَّف به . فأنفذ إليه الإمام ( عليه السلام ) جُبَّةَ خزٍّ مع الصرَّة ، فأخذ دعبل الصرَّة والجُبَّة وانصرف . |
حث الإمام الرضا ( عليه السلام ) أصحابه على الدعاء قد حَثَّ الإمام الرضا ( عليه السلام ) أصحابَه على الدعاء إلى الله فقال لهم : ( عليكم بسلاح الأنبياء ) . فقيل له : وما سلاح الأنبياء ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( الدعاء ) . وأوصى الإمام ( عليه السلام ) أصحابه أيضاً بإخفاء الدعاء ، وأن يدعو الإنسان ربَّه سراً لا يعلم به أحد . فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( دَعوةُ العبد سراً دعوة واحدة تَعدلُ سبعين دعوة علانيةً ) . وتحدّث الإمام ( عليه السلام ) عن الأسباب التي توجب إبطاء الإجابة في الدعاء ، فقد روى أحمد بن محمد بن أبي نصر ، قال : ( قلت لأبي الحسن – يعني الإمام الرضا ( عليه السلام ) – : جُعِلت فداك ، إني قد سألت الله حاجة منذ كذا وكذا سنة ، وقد دخل قلبي من إبطائها شيء ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( يا أحمد ، إِيَّاك والشيطان أن يَكونَ لهُ عليك سَبيل حتى يُقنِطَكَ ، إن أبا جعفر – يعني الإمام الباقر – صَلَواتُ اللهِ عليه كان يقول : إن المؤمن يسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ حاجته فَيؤَخر عنه تعجيلَ إِجابَتِهِ حُبّاً لِصَوتِه ، وإسماعَ نحيبِه ) . ثم قال ( عليه السلام ) : ( والله ما أخَّر الله عزَّ وجلَّ عن المؤمنين ما يطلبون من هذه الدنيا خَيرٌ لهم مما عَجَّل لهم فيها ، وأي شيء الدنيا ؟ إن أبا جعفر ( عليه السلام ) كان يقول : ينبغي للمؤمن أن يكون دعاؤه في الرخاء نحواً من دعائه في الشدة ، ليس إذا أُعطِيَ فَتَر ، فلا تَملَّ الدعاء فإنه من الله عزَّ وجلَّ بمكان – أي بمنزلة – ، وعليك بالصبر وطلب الحلال وصلة الرحم ، وإياك ومُكَاشفة الناس . فَإنَّا أهلَ بيت نَصِلُ من قَطَعَنَا ، ونحسن إلى من أساء إلينا ، فَنَرى – والله – في ذلك العاقبة الحسنة ، إن صاحب النعمة في عينه ، فلا يشبع من شيء ، وإذا أُكثِرَت النعم كان المُسلِم من ذلك في خطر لِلحُقوق التي تَجُبُّ عليه ، وما يخاف من الفتنة فيها . أخبرني عنك ، لو أني قلت لك قولاً ، أكنت تَثِق به مني ) ؟ وسارع أحمد قائلاً : جُعلتُ فداك ، إذا لم أَثِق بقولك فبمن أثِق وأنت حجة الله على خلقه ؟ فأجابه الإمام ( عليه السلام ) : ( فكن بالله أوثق ، فإنك على موعد من الله ، أليس الله عزَّ وجلَّ يقول : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) البقرة : 186 . وقال : ( لا تَقْنُطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ) الزمر : 53 . وقال : ( وَاللهُ يَعِدُكُم مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً ) البقرة : 267 . فَكُن بالله عزَّ وجلَّ أوثق منك بغيره ، ولا تجعلوا في أنفسكم إلا خيراً ، فإنه مغفور لكم ) . وكان الإمام ( عليه السلام ) يتسلح بهذا الدعاء الشريف : ( بِسم اللهِ الرَّحمَن الرَّحِيم ، يَا مَن لا شَبِيه لَه ولا مِثَال ، أنتَ الله لا إِلَه إلا أَنتَ ، ولا خالق إلا أنت ، تَفنِي المَخلُوقين وتَبقَى ، أَنتَ حَلمْتَ عَمَّن عَصَاكَ ، وَفِي المَغفِرَة رِضَاك ) . كما كان ( عليه السلام ) متشبثاً بهذا الدعاء الجليل : ( اِستَسلَمتُ يَا مَولاي لَكَ وأَسلَمتُ نفسي إليك ، وَتَوكَّلتُ في كُلِّ أُمورِي عَليك ، وأنَا عبدُك وابنُ عَبدَيكَ ، فَأَخبِئْنِي اللَّهم في سِترِكَ عَن شِرَارِ خَلقِكَ ، واعصمنِي مِن كُلِّ أَذىً وَسُوءٍ بِمَنِّكَ ، وَاكفِنِي شَرَّ كُلِّ ذِي شَرٍّ بقدرتك . اللَّهُم مَن كَادَنِي أَو أرادَنِي فَإِنِّي أَدْرَأُ بِكَ في نَحرِه ، فَسُدَّ عَنِّي أبصار الظالمين إذ كنت ناصري ، لا إله إلا أنت يا أرحمَ الرَّاحمين وإلهَ العالمين . أسألُكَ كِفايَة الأَذَى والعافِيةِ والشِّفاءِ والنَّصرِ على الأعداء والتوفيق لِمَا تُحِبُّ رَبَّنَا ، وَيُرضِي يا رَبَّ العالمين ، يا جَبَّار السَّمَاوات والأَرَضين ، يا رَبَّ مُحمد وآله الطيبين الطاهرين ، صَلَواتُك عليهم أجمعين ) . فإن الإمام ( عليه السلام ) قد استسلَم وأَسلَم نفسَهُ وجميعَ أمورِهِ للواحد القهار الذي بيده جميع مُجريَات الأحداث ، وقد احتجب ( عليه السلام ) بهذا الدعاء لِيَردَّ الله عنه كَيدَ المُعتَدِين ، وظُلمَ الظالمين . |
حديث السلسلة الذهبية لقد جاء في كتاب أعيان الشيعة عن كتاب الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي ، أنّه قال : حدّث السعيد إمام الدنيا وعماد الدين محمّد بن أبي سعيد بن عبد الكريم الوزان عن كتاب تاريخ نيسابور : أنّ علي بن موسى الرضا ( عليهما السلام ) لمّا دخل نيسابور في السفرة التي خصّ فيها بفضيلة الشهادة ، كان في قبّة مستورة على بغلة شهباء ، وقد شقّ نيسابور . فعرض له الإمامان الحافظان للأحاديث النبوية ، والمثابران على السنّة المحمدية ، أبو زرعة الرازي ، ومحمّد بن أسلم الطوسي ، ومعهما خلق لا يحصون من طلبة العلم والحديث والدراية ، فقالا : أيّها السيّد الجليل ، ابن السادة الأئمّة ، بحقّ آبائك الأطهرين وأسلافك الأكرمين ، إلاّ ما أريتنا وجهك الميمون المبارك ، ورويت لنا حديثاً عن آبائك عن جدّك محمّد ( صلى الله عليه وآله ) نذكرك فيه . فاستوقف البغلة وأمر غلمانه بكشف المظلة عن القبّة ، وأقرّ عيون الخلائق برؤية طلعته المباركة ، فكان له ( عليه السلام ) ذؤابتان على عاتقه ، والناس كلّهم قيام على اختلاف طبقاتهم ينظرون إليه ، وهم ما بين صارخ وباك ، ومتمرّغ بالتراب ، ومقبّل لحافر البغلة ، فصاح العلماء والفقهاء : معاشر الناس ، اسمعوا وعوا ، وأنصتوا لسماع ما ينفعكم ، ولا تؤذونا بكثرة صراخكم وبكائكم . فقال الإمام الرضا ( عليه السلام ) : ( حدّثني أبي موسى الكاظم ، عن أبيه جعفر الصادق ، عن أبيه محمّد الباقر ، عن أبيه على زين العابدين ، عن أبيه الحسين شهيد كربلاء ، عن أبيه علي بن أبي طالب ، أنّه قال : حدّثني حبيبي وقرّة عيني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، عن جبرائيل أنّه قال : سمعت ربّ العزّة سبحانه يقول : ( كلمة لا إله إلاّ الله حصني ، ومن قالها دخل حصني ، ومن دخل حصني أمن عذابي ) ) . ثمّ أرخى الستر على القبّة وسار ، فقدّر أهل المحابر الذين يكتبون ، فزادوا على عشرين ألفاً . والحديث على ما يبدو من الأحاديث المتّفق عليها بين المحدّثين ، وقد ذكره بهذا الإسناد كل من وصف رحلة الإمام الرضا ( عليه السلام ) إلى خراسان ، وقال أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء ، بعد أن روى الحديث المذكور : هذا حديث ثابت مشهور بهذا الإسناد ، من رواية الطاهرين عن آبائهم الطيبين . ومضى يقول : وكان بعض سلفنا من المحدّثين إذا روى هذا الإسناد يقول : لو قرئ هذا الإسناد على مجنون لأفاق . ونقل صاحب كتاب كشف الغمّة في نهاية هذا الحديث كلاماً ، عن الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله : أنّ هذا الحديث بهذا السند بلغ بعض أمراء السامانية ، فكتبه بالذهب ، وأوصى أن يدفن معه ، فلمّا مات رُئي في المنام ، فقيل : ما فعل الله بك ؟ فقال : غفر الله لي بتلفّظي بـ ( لا إله إلاّ الله ، وتصديقي محمّداً رسول الله ) مخلصاً ، وأنّي كتبت هذا الحديث بالذهب تعظيماً واحتراماً . ويروي الشيخ الصدوق في نهاية الحديث زيادة لطيفة ، قال : فلمّا مرّت الراحلة نادانا : ( بشروطها وأنا من شروطها ) ، والمقصود بأنّه إمام من قبل الله عزّ وجل على العباد ، مفترض الطاعة عليهم . |
حكم الإمام الرضا ( عليه السلام ) ليس في تاريخ الأدباء والحكماء كتاريخ أهل البيت ( عليهم السلام ) ، حيث إنّهم أثروا العالم الإسلامي والإنساني بروائع آدابهم وحكمهم ، ومن عظيم قدرها وإبداعها وروعتها يكتبها الناس أحياناً بماء الذهب ثمّ يحتفظون بها . والإنسان مفطور على حبّ العلم والأدب والحكمة ، وكلّما كانت الحكم رصينة ورائعة كلّما انشدّ إليها أكثر ، ولهذا رأى الناس في روائع نهج البلاغة للإمام علي ( عليه السلام ) ما يغنيهم عن الرجوع لغيره من الحكماء ، كسقراط وبزرجمهر وهلّم جرّاً . ولا غرابة أن يكون للأئمّة من أهل البيت ( عليهم السلام ) هذه الجواهر الثمينة في الأدب ، والروائع العظيمة في الحكمة ، وهم خرّيجو مدرسة الثورة ، وربائب الرسالة والوحي . ومن هذه الأنوار العلوية والأزهار الهاشمية ، نور أضاء سناه وعلاه ، وتضوع مسكه وشذاه ، نور الإمام الرضا ( عليه السلام ) وعطره وطيبه وزهره . وإليك بعض الروائع الأدبية والحكمية من أقواله ( عليه السلام ) : 1ـ سأله رجل عن قول الله عزّ وجل : ( ومن يتوكّل على الله فهو حسبه ) ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( التوكّل درجات منها : أن تثق به في أمرك كلّه ، فما فعل بك كنت راضياً ، وتعلم أنّه لم يأتك خيراً ونظراً ، وتعلم أنّ الحكم في ذلك له ، فتوكّل عليه بتفويض ذلك إليه ، ومن ذلك الإيمان بغيوب الله التي لم يحط علمك بها ، فوكّلت علمها إليه وإلى أمنائه عليها ، ووثقت به فيها ، وفي غيرها ) . 2ـ سئل عن حدّ التوكل ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( أن لا تخاف أحداً إلاّ الله ) . ومقصود الإمام ( عليه السلام ) بالتوكّل هنا ، هو التسليم لأمر الله والرضا بقضائه . 3ـ سأله أحمد بن نجم عن العجب الذي يفسد العمل ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( العجب درجات منها : أن يزين للعبد سوء عمله فيراه حسناً فيعجبه ، ويحسب أنّه يحسن صنعاً ، ومنها : أن يؤمن العبد بربّه فيمنّ على الله ، ولله المنّة فيه ... ) . 4ـ قال ( عليه السلام ) : ( خمس من لم تكن فيه فلا ترجوه لشيء من الدنيا والآخرة : من لم تعرف الوثاقة في أرومته ، والكرم في طباعه ، والرصانة في خلقه ، والنبل في نفسه ، والمخافة لربّه ) . 5ـ سئل عن السفلة ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( من كان له شيء يلهيه من الله ) . 6ـ قال ( عليه السلام ) : ( إنّ الله يبغض القيل والقال ، وإضاعة المال وكثرة السؤال ) . 7ـ قال ( عليه السلام ) : ( التودّد إلى الناس نصف العقل ) . 8ـ قال ( عليه السلام ) : ( لا يتم عقل امرئ مسلم حتّى تكون فيه عشر خصال : الخير منه مأمول ، والشرّ منه مأمون ، يستكثر قليل الخير من غيره ، ويستقل كثير الخير من نفسه ، لا يسأم من طلب الحوائج إليه ، ولا يملّ من طلب العلم طول دهره ، الفقر في الله أحبّ إليه من الغنى ، والذلّ في الله أحبّ إليه من العزّ مع غيره ، والخمول عنده أشهى من الشهرة ) . ثمّ قال ( عليه السلام ) : ( العاشرة ) ، قيل له : ما هي ؟ قال ( عليه السلام ) : ( لا يرى أحداً إلاّ قال : هو خير منّي واتقى ) . 9ـ قال ( عليه السلام ) : ( إنّما الناس رجلان ، رجل خير منه واتقى ، ورجل شرّ منه وأدنى ، فإذا لقي الذي هو شرّ منه وأدنى قال : لعلّ خير هذا باطن ، وهو خير له ، وخيري ظاهر ، وهو شرّ لي ، وإذا رأى الذي هو خير منه وأتقى ، تواضع له ليلحق به ، فإذا فعل ذلك فقد علا مجده ، وطاب خيره ، وحسن ذكره ، وساد أهل زمانه ) . 10ـ قال ( عليه السلام ) : ( الصمت باب من أبواب الحكمة ... إنّ الصمت يكسب المحبّة ، إنّه دليل على كل خير ) . 11ـ قال ( عليه السلام ) : ( صديق كل امرئ عقله ، وعدّوه جهله ) . 12ـ قال ( عليه السلام ) : ( من أخلاق الأنبياء التنظيف ) . 13ـ قال ( عليه السلام ) : ( صاحب النعمة يجب أن يوسّع على عياله ) . 14ـ قال ( عليه السلام ) : ( إذا ذكرت الرجل وهو حاضر فكنّه ، وإذا كان غائباً فسمّه ) . 15ـ قال ( عليه السلام ) : ( يأتي على الناس زمان العافية ، فيه عشرة أجزاء تسعة منها في اعتزال الناس ، وواحد في الصمت ) . 16ـ قال ( عليه السلام ) : ( من حاسب نفسه ربح ، ومن غفل عنها خسر ، ومن خاف أمن ، ومن اعتبر أبصر ، ومن أبصر فهم ، ومن فهم علم ، وصديق الجاهل في تعب ، وأفضل المال ما وقي به العرض ، وأفضل العقل معرفة الإنسان نفسه ، والمؤمن إذا غضب لم يخرجه غضبه من حق ، وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل ، وإذا قدر لم يأخذ أكثر من حقّه ) . 17ـ قال ( عليه السلام ) : ( من كثرت محاسنه مدح بها ، واستغنى عن التمدّح بذكرها ) . 18ـ قال ( عليه السلام ) : ( من لم يتابع رأيك في صلاحه فلا تصغ إلى رأيه ، ومن طلب الأمر من وجهه لم يزل ومن زلّ لم تخذله الحيلة ) . 19ـ قال ( عليه السلام ) : ( إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً ، ونشاطاً وفتوراً ، فإذا أقبلت تبصّرت وفهمت ، وإذا أدبرت كلّت وملّت ، فخذوها عند إقبالها ونشاطها ، واتركوها عند إدبارها وفتورها ) . 20ـ قال ( عليه السلام ) : ( صاحب السلطان بالحذر ، والصديق بالتواضع ، والعدو بالتحرّز ، والعامّة بالبِشر ) . 21ـ قال ( عليه السلام ) : ( الأجل آفة العمل ، والبر غنيمة الحازم ، والتفريط مصيبة ذي القدرة ، والبخل يمزّق العرض ، والحب داعي المكاره ، وأجلّ الخلائق وأكرمها اصطناع المعروف ، وإغاثة الملهوف ، وتحقيق أمل الآمل ، وتصديق رجاء الراجي ، والاستكثار من الأصدقاء في الحياة ، والباكين بعد الوفاة ) . 22ـ قال ( عليه السلام ) : ( أحسن الظن بالله ، فإنّ من حسن ظنّه بالله كان الله عند حسن ظنّه ، ومن رضي بالقليل من الرزق قبل منه اليسير من العمل ، ومن رضي باليسير من الحلال خفّت مؤونته ونعم أهله وبصّره الله داء الدنيا ودواءها ، وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام ) . 23ـ قال ( عليه السلام ) : ( ليس لبخيل راحة ، ولا لحسود لذّة ، ولا لملول وفاء ، ولا لكذوب مروءة ) . 24ـ قال ( عليه السلام ) : ( إنّ الذي يطلب من فضل يكفّ به عياله أعظم من المجاهدين في سبيل الله ) . 25ـ سئل عن خيار العباد ؟ فقال : ( الذين إذا أحسنوا استبشروا ، وإذا أساءوا استغفروا ، وإذا أعطوا شكروا ، وإذا ابتلوا صبروا ، وإذا غضبوا غفروا ) . 26ـ قيل له : كيف أصبحت ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( أصبحت بأجل منقوص ، وعمل محفوظ ، والموت في رقابنا ، والنار من ورائنا ، ولا ندري ما يُفعل بنا ) . 27ـ قال ( عليه السلام ) : ( لا يجمع المال إلاّ بخصال خمس : بخل شديد ، وأمل طويل ، وحرص غالب ، وقطيعة الرحم ، وإيثار الدنيا على الآخرة ) . 28ـ قال علي بن شعيب : دخلت على أبي الحسن الرضا ، فقال لي : ( يا علي من أحسن الناس معاشاً ؟ ) . قلت : أنت يا سيدي أعلم به منّي . فقال ( عليه السلام ) : ( من حسن معاش غيره في معاشه ) . ثمّ قال : ( يا علي من أسوأ الناس معاشاً ؟ ) . قلت : أنت أعلم . قال ( عليه السلام ) : ( من لم يعش غيره في معاشه ) . ثمّ قال ( عليه السلام ) : ( يا علي ! أحسنوا جوار النعم ن فإنّها وحشية ما نأت عن قوم فعادت إليهم ، يا علي ! إنّ شرّ الناس من منع رفده ، وأكل وحده ، وجلد عبده ) . 29ـ قال ( عليه السلام ) : ( عونك للضعيف أفضل من الصدقة ) . 30ـ قال ( عليه السلام ) : ( لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتّى تكون فيه خصال ثلاث : التفقّه في الدين ، وحسن التقدير في المعيشة ، والصبر على الرزايا ) . 31ـ قال ( عليه السلام ) : ( كفاك ممّن يريد نصحك بالنميمة ما يجد من سوء الحساب في العاقبة ) . 32ـ قال ( عليه السلام ) في تعزية الحسن بن سهل : ( التهنئة بآجل الثواب خير من التعزية بعاجل المصيبة ) . هذا غيض من فيض ، وقطرة من بحر هذا الإمام العظيم ، الذي ملأ الدنيا علماً وحكمة ، وفاض عليها ندىً وأدباً وكرماً . وخير زاد لنا أن نعبّ من معين هذه الحكم الصافية ، ونزوّد بها فنكثر من التجمّل بأخلاقها ليوم لا ينفع مال ولا بنون ، إلاّ من أتى الله بقلب سليم . |
رسالة الإمام الرضا ( عليه السلام ) المُذهبة في الطب لم تقتصر علوم الإمام الرضا ( عليه السلام ) على أحكام الشريعة الإسلامية الغرَّاء فقط ، وإنما شملت جميع أنواع العلوم ، والتي منها علم الطب . فقد كان ( عليه السلام ) عَلَماً من أعلامه ، ومتمرِّساً بجميع فروعه ، وقد وُضِعَت البرامج العامَّة لإصلاح بدن الإنسان ووقايته من الإصابة بالأمراض الذي هو القاعدة الأساسية للطبِّ الوقائي في هذه العصور ، والذي يُعَدّ من أعظم الوسائل في تقدم الصحة وازدهارها . وعلى أي حال فلا بُدَّ لنا من وقْفة قصيرة للحديث عمَّا يتعلق بهذه الرسالة قبل عرضها . سبب تأليفها : تميز بلاط المأمون بأنه كان في معظم الأوقات يعقد الندوات العلمية والأدبية ، خصوصاً في عهد الإمام الرضا ( عليه السلام ) . فقد تحوَّل البلاط العباسي إلى مسرح للبحوث العلمية والفلسفية ، ومن بين البحوث العلمية التي عُرِضت في تلك الندوات هو ما يضمه بَدَن الإنسان من الأجهزة والخلايا العجيبة ، وبدائع تركيب أعضائه التي تَجلَّت فيها حكمة الخالق العظيم ، وروعة قدرته . وخاض القوم فيما يصلح بدن الإنسان ويفسده ، وقد ضمت الجلسة كبار العلماء والقادة ، كان في طليعتِهم : 1 - الإمام الرضا ( عليه السلام ) . 2 - المأمون . 3 - يُوحَنَّا بن ماسَوَيْه . 4 - جِبرائِيل بن بَختَيْشُوع . 5 - صالح بن بهلة الهندي . وقد خاض هؤلاء القوم في البحوث الطبية والإمام ( عليه السلام ) ساكت لم يتكلم بشيء ، فانبرى إليه المأمون قائلاً له بإكبار : ما تقول يا أبا الحسن في هذا الأمر الذي نحن فيه اليوم والذي لا بُدَّ منه ، من معرفة هذه الأشياء ، والأغذية النافع منها والضار ، وتدبير الجَسَد . وقد استجاب الإمام ( عليه السلام ) إلى طلب المأمون فزَوَّده برسالةٍ ذهبية ، وهي الآن موجودة في كتاب ( طِبِّ الإمام الرضا ) ، وهو كتاب من منشورات المطبعة الحيدرية في النجف الأشرف ، وقد طبع في سنة ( 1385 هـ ) ، والآتي نَصُّ من بعض هذه الرسالة : فبعد البسملة والحمد والثناء قال ( عليه السلام ) : ( ... إنَّ الأجسام الإنسانية جُعِلت في مثال الملك ، فَمَلِكُ الجَسَد هو القَلب ، والعُمَّال العروق والأوصال والدماغ . وبيت المَلِك قَلبُه ، وأرضُه الجَسَد ، والأعوانُ يَدَاه ، ورِجْلاه ، وعَينَاه ، وشَفَتاه ، وَلِسَانُه ، وأُذناه . وخزانتُه معدتُه وبطنُه ، وحِجَابُهُ صَدرُه ، فاليَدان عونان يُقرِّبان ويُبَعِّدان ، ويعملان على ما يُوحي إِليهما الملك . والرِّجلان تنقلان المَلِك حيث يشاء ، والعَينَان تدلاَّن على ما يغيب عنه ، لأنَّ الملك وراء حِجابٍ لا يوصلُ إليه إلا بهما ، وهما سِراجَاهُ أيضاً ، وحصن الجسد وحرزه . والإذنان لا تدخلان على الملك إلا ما يوافقه ، لأنَّهُما لا يقدران أن يدخلا شيئاً حتى يوحي الملك إليهما ، فإذا أوحى إليهما أطرق الملك منصتاً لهما حتى يسمع منهما ، ثم يجيب بما يريد ، فيترجم عنه اللِّسان بادوات كثيرة ، منها ريح الفؤاد ، وبخار المعدة ، ومعونة الشَّفَتين ، وليس للشَّفتين قوة إلا بالإنسان ، وليس يستغني بعضها عن بعض ... ) . تقريظ المأمون : وقد قَرظها المأمون برسالة جاء فيها بعد البسملة : أما بعد : فإني نظرت في رسالة ابن عمي ، العلوي الأديب ، والفاضل الحبيب ، والمنطقي الطبيب ، في إصلاح الأجسام ، وتدبير الحمام ، وتعديل الطعام ، فرأيتها في أحسن التمام ، ووجدتها في أفضل الأنعام . ودرستها مُتَدبِّراً ، ورددتُ نظري فيها متفكِّراً ، فكلما أعدت قراءتها والنظر فيها ظهرت لي حكمتها ، ولاحت لي فائدتها ، وتَمكَّنَت من قلبي منفعتُها ، فوعيتها حفظاً ، وتدبرتها فهماً . إذ رأيتها من أنَفَس العلائق ، وأعظم الذخائر ، وأنفَع الفوائد ، فأمرت أَن تُكتَبَ بالذهبِ لِنَفَاسَتِها ، وحُسن موقعها ، وعِظَم نفعها ، وكِثرةِ بركتها . وسميتها ( المُذَهَّبَة ) وخَزنتُها في خزانة الحكمة ، ولأنها خرجت من بيوت الذين يوردون حُكم الرسول المصطفى ، وبَلاغات الأنبياء ، ودَلائلِ الأوصياء ، وآدابِ العلماء ، وشفاء للصدور والمرضى من أهل الجهل والعمى . فمن وقعت إليه هذه الرسالة من بعدنا من أبنائنا ، وأبناء دولتنا ، ورعايانا وسائر الناس على طبقاتهم فليعرف قدرها ، وليستعمل حفظها وعرضها على همته ، فإنها عائدة عليه بالنفع والسلامة من جميع الأمراض والأعراض إن شاء الله تعالى . وصلى الله على رسوله مُحمَّدٍ وأولاده الطيبين الطاهرين أجمعين ، حَسبُنا الله ونعم الوكيل والحمد لله رب العالمين . |
زهد الإمام الرضا ( عليه السلام ) من ذاتيات الإمام الرضا ( عليه السلام ) وعناصره هو الزهد في الدنيا ، والإعراض عن مباهجها وزينتها . وقد تحدَّث عن زهده محمد بن عباد قال : كان جلوس الرضا ( عليه السلام ) على حصيرة في الصيف ، وعلى مسح في الشتاء ، ولباسه الغليظ من الثياب حتى إذا برز الناس تزيأ . ويقول الرواة : إنه التقى به سفيان الثوري ، وكان الإمام ( عليه السلام ) قد لبس ثوبا من خز ، فأنكر عليه ذلك وقال له : لو لبست ثوبا أدنى من هذا ؟ فأخذ الإمام ( عليه السلام ) يده برفق ، وادخلها في كمه ، فإذا تحت ذلك الثوب مسح ، وقال ( عليه السلام ) له : ( يا سفيان : الخِزُّ للخلق ، والمسح للحق ) . فقد كان الزهد من أبرز الذاتيات في خلق الإمام الرضا ( عليه السلام ) ومن أظهر مُكوّناته النفسية . ويجمع الرواة أنه ( عليه السلام ) حينما تقلَّد ولاية العهد لم يحفل بأي مظهر من مظاهر السلطة ، ولم يُقِم لها أيَّ وزنٍ ، ولم يرغب في أي موكبٍ رسمي ، وَكَرِه ( عليه السلام ) مظاهر العَظَمة التي يقيمها الناس لملوكهم . |
سخاء الإمام الرضا ( عليه السلام ) لم يكن شيء في الدنيا أحب إلى الإمام الرضا ( عليه السلام ) من الإحسان إلى الناس والبِر بالفقراء ، وقد ذكر المؤرخون بوادر كثيرة من جوده وإحسانه ( عليه السلام ) ، وكان منها ما يلي : أولاً : أنه ( عليه السلام ) أنفق جميع ما عنده على الفقراء حينما كان في خراسان ، وذلك في يوم عرفة . فأنكر عليه الفضل بن سهل ، وقال له : إن هذا المغرم .. فأجابه الإمام ( عليه السلام ) : ( بل هو المغنم ، لا تحدث مغرماً ما ابتغيت به أجراً وكرماً . إنه ليس من المغرم في شيء صِلَة الفقراء والإحسان إلى الضعفاء ابتغاء مرضاة الله تعالى ، وإنما المغرم هو الإنفاق بغير وجه مشروع ، كإنفاق الملوك والوزراء الأموال الطائلة على المغنيين والعابثين ) . ثانياً : وفد على الإمام الرضا ( عليه السلام ) رجل فَسلَّم عليه وقال له : أنا رجل من مُحبِّيك ومحبِّي آبائك ، ومصدري من الحج ، وقد نفذت نفقتي ، وما معي ما أبلغ مرحلة ، فإن رأيت أن ترجعني إلى بلدي فإذا بلغت تصدقت بالذي تعطيني عنك . فقال ( عليه السلام ) له : ( اِجلس رحمك الله ، وأَقبلَ على الناس يحدثهم حتى تفرقوا ) . وبقي هو وسليمان الجعفري ، وحيثمة ، فاستأذن الإمام منهم ودخل الدار ثم خرج ، وَرَدَّ الباب ، وخرج من أعلى الباب ، وقال ( عليه السلام ) : ( أين الخراساني ) . فقام إليه فقال ( عليه السلام ) له : ( خذ هذه المائتي دينار واستعِن بها في مؤنتك ونفقتك ، ولا تتصدق بها عني ) . فانصرف الرجل مسروراً قد غمرته نعمة الإمام ( عليه السلام ) ، والتفت إليه سليمان فقال له : جُعلت فداك ، لقد أجزلت ورَحِمت ، فلماذا سَترتَ وجهك عنه . فَأجابهُ ( عليه السلام ) : ( إِنَّما صنعتُ ذلك ، مخافة أن أرى ذُلَّ السؤال في وَجهِهِ لِقضَائِي حاجتَهُ ، أما سمعت حديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : المُستَتِرُ بالحسنة تعدل سبعين حجة ، والمُذِيعُ بالسيِّئةِ مَخذُول . أما سمعت قول الشاعر : مَتى آَتِهِ يَوماً لأَطلبَ حَاجَةً ** رَجِعتُ إِلَى أَهلِي وَوَجهِي بِمَائِهِ ) . ثالثاً : ومن سخائه ( عليه السلام ) أنه إذا أتي بصحفة طعام عَمدَ إلى أطيب ما فيها من طعام ، ووضعه في تلك الصحفة ثم يأمر بها إلى المساكين ، ويتلو هذه الآية : ( فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَة ) البلد : 11 . ثم يقول ( عليه السلام ) : ( علم الله عزَّ وجلَّ أن ليس كلَّ إنسانٍ يقدر على عتق رقبة فجعل له السبيل إلى الجنة ) . رابعاً : ومن بوادر جوده وكرمه ( عليه السلام ) أنَّ فقيراً قال له : أعطني على قدر مروءتك . فأجابه الإمام ( عليه السلام ) : ( لا يَسَعَني ذلك ) . فالتفت الفقير إلى خطأ كلامه فقال ثانياً : أعطني على قدر مروءتي . وقابله الإمام بِبَسَمات فَيَّاضة بالبشر قائلاً : ( إذن نعم ) . وأمر ( عليه السلام ) له بمائتي دينار . فإن مروءة الإمام ( عليه السلام ) لا تُعَدُّ ، فلو أَعطَاه ( عليه السلام ) جَميع ما عِندهُ فإن ذلك ليسَ عَلى قدرِ مروءتِهِ ورحمتِهِ التي هي امتداد لِمُروءة جَدِّهِ الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) . خامساً : ومن معالي كَرَمِهِ ( عليه السلام ) ما رواه أحمد بن عبيد الله عن الغفاري ، قال : كانَ لِرَجلٍ من آل أبي رافع عليَّ حق فتقاضاني وَأَلَحَّ عليَّ ، فلما رأيت ذلك صليت الصبح في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم توجهت نحو الإمام الرضا ( عليه السلام ) وكان في العريض . فلما قربت من بابه خَرجَ ( عليه السلام ) وعليه قميص ورداء ، فلما نظرت إليه اسْتَحْيَيْتُ منه ، ووقف ( عليه السلام ) لما رآني . فَسَلَّمتُ عليه وكان ذلك في شهر رمضان ، فقلت له : جُعلت فداك ، لِمَولاك عَلَيَّ حقٌّ ، شَهَرَنِي . فأمرني ( عليه السلام ) بالجلوس حتى يرجع ، فلم أَزَل في ذلك المكان حتى صَلَّيتُ المغرب وأنا صائم ، وقد مَضَى بعض الوقت فَهَمَمْتُ بالانصراف . فإذا الإمام ( عليه السلام ) قد طَلَع وقد أحاط به الناس ، وهو يتصدق على الفقراء والمَحُوجِين . ومضيت معه ( عليه السلام ) حتى دخل بيته ، ثم خرج فدعاني فقمت إليه ، وأمرني بالدخول إلى منزله ، فدخلت وأخذت أحدثه عن أمير المدينة ، فلما فرغت من حديثي قال ( عليه السلام ) لي : ( ما أظُنُّكَ أفطرت بعد ) ، قلتُ : لا . فدعاني ( عليه السلام ) بطعام ، وأمر غُلامه أن يتناول معي الطعام ، ولما فرغت من الإفطار أمرني أن أرفع الوسادة ، وآخذ ما تحتها . فرفعتُها فإذا دنانير ، فوضعتها في كمي ، وأمر بعض غلمانه أن يبلغوني إلى منزلي ، فمضوا معي . ولما صرت إلى منزلي دعوت السراج ونظرتُ إلى الدنانير فإذا هي ثمانية وأربعون ديناراً . وكان حق الرجل عَلَيَّ ثمانية وعشرين ديناراً ، وقد كُتِبَ على دينار منها أن حَقَّ الرجل عليك ثمانية وعشرين ديناراً ، وما بقي فهو لك . وهذه بعض بوادر كرمه ( عليه السلام ) ، وهي تُنمِ عن نفس خُلقَت للإحسان والبِرِّ والمَعروف . |
سيرة الامام الجواد عليه السلام |
الشبكة: أحد مواقع المجموعة الشيعية للإعلام الساعة الآن: 11:56 AM. بحسب توقيت النجف الأشرف |
Powered by vBulletin 3.8.14 by DRC © 2000 - 2025